الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع
(تابع: أحوال الإسناد الخبري)
أضرب الخبر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، كما نعوذ به من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمع أضرب الخبر؛ ولعل أول إشارة إلى أضرب الخبر فيما بلغنا كانت على يد أبي العباس المبرد صاحب (الكامل) وقد سأله الكندي الفيلسوف: "إني أجد في كلام العرب حشوًا، يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم، والمعنى واحد. فقال المبرد: لا، بل المعاني مختلفة، فعبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وإن عبد الله قائم، جواب عن سؤال سائل، وإن عبد الله لقائم، جواب عن إنكار منكِر". وهذه القصة -كما هو ملاحظ- هي الأصل في حديث البلاغيين عن أضرب الخبر، فقد قسم البلاغيون الخبر بحسب حال المخاطب إلى ثلاثة أضرب؛ الأول: الابتدائي، وذلك إذا كان المخاطب خالي الذهن من الحكم الذي يتضمنه الخبر، فيلقى إليه الكلام مجردًا من التأكيد باستغنائه عنه كقولك: أفلح المجتهد، وخاب الكسول؛ لأن الكلام يتمكن بسهولة إذا صادف ذهنًا خاليًا على حد قول القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
والثاني: الطلبي إذا كان المخاطب مترددًا في الحكم طالبًا له، فيؤكد بمؤكد واحد استحسانًا؛ ليزيل تردده، ويبين له الحقيقة، فيتمكن الخبر في نفسه كقولك لمن يشك في نجاح زيد: إن زيدًا ناجح، وكقولهم: إن البلاء موكل بالمنطق. ومن هذا النوع قوله تعالى في شأن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (الكهف: 84) وذلك بعد السؤال عنه في الآية السابقة، فالمخاطب
طالب للحكم، مستشرف لمعرفته، ولذلك جاء الخبر مؤكدًا؛ ليزيل تردده ويضع يده على الحقيقة. والثالث: إنكاري وذلك إذا كان المخاطب منكِرًا للحكم الذي يتضمنه الخبر معتقدًا غيره، فيجب أن يؤكد له الخبر بحسب إنكاره قوة وضعفًا، فكلما زاد إنكاره زِيد له في التوكيد، وعلى سبيل المثال إذا كان المخاطب ينكر صدقك، فإنك تقول له: إني صادق. فإذا بالغ في الإنكار وأصر عليه تقول: إني لصادق. ومنه -هو خير ما يمثل به في هذا الباب- قول الله تعالى في شأن رسل عيسى عليه السلام: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس: 13 - 16).
ولعلك ترى خطاب الرسل لأصحاب القرية قد جاء هنا مؤكدًا في المرة الأولى بإن واسمية الجملة {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} ولما اشتد تكذيب آل القرية لهؤلاء الرسل جاء الرد في المرة الثانية مؤكدًا بإن واللام واسمية الجملة والقسم {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس: 16). وتأمل قول الله تعالى في الرد على منكري البعث: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن: 7) فهم ينكرون البعث، كما يحكي القرآن عنهم في أكثر من موضع، ولذا جاء الرد عليهم مؤكدًا: بالقسم، وربي، واللام، ونون التوكيد الثقيلة في جواب القسم "لتبعثن" لأن المقام يقتضي ذلك، فالبعث أمر فطري يستوجب العمل لما بعده والإيمان به،
وهو أصل من أصول الدين التي يجب على الخلق معرفتها والإيمان بها، والله سبحانه وتعالى يقسم عليه ويقرره أبلغ تقرير حتى يتمكن في النفس فضل تمكن، ولا يخفى ما في التعبير بالفعل {زَعَمَ} من كشف الزيف، وبيان التهافت في منطق الكافرين، فالزعم مطية الكذب إذ لا أساس له، ولا دليل عليه، فهو وهم باطل، وضلال مبين، والهوى يعمي ويصم.
