المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تقديم المفعول على العامل - البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها

- ‌فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته

- ‌أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها

- ‌تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة

- ‌الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة

- ‌معنى الفصاحة والبلاغة

- ‌العيوب المخلة بفصاحة الكلمة

- ‌فصاحة الكلام

- ‌فصاحة المتكلم

- ‌الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري

- ‌ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم

- ‌مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ

- ‌المراد بعلم المعاني، وما يعنى به

- ‌أحوال الإسناد الخبري

- ‌الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري

- ‌أضرب الخبر

- ‌مراعاة حال المتكلم

- ‌التجوز في الإسناد

- ‌الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

- ‌تعريف الحقيقة العقلية

- ‌المجاز العقلي وعلاقاته

- ‌الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته

- ‌قرينة المجاز العقلي

- ‌بلاغة المجاز العقلي

- ‌الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر

- ‌حذف المسند إليه

- ‌ذكر المسند إليه

- ‌الدرس: 8 تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالإضمار

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية

- ‌تعريف المسند إليه باسم الإشارة

- ‌الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

- ‌تعريف المسند إليه بـ"أل

- ‌تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة

- ‌الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع

- ‌(تنكير المسند إليه

- ‌توابع المسند إليه

- ‌الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه

- ‌(تقديم المسند إليه

- ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

- ‌الدرس: 12 أحوال المسند

- ‌أغراض حذف المسند وذكره

- ‌قرائن حذف المسند

- ‌أسباب ذكر المسند في الكلام

- ‌الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض تنكير المسند

- ‌أغراض تعريف المسند

- ‌أسرار تقديم المسند

- ‌المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم

- ‌أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات

- ‌الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض حذف المفعول

- ‌تقديم المفعول على العامل

- ‌الدرس: 15 الأساليب الإنشائية

- ‌التعريف بالأسلوب الإنشائي

- ‌أقسام الأسلوب الإنشائي

- ‌أسلوب الأمر

- ‌أسلوب النهي

- ‌الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية

- ‌أسلوب الاستفهام

- ‌من أدوات الاستفهام "هل

- ‌بقية أدوات الاستفهام

- ‌أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي

- ‌الدرس: 17 مبحث القصر

- ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

- ‌أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه

- ‌الدرس: 18 تابع: مبحث القصر

- ‌العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن

- ‌ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء

- ‌ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما

- ‌رابع طرق القصر: التقديم

- ‌من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية

- ‌الدرس: 19 باب: الفصل والوصل

- ‌باب: الوصل والفصل بين المفردات

- ‌باب: الوصل والفصل بين الجمل

- ‌الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل

- ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

- ‌مواضع الوصل بين الجمل

- ‌الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب

- ‌الإيجاز، وأنواعه

- ‌المساواة والإطناب

- ‌صور الإطناب

الفصل: ‌تقديم المفعول على العامل

ومنه: قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الإسراء: 110). فالدعاء في الآية، بمعنى التسمية، والأصل: قل ادعوه الله أو ادعوه الرحمن، فحذف المفعول إيجازًا واختصارًا.

وقد يحذف المفعول لتعينه، كما في قولك: نحمد ونشكر، تريد: نحمد الله ونشكره، فتسكت عن ذكر لفظ الجلالة؛ لتعينه وانصراف الفعلين له تعالى لا لغيره.

وقد يحذف المفعول لصون اللسان عن النطق به، كما تقول: لعن الله وأخذه، تريد الشيطان، فتحذفه؛ صونًا للسانك عن النطق به.

إلى غير ذلك من الأسرار الدقيقة التي تراها كامنة وراء طي المفعول وإسقاطه والسكوت عنه؛ فهي لا تخفى على صاحب الذوق السليم وذي الطبع العربي القويم عندما يقرأ وينظر في التراكيب الجيدة والأساليب الرفيعة.

