الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمره، وواضح أن القصر في الآية قصر صفة الإثم أو العقاب على الذين يُبدلون قصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًا تحقيقيًّا.
وتأمل قول الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7) تجد أنه قصر الرسول صلى الله عليه وسلم على صفة الإنذار، لا يتعداها إلى الإتيان بالآيات، فهو قصر إفراد؛ إذ يعتقد الكافرون أنه عليه الصلاة والسلام يجمع بين صفتي الإنذار والإتيان، وقد ذكر عبد القاهر "إنما" لا تستعمل إلا في قصر القلب، والصواب -ما ذكرنا- وهي أنها تستعمل في كل أنواع القصر -كما رأينا وكما هو عليه جمهور البلاغيين.
رابع طرق القصر: التقديم
الطريق الرابع من طرق القصر: طريق التقديم:
وهو بابٌ واسع من أبواب البلاغة، تكمن وراءه العديد من المزايا والأسرار البلاغية، ومرادنا هنا أن نبرز دلالة التقديم على القصر؛ ففي قولك: ما أنا قلت هذا الشعر، دل تقديم المسند إليه وإيلاؤه أداة النفي على القصر؛ أي نفي قول الشعر عن المسند إليه المقدم، وإثباته لغيره، ومن ذلك قول المتنبي:
وما أنا أسقمت جسمي به
…
ولا أنا أضرمت في القلب نارا
وقوله أيضًا:
وأما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله
…
ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
فتقديم المسند إليه المنفي على الخبر الفعلي، يفيد غالبًا الاختصاص؛ ولذا كان من الخطأ أن نقول: ما أنا قلت هذا ولا قاله أحدٌ غيري، أو تقول: ما أنا قلت شعرًا، أو ما أنا أكرمت إلا زيدًا، وكذا تقديم المسند إليه المثبت على الخبر الفعلي
كقولك: أنا سعيت في حاجتك، ومحمد يقري الضيف، فإنه يفيد القصر أو التقوية وتأكيد الحكم -حسبما يقتضيه السياق وقرائن الأحوال، والنكرة في هذا كالمعرفة، تقول: ما رجل جاءني، فيفيد تقديم النكرة القصر؛ أي نفي المجيء عن جنس الرجال وقصره على جنس النساء، والمعنى: ما رجل جاءني بل امرأة، أو نفيه عن الواحد لإثباته لغيره، والمعنى: ما رجل جاءني بل أكثر، وتقول: رجل جاءني، فيفيد تقديمها تقوية الحكم وتأكيده أو القصر؛ أي: قصر المجيء على جنس الرجال، ونفيه عن جنس النساء، والمعنى: رجل جاءني لا امرأة، أو قصره على العدد، والمعنى: رجل جاءني لا رجلين. ومن تقديم المسند الذي أفاد تقديمه القصر قوله جل وعلا: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) وقوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (الصافات: 47) وقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الشورى: 49) ومنه قول عمرو بن كلثوم:
لنا الدنيا ومن أضحى عليها
…
ونبطش حين نبطش قادرينا
وقول الآخر:
رضينا قسمةَ الجبار فينا
…
لنا عِلمٌ وللأعداء مال
وقول آخر:
لنا القلم الأعلى الذي بِشُباتِه
…
يصاب من الأمر الكلى والمفاصل
وشُبات كل شيء: حدة طرفه، وجمعها شبوات، والمراد: أنهم يُصيبون المحز، بما يكتبون ويقولون، فالبيت كناية عن الفصاحة وإجادة القول، ومن تقديم أحد المتعلقات على الفعل قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وقوله جل وعلا: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123) ومنه قول شوقي في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم:
بك يا بن عبد الله قامت سمحة
…
بالحق من ملل الهدى غراء
وقول الآخر:
إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني
…
أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
وتقول: ما بهذا أمرتك، ما زيدًا أكرمت، فيكون كلامًا مستقيمًا، لأنك قصرت الأمر والإكرام المنفيين على المقدم؛ أي نفيت الأمر عن الجار والمجرور المقدم وأثبته لغيره، ونفيت الإكرام عن زيد وأثبته لغير زيد، فإن قلت: ما بهذا أمرتك ولا بغيره، ما زيدًا أكرمت ولا أحدًا من الناس، قلت ما ليس بقول، هذا والمقصور عليه بهذا الطريق هو المقدم دائمًا، عكس "إنما"، وهو صالح لكل أنواع القصر فقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) قصر للعبادة على الله قصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا. وقول عمرو:
لنا الدنيا ومن أضحى عليها
قصر للدنيا ومن عليها على كونها لهم قصر موصوفٍ على صفة قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا، وقول الآخر:
إلى الله أشكو لا إلى الناس
قصر إضافي صالح أن يكون قلبًا أو إفرادًا أو تعيينًا حسب اعتقاد المخاطب.
من طرق القصر التي أقرها بعض البلاغيين: ضمير الفصل، وهو أن يعقب المسند إليه بضمير الفصل بتخصيصه بالمسند؛ بمعنى جعل المسند مقصورًا على المسند إليه، كقولك: زهيرٌ هو الشاعر، ففيه قصرٌ لصفة الشعر على زهير، لا تتعداه إلى غيره، وطريق القصر هو الفصل بالضمير، وهذا الضمير حرف باتفاق جمهور النحاة وليس اسمًا، والقائلون بأنه اسم أكثرهم على أنه لا محل له من الإعراب، وهو يقع كما ترى بين المبتدأ والخبر كما في المثال المذكور، أو بين ما أصلهما المبتدأ والخبر كقولك: صار امرؤ القيس هو الشاعر، وعلمت أن حاتمًا هو الكريم، والمقصور عليه بهذا الطريق هو المبتدأ والمقصور الخبر.
وتلاحظ في الأمثلة المذكورة أن ضمير الفصل قد أفاد بالإضافة إلى القصر تأكيد نسبة الخبر إلى المبتدأ، وتلك الإفادة تراها وراء كل أسلوب من أساليب القصر، كما أفاد أيضًا الدلالة على أن ما بعد المبتدأ خبر له، وليس صفة؛ لأن قولك: زهير الشاعر، فيه إيهام أن الشاعر صفة لزهير، فإذا قلت: زهير هو الشاعر اندفع هذا التوهم، وأصبحت الجملة دالة دلالة بينة على أن الشاعر خبر لزهير لا صفة. ومن شواهد القصر بضمير الفصل قول الله تعالى:{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) والتوفية في الآية بمعنى الرفع، وقد جاءت التوفية في كتاب الله على ثلاثة أوجه؛ بمعنى الموت كما في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى