الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور: 15) تجد أن التلقي لا يكون إلا بالألسنة، والقول لا يكون إلا من الفم، ولا يقول قائل: إن هذه الألفاظ زائدة وليس وراءها فائدة؛ لأن المقام قد اقتضاها، والمعنى قد تطلبها. وبهذا يتضح لك أن الأمر يحتاج إلى مراجعة دقيقة للسياق، والوقوف على قرائن أحواله، فالنظرة السريعة العاجلة تجعلك تظن أن الكلمة زائدة ولا معنى لها في النظم، فهي حشو ولكن عند التأمل ومراجعة السياق مراجعة دقيقة واعية، يظهر لك أن المقام قد اقتضاها، وأن هناك معنى دقيقًا يكمن وراءها، ولو طويت لما أفيد ذلك المعنى.
صور الإطناب
هذا، ويقع الإطناب في الكلام على أنواع مختلفة؛ أهمها: الإيضاح بعد الإبهام، وهو أن يجمل المعنى ويبهم ثم يفصّل ويبين، فيبدو في صورتين مختلفتين، وعندئذ يقع في النفس أطيب موقع، ويتمكن لديها أفضل تمكّن؛ لأن المعنى إذا أُلقي على سبيل الإجمال والإبهام تطلعت النفس وتشوفت إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح، فعندما يأتي هذا التفصيل وذاك الإيضاح يكون أشدّ وقعًا وأقوى أثرًا؛ لأنه جاء والنفس عنه تبحث وإليه تتطلع، وهم يقولون: إن الشيء إذا نيل بعد طلب ومشقة وبحث وتنقيب يكون أوقع في النفس وأشد تأثيرًا، ويحدث لها بالوقوف عليه لذةً ومتعة.
من ذلك قول الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} (الحجر: 66) فقد أبهمت الآية ما قُضي به إلى لوط عليه السلام {ذَلِكَ الْأَمْرَ} ثم فصلته وبينته {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} ففي الإبهام إثارة للمخاطب وتحريك لفكره، فيتطلع إلى إيضاح ما أبهم، وعندئذ يأتي الإيضاح، فيتقرر المعنى في ذهن المخاطب ويقع موقعه، وفي هذا تفخيم وتهويل للعذاب الذي حل بهم؛ لأنه ذُكر مرتين؛ مرة على طريق الإجمال والإبهام ومرة على طريق التفصيل والإيضاح، والشيء إذا ذُكر مرتين كان آكد في النفس وأشد تعلقًا والتصاقًا بالنفس، ومن ذلك قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (الصف: 10، 11) فقد أجملت التجارة التي تنجي من العذاب ثم فُصلت بعد ذلك وبُينت.
ومن صور الإطناب: ذكر الخاص بعد العام، أو العام بعد الخاص، فمن الأول قول الله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) فالروح وهو جبريل عليه السلام قد ذُكر مرتين؛ مرة مندرجًا تحت العام وهو الملائكة، ومرة وحده، وكأنه جنس آخر غير جنس الملائكة المعطوف عليهم، وهذا تكريم له وتعظيم لشأنه؛ ففي الآية إذن إطناب طريقه ذكر الخاص بعد العام، والغرض منه التنويه بشأن الخاص حيث يُذكر مرتين، ومن ذلك قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (البقرة: 238) فالصلاة الوسطى داخلة في عموم الصلوات، وقد خُصت بالذكر بعد العام تنبيهًا إلى مزيتها وزيادة فضلها.
ومن صور الإطناب أيضًا: التكرار، ويأتي لأغراض كثيرة؛ منها إبراز المعنى وتقريره في النفس، كما في قول الله تعالى:{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 3، 4) فقد أكد الإنذار بتكراره؛ ليكون أبلغ تحذيرًا وأشدّ تخويفًا، وفي العطف بالحرف "ثم" ما ينبئ بأن الإنذار الثاني أقوى وأشد من الإنذار الأول، ثم نزّل بُعد المرتبة منزلة البعد الزمني، فعطف بـ ثم، وفي هذا دلالة على التدرج في الارتقاء.
ومنها: استمالة المخاطب وترغيبه في قبول النصح والإرشاد، كما في قول الله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْم اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْم إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (غافر: 38، 39) ففي تكرار {يَا قَوْم} استمالة لأنفسهم، وترغيب لهم في قبول الحق والاهتداء، ووراء حرف النداء "يا" الموضوع لنداء البعيد تعظيم لهم وتشريف ورفع لمنزلتهم، وفي إضافة القوم إليه {يَا قَوْم} ما يبدد كل شك ويزيل كل ارتياب في نصحه وإخلاصه لهم. منها: التذكير بنعم الله التي لا تحصى ولا تعد، كما في قوله تعالى:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن: 13). فقد ذكر -جل وعلا- نعمه نعمة بعد نعمة في هذه السورة وعقّب كل نعمة بهذا الاستفهام الذي يفيد التنبيه إلى نعمه الكثيرة والتذكير بها.
فإن قيل: قد عقب بهذا الاستفهام ما ليس بنعمة كما في قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} (الرحمن: 35) وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (الرحمن: 43، 44) قلت: العذاب وجهنم وإن لم يكونا من آلاء الله، فإن ذكرهما ووصفهما على طريق
الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات، يعد من الآلاء والنعم؛ لأن التحذير من المعصية والزجر عنها نعمة منه تعالى؛ إذ ينجم عن التحذير والزجر ابتعاد المؤمن عن المعاصي وعدم اقترابه منها، كذا ذكره القزويني في (الإيضاح). من أغراض التكرار أيضًا: المبالغة في التحذير والتنفير، كما في قوله تعالى:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (المرسلات: 15) التي تكررت في سورة المرسلات عقب جملة من القصص والتذكير بنعمه تعالى؛ حيث أعقب كل قصة بهذا الوعيد: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ، وفي هذا ما فيه من التنفير والتحذير.
