المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجاز العقلي وعلاقاته - البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها

- ‌فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته

- ‌أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها

- ‌تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة

- ‌الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة

- ‌معنى الفصاحة والبلاغة

- ‌العيوب المخلة بفصاحة الكلمة

- ‌فصاحة الكلام

- ‌فصاحة المتكلم

- ‌الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري

- ‌ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم

- ‌مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ

- ‌المراد بعلم المعاني، وما يعنى به

- ‌أحوال الإسناد الخبري

- ‌الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري

- ‌أضرب الخبر

- ‌مراعاة حال المتكلم

- ‌التجوز في الإسناد

- ‌الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

- ‌تعريف الحقيقة العقلية

- ‌المجاز العقلي وعلاقاته

- ‌الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته

- ‌قرينة المجاز العقلي

- ‌بلاغة المجاز العقلي

- ‌الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر

- ‌حذف المسند إليه

- ‌ذكر المسند إليه

- ‌الدرس: 8 تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالإضمار

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية

- ‌تعريف المسند إليه باسم الإشارة

- ‌الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

- ‌تعريف المسند إليه بـ"أل

- ‌تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة

- ‌الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع

- ‌(تنكير المسند إليه

- ‌توابع المسند إليه

- ‌الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه

- ‌(تقديم المسند إليه

- ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

- ‌الدرس: 12 أحوال المسند

- ‌أغراض حذف المسند وذكره

- ‌قرائن حذف المسند

- ‌أسباب ذكر المسند في الكلام

- ‌الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض تنكير المسند

- ‌أغراض تعريف المسند

- ‌أسرار تقديم المسند

- ‌المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم

- ‌أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات

- ‌الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض حذف المفعول

- ‌تقديم المفعول على العامل

- ‌الدرس: 15 الأساليب الإنشائية

- ‌التعريف بالأسلوب الإنشائي

- ‌أقسام الأسلوب الإنشائي

- ‌أسلوب الأمر

- ‌أسلوب النهي

- ‌الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية

- ‌أسلوب الاستفهام

- ‌من أدوات الاستفهام "هل

- ‌بقية أدوات الاستفهام

- ‌أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي

- ‌الدرس: 17 مبحث القصر

- ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

- ‌أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه

- ‌الدرس: 18 تابع: مبحث القصر

- ‌العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن

- ‌ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء

- ‌ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما

- ‌رابع طرق القصر: التقديم

- ‌من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية

- ‌الدرس: 19 باب: الفصل والوصل

- ‌باب: الوصل والفصل بين المفردات

- ‌باب: الوصل والفصل بين الجمل

- ‌الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل

- ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

- ‌مواضع الوصل بين الجمل

- ‌الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب

- ‌الإيجاز، وأنواعه

- ‌المساواة والإطناب

- ‌صور الإطناب

الفصل: ‌المجاز العقلي وعلاقاته

يهلك حقيقة وهذا الاعتقاد باطل؛ لأن الدهر ظرف للأحداث ولا تأثير له في صنعها أو توجيهها حتى ينسب إليه شيء من ذلك.

رابعها: ما يخالف الواقع والاعتقاد معًا، كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالمًا بحالها دون المخاطب كقوله: سافر محمد وهو لم يسافر، فهو يخالف الواقع والاعتقاد معًا، وإنما كان من قبيل الحقيقة؛ لأن المخاطب لا يعلم بكذبه، وليس من شأن الكاذب أن ينصب قرينة تدل على كذبه حتى يفطن إليه المخاطب، بل يحرص على ترويج كذبه.

‌المجاز العقلي وعلاقاته

وننتقل بعد الحديث عن تعريف الحقيقة العقلية للحديث عن قسيمها وهو المجاز العقلي؛ فما هو يا ترى؟

المجاز العقلي: هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتؤول. كذا في (الإيضاح)، فقوله: إلى ملابس له، يشير إلى أنه لا بد في هذا المجاز من علاقة كسائر المجازات، وهذه العلاقة هي الملابسة والارتباط بين الفعل وفاعله المجازي، أو بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي على رأي آخر.

وملابسة الفعل لفاعله المجازي من جهة وقوعه عليه أو فيه أو بسببه وما شابه ذلك؛ أما الفاعل المجازي فهو يلابس الفاعل الحقيقي من حيث تعلق وجود الفعل بكل منهما، والإسناد هنا إلى غير ما هو له؛ أي: إلى غير ما حقه أن يسند إليه، وبذلك تَخرج الحقيقة العقلية؛ وهذا هو أساس الفرق بين الحقيقة العقلية والمجاز العقلي.