ووجه تسمية هذه الثلاثة بأسمائها أن الأول: سمي ابتدائيًّا لأنك تبتدئ به المعنى في النفس، والمخاطب غير متردد، ولا منكر. والثاني: سمي طلبيًّا؛ لأنك تواجه به ترددًا، فهو مسبوق بطلب كأن النفس طالبة للخبر ليزيل هذا الشك ويدفع الشبهة، ويمحو التردد. والثالث: سمي إنكاريًّا لسبقه بالإنكار من المخاطب، ويجب أن يكون المتكلم مع المخاطب كالطبيب مع المريض يشخص حالته، ويعطيه ما يناسبها، فحق الكلام أن يكون بقدر الحاجة لا زائدًا عنه، ولا ناقصًا منه، فلا يؤكد لخالي الذهن، ويؤكد بمؤكد واحد استحسانًا للمتردد، ويؤكد بمؤكد أو بأكثر وجوبًا للمنكر حسب درجة إنكاره، وبذلك تتحقق مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فكل مقام من هذه المقامات يستدعي تركيبًا خاصًّا يفيد ما يناسبه من الخصوصيات.
ويسمى إخراج الكلام على هذه الوجوه الثلاثة إخراجًا على مقتضى الظاهر؛ أي ما يقتضيه ظاهر الحال، وكثيرًا ما يخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لدواعٍ تستدعي ذلك ولأسرار تقتضيه، وهو باب من البلاغة يدق مسلكه، ويلطف موقعه، ويعظم أثره في النفس، فيتمكن منها فضل تمكن شريطة أن يكون المتكلم بليغًا خبيرًا بأسرار الجمال في هذه الأساليب. وأن يكون المخاطب ذا
فهم سليم وذوق رفيع وبصيرة نافذة حتى يكون لكلامه أثره المنشود في التأثير وإصابة الغرض، وإلا فلا قيمة للكلام، ولا وزن له من وجهة النظر البلاغية، وبيان ذلك أن المتكلم قد يفترض في مخاطبه حالًا ليس لها ثبوت في الواقع أو وجود حقيقي عنده، ويجيء بكلامه مطابقًا لتلك الحال المفترضة؛ وذلك لأسرار بلاغية تستدعي هذا الأسلوب، ويسمى ذلك الصنيع: إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ومن صوره ما يلي:
1 -
تنزيل العالِم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما؛ أي الخالي الذهن، وذلك لعدم عمله بما يقتضيه علمه من العمل به والانتفاع بتوجيهاته في حياته العملية، كقولك مثلًا لتارك الصلاة مع علمه بوجوبها: الصلاة واجبة؛ توبيخًا له على عدم عمله بمقتضى علمه، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل. ومنه قولك للمتعلم حين يعق والديه: عقوق الوالدين من الكبائر. وقول الفرزدق يخاطب هشام بن عبد الملك حين تجاهل معرفة زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
…
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
…
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
…
بجده أنبياء الله قد ختموا
فهشام بن عبد الملك يعرف أن هذا الذي التف الناس حوله هو علي بن الحسين، ولكنه تجاهله لغرض في نفسه، فخاطبه الفرزدق بهذه الأبيات منزلًا إياه منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، ولا يخلو هذا الأسلوب من توبيخ وتأنيب للمخاطب وتعريض به. ومن تنزيل العالم بلازم الفائدة منزلة الجاهل
قولك لمن يؤذيك، وهو يعلم أنك مسلم: الله ربنا، ومحمد نبينا. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الخبر لا يختلف في التأكيد وعدمه في مخاطبة الجاهل بفائدة الخبر ولازمها، ومخاطبة العالم بهما المنزل منزلة الجاهل، فأنت تقول لخالي الذهن: الصلاة واجبة. بدون توكيد، كما تقولها للعالم الذي نزلته منزلة الجاهل بالحكم بدون توكيد أيضًا.
