المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه - البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها

- ‌فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته

- ‌أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها

- ‌تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة

- ‌الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة

- ‌معنى الفصاحة والبلاغة

- ‌العيوب المخلة بفصاحة الكلمة

- ‌فصاحة الكلام

- ‌فصاحة المتكلم

- ‌الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري

- ‌ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم

- ‌مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ

- ‌المراد بعلم المعاني، وما يعنى به

- ‌أحوال الإسناد الخبري

- ‌الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري

- ‌أضرب الخبر

- ‌مراعاة حال المتكلم

- ‌التجوز في الإسناد

- ‌الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

- ‌تعريف الحقيقة العقلية

- ‌المجاز العقلي وعلاقاته

- ‌الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته

- ‌قرينة المجاز العقلي

- ‌بلاغة المجاز العقلي

- ‌الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر

- ‌حذف المسند إليه

- ‌ذكر المسند إليه

- ‌الدرس: 8 تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالإضمار

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية

- ‌تعريف المسند إليه باسم الإشارة

- ‌الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

- ‌تعريف المسند إليه بـ"أل

- ‌تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة

- ‌الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع

- ‌(تنكير المسند إليه

- ‌توابع المسند إليه

- ‌الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه

- ‌(تقديم المسند إليه

- ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

- ‌الدرس: 12 أحوال المسند

- ‌أغراض حذف المسند وذكره

- ‌قرائن حذف المسند

- ‌أسباب ذكر المسند في الكلام

- ‌الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض تنكير المسند

- ‌أغراض تعريف المسند

- ‌أسرار تقديم المسند

- ‌المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم

- ‌أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات

- ‌الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض حذف المفعول

- ‌تقديم المفعول على العامل

- ‌الدرس: 15 الأساليب الإنشائية

- ‌التعريف بالأسلوب الإنشائي

- ‌أقسام الأسلوب الإنشائي

- ‌أسلوب الأمر

- ‌أسلوب النهي

- ‌الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية

- ‌أسلوب الاستفهام

- ‌من أدوات الاستفهام "هل

- ‌بقية أدوات الاستفهام

- ‌أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي

- ‌الدرس: 17 مبحث القصر

- ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

- ‌أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه

- ‌الدرس: 18 تابع: مبحث القصر

- ‌العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن

- ‌ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء

- ‌ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما

- ‌رابع طرق القصر: التقديم

- ‌من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية

- ‌الدرس: 19 باب: الفصل والوصل

- ‌باب: الوصل والفصل بين المفردات

- ‌باب: الوصل والفصل بين الجمل

- ‌الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل

- ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

- ‌مواضع الوصل بين الجمل

- ‌الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب

- ‌الإيجاز، وأنواعه

- ‌المساواة والإطناب

- ‌صور الإطناب

الفصل: ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

ومن أغراض تقديم المسند إليه أيضًا إشعار السامع أن المسند إليه لا يغيب عن خاطره؛ أي: إرادة المتكلم أن يشعر السامع بأن المسند إليه حاضر في قلبه لا يغيب عنه إما لشدة الحاجة إليه؛ كقول المتكلم الجائع مثلًا: الرغيف يكسر حدة الجوع، وإما لأن المتكلم يستلذه مثل: ليلى رأيتُها، وإما لأنه يُتبرك به مثل: الله آمنت به ربًّا أومحمد آمنت به نبيًّا ورسولًا.

كذا يقدم المسند إليه بغرض التعجيل بتعظيمه أو تحقيره وذلك إذا كان اللفظ مشعرًا بما يدل عليهما، مثل: أبو الفضل عندنا وأبو الجهل رحل عنا، ومثل: ال رجل ال فاضل مر بنا وفتى سفيه سألني. وهكذا.

كما يقدم المسند إليه أيضًا بغرض إفادة تخصيص المسند إليه بالمسند، وهذا أهم ما في الباب، أو إفادة تقوي الحكم وذلك إذا كان المسند فعلًا رافعًا لضمير المسند إليه المقدم.

‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

وفي إفادة تقديم المسند إليه هذا الغرض التخصيص أو التقوي مذهبان:

أحدهما: للإمام عبد القاهر وجمهور البلاغيين.

والآخر: للشيخ السكاكي.

أولًا: مذهب الإمام عبد القاهر: يذهب الإمام عبد القاهر الجرجاني ويتبعه في ذلك جمهور البلاغيين إلى أن المسند إليه إذا تقدَّم على خبره الفعلي مسبوقًا بنفي، أفاد التخصيص حتمًا، لا فرق في

ص: 245

ذلك بين أن يكون المسند إليه اسمًا ظاهرًا مثل: ما زيد فعل هذا، أو ضميرًا مثل: ما أنا فعلت هذا، أو أن يكون نكرة مثل: ما رجل فعل هذا.

ومعنى التخصيص انتفاء الفعل عن المسند إليه المتقدم وإثباته لغيره؛ هذا إذا كان معرفة، أما إذا كان المسند إليه نكرة فالتخصيص فيها معناه انتفاء الفعل عن الجنس أو عن فرد واحد منه وثبوته لغير الجنس أو لغير الفرد الواحد منه، ولنطبق هذا على ما سبق من أمثلة.