ص: 106

أضِف إلى ذلك أن المجاز لا بد له من قرينة صارفة عن إرادة ظاهر الإسناد، وقد أشار إليها بقوله: بتؤول؛ لأن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره، وبدون القرينة يبقى الإسناد على ظاهره فيكون من قبيل الحقيقة؛ ففي قول المؤمن: أنبت الربيع البقل، أسند الإنبات إلى الربيع، وفاعل الإنبات الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى والربيع زمن للفعل؛ ففي إسناد الإنبات للربيع إسناد إلى غير ما هو له، فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية، والقرينة التي تصرف عن إرادة ظاهر الإسناد هي حالُ المتكلم نفسه.

وفي قول الملحد: أنبت الربيعُ البقلَ، أسند الفعل إلى الربيع، هو يعتقد أن الربيع هو الفاعل الحقيقي وهو غير متؤول، وعلى ذلك يكون الإسناد على حقيقته؛ فاشتراط التؤول في الإسناد المجازي يُخرج نحو قول الدهريين:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ؛ لأن إسناد الفعل يهلك يوافق اعتقادهم، فلا تأويل فيه فهو حقيقة عقلية عند هؤلاء الملحدين، كما يخرج الأقوال الكاذبة أيضًا إذ لا تؤول فيها؛ أي: لا قرينة؛ لأن الكاذب لا ينصف قرينة صارفة عن إرادة الظاهر من الكلام.

وعلى ذلك فالمجاز العقلي لا بد له من علاقة مصححة للإسناد وهي ما تسمى ملابسة، ولا بد له من قرينة صارفة عن إرادة الإسناد الحقيقي شأنُه في ذلك شأن غيره من المجازات، ف العلاقة هي التي تصحح الإسناد، إذ لا يصح أن نسند الفعل إلى فاعل لا تربطه بالفعل صلة ولا تجمعه به علاقة.

والقرينة هي التي تدل على مراد المتكلم، وبدونها يصبح الكلام إلغازًا، ويبقى المعنى في بطن الشاعر كما يقولون؛ إذ لا دليل يفصح عن المراد من حقيقة أو مجاز.

ص: 107

علاقات المجاز العقلي:

العلاقة يمكن النظر إليها من ناحيتين:

الأولى: العلاقة بين الفاعل المجازي والفاعل الحقيقي.

الثانية العلاقة بين الفعل وما في معناه والمسند إليه المجازي.

والرأي الأول هو المستفاد من كلام عبد القاهر حيث يقول في شأن الملابسة: هي عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم، حين أعطى الربيع حكم القادر في إسناد الفعل إليه. هذا ذكره في (أسرار البلاغة)، وهو الذي يفهم من كلام الزمخشري حين عرف المجاز العقلي بقوله: أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له. ذكره في (الكشاف).

ومعناه: أن يسند الفعل إلى فاعل له علاقة وملابسة بالفاعل الحقيقي كما تلبست التجارة بالمشترين في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} (البقرة: 16) وأصله: فما ربح المشترون أو التجار في تجارتهم؛ فهناك ملابسة بين الفاعل المجازي التجارة، والفاعل الحقيقي المشترين، أو التجار، هذه الملابسة هي تعلق الفعل بكل منهما، فتعريف الزمخشري للمجاز العقلي ينص صراحةً على أن هذه الملابسة بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي من حيث تعلق وجود الفعل بكل منهما وإن اختلفت جهة التعلق؛ ولذلك يقول سعد الدين التفتازاني في (المطول) سنة 58: والمعتبر عند صاحب (الكشاف) تلبس ما أسند إليه الفعل بفاعله الحقيقي.

وذهب بعض البلاغيين إلى أن الملابسة هنا هي العلاقة بين الفعل وما في معناه والفاعل المجازي؛ ب أن يلابسه مطلق الملابسة، ويبدو أن هذا الرأي له سند عند

ص: 108

القائلين به ألا وهو الخطيب القزويني: وللفعل ملابسات شتَّى -يقول هكذا - يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب. وهو نفس كلام الزمخشري في (الكشاف) نقله عنه الخطيب، لكن المتتبع لكلام الخطيب يرى أنه قد شرح وجهة نظره بعد ذلك وبين مراده من كلامه بما يعود إلى الرأي الأول. يقول الخطيب في (الإيضاح): وإسناده - أي: الفعل أو ما في معناه - إلى غيرهما لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل مجاز، كقولهم في المفعول به: عيشة راضية، والمعروف أن العلاقة في المجاز اللغوي ت ك ون بين المنقول عنه والمنقول إليه، أو بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، فقياسًا عليه تكون علاق المجاز العقلي بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي طردًا للباب على وتيرة واحدة.

على أن هذا الرأي أوضح من الثاني وأنسب للمقام؛ لأن هذا هو المبرر لتحول الإسناد من الفاعل الحقيقي للفاعل المجازي، فإنه يلزم أن تكون هناك علاقة بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي في نفس الوقت، وبذلك يمكن النظر إلى العلاقة من أي جهة منهما.

ومما تجدر الإشارة إليه: أن العلاقة بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي واحدة لا تعدد فيها، أما العلاقة بين الفعل والمسند إليه المجازي فهي متعددة، وهذا يرجح الرأي الثاني، ذلك أن الفعل يتعلق بالفاعل من جهة صدوره منه، ويتعلق بالمفعول به من جهة وقوعه عليه، ويتعلق بالمصدر لكونه جزءَ مفهومِه، ويتعلق بالزمان لوقوعه فيه كذلك المكان، ويتعلق بالسبب لوقوعه به أو لأجله.

وعلى هذا فعلاقات المجاز العقلي بحسب ما أسند إليه الفعل أو معناه مجازًا هي:

1 -

المفعولية؛ وذلك بإسناد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول به مثل قولك: رضيت عيشة فلان، ف قد أسند الرضا في هذا المثال إلى المفعول؛ لأن

ص: 109

العيشة في الحقيقة والواقع مرضية لا راضية، ولو رجعنا بهذا الإسناد إلى حقيقته لقلنا: رضي فلان عيشته، ومن هذا القبيل قوله تعالى:{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (الحاقة: 21) حيث أَسند ما في معنى الفعل وهو {رَاضِيَةٍ} إلى مفعوله وهو الضمير العائد إلى عيشة، وأصل هذا الإسناد عيشة راض صاحبها، فالإسناد في الآية الكريمة مجازي وهو يفيد المبالغة في الرضا؛ فكأن الرضا قد تجاوز صاحب العيشة إلى العيشة نفس ها، فالعيشة ليست مرضية فقط وإنما هي راضية أيضًا، وإذا علِمنا أن المقصود بالعيشة هنا النعيم الذي يحظَى به أهل الجنة ويتقلبون في أعطافه ويسعدون بجواره، فإن وصفها بالرضا يعني أنها دائمة لا تنقطع، ما دام ثواب الرضا يشمل الطرفين، وتمام النعمة في دوامها وبقائها.

ومن هذا الن ح وأيضًا قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (الطارق: 6) فقد أسند: {دَافِقٍ} إلى ضمير الماء؛ أي: أسنده إلى المفعول؛ لأن الماء مدفوق لا دافق فهو مجاز عقلي، وأصل الإسناد ماء دافق صاحبه، ولكن المجاز أبلغ من الحقيقة هنا لما فيه من المبالغة في الدفق، وكأن الماء لسرعة اندفاعه دافق يدفع بعضه بعضًا؛ فالعلاقة هنا هي المفعولية. ومنه قول الشاعر:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فقد أسند اسم الفاعل الطاعم الكاسي إلى ضمير المفعول، والشاعر يريد أن يقول له: إنك لست أهلًا لنيل المعالي فلا تجهد نفسك في طلبها، فإن منزلتك دون ذلك، فأنت المطعوم المكسو، فوضع اسم الفاعل موضع اسم المفعول على سبيل التجوز في الإسناد، والدليل على ذلك أن الشاعر يهجو المخاطب ولا يعقل أن يقول له: لا ترحل لطلب المكارم، ثم يقول له: إنك تطعم غيره وتكسوه، وإنما أراد أن يقول لمخاطبه اقعد عالة على غيرك مطعومًا مكسوًّا.

ص: 110

العلاقة الثانية الفاعلية: وتكون بإسناد الفعل المبني للمفعول أو معناه إلى الفاعل مثل قولهم: سيل مفعم، بصيغة اسم المفعول؛ أي: مملوء، مسندًا إلى ضمير السيل الذي هو الفاعل، وحق اسم المفعول أن يسند إلى المفعول الذي صار نائب فاعل وهو المكان؛ إذ من المعروف أن السيل هو الذي يفعم المكان؛ أي: يملؤه فالسيل مفعم بكسر العين والمكان مفعم بفتحها، ولكنهم تجاوزوا في الإسناد حيث أسندوا اسم المفعول إلى ضمير السيل الذي هو الفاعل، فهو مجاز عقلي علاقته الفاعلية.

ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} (مريم: 61) وقوله: {مَأْتِيًّا} اسم مفعول مسند إلى ضمير الوعد الذي هو فاعل في الحقيقة والواقع؛ لأن الوعد يأتي ولا يؤتَى، وحقيقة الإسناد مأتيًا صاحبه؛ أي: يأتيه الوعد.

ومنه أيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} (الإسراء: 45) فقد أسند اسم المفعول: {مَسْتُورًا} إلى ضمير الفاعل وهو الحجاب، والمعروف أن الحجاب ساتر لا مستور، فهو الفاعل الحقيقي للمسند، ولذلك سميت هذه العلاقة بالفاعلية.