الصورة الثانية: تنزيل خالي الذهن منزلة السائل المتردد، وذلك إذا تقدم في الكلام ما يلوح له بالخبر ويومئ إليه، فيستشرف نفسه لمعرفته، وتتطلع للوقوف عليه، كما يفعل السائل المتردد، وحينئذ يؤكد له الحكم كما يؤكد للسائل المتردد، ومن ذلك قول الله تعالى في شأن نوح عليه السلام:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود: 37) أي لا تدعني يا نوح في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك، فهذا كلام يلوح بالخبر مع ما سبق في قوله تعالى:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} فصار المقام مقام تردد، هل صاروا محكومًا يا رب عليهم بالإغراق؟ فقيل له:{إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} بالتأكيد للرد على السؤال الافتراضي، وهذا النوع كثير في القرآن الكريم. ومنه قوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف: 53) وقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} يشير إلى أن الخبر من قبيل الاتهام للنفس وأنها أمارة بالسوء ولذلك جاء الخبر مؤكدًا؛ لأنه بمثابة جواب عن سؤال اقتضته الجملة الأولى، وهي قوله:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} وهو سؤال عن السبب الخاص لا عن مطلق السبب.
ومن ذلك قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103) فالأمر بالصلاة هنا يومئ إلى الخبر، وأنه من جنس النفع والخير، فصار المقام مقام تردد، وسؤال عن السبب وراء هذا الأمر، وهل في الصلاة عليهم خير لهم؟ فقيل:{إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} هكذا بالتأكيد لدفع هذا التردد المفترض في المخاطبين. ويكثر مجيء الخبر مؤكدًا في كتاب الله تعالى بعد الأوامر والنواهي، كما رأيت في الآيات السابقة، وكما في قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1) فبعد الأمر بتقوى الله تعالى تهيأت النفس وتطلعت لمعرفة السبب الخاص لهذا الأمر، وكأنها توقعت أن يكون الخبر من جنس العقاب، فجاء قوله تعالى:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} بيانًا للسبب وراء الأمر بالتقوى. واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الإسراء: 32) وقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17).
فلعلك تلاحظ أن الخالي الذهن لم ينزل منزلة مطلق سائل، بل نزل منزلة سائل عن السبب الخاص الذي يلوح إليه الكلام السابق، وذلك يكون غالبًا بعد الأوامر والنواهي التي تلوح بأسبابها فتستشرف النفس لمعرفتها استشراف الطالب المتردد، ولذلك يحصل تأكيد الخبر وفاء بحق هذه الحال الاعتبارية. وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة وغموض، ومن المشهور في هذا الباب ما روي عن الأصمعي أنه قال: "كان أبو عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر يأتيان بشارًا فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟
فيخبرهما، وينشدهما، ويكتبان عنه متواضعين له، حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان. فأتياه يومًا فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما. قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب. قال: نعم، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ. فأنشدهما:
بكرا صاحبي قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح""بكرا فالنجاح" كان أحسن. قال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية. فقلت: إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت: بكرا فالنجاح كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة في شيء. قال: فقام خلف فقبل بين عينيه. فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء، وهم من فحولة هذا الفن إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟ ". كذا ذكر الخطيب في (الإيضاح). ولا يخفى عليك أن الهجير هنا هو الوقت من زوال الشمس إلى العصر أو شدة الحر، وأن الشاهد في البيت أن الشطر الأول يلوح بالثاني، ولذلك جاء بالثاني مؤكدًا بإن، وأن التوكيد بإن قد رفع من شأن الكلام، وأضفى عليه روعة وجمالًا، فقد ارتبط الشطر الثاني بالشطر الأول ارتباطًا قويًّا وتلاءم معه حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغًا واحدًا، وكأن أحدهما قد سبك في الآخر، كذا في (الدلائل).