ومنها: الحث على التذكر والتدبر وأخذ العظة والعبرة، كما في قوله:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17). ومنها: أن يكرر اللفظ لطول في الكلام، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 110). ومن صور الإطناب: الإيغال، وهو ختم الكلام شعرًا أو نثرًا بما يفيد فائدة يتم المعنى بدونه، كما في قول الخنساء:
وإن صخرًا لتأتم الهداة به
…
كأنه عَلم في رأسه نار
فقولها: "في رأسه نار" إطناب؛ لأنها شبهت أخاها صخرًا بالعلم وهو الجبل المرتفع المعروف، ووجه الشبه هو الاهتداء في كلٍّ، وقد تم التشبيه عند قولها:"كأنه علم" فختمت البيت بما يفيد قوة المبالغة في التشبيه؛ إذ النار في رأس الجبل تزيده وضوحًا وانكشافًا، وهذا أدعى لتمام الهداية وكمالها.
ومن صور الإطناب أيضًا: التذييل، وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها لإفادة التوكيد، فيختلف التذييل عن الإيغال: أن الإيغال يكون بالجملة وبغير الجملة، أما التذييل فلا يكون إلا بالجملة، والإيغال يفيد التوكيد وغيره من الأغراض التي يأتي لها، أما التذييل فهو للتوكيد خاصة، والتذييل كما هو معروف ضربان: تذييل يجري مجرى المثل، كما في قول الله تعالى:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: 81) فقوله: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} تذييل أتى به لتأكيد الجملة قبله، وهو جارٍ مجرى المثل؛ بمعنى أن الجملة الثانية مستقلة بمعناها عن الجملة الأولى، وجارية على الألسنة كما تجري الأمثال التي كثر استعمالها وفشا، فهي لا تحتاج إلى إفادة معناها إلى الجملة السابقة.
وهناك من التذييل ما لم يجرِ مجرى المثل، وهو ما لا يستقل معناه، بل يتوقف على ما قبله، كما في قول الله تعالى:{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (سبأ: 16، 17) فقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} تذييل غير جار مجرى المثل؛ لأن معناه لا يُفهم إلا بما قبله. ومن صور الإطناب أيضًا ما أسموه: بالتكميل، ويسمى أيضًا بـ الاحتراس، وهو أن يُؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك التوهم، كما في قول طرفة بن العبد:
فسقى ديارك غير مفسدها
…
صوب الربيع وديمة تهمي
فقوله: "غير مفسدها"، احتراس عن المطر الذي يسبب الخراب والدمار؛ لأن الديمة هي المطر المسترسل، وتهمي بمعنى: تسيل، والمطر إذا كثر وزاد عن حده سبب الخراب والدمار، فدفع الشاعر هذا التوهم بقوله:"غير مفسدها"، ومما جاء من هذا النوع في النظم الكريم قول الله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (النساء: 95) فقوله جل وعلا: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} احتراس يدفع توهم أن القاعد بعذر داخل في مفهوم عدم الاستواء المذكور، ومثله قوله تعالى:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (النمل: 12) فقوله: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} احتراس من نحو البهق والبرص.
هذا، ومن صور الإطناب أيضًا: التتميم، وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة، مثل المفعول أو الحال أو الجار والمجرور، ونحو ذلك مما ليس بجملة مستقلة، ولا ركن من أركان الكلام، وذلك لإفادة نكتة بلاغية كما في قول الله تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8) وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (البقرة: 177) وقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) فإن قوله عز من قائل: {عَلَى حُبِّهِ} {مِمَّا تُحِبُّونَ} فضلة، وتركها لا يجعل الكلام موهمًا خلاف المقصود، وقد أتي بها في النظم الكريم لنكتة بلاغية، وهي إفادة المبالغة في مدح هؤلاء الذين يُؤثرون على أنفسهم ويطعمون وينفقون مالًا قد أحبوه وطعامًا قد اشتهوه وأرادوه.
ومن ذلك أيضًا: الاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام الواحد أو بين كلامين متصلين في المعنى، بأن يكون ثانيهما تأكيدًا لأولهما، أو بيانًا له أو بدلًا أو معطوفًا بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب، لنكتة سوى دفع الإيهام، وذلك كالتنزيه في قوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (النحل: 57) فجملة {سُبْحَانَهُ} جملة اعتراضية الغرض منها تنزيهه تعالى عن اتخاذ البنات، و"سبحان" جملة لأنها واقعة موقع المصدر الذي هو التنزيه، والمعنى: أنزهه تنزيهًا، وكالتعظيم في قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الواقعة: 75 - 77) فقد اعتُرض بين القسم وجوابه بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وداخل هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الصفة والموصوف، وهو {لَوْ تَعْلَمُونَ} وقد أريد بالاعتراضين تعظيم القسم وتفخيم أمره، وفي ذلك تعظيم للمقسم عليه وهو القرآن الكريم، وتنويه برفعة شأنه. ومما جاء في التعريض قول الشاعر:
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فالشاعر يخبر بتقدم سِنه وضعف سمعه، حتى صار يحتاج إلى من يسمعه القول، وجملة "وبلغتها" جملة معترضة أريد بها الدعاء للمخاطب بطول العمر، وإثارة عطفه على الشاعر.
تلك هي أهم صور الإطناب. وبها ينتهي درسنا، وبانتهائه ننهي هذا المنهج المقرر عليكم هذا العام.
مع خالص تمنياتي لكم بالنجاح، وبدوام التوفيق والسداد، أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.