العلاقة الثالثة المصدرية: وتتحقق بإسناد الفعل إلى مصدره كقولهم: فلان جد جده، فالفعل جد قد أسند إلى مصدره، وحقه أن يسند إلى الفاعل ف يقال: جد فلان جد، ففاعل الجد هو الشخص الذي يجِد في عمله، ومن ذلك قول أبي فراس الحمداني:

سيذكرني قومي إذا جد جدهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

ص: 111

وأصل الإسناد هنا: إذا جدوا جدهم، فالفاعل الحقيقي هو الضمير العائد على قوم أبي فراس، ولكن الشاعر عدَل عن هذا الأصل للمبالغة، فأسند الفعل جد إلى مصدره، والعلاقة هي المصدرية، أما القرينة التي ترشد إلى هذا التجوز وتدل على أن الكلام مصروف عن ظاهره، فهي استحالة صدور الفعل جد من الجد، ومنه قولهم أيضًا: شعر شاعر، وهو مجاز عقلي علاقته المصدرية وقرينته استحالة صدور الفعل من مصدره، فالكلام مبناه على التؤول.

ومن ذلك أيضًا قولنا: الله جل جلاله وعظمت عظمته، ف قد أسند الفعل إلى مصدره وكان حقه أن يسند إلى فاعله الحقيقي وهو الله -جل وعلا- فيقال: جل الله جلاله وعظم عظمته، ثم عدل عن هذا الأصل؛ للمبالغة في وصفه تعالى بالجلال والعظمة.

العلاقة الرابعة الزمانية: وتكون بإسناد الفعل إلى زمانه الذي وقع فيه كما في قولك: صام نهاره وقام ليله، وقولهم: نهاره صائم وليله قائم؛ فالنهار لا يصوم والليل لا يقوم، الذي يفعل ذلك حقيقةً هو العابد، إذ يصوم في نهاره ويقوم في ليله، ف إسناد الصيام والقيام إلى النهار والليل هو من قبيل إسناد الفعل إلى زمانه الذي وقع فيه. ومنه قول جرير:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى

ونمت وما ليل المطي بنائم

حيث أسند الوصف نائم إلى الضمير العائد على الليل مع أن الليل لا ينام، إنما هو ظرف زمان يقع فيه النوم، وقد أسند ما هو في معنى الفعل إلى زمانه مجازًا عقليًا علاقته الزمان، ومنه قولهم: يوم مشرق ونهار عاصف، وقد أسند الإشراق والعصف إلى اليوم والنهار، وحقهما أن يسندَا إلى الفاعل الحقيقي بكل

ص: 112

منهما، وأصل الإسناد: يوم مشرقة شمسه فيه، ونهار عاصفة ريحه فيه، فأسند الحدث إلى زمانه على سبيل المبالغة. ومنه قوله تعالى:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (المزمل: 17) حيث أسند شيب الولدان إلى اليوم، واليوم لا يجعل الوليد يشيب، وإنما يجعل الولدان شيبا هو الله سبحانه وتعالى في هذا اليوم، فالإسناد في الآية الكريمة مجازي؛ لأن الفعل لم يسند إلى فاعله الحقيقي وهو الله، بينما أسند إلى الزمن الذي يقع فيه، فهو مجاز عقلي علاقته الزمان.

ويدخل هذا النوع في الشعر العربي. وانظر إن شئتَ إلى قول طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا

ويأتيك بالأنباء من لم تزود

وقد أسند إلى الأيام قدرتها على إظهار ما يجهله الإنسان، والأيام غير قادرة على تحقيق ذلك، وإنما الفاعل الحقيقي هو الله - قدرته - وأصل الإسناد: سيبدي الله لك في الأيام ما كنت جاهلًا. وعليه قول المتنبي:

كلما أنبت الزمان قناة

ركب المرء في القناة سنانا

وحقيقة الإسناد هنا أنبت الله في الزمان قناة، والقرينة هي استحالة صدور الإنبات من الزمان.

وتأمل قول أبي البقاء الرندي:

هي الحياة كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

فالزمن لا يقدم مسرة ولا إساءة، وإنما الحوادث التي تقع في الزمن هي التي تفعل ذلك؛ فالإسناد في هذه الأبيات مجاز عقلي علاقته الزمانية؛ لأن الفاعل المجازي يشابه الفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل؛ لأنه زمن، والكلام مبناه على التؤول

ص: 113

وعدم إرادة ظاهر الإسناد؛ وذلك لاستحالة صدور الفعل في الأبيات السابقة من زمانه.