أما قوله: "بكرا فالنجاح" فليس فيه سوى تأكيد الأمر بالتبكير عن طريق التكرار، وهذا أمر واضح لا دقة فيه، ولا خفاء، فهو إلى كلام المولدين أقرب
منه إلى كلام الأعراب البدويين الذين يعرفون طبائع اللغة وطرائق التعبير عن المعاني بالطبع والسليقة. ومنه قول بعض العرب:
فغنها، وهي لك الفداء
…
إن غناء الإبل الحداء
والمعروف أن الإبل تنشط في سيرها بالحداء أي الغناء، فعندما قال الشاعر غنها يشتد سيرها ويزداد نشاطها أصبح السامع مترقبًا للخبر، فتستشرف نفسه لمعرفته، ولذلك ورد الخبر مؤكدًا:"إن غناء الإبل الحداء". ومنه أيضًا قول أبي نواس:
عليك باليأس من الناس
…
إن غنى نفسك في الياس
فالشطر الأول يلوح بالخبر الذي تضمنه الشطر الثاني، ولذلك تطلعت نفس السامع إلى معرفة السبب وراء هذه النصيحة بالزهد في دنيا الناس، وعدم التعلق بالأمل المرجو منه، فكان الجواب:"إن غنى نفسك في الياس"، مؤكدًا بإن، التي تفيد ربط الجملة الثانية بما قبلها، وتجعل الكلام جيد السبك متلاحم الأجزاء قوي التأثير. الصورة الثالثة من صور إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر: تنزيل غير المنكِر منزلة المنكِر، وذلك إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، فيؤكد له الخبر، كقول الشاعر:
جاء شقيق عارضًا رمحه
…
إن بني عمك فيهم رماح
فشقيق لا ينكر قوة بني عمه، وأنهم يملكون آلات القتال وأدوات الحرب من الرماح وغيرها، ولكن مجيئه هكذا مزهوًّا بشجاعته واضعًا رمحه على عرضه من غير تهيؤ للقتال دليل على إعجاب شديد منه، وإمارة أنه يعتقد أن بني عمه عزل لا سلاح معهم، ولذلك نزله الشاعر منزلة المنكر، وخاطبه خطاب التفات في
قوله: "إن بني عمك فيهم رماح" فأكد له الكلام ليوقد فيه الشعور بقوة شكيمتهم وقدرتهم على مواجهة الخصم إذا اقتضى الأمر ذلك. فهذا من تنزيل العالم بالحكم منزلة المنكر.
ومنه أيضًا قولك للمسلم غير المواظب على أداء الصلاة: إن الصلاة لواجبة. فتؤكد له الكلام مع أنه لا ينكر وجوب الصلاة، ولكن إهماله للصلاة وإصراره على عدم العمل بمقتضى علمه جعله في نظر المتكلم بمنزلة المنكر، فاقتضى حاله تأكيد الخبر، واقرأ إن شئت قول الله تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (المؤمنون: 15) والموت على ما هو متعالم لدى البشر حق لا يشك فيه أحد، ولا ينكره مخلوق، ومع ذلك فقد أكد إثبات الموت بتأكيدين: إن، واللام، وإن كان مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده من الحساب والجزاء، وكأنهم يعتقدون أنهم خالدون في الدنيا لا يموتون أبدًا، فهذه الآية من قبيل تنزيل العالم منزلة المنكر.
ومثله قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (النمل: 80) فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن مهمته هي التبليغ والإرشاد إلى الطريق المستقيم، وأنه لا يستطيع أن يحمل الناس قسرًا على الإيمان، فالهدى هدى الله عز وجل ولكنه كان حريصًا على هدايتهم مجتهدًا في نصحهم واستمالتهم إلى الحق، مشفقًا عليهم من مغبة الضلال، ولذلك نزل منزلة من يعتقد أنه يستطيع إسماع الموتى وإسماع الصم، وينكر عدم مقدرته على ذلك، ولذلك جاء الكلام مؤكدًا. ولعلك تلاحظ أنهم شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس؛ لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله، فلم يتأثروا بها كان سماعهم كلا سماع، كان حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق
بهم فلا يسمعون، وخصوصًا بعد إعراضهم وإدبارهم، كما يفهم من قوله تعالى:{إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} على ما أفاده الزمخشري في (الكشاف).