أنت عندما تقول: ما زيد فعَلَ هذا كما في المثال الأول، فإنه يعني انتفاء الفعل عن زيد خاصة وثبوته لغيره، فقوله ردًّا على من زعم انفراد المسند إليه وهو زيد بالفعل دون غيره، فيكون قصر قلب، أو ردًّا على من زعم اشتراك ذلك الغير مع المسند إليه بالفعل فيكون قصر إفراد، والمراد بالغير شخص معين هو موضوع النزاع؛ لأن التخصيص إنما هو بالنسبة إلى مَن توهم المخاطب انفراد المسند إليه بالحكم دونه، أو ردًّا على مَن توهم اشتراكه مع المسند إليه فيه، فهو قصر إضافي بالنسبة إلى معين لا بالنسبة لجميع الناس ويسمى ذلك قصر تعيين.

ومعنى التخصيص في المثال الثاني: ما أنا فعلت هذا، انتفاء الفعل عن المتكلم خاصةً وثبوته لغيره، تقول: هذا المثال الذي ذكرناه ردًّا على من زعم انفرادك بالفعل دون غيرك فيكون قصر قلب، أو على مَن زعم اشتراك الغير معك في هذا الفعل فيكون قصر إفراد، ومعنى التخصيص في المثال الثاني: ما رجل فعل هذا، انتفاء الفعل عن جنس الرجل وثبوته لغير هذا الجنس، أو عن العدد عن فرد واحد منه وثبوته لغيره، فالأول ترد به على من زعم أن الذي فعل الفعل رجل لا امرأة، فتقول: ما رجل فعل هذا، فيفهم أن الذي فعل امرأة، وهذا تخصيص للجنس، وفي الثاني ترد به على مَن زعم أن الذي فعل الفعل رجل واحد لا

ص: 246

رجلان ولا أكثر، فتقول له: ما رجل فعل هذا، فيفهم أن الذي فعل رجلان أو أكثر، وهذا تخصيص للوحدة.

ولعلك تلحظ في الأمثلة السابقة أن المسند إليه وقع بعد النفي مباشرة دون فصل، وهذا ليس بشرط؛ فيجوز أن يفصل المسند إليه عن النفي السابق عليه ببعض المعمولات مثل: ما زيد أنا ضربته، وما في المنزل أنا صليت، وما يوم الجمعة أنا سافرت؛ فهذا كله مما يفيد التخصيص قطعًا عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، والتقديم في مثل هذه التراكيب التي ذكرتها لك لا تقال إلا في مقام تحقق فيه الفعل وتريد أنت نفيه عن الاسم المتقدم، فيلزم ثبوته لغير هذا المتقدم؛ لأن الفعل واقع، وكل فعل لا بد له من فاعل، ومن هنا قالوا عن مثل: ما أنا فعلت هذا، أنها تفيد ثلاثة أشياء؛ أن الفعل مثبوت وموجود لا شك فيه، وأنه منفي عن الاسم المتقدم، وأنه ثابت لغير المتقدم على حسب النفي عمومًا وخصوصًا، فلا تقول: ما أنا سعيت في حاجتك، بتقديم الاسم إلا إذا كان السعي في الحاجة واقعًا ولا جدالَ فيه، وأنك تنفيه عن نفسك وتثبته لغيرك، وكذلك إذا قلت: ما أنا ضربت زيدًا، لم تقله إلا وزيد مضروب والمخاطب يدعي أنك الضارب له، فتنفي ذلك عن نفسك وتثبته لغيرك.

ومن أبين الأساليب على أن هذا التقديم يقتضي وجود الفعل ونفيه عن المسند إليه المقدم وإثباته لغيره قول المتنبي:

وما أنا أسقمت جسمي به

ولا أنا أضرمت في القلب نارًا

فالسقم ثابت موجود، ولكن الشاعر يريد أن ينفي عن نفسه أنه الجالب له، ويثبت ذلك للهم الذي اعتراه وحَل به، ومثله في الوضوح قوله أيضًا:

وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله

ولكن لشعري فيك من نفسه شعر

ص: 247

فتقديم المسند إليه يدل على أن الشعر ثابت، ولكن الشاعر يريد أن ينفي عن نفسه أن يكون القائل له وحده، ويثبت أن فضائل الممدوح ومحاسنه كان لها الفضل في كثير منه؛ لأنها الملهمة فكأنها القائلة.

هذا؛ وإذا كانت التراكيب المذكورة التي تقدم فيها المسند إليه على خبره الفعلي مسبوقًا بنفي مقيدة لنفي الحكم عن المسند إليه وإثباته في الوقت نفسه لغيره إذا كان ذلك كذلك، فينبغي أن تعلم أن نفي الحكم عن المسند إليه إنما يدل عليه منطوق العبارة -ي عني: ألفاظها - أما ثبوته لغيره فهو المعنى المفهوم منها والمفاد من معناها وفحواها، ولهذا لا يصح أن يقال مثلًا: ما أنا قلت هذا الشعر وحدي ولا غيره؛ لأن منطوق "لا غيري" يتناقض معناه مع مفهوم العبارة المذكورة؛ إذ إ ن المفهوم ما أنا قلت هذا الشعر ثبوته للغير، ومعنى "لا غيري" نفيه عني وهما بذلك متنافيان.

كما ينبغي أن تعلم أن ثبوت الحكم يجب أن يكون على الوجه الذي انتفى به عن المسند إليه من العموم والخصوص، كما يقتضي التخصيص، فإذا كان المنفي عن المسند إليه خاصًّا كان الثابت لغيره كذلك كما في قولك مثلًا: ما أنا قلت هذا الشعر، انتفى فيه عن المسند إليه شيء خاص هو قول شعر معين، فيجب أن يثبت لغيره قول هذا الشعر بعينه؛ تحقيقًا لمعنى الاختصاص، وإن كان المنفي عن المنسد إليه عامًّا كان الثابت لغيره كذلك، ولهذا لا يصح أن يقال: ما أنا رأيت كل رجل، ولا: ما أنا ضربت كل رجل إلا زيدًا، وثبوت الرؤية أو الضرب على هذا الوجه محالٌ؛ إذ ليس في طوق إنسان أن يرى جميع الرجال أو أن يضرب كل الرجال.