العلاقة الخامسة المكانية: وتحقق بإسناد الفعل أو معناه إلى مكان مثل قولهم: سار الطريق وجرى النهر، فالطريق لا يسير والنهر لا يجري، وإنما يسير الناس ويجري الماء، والطريق مكان السير والنهر بمعنى الشق في الأرض هو مكان جريان الماء، فأسند الفعل في المثالين إلى مكانه على سبيل المبالغة، وعليه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (البروج: 11) وما أكثر ما تكرر هذا في القرآن الكريم، فهو مجاز عقلي علاقته المكانية، ومنه قولهم: سال الوادي؛ أي: سال الماء فيه يقول الشاعر:

ملكنا فكان العفو منا سجية

فلما ملكتم سال بالدم أبطح

الأبطح هو المكان المتسع يمر به السيل، ويقول ابن المعتز:

سالت عليه شعاب الحي حين دعا

أنصاره بوجوه كالدنانير

ويقول الآخر:

وكل امرئ يولي الجميل محبب

وكل مكان ينبت العز طيب

وفي استطاعتك أن تقف على موضع التجوز في الأبيات المذكورة، وتتعرف على العلاقة التي صحح للتجوز، والقرينة المانعة من حمل الإسناد على ظاهره، وأثر هذا الأسلوب المجازي في بلاغة الكلام الذي ورد فيه.

العلاقة السادسة السببية: وتتحقق بإسناد الفعل إلى سببه سواء أكان السبب الآمر أو السبب المؤثر أو السبب الغائي كما في قولهم: بنَى الأمير المدينة، وأصل

ص: 114

الإسناد بنى العمال المدينة بأمر الأمير، فأسند الفعل إلى سببه الآمر. وقد يسند الفعل إلى السبب المؤثر كما في قول عمر بن أبي ربيعة:

أبَى لي عرض أن أضام وصارم

حسام وعز من حديث وأول

مقيم بإذن الله ليس ببارح

مكان الثريا قاهر كل منزل

وأصل الإسناد: أبت لي نفس أن أضام بسبب عرضي وبسبب صارمي الحسام، وعِزي الحديث، والأول المقيم في مكان الثريا، فحوَّل الإسناد إلى السبب -كما ترى- في البيت الأول وهو سبب مؤثر؛ أي: دافع ومحرك للنفس وحافز لها كي ترفض الذل وتأبى الضيم ولا ترضى بالهوان، فالشاعر هنا قد نظر إلى ماضيه وحاضره فوجد أنه أرفع مقامًا وأعلى شأنًا وأكرم نفسًا من أن يلحقه أذى أو يقع به ضيم أو هوان، وهو يملك القدرة على دفع الضيم ورد الأذى عن نفسه وعشيرته، ولا يخفَى عليك أن الإسناد إلى السبب فيه قدر من المبالغة التي يقتضيها المقام، فالإسناد المجازي هنا أبلغ من الأسلوب الحقيقي؛ لمطابقته لمقتضى الحديث.

ومن ذلك قول عوف بن الأحوص:

فلا تسأليني واسألي عن خليقتي

إذا رد عافي القدر من يستعيرها

وعافِي القدر ما يبقى فيها من المرق، وهو في زمن الجدب سبب لرد مستعيرها، إذ الحاجة ماسة إليه فلا يفرط فيه صاحب القدر، لكن الشاعر ينوه بكرمه الشديد في تلك الظروف، فهو كريم النفس يجود بالكثير في الوقت الذي يضن فيه غيره ببقية المرق ونحوه في القدر، والشاهد في قوله: إذا رد عافي القدر مَن يستعيرها، فهو إسناد مجازي وحقيقته إذا رد صاحب القدر من يستعيرها بسبب عافيها، ثم أسند الفعل "رد" إلى سببه وهو عافي القدر، فهو مجاز عقلي علاقته السببية.

ص: 115

ومنه أيضًا قول ابن الغدير:

إنا لمن معشر أفنَى أوائلهم

قيل الكماة ألا أين المحامون

جمع كمي وهو المستتر بسلاحه فلا يدري من أين يؤتَى، قيل: الكماة قول الشجعان، فالشاعر هنا يفخر بشجاعته وشجاعة قومه، وبسالتهم في الحروب، وأنهم يندفعون إلى حومة الوغى ولا يخافون العدو ولا يهابون الموت في سبيل الدفاع عن شرف القبيلة والذود عن الحمى، فالذي أفنى أوائل معشره إنما هو الله تعالى؛ بسبب إقدامهم وشجاعتهم في ميادين الحروب، وتلبيتهم دعوة الداعي كلما قال الشجعان: أين المحامون عن الأهل والعرض، فأسند الفعل "أفنى" إلى سببه قيل الكماة على سبيل المجاز العقلي لعلاقة السببية كما ترى.

ومن ذلك قولهم: سرتني رؤيتك؛ أي: سرني الله بسبب رؤيتك، وقولهم: محبتك جاءت بي إليك، وأصله: جئت إليك بسبب محبتك.

ومنه قول أبي نواس:

يزيدك وجهه حسنًا

إذا ما زدته نظرًا

وحقيقة الإسناد في هذا البيت يزيدك الله حسنًا في وجهه بسبب ما أودعه فيه من دقائق الحسن والجمال.

