الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في غير القرآن: خافضة ورافعة لم يفد ذلك، وكذا قولنا: فلان كاتب شاعر، يخالف: فلانٌ شاعر وكاتب؛ فالأول أفاد اجتماع الكتابة والشعر، والثاني أفاد كمال اتصافه بكل صفة على حدة، وهكذا.
باب: الوصل والفصل بين الجمل
وننتقل بعد الحديث عن المفردات للحديث عن باب الوصل والفصل بين الجمل:
قد ذكرنا وعرفنا فيما سبق أن الجمل نوعان: جمل لها محل من الإعراب، وجمل لا محل لها من الإعراب، كما عرفنا أن الجمل التي لها محل من الإعراب حكمها حكم المفرد؛ لأنها تقع موقعه وتأخذ حكمه الإعرابي، فالعطف عليها يكون بمثابة العطف على المفرد، وهذه حقائق يؤكدها الإمام عبد القاهر، فيقول:"الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين؛ أحدهما: أن يكون للمعطوف عليها موضعٌ من الإعراب، وإذا كانت كذلك كان حكمها حكم المفرد؛ إذ لا يكون للجملة موضع من الإعراب حتى تكون واقعةً موقع المفرد، وإذا كانت الجملة الأولى واقعة موقع المفرد كان عطف الثانية عليها جاريًا مجرى عطف المفرد، وكان وجه الحاجة إلى الواو ظاهرًا والإشراك بها في الحكم موجودًا"، انتهى من (دلائل الإعجاز).
وهذا لا يعني أن الجمل التي لها محل من الإعراب لا تخضع لما تخضع له الجمل الأخرى التي ليس لها محل من الإعراب، بل هي خاضعة لما تخضع له، وما يجري على هذه من أحكام الفصل والوصل يجري على تلك، بالإضافة إلى أن الجمل التي لها محل من الإعراب تختص بخضوعها لهذا الحكم الظاهر، وهو وقوعها موقع المفرد، فإذا أردنا إشراك الجملة الثانية للأولى في حكمها الإعرابي عطفنا بالواو مع مراعاة المناسبة أو الجهة الجامعة التي تسوغ العطف، وإذا لم نرد
التشريك في الحكم الإعرابي يمتنع العطف، ففي قول الله تعالى مثلا:{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} (البقرة: 245) نرى أن جملة {يَقْبِضُ} وقعت خبرًا للفظ الجلالة، وجملة {وَيَبْسُطُ} عطفت عليها بالواو؛ لأن القصد مجرد إشراك الثانية للأولى في الحكم الإعرابي، وهو وقوعها خبرًا للمبتدأ.
وبين الجملتين تناسبٌ؛ إذ المسند إليه في كلٍّ منهما واحد وهو الله عز وجل وبين المسندين أيضًا {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} تضاد، فهما متناسبان، وسرّ بلاغة الوصل في هذا الموطن أن الآية الكريمة تصوِّر عظمة القادر وأنه بيده الأمر وإليه المرجع، فالجمع بين القبض والبسط مما يحقق ذلك، ولو ترك العطف فقيل في غير القرآن: والله يقبض يبسط -بدون الواو- لكان ذلك موهمًا أن قولنا: يبسط، رجوعًا عن قولنا: يقبض، وإبطال له، وبالطبع ليس الأمر كذلك. أما إذا لم يُقصد تشريك الجملة الثانية للأولى في الحكم الإعرابي، فإنه يتعين فصلهما؛ لأن الوصل عندئذ يُوهم خلاف المراد، تأمل قوله تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة: 14، 15) تجد أن جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} قد فصلت عن جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} ؛ حيث لم يقصد التشريك بينهما في الحكم الإعرابي، فجملة {إِنَّا مَعَكُمْ} مقول القول، وجملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} إخبارٌ من الله عز وجل ولو وصلت بالأولى لأدى هذا الوصل إلى توهم أنها من مقول المنافقين، فدفعًا لهذا التوهم تعيّن الفصل بينهما.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11، 12)
فجملة {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} لم يُقصد تشريكها في الحكم الإعرابي لجملة: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} لأنها ليست من مقولهم، بل هي من كلام رب العزة سبحانه، إخبارًا منه تعالى، ولذا وجب الفصل بينهما حتى لا يُتوهم غير المراد. ومثله قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 13) فقد فصل {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} عن {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} ، حتى لا يتوهم أنها من كلام المنافقين؛ إذ هي من كلام رب العزة سبحانه إخبارًا منه تعالى، والوصل يُوهم أنها من مقول المنافقين، وهو ما لا يخفى فساده.
وخلاصة القول: أن الجمل التي لها محل من الإعراب إذا قُصد إشراكها في الحكم الإعرابي وصلت، وقد ترد نادرًا بلا وصل، وإذا لم يُقصد التشريك وجب فصلها؛ إلا أن الوصل عندئذ يُوهم خلاف المراد، وهذا الحكم يختص -كما هو واضح- بالجمل التي لها محل من الإعراب، ثم هي من بعد ذلك تخضع لأحكام فصل ووصل الجمل التي ليس لها محل من الإعراب. وكان البلاغيون قد ذكروا أن الفصل بين الجمل ينحصر في خمسة مواضع، هي: كمال الاتصال، كمال الانقطاع، شبه كمال الاتصال، شبه كمال الانقطاع، التوسط بين الكمالين مع وجود المانع من العطف، وهو عدم الإشراك في الحكم الإعرابي.
ونبدأ بكمال الاتصال. هو أن تتفق الجملتان في الإنشائية أو الخبرية -لفظًا ومعنى أو معنى فقط- ويكون بينهما من الاتصال والاتحاد والتلاحم ما يمنع العطف بالواو؛ لأن العطف وصلٌ خارجي، وهذه الجمل قد صار ما بينها من التلاحم والاتصال والترابط أقوى وأشد من الربط الخارجي، وترجع قوة اتصال تلك الجمل وشدة ترابطها إلى أمور ثلاثة:
الأول: أن تكون الجملة الثانية مؤكدة للأولى تأكيدًا لفظيًّا أو معنويًّا، انظر إلى قول الله تعالى:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: 17) تجد أن الجملة الثانية {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} توافق الجملة الأولى في اللفظ والمعنى، وأنها توكيد لفظي لها؛ ولذا صارت الصلة قوية بين الجملتين، فلا تحتاج إلى ربط بالواو؛ لأن التوكيد والمؤكد كالشيء الواحد، ومن ثم ترك العطف لعدم صحة عطف الشيء على نفسه، وتأمل قوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) تجد أن الجملة الأولى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أفادت أن القرآن الكريم هو الكتاب الكامل، الذي بلغ الغاية القصوى في كمال الهداية، وترجع هذه الإفادة إلى تعريف الطرفين؛ تعريف المسند إليه باسم الإشارة الدال على البعيد {ذَلِكَ} ، إشارة إلى بعد المنزلة وعلو المكانة، وتعريف المسند بالألف واللام {الْكِتَابُ} ، وجملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} تفيد نفي الريب عنه، وأنه لا يتطرق إليه شك، وهذا تقريرٌ وتأكيد لمعنى الجملة الأولى؛ إذ يلزم من بلوغ القرآن الكريم درجة الكمال ألا يكون محلًّا للريب والشك، فجاءت جملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} مقررةً لهذا المعنى ومؤكِّدة له.
وجملة {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} تفيد بلوغ القرآن في الهداية مبلغًا لا يُدرك كنهه، حتى كأنه هداية محضة، وهذا مأخوذٌ من تنكير {هُدًى} الذي يدل على التعظيم، ومن أنه لم يقل: هادٍ، بل {هُدًى} ، و {هُدًى}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي هو هدى، فهو الهداية نفسها، ولا يخفى عليك تأكيد هذه الجملة لمعنى الجملة الأولى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ؛ ولذا تُرك العطف بين هذه الجمل؛ لأن بينها اتصالا قويا، فهي لا تحتاج إلى ربط بالواو.
وقول الله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14)، فإنك ترى أن جملة {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} جاءت مؤكِّدة لجملة {إِنَّا مَعَكُمْ} ؛ لأنهم ما داموا مستهزئين بالإسلام وأهله فهم مستمرون في معية شياطينهم، ولاحظ أن الجملتين قد وقعتا مقولًا للقول، وهذا يُؤكد ما قلناه من أن الجمل التي لها محل من الإعراب، تخضع لمواضع الفصل والوصل التي تخضع لها الجمل التي ليس لها محل من الإعراب، وتأمل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 6 - 9) تجد أن جملة {لَا يُؤْمِنُونَ} جاءت مؤكّدة لجملة: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} ؛ لأن معنى الثانية: يستوي عندهم الإنذار وعدمه، وجملة {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} تأكيد ثانٍ أبلغ من التوكيد الأول؛ لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم يُنذر، كان في غاية الجهل وكان مطبوعًا على قلبه لا مَحالة؛ ولذا تُرك العاطف بين هذه الجمل الثلاث لما بينها من كمال الاتصال.
كما تجدُ أن جملة: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 9) جاءت مؤكِّدة لجملة: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8) لأن من يُضمر خلاف ما يُظهر فإنه يخادع، وانظر إلى قوله عز وجل:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} (لقمان: 7) تجد أن جملة: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} جاءت مؤكدة لجملة: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} ؛ لأن معنى {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} أنه لم يسمعها مصادفة أو قصدًا لعدم سماعها، ومعنى الثانية: أنه لم يسمعها لفساد سمعه، فلما كانت الثانية مقرِرة ومؤكدة للأولى تُرك العطف لما بينهما من كمال الاتصال.
وعلى ما ألمحنا: فإن الجملة الثانية المؤكدة للأولى، إما أن تكون بمثابة التوكيد اللفظي وهو ما يكون مضمون الجملة الثانية فيه مؤكدًا لمضمون الجملة الأولى لاتفاق مفهوميهما كما رأينا في قوله:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: 17) وكما في الآية الكريمة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) فجملة {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} يتفق مفهومها مع جملة {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ؛ لأن الكمال فيهما كمالٌ في الهداية كما رأينا، وإما أن تكون الثانية مُنزّلة من الأولى منزلة التوكيد المعنوي، وهو أن يختلف مفهوم الجملتين، ويكون معنى الثانية مقرِرًا لمعنى الأولى على نحو ما رأينا في الشواهد المذكورة، وهذا يعني أن الجملة الثانية تَتضمن معنى جديدًا ولكنه يؤكد معنى الأولى.
وتأمل قوله في الآية التي ذكرناها: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} (لقمان: 7) تجد أن الجملة الثانية تحمل معنى جديدًا يخالف معنى الأولى، ولكنه يؤكده ويقرره، ومثله:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) فجملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} تحمل معنى جديدًا هو نفي الريب عن القرآن، وهذا المعنى يُؤكد ويقرر معنى الجملة الأولى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} .
ومن أقوالهم في هذا قول المتنبي:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
…
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدًا
فالشطر الأول لم يعطف على الشطر الثاني؛ لأنهما قد اتحدا في المعنى واللفظ، ومن ثم فلا حاجة إلى وصلهما بالواو لقوة الرابطة وشدة الاتصال بينهما. الصورة الثانية: أن تكون الجملة الثانية مُنزلة من الأولى منزلة بدل الكل أو البعض أو بدل الاشتمال. من ذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 132 - 134) فقد فُصِلت الجملة الثانية {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ} عن الأولى {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} ؛ لأن الثانية بمثابة بدل البعض من الأولى؛ حيث إن النعم الأربع المذكورة بعضٌ من النعم التي يعلمونها، فبين الجملتين ترابطٌ قوي وكمال اتصال لا تحتاج معه إلى ربط بالواو، ومثل ذلك قوله تعالى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد: 2) فقوله: {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} بدل بعض من قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} ؛ لأن تدبير الأمر يشمل تفصيل الآيات وغيره.
وخذ قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (المؤمنون: 81، 82) تجد أن الجملة الثانية بمثابة بدل الكل من الجملة الأولى، وقوله عز وجل:{قَالَ يَا قَوْم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس: 20، 21) فُصِلت فيه الجملة الثانية: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} (يس: 21) عن الأولى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} لأن الثانية بمنزلة بدل الاشتمال من الأولى؛ إذ المراد من الأولى حمل المخاطبين على اتباع الرسل، والجملة الثانية أوفى بهذا لأن معناها: لا
تخسرون شيئًا من دنياكم وتربحون صحة دينكم، فيكون لكم جزاء الدنيا وجزاء الآخرة، ولا يخفى عليك أن الجملة الثانية التي هي بمثابة البدل أوفى بتأدية المعنى من الأولى، فقوله:{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أوفى بتأدية المعنى المراد من قوله: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} حيث دلت على المعنى بالتفصيل من غير إحالة إلى علمهم وهم المعاندون. وانظر في قول القائل:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
…
وإلا فكن في السر والجهر مسلما
تجد أن قوله: "لا تقيمن" بدل اشتمال من قوله: "ارحل"، وقوله:"لا تقيمن" أوفى بتأدية المراد؛ إذ المقصود إظهار شدة الكراهية لإقامته بسبب خلاف سره العلن، وقوله:"لا تقيمن"، يحقق ذلك؛ لأنك إذا قلت: لا تقم عندنا، لم تقصد كفه عن الإقامة فحسب، وإنما تقصد إظهار الكراهة لإقامته. الصورة الثالثة من صور كمال الاتصال: أن تكون الجملة الثانية بيانًا للجملة الأولى، كما في قوله تبارك وتعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (طه: 120) ففي الجملة الأولى خفاء وإبهام، وفي الثانية بيان وإيضاح له، والبيان والمبين كالشيء الواحد، فلا يُعطف أحدهما من ثَمَّ على الآخر؛ لما بينهما من قوة الترابط وكمال الاتصال.
وتكمن بلاغة هذه الصورة في أن البيان بعد الإبهام وقعًا في النفس وأثرًا حسنًا، فالشيء إذا أبهم تطلّعت إليه النفس واشتاقت لبيانه، فإذا ما جاء البيان صادف نفسًا يَقظة متطلعة فيتمكن فيها فضل تمكن، ومن شواهده كذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (فاطر: 3) فجملة الاستفهام بيانٌ لقوله:
{اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} (الأعراف: 48) فإن جملة {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ} بيانٌ لجملة {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} . وانظر إلى قول لبيد:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم
…
وبقيتَ في خلَف كجلد الأجرب
يتآكلون مغالة وخيانة
…
ويعاب قائلهم وإن لم يشغبِ
تجد أن قوله: "يتآكلون مغالة وخيانة" بيانٌ لقوله: "بقيت في خَلَف كجلد الأجرب". وخذْ مثلًا قوله تعالى: {وإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} (البقرة: 49) فإنك تجد أن جملة {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} والجملة المعطوفة عليها {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} بيان وإيضاح لجملة {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ؛ ولذا لم يُعطفا عليها بالواو لما بينهما من شدة ترابط وقوة تلاحم وكمال اتصال.
ثم انظر إلى قوله عز جل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (إبراهيم: 6) تجد أن الواو في هذه الآية قد وَصلت جملتي {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} وذلك لأن المقام هنا مقام تذكير بنعم الله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وهذا يقتضي تعداد النعم، فجعل الإنجاء من سوء العذاب نعمة،، وإنجاء الأبناء من التذبيح نعمة أخرى، وكأن التذبيحَ جنسٌ آخر لأنه أوفى على جنس العذاب وزاد عليه،
ثم جاء إنجاء النساء من الاستحياء نعمةً ثالثة، أما في سورة البقرة فليس المقام مقام تذكير بالنعم، بل هو سرد للقصة وعرضٌ لها، وهذا قد اقتضى أن تكون الجملة الثانية وما عطف عليها:{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} (البقرة: 49) بيانًا وتفسيرًا للجملة الأولى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وليستا جنسين آخرين مغايرين لسَوم العذاب.
يقول الزمخشري: "فإن قلت: في سورة البقرة: {يُذَبِّحُونَ} وفي الأعراف {يُقَتِّلُونَ} (الأعراف: 141) وها هنا {وَيُذَبِّحُونَ} مع الواو فما الفرق؟ قلتُ: الفرق أن التذبيح حيث طُرح الواو جُعل تفسيرًا للعذاب وبيانًا له، وحيث أُثبت جُعل التذبيح لأنه أوفى على جنس العذاب وزاد عليه زيادةً ظاهرة، كأنه جنس آخر"، انتهى من (الكشاف).
وهذا هو شأن الواو عندما تأتي بين الجمل التي بينها كمال اتصال وقوة ترابط؛ لأن ما فيها من معنى التغاير الذي لا يبرحها ينعكس على هذه الجمل، فيوهم أنها معانٍ متمايزة ومختلفة، فوراء ذلك تكمن الأسرار والدقائق اللطيفة، وانظر إلى قول الله تعالى:{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء: 153، 154) ثم إلى قوله عز وجل في نفس السورة عن قوم شعيب: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء: 185 - 187) تجد أن الواو قد ذُكرت بين جملتي: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (الشعراء: 153، 154) في مقالة أصحاب الأيكة لشعيب، وتُركت في مقالة ثمود لصالح.