ص: 248

ومثَّل الخطيب القزويني لِمَا لا يصح بقوله: ما أنا رأيت أحدًا من الناس، وما أنا ضربت إلا زيدًا، بحمل النكرة الواقعة في سياق النفي على الاستغراق الحقيقي، أما إذا حُملت على الاستغراق العرفي بأن يقصد بلفظ "أحد" ما يمكنه رؤيته أو ضربه فلا يكون المثال فاسدًا بل يكون صحيحًا.

هذا كله إذا وقع المسند إليه بعد النفي كما اشترط الإمام عبد القاهر.

فإذا لم يقع المسند إليه بعد النفي بأن كان مثبتًا لا يوجد فيه نفي أصلًا، مثل: محمد سعى في حاجتك، وأنا كتبت في شأنك، ورجل اهتم بأمرك، أو وجد في الكلام نفي، لكنه تأخر عن المسند إليه ولم يتقدم على نحو ما ذكرنا، ففي هاتين الصورتين يفيد تقدم المسند إليه التخصيص احتمالًا لا حتمًا إذا كان معرفة ضميرًا أو اسمًا ظاهرًا كما في الأمثلة السابقة، حيث يجوز أن يراد من التركيب التخصيص، وأن يراد منه تقوي الحكم حسبما يتطلبه المقام، فإن كان المتكلم في مقام الرد على منازع في الحكم كان الكلام مفيدًا للتخصيص، وإن كان القصد إلى مجرد الحكم على المسند إليه من غير نظر إلى التعرض للرد على معارض، كان الكلام مفيدًا لتقوي الحكم وتقريره في ذهن السامع.

ولتوضيح ذلك أقول:

إذا قلت في حالة الإثبات -أي: انعدام النفي من الكلام- محمد سعى في حاجتي، فإن كنت قد أردت بهذا القول الرد على مَن زعم انفراد الغير بالسعي دون محمد، أو على من زعم اشتراك الغير معه في السعي، فالتركيب حينئذٍ مفيد للتخصيص؛ أي: قصر السعي على محمد دون هذا الغير، ويسمى القصر في الزعم الأول قصر قلب وفي الثاني قصر إفراد.

ص: 249

ومن الواضح الجلي في إفادة تقديم المسند إليه التخصيص في حالة الإثبات هذه قولهم في المثل المشهور: أتعلمني بضب أنا حرشته، حرش الضب واحترشه؛ أي: صاده بالحيلة المعروفة، وهو أن يحرك الصائد يده على باب جحره؛ ليظنه حي ًّا فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه، وهذا المثل يضربه العالم بالشيء لمن يريد تعليمه إياه، فتقديم المسند إليه هنا يفيد التخصيص؛ أي: أن حرش الضب مقصور على المتكلم ومنفي عن غيره بمعنى: ما حرشه إلا أنا، وعليه قول الله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (التوبة: 101) أي: لا يعلمهم إلا نحن ولا يطلع على أسرارهم غيرنا؛ لإبطانهم الكفر في سويدوات قلوبهم، أما إن أردت بقولك: محمد سعى في حاجتي، مجرد إثبات الحكم للمسند إليه ولم تقصد الرد على معارض، كان الكلام مفيدًا لتقوي الحكم وتقريره في ذهن السامع لا غير.

ونظير ما سبق قولك: محمد يعطي الجزيل، فأنت لا تريد بهذا القول أن غيره لا يعطي الجزيل حتى يكون مفيدًا للتخصيص، بل تريد أن تحقق للسامع، وتؤكد له أن إعطاء الجزيل دأبه وعادته، وأن هذا الوصف قد تمكن من نفسه فضل تمكن.

ومن الأساليب التي دل المقام والسياق على أن التقديم فيها مفيد للتقوي فقط بمعونة السياق قول الشاعر:

هم يفرشون اللبد كل طمرة

وأجرد سباح يبذ المغاليا

اللبد الشعر المتبلل الذي يوضع على ظهر فرس تحت السرج، والطمرة: هي الفرس الكريمة، والأجرد: القصير الشعر، والسباح الذي يشبه جريه السباحة في اللين، يبذ يعني: يغلب، المغاليا يعني المبالغ في العدو والسير، لا يريد الشاعر أن

ص: 250

يخصهم بهذه الصفة ويدعي أنها لا تكون لغيرهم، وإنما أراد بيان أنهم فُرسان يمتطون صهوات الخيل ويقتنون الجياد منها.

ومثل ذلك قول الآخر:

وهم يضربون الكبش يبرق

بيضه على وجهه من الدمائل سبائب

ف الكبش هو رئيس الجيش، والبيض واحده بيضة، وهي الخوذة التي توضَع على الرأس، والسبائب طرائق الدم، فالشاعر يريد أن ينبه السامع إلى شجاعته ليحقق الأمر ويؤكده، ولا يدع مجالًا للشك فيه، ولا يريد أن يدعي له الانفراد بهذه الصفة، وأن هذا الضرب لا يكون إلا منهم، فالقصد إلى تقوية الحكم إذن لا إلى التخصيص، ومن البين في ذلك قول عروة بن أبي أذنية:

سليمى أزمعت بينا

فأين تقولها أين

فالقول هنا بمعنى الظن، أم يريد الشاعر أن يجعل إزماع الفراق خاصًّا بسليمى وأنه مقصور عليها دون سواها، ولا أن يرتب على ذلك أنه لم يزمع الفراق أحد من جماعتها سواه؛ إذ ذلك محال، ولكنه أراد بتقديم ذكرها أن يؤكد ويقوي الحكم، وأبين من هذا كله في إفادة تقوية الحكم دون التخصيص قوله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الفرقان: 3) فالمراد تأكيد أنهم خلق الله فليسو أهلًا للعبادة، ومحال أن يراد هنا التخصيص؛ لأن خلق الله ليس مقصورًا عليهم، فهو سبحانه يخلقهم ويخلق غيرهم، وهو خالق كل شيء.