وتأمل قول أبي الطيب في كافور الإخشيدي:

أبا المسك أرجو منك نصرًا على العِدا

وآمل عِزًّا يخضب البيض بالدم

أبو المسك كنية لكافور الإخشيدي والبيض هي السيوف؛ وهو يتوجه إلى كافور بما يجيش في صدره من أماني، ويقول له: أرجو منك أن تنصرني على أعدائي،

ص: 116

وأن توليني عزًّا أتمكن بي منه، وأخضب سيوفي بدمائهم، وقد أسند الشاعر خضب السيوف بالدم إلى ضمير يعود على العز وهو إسناد مجازي؛ لأن العز لا يخضب السيوف بالدم، ولكنه سبب يحفز إلى المواجهة ويدفع إلى منازلة الأقران بمجموعة من الأبطال الذين يخضبون السيوف بالدم، البيت إذن مجاز عقلي علاقته ال سببية لإسناد الفعل إلى سببه المؤثر.

وقد يسند الفعل إلى السبب الغائب؛ أي غايته كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم: 41) وأصله: يوم يقوم الناس لأجل الحساب؛ فأسند الفعل: {يَقُومُ} إلى غايته: {الْحِسَابُ} على سبيل التجوز، وفي ذلك ما فيه من الإيجاز والمبالغة.

وهذه الأمثلة كلها من إسناد الفعل إلى سببه كما علمت، فهي إذن مجاز عقلي علاقته السببية.

يدخل في دائرة هذه العلاقة معظم الأمثلة التي تنضوي تحت لواء هذا الباب كما يتضح من تصفح ما تركه البلاغيون من آثار في المجاز العقلي وعلاقاته وشواهده الشعرية والنثرية، وهذا النوع من المجاز القائم على إسناد الفعل إلى سببه كثير الوقوع في القرآن الكريم، فمنه قوله تعالى في وصف الشجرة الطيبة:{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم: 25) وقوله سبحانه في شأن الآيات: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (الأنفال: 2) وقوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: 2) وقوله عن الرياح: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الأعراف: 57).

وقد أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا إلى المعقول على معنى السبب، وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الآكل، ولا الآيات تولد

ص: 117

العلم في قلب السامع لها، ولا الأرض تخرج الكامن من بطنها من الأثقال، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز فيها وأُودِع جوفها، وكذلك الرياح لا تقل السحاب على الحقيقة؛ لإثبات الفعل لغيره القادر لا يصح في منطق العقل إلا إذا كان هذا الإثبات على سبيل التؤول وعلى العرف الجاري بين الناس في أن يجعلوا الشيء إذا كان سببًا أو كالسبب في وجود الفعل من فاعله كأنه فاعل، فيسند الفعل إليه على هذا التأويل، كذا أفاده الشيخ عبد القاهر في (أسرار البلاغة).

من السببية قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} (القصص: 4) فقد نسب الفعل: {يُذَبِّحُ} إلى: {فِرْعَوْنَ} لكونه الآمر به، كذلك قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (إبراهيم: 28) والحقيقة أن الله سبحانه هو الذي أحلهم دار البوار، وإنما نسب فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم، وسبب كفرهم أمرُ أكابِرهم إياهم بالكفر، وإن شئت فتأمل قوله تعالى:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (فصلت: 23) وقوله تعالى في شأن إبليس اللعين: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} (الأعراف: 27) وقد أسند الفعل في الأول إلى الظن؛ لأنه سببه كما نسب النزع في الثانية إلى إبليس وهو فعل الله تعالى في الحقيقة؛ وذلك لأن سببه هو الأكل من الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين، كذا ذكره الخطيب القزويني في (الإيضاح).

ولا يخفَى عليك فهم المجاز في قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وفي قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ

ص: 118

عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (المائدة: 8) وغير ذلك من أساليب المجاز الواردة في كتاب الله تعالى على اختلاف الصور والعلاقات، فهذا النوع من المجاز شائع في القرآن الكريم، وهو من أسرار بلاغته وروعة نظمه وكمال إعجازه.

على أن هذه العلاقات الست التي ذكرناها هي التي أوردها الخطيب في كتاب (الإيضاح) وهو متأثر في مبحث المجاز العقلي بكلام الزمخشري في (الكشاف) في تفسيره لقول الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (البقرة: 7) الآية. فقد ذكر الزمخشري في هذا الموضع أن للفعل ملابسات شتى، تلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب، بيد أن الخطيب توقف عند هذه العلاقات الست ولم يتابع الزمخشري في مواضعَ أخرى من (الكشاف)؛ فقد أشار إلى أنواع أخرى من الملابسات؛ منها إسناد الفعل إلى الجنس كله وهو في الحقيقة مسند إلى بعضه كقولهم: بنو فلان قتلوا فلانًا والقاتل واحد منهم، ومنه قوله تعالى:{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} (الأعراف: 77) حيث أسند العقرَ إلى جميعهم وهو كما ذكر الزمخشري في تفسيره كان لبعضهم؛ لأنه كان برضاهم والراضي بالشر كفاعله، وبذلك حل العذاب للجميع.