ويُعلل الزمخشري ذلك بقوله: "فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو ها هنا وتركها في قصة ثمود؟ قلتُ: إذا أُدخلت فقد قصد معنيان كلاهما منافٍ للرسالة عندهم؛ التسحير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرًا ولا يجوز أن يكون بشرًا، وإذا تُركت الواو لم يُقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحّرًا، ثم قرر بكونه بشرًا مثلهم". كذا في (الكشاف). وكأن أصحاب الأيكة أرادوا أن يُعددوا في مقالتهم الأسباب المنافية للرسالة؛ ولذا أضافوا: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (الشعراء: 186) فصارت الأسباب ثلاثة: كونه مسحرًا وكونه بشرًا وكونه من الكاذبين، أما ثمود فكأنهم لم يقصدوا تعدادًا لهذه الأسباب؛ ولذا ذكروا سببًا واحدًا وهو كونه مسحرًا، ثم قرروه بكونه بشرًا.
وخذ قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (هود: 58) وقوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (الأحزاب: 7) وتأمل، فإنك تجد أن جملة {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} جاءت مؤكّدة ومقررة للجملة قبلها:{نَجَّيْنَا هُودًا} ، وكذا جملة {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} جاءت مؤكدة لقوله:{أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} فبين الجملتين كمال اتصال، وعلى الرغم من ذلك لم تترك الواو، بل جيء بها لغرض لطيف وسر دقيق وهو التنويه بشأن الميثاق والتفخيم والتهويل من شأن العذاب؛ ولذا وَصف كلًّا منهما بالغلَظ، فالعطف بالواو مع الوصف بالغلظ يُوهم أن الميثاق المأخوذ من النبيين صار كأنه ميثاق آخر مغاير للأول، وأن العذاب الذي نُجي منه هود ومن معه صار كأنه عذابٌ آخر غير الأول، وفي هذا ما يُنبئ بعظم الميثاق ويومئ إلى هول العذاب وفظاعته.
وتأمل معي الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18)، وقوله:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 198)، وقوله:{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 42)، وقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد: 5)، وقوله:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لقمان: 5)، فإنه لا يخفى عليك مجيء الواو في هذه الآيات بين جملٍ بينها قوة ترابط وشدة تلاحم وكمال اتصال، وأن هذا المجيء يُنبئ بمعانٍ دقيقة وأسرار لطيفة، فتكرار الأمر بالتقوى وعطف أحدهما على الآخر، يؤذن بأن الأمر الثاني غير الأول، ووراء ذلك إعلاء بشأن التقوى وحث عليها، وكذا وصل الأمرين بالذكر:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ} {وَاذْكُرُوهُ} إعلاء لشأن الذكر وحض عليه، وكأن الأمر الثاني غير الأول، وفي عطف الاصطفاء على الاصطفاء:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ} إيهامٌ بأنهما متغايران، وكأن الله اصطفاها أولًا، ثم رجع فاصطفاها ثانيًا، وفي هذا مزيد تكريم.
ومثله عطف الفلاح على الهدى في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} (البقرة: 5){وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي آية الرعد أبرزت الواو ثلاث صور متغايرة للذين كفروا، في كل صورة منها من البشاعة والشناعة ما يجعلها شيئًا قائمًا برأسه مستقلًّا عن غيره. وهكذا، يتضح لنا أن مجيء الواو بين الجمل التي قد اشتد ترابطها وقوي تلاحمها وكمل اتصالها، وراءه من الأسرار واللطائف ما لا يخفى على المتأمل الواعي والناظر الدقيق.
الموضع الثاني من مواضع الفصل بين الجمل: كمال الانقطاع بلا إيهام، وهو أن يكون بين الجملتين تباين تام وانقطاع كامل، ويرجع ذلك إلى اختلافهما إنشاء وخبرًا، لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، أو إلى فقدان المناسبة بينهما، ويجب أن تعلم أن البلاغيين لا يجوّزون بهذا تفكيك الكلام وتنافر جمله وعدم ارتباط أجزائه وتباعد معانيه؛ بحيث لا يضمه سياق ولا يجمعه قِران، كما أنهم لا يقصدون بكمال الانقطاع جواز الجمع بين الجمل المتشاردة؛ لأن هذه الجمل لا يضمها سياقٌ واحد ولا يجمعها قران واحد، سواء أعطفت أم لم تُعطف، وإنما يريدون به فقدان المناسبة الخاصة التي تسوغ العطف وتجوز الوصل. ذكر البلاغيون أن كمال الانقطاع إنما يتحقق في ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنى، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فصلت: 34) فالجملة الأولى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} خبرية لفظًا ومعنى، والجملة الثانية {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إنشائية لفظًا ومعنى، والفصل بينهما لا يوهم خلاف المقصود؛ ولذا وجب الفصل بينهما، ونظير ذلك قوله تعالى:{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) وقوله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} (الأنعام: 101) وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 99) فقد فُصل بين الجمل في هذه الآيات الكريمة لاختلافها إنشاءً وخبرًا، لفظًا ومعنى؛ ولأن الفصل بينها لا يُوهم خلاف المقصود.