‌تقديم المفعول على العامل

وإذا ما انتقلنا للحديث عن تقديم المفعول ونحوه من المتعلقات على العامل؛ لوجدنا أن تقديم المفعول ونحوه من المعمولات: كالجار والمجرور، والظرف، والمصدر، والحال، على العامل يفيد غالبًا الاختصاص، أي: قصر العامل المؤخر على معموله المقدم. تقول: زيدًا أكرمتُ، وبمحمد مررت، وضاحكًا جاء زيد، وإشفاقًا أعطيت، فتفيد بذلك قصر الإكرام على زيد والمرور على كونه بمحمد، وقصر مجيء زيد على هيئة الضحك، وإعطائك على كونه من أجل الإشفاق.

ومن ذلك: قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5). أي: نخصك بالعبادة فلا نعبد غيرك. ونخصك بالاستعانة فلا نستعين إلا بك.

ص: 336

فتقديم المفعول: {إِيَّاكَ} في الموضعين قد أفاد القصر، أي: قصر العبادة والاستعانة عليه تعالى، وكذا القول في الآيات الكريمة:{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} (آل عمران: 158)، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة: 129)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة: 172). فتقديم المعمولات: {إِلَى اللَّهِ} ، و {عَلَيْهِ} ، و {إِيَّاهُ} ، في الآيات الكريمة السابقة قد أفاد الاختصاص.

ومن ذلك أيضًا قول شوقي:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم

لم يبن ملك على جهل وإقلال

فتقديم الجار والمجرور بالعلم أفاد قصر بناء المُلك على كونه بالعلم والمال.

ومثل ذلك قول الآخر:

إذا شئت يومًا أن تسود عشيرة

فبالحلم سُدْ لا بالتسرع والشتم

وقول غيره:

على الأخلاق خطوا الملك وابنوا

فليس وراءها للعز رُكن

فقد قصر السيادة في البيت الأول على الحلم، بحيث لا تتعداه إلى التسرع والشتم، وقصر بناء الممالك وخطها في البيت الثاني على الأخلاق فليس وراءها للعز ركن. والعامل المقدر في كل ما ذكرنا كالمذكور. وقولك: زيدًا عرفتُه، إن قدرت المفسر بعد المنصوب أي: زيدًا عرفته: أفاد الاختصاص. وإن قدر قبله أي: عرفت زيدًا عرفته، أفاد: التوكيد وتقوية الحكم.

أما قول الله تعالى: "وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى"(فصلت: 17). في قراءة مَن قرأ بنصب "ثمود"، فلا يفيد إلا الاختصاص؛ لأنه لا يتأتى أن يقدر المفسر

ص: 337

قبل المنصوب. فلا يقال: أما فهدينا ثمود؛ لأنه لا يتأتى أن يقدر المفسر قبل المنصوب. فلا يقال: أما فهدينا ثمود، ولكون تقديم المعمول على عامله يفيد غالبًا الاختصاص، كان من الخطأ أن تقول: ما زيدًا ضربتُ ولا غيره؛ لأن تقديم المفعول وإيلاءه أداة النفي أفاد نفي الضرب عن زيد وإثباته لغيره، فقولك: بعده ولا غيره يناقضه ويدفعه أي: أن عجز الجملة يتناقض مع صدرها.

ونحوه قوله: ما بهذا أمرتك ولا بغيره؛ لأن قولك: ما بهذا أمرتك أفاد نفي الأمر عن الجار والمجرور المقدم وإثباته لغيره، وقولك بعده: ولا بغيره يناقضه، والصواب أن يقال: ما ضربت زيدًا ولا غيرَه، ما أمرتك بهذا ولا بغيره، بدون تقديم أو يقال: ما زيدًا ضربت ولكن أكرمتُ؛ لأن تقديم المفعول أفاد نفي الضرب عن زيد وإثباته لغيره. وقولك: ولكن أُكرمك، رجوع عن إثبات الضرب لغير زيد، فالصواب أن تقول: ما ضربت زيدًا ولكن أكرمته، أو تقول: ما زيدًا ضربت ولكن عمرًا، وهو مبني -كما قلنا- على إفادة التقديم للاختصاص.

وتأمل مع ما ذكرنا قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143). فإنك تجد: أن الجار والمجرور قد أُخِّر على شبه الفعل في قوله: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، وقدم عليه في قوله:{عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ؛ وذلك، لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم دون إفادة اختصاصهم بتلك الشهادة، وفي الثاني المراد إفادة اختصاصهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليهم وليس مجرد إثبات شهادتهم.