وإسناد الفعل إلى الجارحة التي هي آلته كقولك: هذا أبصرته عيني وسمعته أذني وقاله لساني، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة: 283) فالآثم في الحقيقة هو الشخص ومع ذلك أسند الإثم إلى قلبه؛ لأن كتمان الشهادة أن يضمرها لشخص ولا يتكلم بها، ولما كان إثمًا مقترفًا بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ.

ومنه: إسناد الفعل إلى ما له مزيد اختصاص وقربى بالفاعل الحقيقي كما في قوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} (الحجر: 60) فقد أسند

ص: 119

الفعل: {قَدَّرْنَا} إلى ضمير المتكلمين وهم الملائكة مع أن التقدير لله وحده، وذلك من قبيل إسناد الفعل إلى ما له مزيد اختصاص وقربى من الفاعل الحقيقي كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا وأمرنا بكذا مع أن المدبر والآمر هو الملك لا هم، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم بهم وأنهم لا يتميزون عنه كذا ذكره (الكشاف).

من خلال ما عرضنا نلحظ أن تعريف الخطيب للمجاز العقلي غير جامع لكل صور التجوز التي تألفها اللغة ويكثر دورانها على ألسنة الشعراء؛ فقد حصره الخطيب في إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ملابس غير ما هو له، كما حصر الحقيقة في إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له، وعلى ذلك يكون قولنا: الإ ن سا ن حيوان ناطق ليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأن الإسناد فيه إلى المبتدأ فلا يدخل في نطاق تعريفه، ومعنى ذلك أن الإسناد عن د هـ إما حقيقة عقلية وإما مجاز عقلي أو واسطة بينهما كالمثال الأخير.

وقد خرج عن تعريفه للمجاز العقلي صور كثيرة؛ منها:

1 -

النسبة الإضافية، والمقصود بها إضافة المصدر إلى غير ما حقه أن يضاف إليه؛ مثل: أعجبني إنبات الربيع البقل، وكما في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (سبأ: 33) فقد أضيف المصدر: {مَكْرُ} إلى زمانه: {اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، وحقه أن يضاف إلى أصحابه وتقديره: بل مكرهم في الليل والنهار، ومنه قوله عز وجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (النساء: 35) والتقدير: وإن خفتم شقاق الزوجين في الحالة التي بينهما فقد أضيف المصدر: {شِقَاقَ} إلى الظرف "بين" فهو مجاز عقلي علاقته المكانية.

ص: 120

وأول مَن أماط اللثام عن نسبة الإضافية وصرح بأنها تدخل في نطاق المجاز الإسنادي حيث قال في (أسرار البلاغة): ومما يجب أن يُعلم في هذا الباب أن الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل؛ ف كل حكم يجب في إضافة المصدر من حقيقة أو مجاز فهو واجب في إسناد الفعل.

2 -

النسبة الإيقاعية: أي: إيقاع الفعل على غير ما حقه أن يوقع عليه مثل قولك: أجريت النهر، فقد وقع الفعل على غير المفعول الحقيقي، وأصله: أجريت الماء في النهر، فالماء هو المفعول الحقيقي للفعل والنهر مكان له، ففي إيقاع الفعل أجريت على النهر تجوز في النسبة الإيقاعية، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} (الشعراء: 151) وأصله: ولا تطيعوا المسرفين في أمرهم، فقد أوقع ما حقه أن يقع على المفعول الصريح على المفعول المجازي؛ لمضاهاته لهم في ملابسة الفعل؛ لأنه مفعوله، وقد أشار سعد الدين التفتازاني إلى النسبة الإيقاعية وكذا الإضافية حيث قال في (المطول): إن المجاز العقلي أعم من أن يكون في النسبة الإسنادية أو غيرها، كما أن إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه المجاز، فكذا إيقاعه على غير ما حقه أن يوقع عليه، وإضافة المضاف إلى غير ما حقه أن يضاف إليه؛ لأنه جاز موضعه الأصلي. انتهى ال كلام.