ومثل حالة الإثبات حالة النفي المتأخر -كما قلنا عن المسند إليه- كما تقول: علي ما سعى في حاجتي، فإن كان القصد الرد على مَن زعم انفراد الضمير بعدم السعي دون علي أو على من زعم اشتراك الغير معه في عدم السعي، فالترتيب للتخصيص؛ أي: قصر عدم السعي على علي، والأول قصر

ص: 251

قلب، والثاني قصر إفراد، وإن كان القصد إلى مجرد الإخبار لعدم السعي من غير قصد إلى الرد على منازع فالترتيب للتقوي؛ وهكذا تنحو هذا النحو من الترديد بين التخصيص والتقوي في كل تركيب لم يقع فيه المسند إليه معرف بعد النفي مثبتًا كان الكلام أو منفيًا، والحَكم في ذلك هو المقام والسياق.

فإن كان المسند إليه نكرة كما في الصورتين السابقتين وهما الإثبات أو تأخر النفي أفاد التقديم التخصيص قطعًا؛ ليكون مسوغًا للابتداء بالنكرة، ويكون التخصيص على نوعين؛ تخصيص الجنس أو الواحد كقولك: رجل جاءني؛ أي: لا امرأة أو رجلان؛ لأن الأصل في النكرة أن تكون لواحد من الجنس، ويقع القصد بها تارةً إلى الجنس فقط وذلك حين يكون المخاطب بالمثال السابق قد عرف أن قد أتاك آت ولم يدرِ جنسه أرجل هو أم امرأة، أو اعتقد أنه امرأة، وتارةً إلى الوحدة فقط، كما إذا عرف المخاطب أن قد أتاك من هو من جنس الرجال ولم يدرِ أرجل هو أم رجلان أم أكثر؟

فتقديم النكرة على الفعل يفيد قصره عليها بأحد الاعتبارين اللذين سبق ذكرهما الجنس أو الوحدة، ومرد الفصل بين المقامين يرجع لحال المخاطَب؛ فإن كان النزاع في الجنس فالقصر عليه والتخصيص له، وإن كان النزاع في العدد فالتخصيص للعدد واحدًا أو مثنى أو جمعًا.

ويلحق بالجنس النوع بحسب الوصف كقولك: رجل طويل جاءني ردًّا على مَن ظن أنه قد أتاك قصير، وهذا كله هو المفهوم من كلام الإمام عبد القاهر في (دلائل الإعجاز) حيث يقول في وإذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام فابن الخبر عليه، فإذا قلت: رجل جاءني لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة،

ص: 252

ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت، فإن لم ترد ذلك كان الواجب أن تقول: جاءني رجل، فتقدم الفعل، وكذلك إن قلت: رجل طويل جاءني، لم يستقم حتى يكون السامع قد ظن أنه قد أتاك قصير، ونزلته منزلةَ مَن ظن ذلك.

وخلاصة مذهب عبد القاهر يدور -كما ترى- في الغالب حول أداة النفي؛ ف إن كانت سابقة على المسند إليه أيًّا كان نوعه أفاد الكلام التخصيص قطعًا، وإن لم تسبقه أداة نفي بأن تأخرت عنه أو لم توجد في الكلام أصلًا فننظر إلى المسند إليه؛ إن كان معرفة ظاهرًا أو ضميرًا احتمل الكلام التخصيص والتقوي، فتارةً يفيد التخصيص، وتارةً يفيد التقوي، وتارةً يفيد التقوية فقط، حسبما يقتضي المقام، وإن كان المسند إليه نكرة أفاد تقديمها التخصيص قطعًا، وبهذا تدرك أن تقديم المسند إليه النكرة على الفعل مفيد للتخصيص دائمًا بغض النظر عن النفي تقدم أو تأخر، أو لم توجد بأن كان الكلام على الإثبات، وفي هذا الحكم للنكرة يتفق السكاكي مع عبد القاهر -كما سنعلم ذلك إن شاء الله من مذهبه-.

هذا هو مذهب عبد القاهر الجرجاني. غير أن هناك أساليبَ قد وردت متحققًا فيها شرطه لإفادة التخصيص ومع ذلك لم تفد مثل قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} (الأنبياء: 39، 40) فقوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ، {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} قدم فيه المسند إليه على الخبر الفعلي، وهو مسبوق بحرف النفي، ومع هذا أفاد التقوية فقط؛ لأن التخصيص يقتضي أن غيرهم يُنصر من عذاب الله وينظر حتى تأتيه الساعة وذلك لا يكون.

انتهى من كلام الشيخ أبو موسى في كتابه (خصائص التراكيب).

ص: 253

ويمكن أن يجاب عن مثل هذا بحمل ما قرره عبد القاهر على الكثير الغالب وإن لم يقصده هو؛ لأن القواعد في جلها أو كلها أغلبية حتى لا نكاد نجد قاعدةً عامةً لم تنخرم، ومن هنا قال علماء الأصول: ما من عام إلا وخُصِّص حتى هذه القاعدة قد خصصت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (العنكبوت: 62).