يقول الزمخشري في (الكشاف): وروي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا -وهو أعلم- فيؤتى

ص: 338

بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون، فتقول الأمم: مِن أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتَى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (النساء: 41). وقيل: المعنى: لتكونوا شهداءَ على الناس في الدنيا بما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يزكيكم ويعلم بعدالتكم، فإن قلتَ: لِمَ أخرت صلة الشهادة أولًا، وقدمت آخرًا؟ قلت: لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليهم.

ثم اقرأ قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم: 27)، وقوله:{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} (مريم: 9). تجد: أن الجار والمجرور قد أخِّر في الآية الأولى؛ لأنه لا معنى للدلالة على الاختصاص فيها؛ إذ كون الإعادة أهون من البدء أمر مسلم به لا ينكره أحد، أما في الآية الثانية فقد قدم الجار والمجرور؛ للدلالة على الاختصاص؛ لأن المقام يقتضي ذلك.

وقد يفيد التقديم بالإضافة إلى الاختصاص مزية أخرى وهي: المحافظة على الفواصل والاستمرار في التنغيم الصوتي، على نحو ما ترى في قول الله تعالى:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} (الحاقة:30: 32). فتقديم المفعول: {الْجَحِيمَ} على الجار والمجرور: {فِي سِلْسِلَةٍ} يفيد الاختصاص والمحافظة على الفاصلة واستمرار النغم الصوتي المؤثر في الأنفس. ومثله: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر:1: 5).

ص: 339

وقد يقدم المعمول؛ لكونه محل الإنكار كما في قول الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام: 164). فمحل الإنكار هو: كون الله غير الله بمثابة أن يُبغَى ربًّا؛ ولذا قدم فولي همزة الاستفهام. وقد يكون التقديم للتوكيد والاهتمام بالمقدَّم وتقوية الحكم. كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (الضحى: 9، 10) فتقديم {الْيَتِيمَ} ، و {السَّائِلَ} فيه تأكيد النهي وتقرير الحكم؛ إذ لا معنى لقصر النهي على القهر على اليتيم، والنهي عن النهي عن السائل. ولا يخفى عليك ما وراء التقديم بمجيء الفاصلة في الآيتين على حرف الراء، وما ينبئ به من شدة الزجر وقوة التحذير.

وتقول عن الصلاة: لا تغفل، الزنا لا تقرب، فيفيد التقديم المبالغة في النهي وشدة التحذير.

وعلى نحو ما يقع تقديم المعمولات على العامل، ويكون ذلك لنكتة بلاغية. فإنه يقع بين المعمولات نفسها، بأن يقدم بعضها على بعض ويكون ذلك أيضًا لنكتة بلاغية؛ ذلك أن الأصل في صياغة الكلام وبناء الجمل وتأليف العبارات أن يتقدم الفاعل على المفعول ونحوه من المتعلقات، وأن يتقدم المفعول الأول على الثاني والثاني على الثالث. ويقال مثلًا: أكرم محمدٌ خالدًا، وأعطى حاتم الفقير درهمًا، وأعلمت عمرًا ابنه ناجحًا.

وقد يخالف هذا الأصل فيقدم أحد المتعلقات على الفاعل، أو تقدم بعض المتعلقات على بعض؛ وذلك لأسرار بلاغية يقصد إليها البلاغي، ويقتضيها المقام. فإذا كان الغرض من الكلام مثلًا معرفة وقوع الفعل على المفعول، وانشغل الناس بذلك، قُدم المفعول على الفاعل. فيقال مثلًا: قتل الخارجي عمرًا، وأمسك بالمجرم الشرطي؛ وذلك أن الناس منشغلون بأمر الخارجي والمجرم، والغرض من الكلام متوجه إليهما.