3 -

النسبة الوصفية: بأن يوصف الشيء بوصف محدثه وصاحبه مثل: الكتاب الحكيم والأسلوب الحكيم؛ فالحكمة في الحقيقة ليست وصفًا للكتاب، وإنما هي وصف لصاحبه وليست وصفًا للأسلوب، وإنما هي وصف لصاحبه، ومنه قوله تعالى:{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (ق: 27) فإن البعيد ليس هو الضلال وإنما هو الضال، أما الضلال فمصدر ضل، ومثله أيضًا عذاب أليم فإن الأليم؛ أي: المؤلم ليس هو العذاب، بل المعذب؛ وهكذا أسند

ص: 121

معنى الفعل إلى المصدر الذي لا يلابسه ذلك المسند بل يلابسه فعل آخر من أفعال فاعله، ويمكن أن يقال: إنه يلابسه بواسطة حرف الجر فهو بعيد في ضلاله وأليم في عذابه، ف يدخل هذا النوع في المجاز العقلي بمعناه عند الخطيب على هذا التقدير.

الملابسة الرابعة مما لم يذكره الخطيب في الإسناد بين المبتدأ والخبر، كقوله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (البقرة: 189)، ومنه قول الخنساء:

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت

فإنما هي إقبال وإدبار

يقول عبد القاهر في بيان المجاز العقلي في هذا البيت: إنها لم ترد بالإقبال والإدبار - يعني بناقتها - غير معناهما حتى يكون المجاز في الكلمة، وإنما المجاز في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار. ولا يرتضي عبد القاهر أن يكون بيت الخنساء من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وإن كانوا يذكرونه من هذا الباب؛ لأننا إذا قلنا: فإنما هي ذات إقبال وإدبار أفسدنا الشعر على أنفسنا، وخرجنا إلى شيء مغسول وكلام عامي مر ذ ول. انتهى كلام الشيخ عبد القاهر في (الدلائل).

وهكذا استطاع عبد القاهر بحسه المرهف وذوقه الرفيع وخياله الخصب، أن يوضح المجاز في هذا البيت محتكمًا إلى الذوق الأدبي وحده، وانتهى إلى أن ما أرادته الخنساء من المبالغة في تصوير الحزن والحيرة لا يتأتى إلا بالتجوز في هذا الإسناد، وقد جاء تعريف عبد القاهر للمجاز العقلي جامعًا لكل هذه الملابسات والنسب الإسنادية؛ فقد عرفه في (أسرار البلاغة) بقوله: هو كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه في العقل بضرب من التؤول. فهو يعم إسناد الفعل أو ما في معناه وإسناد الخبر إلى المبتدأ أيضًا؛ كما رأينا في قول الخنساء السابق.

ص: 122

أما تعريف الخطيب فهو أضيق دائرةً من تعريف عبد القاهر؛ لأنه حصره في إسناد الفعل وما في معناه فقط، وكان حريًّا به أن يستفيد من كلام عبد القاهر في هذا الباب وهو صاحب الفضل الأكبر في تجلية هذا اللون من المجاز الحكمي. وتحرير القول فيه على نمط فريد لم يسبق إليه، وقد أشبعه عبد القاهر شرحًا وتفصيلًا في كتابيه (الأسرار) و (الدلائل) فلم يترك فيه مجالًا لمستزيد.

ولذلك أرى أن تعريف عبد القاهر للمجاز العقلي هو التعريف الأمثل، ومذهبه فيه هو المذهب الجزل، وقوله هو القول الفصل؛ نعم، كانت هناك إشارات لهذا المجاز وأمثلته عند بعض المتقدمين -كما ذكرنا- كسيبويه وأبي عبيدة والفراء والجاحظ والآمدي والشريف الرضي؛ لكنها لا تعدو أن تكون بذورًا متناثرة هنا وهناك، وهي في الغالب الأعم لا تتجاوز التلميح إلى التصريح، فهي إشارات عابرة وتعليقات مقتضبة لا رابطَ بينها إلى أن جاء عبد القاهر ف قرأ حصيلة الدراسات السابقة، وجمع شتاتها، وفصل القول فيها، ووضع لها هذه التسمية المجاز الحكمي أو المجاز العقلي، وبذل جهدًا كبيرًا في الحقيقة في التفرقة بينه وبين المجاز اللغوي، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير ب بصيرته النافذة وثقافته الواسعة وخياله الرائع؛ ف المجاز العقلي تسمية وتحديدًا وتحريرًا هو من ابتكار عبد القاهر.

بقي أن تعلم أنه دافع عن المجاز دفاعًا شديدًا ورد على شبه المعارضين له، وفند حججهم بأدلة قوية ونعى على هذا الصنف من الناس جهلهم بحقيقة المجاز، فقد أنكر بعض العلماء من الظاهرية وقوع المجاز في القرآن؛ لأنه يوهم الكذب والله منزه عنه هكذا قالوا، والجواب: أن الذي يمنع من صرفه عن الحقيقة إلى المجاز هو صفات الله تعالى؛ لعدم وجود قرينة المانعة، وأن كل مجاز لا بد له من قرينة صارفة عن إرادة الظاهر؛ وعلى ذلك فلا إيهامَ مع وجود القرينة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 123