هذا؛ وإن أدركتَ معنى التخصيص فيما سبق بأنه قصر نفي الفعل على المسند إليه المتقدم وإثباته لغيره في حالة النفي، أو قصر الفعل على المسند إليه ونفيه عن غيره في حالة الإثبات؛ فالسؤال الذي يفرض نفسه: ما معنى التقوية؟ وما هو سببها؟

نقول: إن التقوية تأكيد الحكم الإسنادي وتقريره في ذهن السامع، والسر في إفادة تقديم المسند إليه على خبره الفعلي توكيد الحكم وتقويته، أن الاسم لا يؤتى به معرًّى عن العوامل إلا لحديث قد نوي إسناده إليه فإذا قلت: عبد الله مثلًا، فقد أشعرت قلبَ السامع أنك أردت الحديثَ عنه، فإذا جئت بالحديث -وهو الفعل- فقلت: قام أو فعل كذا دخل على القلب دخول المأنوس وقبله قبول المطمئن؛ لأنك قد وطَّأت له وقدمت الإعلان فيه، وذلك لا محالةَ أشد لثبوته وأمنع للشك فيه، هذا ما يراه الإمام عبد القاهر.

والأوضح في بيان سبب التقوية أن يقال برأي السكاكي من أن السبب يتمثل في تكرر الإسناد، حيث نجد الفعل قد أسند إلى الاسم المتقدم مرتين؛ مرةً بطريق غير مباشر؛ لأن فاعله ضمير يعود على الاسم المتقدم، ومرةً بطريق مباشر؛ لأن الجملة من الفعل والفاعل خبر عن هذا الاسم المتقدم؛ ففي قولك مثلًا: زيد قام تَسند القيام إلى زيد مرتين، مرةً باعتبار أنه مرجع الضمير المستتر الذي أعربته فاعلًا لقام، ومرةً باعتبار أن الجملة كلها من الفعل والفاعل خبر عن المبتدأ زيد،

ص: 254

وهذا التكرار للإسناد هو سبب وسر التقوية والتأكيد؛ ولذلك قالوا: إن قولهم: أنت لا تكذب، أقوى في نفي الكذب من قولهم: لا تكذب أنت؛ لتكرر الإسناد في الأول دون الثاني.

ومن هنا يعلم أن كل تركيب مفيد للتخصيص قطعًا أو احتمالًا هو بعينه مفيد للتقوي، وإن كان غير مقصود لوجود مقتضى التقوي وهو تكرر إسناد الناشئ من تقديم المسند إليه على الخبر فعلًا، أما التقوي فلا يلزمه التخصيص لتوقف التخصيص على شروط معينة لا يلزم تحققها من وجود تكرر الإسناد.

وقد استشهد الإمام عبد القاهر على أن تقديم المسند إليه على خبر الفعل يقتضي التأكيد والتقوية للحكم بأقوال البلغاء واستعمالاتها؛ حيث نجدهم يستعملون هذا الأسلوب في المقامات التي تحتاج إلى تأكيد، فدل ذلك على أن هذا الأسلوب -تقديم المسند إليه على خبره الفعلي- يفيد التأكيد ويحقق التقوية، وهذه المقامات والمواطن تتمثل في الآتي:

1 -

إذا سبق إنكار للمنكر كأن يقول قائل: لا أعلم ما تقول، فتقول له: أنت تعلم أن الأمر على ما أقول، فتقدم المسندَ إليه أنت، وعليه قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 75) لأن الكاذب لا سيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب وينكر كذلك علمُه بأنه كاذب، ومعلوم أن الإنكار يقتضي توكيد الحكم فقُدِّم المسند إليه لرد هذا الإنكار.

2 -

أنه يجيء فيما اعترضه شك نحو أن يقول لك قائل: كأنك لا تعلم ما قاله فلان، ويظهر شكه في علمك، فتقول: أنا أعلم ما قال ولكني أداريه.

3 -

أنه يأتي في تكذيب مدع ي ك قوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} (المائدة: 61) فإن قولهم: {آمَنَّا} دعوى منهم أنهم

ص: 255

لم يخرجوا بالكفر فالموضع موضع تكذيب، وهو من قبيل رد الإنكار أيضًا؛ لأنهم ينكرون الكفر.

4 -

أنه يأتي فيما القياس في مثله ألا يكون؛ أي: فيما يقتضي العقل والمنطق ألا يكون نحو قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الفرقان: 3) فإنهم وإن كانوا لا ينكرون أنها مخلوقة؛ فإن عبادتها تقتضي أنها غير مخلوقة؛ لأ ن العقل يقتضي أن يكون المعبود خالقًا لا مخلوقًا.

5 -

كما يجيء هذا الأسلوب في كل خبر كان على خلاف على العادة وفيما يستغرب كما تقول: فلان يدعي العظيم وهو يعي ي باليسير، ويزعم أنه شجاع وهو يفزع من أدنى شيء؛ فكل ذلك أمر مستغرب جاء على خلاف العادة، فهو يحتاج إلى التأكيد وإبعاد الشك عن السامع.

6 -

يجيء هذا الأسلوب كذلك في المدح والفخر نحو: هو يقري الضيف، وكقول طرفة:

نحو في المشتات ندعو الجفَلى

لا ترى الآدب فينا ينتقر

7 -

ويأتي هذا الأسلوب كثيرًا في الوعد والضمان كقولك: أنا أعطيك، أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر؛ وذلك لأن مِن شأن مَن تعده أن يعترضه الشك في تمام الوعد وفي الوفاء به، فهو أحوج إلى التأكيد.