وانظر في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام: 151) وقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103) وقوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: 84)؛ تجد أن الجمل الخبرية: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ} {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ} {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} قد فُصلت عن الجمل الإنشائية قبلها، وهذا الفصل إما أن يكون سببه كمال الانقطاع؛ حيث اختلفت الجملتان خبرًا وإنشاء لفظًا ومعنى، وإما أن يكون سببه شبه كمال الاتصال الآتي بيانه؛ حيث وقعت الجملة الثانية جوابًا لسؤال أثارته الأولى. من ذلك قول الشاعر:
وقال رائدهم ارسوا نزاولها
…
فكل حدس امرئ يجري بمقدار
حيث فصل جملة "نزاولها" عن جملة "ارسوا" لكمال الانقطاع، ومثله قولك: لا تدن من الأسد يأكلُك، برفع يأكل. الصورة الثانية: أن تختلف الجملتان إنشاء وخبرًا معنى فقط، وتتفقا لفظًا؛ كقولنا: مات فلان رحمه الله وقال عمر رضي الله عنه فجملة رحمه الله، ورضي الله عنه كلٌّ منهما خبرية لفظًا وإنشائية معنى؛ لأنهما دُعائيتان؛ ولذا فُصل بين كل منهما وبين الجمل السابقة لاختلاف الجملتين خبرًا وإنشاء معنى فقط، ومن ذلك قول الشاعر:
وقال إني في الهوى كاذبٌ
…
انتقم الله من الكاذب
فجملة "انتقم الله" جملة دُعائية، فهي خبرية لفظًا إنشائية معنى؛ ولذا فُصل بينها وبين جملة:"قال: إني في الهوى كاذب".
هذا ويشترط للفصل ألا يوهم خلاف المراد، كما في الأمثلة المذكورة، فإن أوهم خلاف المراد وجب الوصل، كقولك لصديق لك: أشفي أخوك؟ فيجيبك: لا، وعافاك الله. الصورة الثالثة: أن تتفق الجملتان خبرًا أو إنشاء، لفظًا ومعنى، ولكن يُفقد الجامع بينهما؛ أي لا توجد المناسبة المعِينة الخاصة التي تصحح العطف، وذلك نحو قول أبي العتاهية:
الفقر فيما جاوز الكفاف
…
من اتقى الله رجا وخاف
فقد اتفقت الجملتان في الخبرية لفظًا ومعنى، ولكن لم توجد المناسبة التي تسوّغ عطف الثانية على الأولى؛ ولذا فُصل بينهما ومثله قول الآخر:
إنما المرء بأصغريه
…
كل امرئ رهن بما لديه
فلا يوجد الجامع الذي يصحح عطف الجملتين على الرغم من اتفاقهما في الخبرية لفظًا ومعنى؛ ولذا فُصل بينهما في البيت، ويعني البلاغيون بالجامع أو التناسب بين الجملتين أن يكون المسند إليه في إحداهما بسببٍ من المسند إليه في الأخرى، وكذلك المسند. هذا ما أجمع عليه البلاغيون، والجمهور يرى أن تتوفر المناسبة أيضًا في المتعلقات. الذي نريد أن ننبه إليه الآن هو أن البلاغيين لا يَعنون بفقدان الجامع جواز الجمع بين جمل شاردة متنافرة، لا يتأتى أن يضمها سياق واحد، وأن يُعد الفصل بين تلك المتنافرات مبررًا لوضعها في قران وجمعها في سياق واحد، بل إن مرادهم -كما قلنا مرارًا- لفقدان الجامع المناسبة الخاصة التي أشرنا إليها، لا المناسبة العامة التي ينبغي توافرها بين الجمل سواء عُطفت أو لم تعطف.
إذن نخلص من هذا إلى أن الاستئناف ثلاثة أنواع: استئناف بالواو أو الفاء، واستئناف بغير الواو والفاء، وهو ما يكون في تلك الجمل التي تتفق إنشاء أو خبرًا لفظا ومعنى، ولا يوجد بينهما الجامع المسوغ للعطف، فتأتي الجملة الثانية وقد استؤنفت أي ابتدئ بها معنى جديد، واستئناف بياني، وهو شبه كمال الاتصال.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.