فهذا تأكيد لحال الأصم؛ لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولي عنه مدبرًا كان أبعد عن إدراك صوته، وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: رفقًا بنفسك، فهذا الحرص لا يجدي إلا مع الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته. الصورة الرابعة من صور خروج الكلام عن مقتضى الظاهر: تنزيل المنكِر منزلة غير المنكِر، وذلك إذا كان معه من الشواهد والأدلة على صدق الخبر ما إن تأمله ارتدع عن إنكاره، كما يقال لمنكر الإسلام: الإسلام حق. من غير تأكيد لعدم الاعتداد بإنكاره؛ لأنه لو تأمل الأدلة والشواهد المتناهية في الوضوح والشهرة لارتدع عن إنكاره، ورجع عن جحوده ونكرانه، وأسلم لربه عن يقين صادق وعقيدة راسخة، ولكنه لم يفعل، فجعل إنكاره كلا إنكار، ونزل منزلة غير المنكر.
ومن هذا النوع قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة: 163) والمعروف أن المخاطبين من الكفار ينكرون وحدانية الله فكان مقتضى حالهم أن يؤكد لهم الخبر، ولكنه ورد بلا تأكيد تنزيلًا لهؤلاء المنكرين منزلة غير المنكرين؛ لأن لديهم من الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة على وحدانية الله ما يردعهم عن إنكارهم، ويزيل جحودهم وضلالهم، وينتهي بهم إلى الحقيقة القاطعة، وهي أن الله واحد لا شريك له في ملكه، ولذلك جاء خطابهم خاليًا من التوكيد بناء على هذا التنزيل. وتأمل قوله تعالى:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}
(الشورى: 15) تجد أن الخطاب في قوله: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} للكافرين المنكرين للتوحيد، فظاهر الحال يقتضي تأكيد الكلام دفعًا للإنكار، ولكنه ينزلهم منزلة غير المنكرين لأن أمامهم من الأدلة على وجود الله ووحدانيته في هذا الكون -المحكم البناء والبديع الصنع- ما لو تأملوه وتفكروا في شواهده لاقتنعوا بصدق هذا الخبر، ولذلك جاء الكلام غير مؤكد؛ إشارة إلى أن إنكارهم لا يلتفت إليه فهو كلا إنكار.
ومن ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: 64) فاليهود ينكرون فضل الله عليهم، وأنه أعطاهم حتى صاروا أكثر أهل الأرض مالًا ويتطاولون بهذه المقالة الشنيعة {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فيصفون يده بالبخل، ومع ذلك جاء الرد عليهم خاليًا من التوكيد:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} لأنهم لو تجردوا من الهوى وأنصفوا في الحكم لأدركوا عظيم فضل الله عليهم، فهو الكريم الذي يجود بالخير على عباده وينفق عليهم وفق ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، ولذلك نزل إنكارهم منزلة عدمه. ومنه على سبيل النفي قول الله تعالى في شأن القرآن الكريم:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) فإن معناه أن القرآن ليس محل شك، وهذا حكم ينكره المخاطبون من الكفار، فكان مقتضى الظاهر التأكيد، ولكن القرآن لم يعبأ بإنكارهم فنزلهم منزلة غير المنكرين؛ لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه، ولذلك جاء الخبر خاليًا من التوكيد تنزيلًا لإنكارهم منزلة عدمه، وفي ذلك من توهين حجة الخصم ما لا يخفى على المتأمل.
ولعلك تلاحظ معي أن المنكر قد نزل منزلة خالي الذهن في الأمثلة المذكورة، وقد ينزل المنكر منزلة المتردد، وهذه صورة متفرعة عن صور تنزيل المنكر منزلة غير المنكر؛