ننتقل بعد هذا إلى مذهب الإمام السكاكي في تعريفه تقديم المسند إليه وإفادته ل لتخصيص:

وإن كان السكاكي يتفق مع عبد القاهر في أن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي يفيد التخصيص، فله مذهب يخالف مذهب الإمام، لا يعول فيه على نفي تقدم أو تأخر، وجد أو لم يوجد، وإنما المدار في إفادة التخصيص مشروطة عنده بشرطين:

ص: 256

الأول: أنه يجوز تقدير كون المسند إليه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل معنى فقط لا لفظًا ومعنًى؛ ذلك أنه عند التأخير يعرب توكيدًا للفاعل الاصطلاحي؛ أو بدلًا منه، نحو: أنا قمت، فإنه يجوز أن يكون أصله: قمت أنا، فيكون أنا توكيدًا أو بدلًا من الضمير في قمت الذي هو الفاعل، والتوكيد والبدل كلاهما فاعل في المعنى إذا كان المبدل فاعلًا اصطلاحيًّا كما هنا.

الشرط الثاني: أن يقدر كونه كذلك؛ أي: أن يعتبر المتكلم المسند إليه مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى قبل النطق به، ثم يقدمه عند التلفظ قاصدًا التخصيص، وعند انتفاء الشرط الأول بأن كان المسند إليه اسمًا ظاهرًا كقولنا: محمد قام لا يفيد التقديم إلا تقوية الحكم؛ لأننا لو قدرنا أن لفظ محمد مؤخر في الأصل، وأن الكلام قام محمد لكان فاعلًا في اللفظ والمعنى لا في المعنى فقط كما يريد السكاكي، والأمر كذلك حين ينتفي الشرط الثاني بأن قدر الكلام في مثل: أنا قمت، على الابتداء من أول الأمر بدون تقدير تقديم أو تأخير؛ فإن التقديم حينئذٍ لا يفيد إلا التقوي، ومثل ذلك: ما أنا قمت وما زيد قام، وقياسًا على الاسم المعرفة المظهر بحيث انتفاء الشرط الأول فيه يكون حال المسند إليه النكرة في نحو: رجل جاءني، أنه لا يفيد التخصيص؛ إذ لا يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى؛ لأنك إذا قلت: جاءني رجل، فهو فاعل لفظًا ومعنًى مثل: قام محمد، فيجب ألا يفيد إلا التقوي.

لكن السكاكي استثنى مثل هذا التركيب فجعله مفيدًا للتخصيص قطعًا، واعتبر وجود شرطي التخصيص فيه وقدر جوازًا أن أصل: رجل جاءني، جاءني رجل، على أن يكون رجل بدلًا من الضمير المستتر في الفعل؛ ليكون فاعلًا في

ص: 257

المعنى على هذا التقدير، ثم قدر تقديمه لإفادة التخصيص، أو يلزم على هذا الغرض عَوْد الضمير على متأخر لفظًا ورتبةً؛ لأن هذا مغتفر في البدل كقولهم: ظرف خالدًا، ولا غرابةَ فيما ذهب إليه السكاكي من هذا الإعراب؛ فقد نَحَا بعض العلماء هذا النحو في قول الله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُو} (االأنبياء: 3) وأعربوا: {الَّذِينَ ظَلَمُو} بدلًا من واو الجماعة، وقد ارتكب السكاكي هذا الوجه البعيد من الإعراب فيما يكون فيه المسند إليه نكرة لا مسوغ لها؛ ليتوسل به إلى ذلك المسوغ، وهو التخصيص، ولولا ارتكابه لهذا الوجه؛ ل انتفى التخصيص وبقيت الكرة بلا مسوغ، وهو مضطر إلى اعتبار التخصيص في النكرة لأجل صحة الابتداء به، ولا يتأتى ذلك إلا من هذا الطريق، وهو تقدير كون المسند إليه مؤخرًا في الأصل على أنه فاعل معنًى فقط؛ ولذلك لم يلجأ إلى هذا التخريج البعيد في المعرف؛ ل صحة وقوعه مبتدأً بلا حاجة إلى مسوغ، فلا شيوع فيه حتى يحتاج إلى تخصيص.

خلاصة مذهب السكاكي: بتطبيق ما اشترطه لإفادة تقديم المسند إليه على خبر الفعل ل لتخصيص، وما استثناه من هذا الشرط يتبين لنا أن المسند إليه إذا كان نكرة لا مسوغَ للابتداء بها تعين الكلام للتخصيص، وإذا كان معرفةً اسمًا ظاهرًا تعين الكلام للتقوي، وإن كان المسند إليه ضميرًا كان الكلام محتملًا للتخصيص والتقوي، ولا فرقَ في ذلك كله بين أن يكون الكلام مثبتًا أو منفيًا تقدم النفي على المسند إليه أو تأخر.

هذا ملخص مذهب السكاكي الذي يفترض فيمن يريد الكلام بنحو هذا الأسلوب أن يقف قبل النطق مستحضِرًا ما يريد صياغته مقدرًا ما يريد أن ينطق

ص: 258

به مقدمًا، وهذه افتراضات مستبعدة؛ لأن أحوال الصياغة وما فيها من دقائق عجيبة وخفية ما هي إلا استجابات تلقائية لخواطر المتكلم ومقاصده، فصنيع السكاكي بما اشترطه يتنافَى مع فكرة اللغة العربية ويثري أدائها لمعانيها. كذا ذكره الشيخ أبو موسى في (خصائص التراكيب).