ص: 340

وتأمل قول الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام: 151) وقوله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (الإسراء: 31) تجد في الآية الأولى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} حيث قدم ضمير المخاطبين على ضمير الأولاد. وفي الثانية: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} ، قدم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين وسبب ذلك أن الخطاب في الأولى للفقراء بدليل قوله تعالى:{مِنْ إِمْلَاقٍ} فكان رزقهم أهم عندهم من رزق أبنائهم؛ إذ هم في حاجة إليه ولذا قدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم، والخطاب في الآية الثانية للأغنياء بدليل قوله تعالى:{خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع، فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم؛ لأنه حاصل؛ ولذا قدم برزق أولادهم على الوعد برزقهم.

واقرأ قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} (النمل:67، 68) وقارنه بقوله عز وجل: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} (المؤمنون:81: 83). فإنك تجد في الآية الأولى: {وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا} ، وفي الثانية:{وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} ؛ وذلك لأن السياق في الآية الأولى ينبئ بأن مصب الإنكار وموضعه والجهة التي نظر إليها الكفرة وقصدوها بإنكارهم إنما هي البعث، فبعثهم وإخراجهم بعد موتهم وصيروتهم ترابًا هم وآباؤهم، هو الغرض الذي تعمم بالكلام وقصد:{أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} ولذا قدم اسم الإشارة المشار به إلى البعث، إذ هو الغرض المقصود والمساق له الكلام. أما

ص: 341

في الآية الثانية: فالسياق ينبئ بمدى تمسكهم بعقائد الآباء وحرصهم على محاكاتها وتقليدهم فيها. فموضع الإنكار ومصبه والجهة المنظور منها هي المبعوثون لا البعث فهم سياق الحديث والغرض الذي تعمد به وقصد.

فلما كان الغرض المقصود في الآية الأولى هو البعث، قدم اسم الإشارة، ولما كان الغرض المقصود في الآية الثانية هم المبعوثون، قدم ما يدل عليهم:{نَحْنُ وَآبَاؤُنَا} .

وقد يكون الغرض من تقديم أحد المعمولات على الآخر هو: أن تأخيره يخل بالمعنى ويوهم خلاف المراد، كما في قوله تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (غافر: 28). فقد وصف الرجل بثلاث صفات: الإيمان، وكونه من آل فرعون، وكتمانه إيمانه. وقدم:{مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} على: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ؛ لأنه لو أخّر فقيل: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون؛ لتُوهم أن الجار والمجرور متعلق بالفعل: {يَكْتُمُ} ، وأن الرجل يكتم إيمانه خوفًا من آل فرعون، فهذا إخلال بالمعنى المراد؛ إذ لا يفهم منه عندئذ أن الرجل كان من آل فرعون بل يتوهم أنه كان يكتم إيمانه؛ خوفًا منهم، ففي هذا ضياع للهدف والغرض من الآيات.

إذ المراد: إبراز عناية الله تعالى ورعايته لموسى بأن جعل من آل فرعون من يدافع عنه، ويجادلهم فيه، ويناقشهم من أجله.

وقد يقدم أحد المتعلقات؛ لإفادة التبكيت والتوبيخ كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس:20، 21) حيث قدم الجار والمجرور: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} على الفاعل: {رَجُلٌ} ؛ لأن في هذا التقديم زيادةً في

ص: 342

تبكيت أولئك القوم وتوبيخهم، قد كانوا قريبين من الرسل وشاهدوا منهم ما لم يشاهده ذلك الرجل الذي كان في أقصا المدينة، وعلى الرغم من ذلك فقد نصح لهم بما لم ينصحوا به أنفسهم.

وقد يكون التقديم من أجل المحافظة على الفاصلة. كما في قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (طه:66: 68). حيث قدم المفعول: {خِيفَةً} والجار والمجرور: {فِي نَفْسِهِ} على الفاعل؛ لأنه لو قدم عليهما فقيل: فأوجس موسى في نفسه خيفةً، أو فأوجس موسى خيفةً في نفسه، لكان في ذلك خروج على النسق الصوتي وإخلال بموسيقى النظم، وما لها من وَقْع في النفس وأثر في المعنى.

إلى غيره من الاعتبارات والمزايا البلاغية التي تلاحظ في تقديم بعض المتعلقات على بعض.

إلى هنا، ينتهي حديثنا عن متعلقات الفعل؛ ونكون بذلك قد أنهينا حديثنا أيضًا عن أجزاء جملة الإسناد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 343