ويبقى بعد ذلك القول: بأن أصل المسألة التي دار حولها كلام عبد القاهر والسكاكي - رحمهما الله - تتمثل في تقديم المسند إليه على خبره الفعلي، ولك أن تسأ ل قائلًا: ألا يأخذ الاسم المشتق حكم الفعل باعتباره متحملًا للضمير مثله؟

الجواب: أنه إذا كان الخبر عن المسند إليه اسمًا مشتقًّا مثل: محمد كاتب، فهناك من البلاغيين من أعطاه حكم الفعل فيما سبق من أحكام، وهناك من قصر الأحكام السابقة على الفعل دون الاسم المشتق، والحق أن الفيصل هو السياق، فتارةً يقتضي هذا السياق معاملة الاسم المشتق معاملة الفعل فيفيد الإخبار به عن المسند إليه التخصيص أو التقوي، وتارةً لا يفيد، ومن البين في إفادة الخبر المشتق للاختصاص قوله تعالى:{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} (هود: 91، 92) وقوله سبحانه حكايةً عن قوم شعيب: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} مفيد التخصيص، وهو قصر نفي العزة عن شعيب وإثباتها لرهطه، كأنهم قالوا: العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت؛ لكونهم من أهل ديننا؛ ولذلك قال عليه السلام في جوابهم: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: من نبي الله.

ص: 259

تقديم المسند إليه لإفادة العموم:

إذا كان المسند إليه من ألفاظ العموم كلفظي كل وجميع، فتقديمه على النفي لدى البلاغيين يفيد عموم السلب، ويريدون بعموم السلب شمول النفي لكل فرد من أفراد المسند إليه، ويتحقق ذلك بأن يتقدم لفظ العموم على أداة النفي لفظًا ورتبةً مثل قولك: كل طالب لم يرسب، فأداة العموم في المثال المذكور تقدمت على النفي لفظًا وهو ظاهر، ورتبةً لأنها وقعت مبتدأ والجملة المنفية بعدها خبر عنه ومرتبة المبتدأ التقدم على الخبر، فالتركيب حينئذٍ مفيد للعموم. إن الرسوب في المثال المذكور منفي عن جميع الطلاب بغير استثناء، يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((كل ذلك لم يكن)) جوابًا عن سؤال ذي اليدين وهو صحابي لُقب بذلك لطولٍ كان في يديه: "أقصرت الصلاة أم نسيتَ يا رسول الله؟ ". ومعنى القول الكريم لم يقع واحد من القصر والنسيان، فالنفي شمل الأمرين جميعًا.

ومما يدل على أن المعنى هكذا ما روي أن ذا اليدين لما سمع إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "بل بعض ذلك قد كان "، ومعلوم أن الثبوت للبعض ينافي النفي عن كل فرض فإذا قال ذو اليدين للنبي صلى الله عليه وسلم:"بل بعض ذلك قد كان" يكون قوله هذا لعلمه أن مراد النبي الكريم نفي كل واحد من الأمرين، ولو لم يكن مراده ذلك ما صح قول ذي اليدين ردًّا عليه.

ومما يدل على أن النفي للأمرين جميعًا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من طريق آخر أنه قال مجيبًا ذا اليدين: ((لم أنسَ ولم تَقْصُر)) فهذا الخبر إن صح نص صريح في نفي الأمرين جميعًا.

ص: 260

ومن شواهد عموم النفي أو عموم السلب قول أبي النجم:

قد أصبحت أم الخيار تدعي

عليَّ ذنبًا كله لم أصنع

برفع كله على أنه مبتدأ خبرُه الجملة لم أصنع، وتقدم المسند إليه وهو من ألفاظ العموم على النفي؛ ليكون المعنى أنه لم يأتِ بشيء مما ادَّعت عليه هذه المرأة فهي من ثم متجنية، وهذا ما يقتضيه عموم السلب، وعلة إفادة عموم السلب أو شمول النفي عند تقدم أداة العموم لفظًا ورتبةً على النفي أنك إذا بدأتَ بأداة العموم كنت قد بنيت النفي عليها، وسلطت الكلية عليه وأعملتها فيه؛ وذلك يقتضي ألا يشذ عن النفي شيء؛ وهكذا يقدَّم المسند إليه لقصد إفادة النفي الشامل لجميع أفراده إذا كان من ألفاظ العموم مثل كل وجميع، وكان مصحوبًا بأداة نفي.

أما إذا تأخر المسند إليه على أداة النفي بأن وقعت أداة العموم في حيز النفي؛ أي: وقعت بعد النفي لفظًا ورتبةً أو رتبةً فقط لم يكن النفي عامًّا شاملًا، بل يفيد الكلام حينئذ ثبوت الحكم لبعض الأفراد دون بعض، كما يجوز أن يفيد النفي عن جميع الأفراد كالحالة الأولى، والمقام يضيء لنا في ذلك الكلام.

هذا ما يراه بدر الدين بن مالك.

أما الشيخ عبد القاهر فيرى أن النفي في هذه الحالة لا يكون إلا لبعض الأفراد دون بعض، وليس شاملًا لجميع الأفراد كالحالة الأولى؛ فلا فرقَ في ذلك بين أن تكون أداة العموم معمولة لأداء النفي أولًا، ولا بين أن تكون معمولة للفعل المنفي أولًا، ولا بين أن يكون الخبر فعلا أولًا؛ فالمدار في إفادة عموم شمول النفي على أن تقع أداة العموم بعد النفي لفظًا ورتبةً، مثل قول أبي الطيب المتنبي:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن

ص: 261

وقول أبي العتاهية:

ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد

إذا بدا لك رأي مشكل فقف

يريد الشاعر أن يقول: ليس كل ذي رأي على حق فقد يصيب وقد يخطئ، فإذا ما أشكل عليك رأي فتريثْ في الأمر حتى تستشيرَ فيه، فرأيان خير من رأي، ونحو قولك: ما نجح الطلاب كلهم، وما نجح كل الطلاب، ومثل قولك: لم أطالع الصفحات كلها، ولم أطالع كل الصفحات؛ ففي كل هذه الأمثلة وقعت أداة العموم بعد أداة النفي لفظًا ورتبة ً، غير أنها في المثال الأول والثاني -يعني: بيتي المتنبي وأبي العتاهية- معمولة للنفي إذا جعلنا "ما" حجازية وللابتداء إن جعلت تميمية، وهي في المثال الثالث والرابع والخامس والسادس معمولة للفعل المنفي كما تراه واضحًا.

وإذا وقعت أداة العموم بعد النفي رتبةً فقط مثل قولهم: كل الصفحات لم أطالع، والصفحات كلها لم أطالع؛ بنصب كل فيهما باعتبارها معمولًا للفعل المعمول متأخرًا في الرتبة عن عامله؛ فإن النفي هنا يتوجه إلى الشمول خاصة ً، وهو ما يسمى بسلب العموم.

كما يفيد الكلام ثبوت الحكم لبعض ما أضيف إليه كل إن كانت كل فاعلًا لفظًا ومعنًى، مثل: ما نجح كل الطلاب، أو فاعلًا معنى فقط بأن كان التوكيد للفاعل مثل: ما نجح كلهم، أو أفاد تعلقه بهذا البعض إن كانت كل معمولًا في المعنى واللفظ مثل: لم أطالع كل الصفحات، أو معمولًا في المعنى فقط مثل: لم أطالع الصفحات كلها، وعلة إفادة سلب العموم؛ أي: عدم الشمول عند تقدم النفي على أداة العموم أنك إذا بدأتَ بالنفي كنت قد بنيت الكلية عليه، وسلطت النفي عليها وأعملته فيها؛ وذلك يقتضي أن يخرج البعض عن الحكم.

ص: 262

وهكذا نجد عموم النفي عند تقدم أداة العموم متفق عليه، أما نفي العموم -أي: توجه النفي للشمول وثبوت الحكم للبعض عند وقوع أداة العموم في حيز النفي- فمختلف فيه بين بدر الدين بن مالك الذي يرى أن الحكم ليس على إطلاقه، فهذه الإفادة ليست قطعية بل احتمالية، وبين عبد القاهر الذي يرى أن نفي العموم أمر قطعي كعموم النفي.

والحق أن الصواب فيما عليه ابن مالك؛ لوجود أساليب كثيرة وقعت فيها أداة العموم بعد النفي لفظًا ورتبةً، ومع ذلك أفادت عموم السلب لا سلب العموم كما قرر عبد القاهر.

ومن هذه الأساليب التي اعترض بها البلاغيون على عبد القاهر قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد: 23) وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: 276) وقوله عز وجل: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} (القلم: 10) إذ ليس معقولًا أن يحظى بهذا الحب أو بهذه الإطاعة بعض هؤلاء، وإنما الكل في غضب الله عليهم سواء، وقد أجيب عن هذا: بأن عبد القاهر كلامه مبني على أصل الوضع، وإفادة هذه الأبيات لعموم السلب، ونفي الحكم عن كل فرد ليس من أصل الوضع، بل من قرائن خارجية هي تحريم الاختيال والكفر وإطاعة الحلَّاف المهين؛ وإذن فالآيات المذكورة مصروفةٌ عن ظاهرها بهذه القرائن الخارجية، وإلا فإن التركيب في ذاته بغض النظر عن القرائن لا يفيد العمومَ اطرادًا للقاعدة.

والأفضل من ذلك أن نقول:

إ ن القاعدة البلاغية ينبغي أن تبنى على الأغلب والأكثر، وألا تبنى على التعميم والإطلاق، وعبد القاهر عندما تحدث عن ألفاظ العموم وتقديمها على النفي، إنما

ص: 263

بنَى أحكامه المذكورة التي تحدثنا عنها على القطع والإطلاق مما جعل البلاغيين يستدركون عليه ذلك، وينبهون إلى أن تلك الأحكام ينبغي أن تكون أكثريةً لا قطعية ً، انظر إلى قول عبد القاهر: إنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في كل والفعل منفي لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضًا كان وبعضًا لم يكن. هذا في (الدلائل).

تجده قد وضع القاعدة وضعًا قاطعًا دون أن يحتاط؛ ولذا استدرك عليه العلامة سعد الدين في (المطول) قائلًا: وفيه نظر؛ لأنا نجده حيث لا يصلح أن يتعلق الفعل ببعض كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} فالحق أن هذا الحكم أكثري لا كلي.

فسعد الدين قد جعل القاعدة غالبةً لا لازمةً؛ لأن الآيات الكريمة التي ذكرها ومِثلها كثير في النظم الكريم تقدم فيها النفي على كل؛ وهذا يعني لو سلمت القاعدة أن الله -جل وعلا- لا يكره كل مختال وكل كفار، وإنما يكره البعض دون البعض، والنبي عليه السلام ليس منهيًّا عن طاعة كل حلاف، بل منهي عن طاعة البعض دون البعض الآخر، وهو ما لا يكون.

انتهى من (خصائص التراكيب).

أريد أن أقول:

إن القاعدة البلاغية ينبغي أن تكون أغلبيةً أكثريةً ولا تبنَى على القطع والإطلاق؛ إذ ربما يأتي في الكلام البليغ والتعبيرات الجيدة ما يخالفها مما يكون قد خفي على واضع القاعدة، وإنما أطلنا الكلام عن تقديم المسند إليه؛ لأن الكلام فيه يغني عن الكلام عن تأخير المسند؛ ذلك أن أغراض تأخير المسند هي عينُها أغراض تقديم المسند إليه.

والله تعالى أعلى وأعلم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 264