الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواضع الوصل بين الجمل
ذكر البلاغيون موضعين للوصل بين الجمل، هما التوسط بين الكمالين وكمال الانقطاع مع الإيهام، والمراد بالكمالين في قولهم: التوسط بين الكمالين كمال الاتصال وكمال الانقطاع، وقد عرّفوه بقولهم: أن تتفق الجملتان خبرًا أو إنشاء، لفظًا ومعنى أو معنى فقط، مع وجود المناسبة المسوّغة للوصل فيما بينهما؛ بحيث لا يمنعُ من العطف مانع، فمثال اتفاقهما في الخبرية لفظًا ومعنى قوله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14) وقوله عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 26، 27).
فقد اتفقت الجملتان: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} في الخبرية لفظًا ومعنى، ووُجدت المناسبة المسوغة للعطف، ولم يمنع من العطف مانع؛ ولذا وُصل بينهما كما ترى، فكذا القول في الآيتين {قُلِ اللَّهُمَّ} إلى آخر الآيتين، ولا يخفى عليك ما يفيده الجمع بين الجمل في الآيتين، من إبراز قدرة الله عز وجل في أسمى معانيها، وتأمل:{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ} {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}
{تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يقدر على تلك الأضداد إلا الخالق القادر المهيمن ذو السلطان والملك.
ومثال ما اتفقت فيه الجملتان في الإنشائية لفظا ومعنى قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31) فقد اتفقت الجمل {خُذُوا زِينَتَكُمْ} {وَكُلُوا} {وَاشْرَبُوا} {وَلَا تُسْرِفُوا} في الإنشائية لفظًا ومعنى، ومن ثم وُصل بينها، ومما اتفقت فيه الجملتان في الإنشائية معنى، قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83) ففي الآية ثلاث جمل: الأولى {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} ، والثانية: حذف فيها فعل الأمر وتقديرها: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، والثالثة:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} ، والجملتان -الثانية والثالثة- إنشائيتان لفظًا ومعنى كما ترى، أما الأولى فخبرية لفظًا إنشائية معنى؛ لأنها تعني النهي؛ أي لا تعبدوا إلا الله، وبهذا يكون اتفاق الجمل الثلاث في الإنشائية في المعنى فقط دون اللفظ.
ومما اتفقت فيه الجملتان في الخبرية معنى قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (هود: 54) فجملة {وَاشْهَدُوا} إنشائية لفظًا خبرية معنى؛ إذ المراد: إني أشهد الله وأشهدكم، وبهذا يكون اتفاق الجملتين في الخبرية معنى لا لفظًا، وإنما عُدت مثل هذه الجمل توسطًا بين الكمالين؛ لاتفاقها في الخبرية أو الإنشائية مع وجود المناسبة المسوِّغة للوصل، فليست من قبيل كمال الانقطاع الذي عَرَفته، كما أنها ليست من قبيل كمال الاتصال لعدم وجود الروابط والصلات القوية بينها، والتي عرفناها في صور كمال الاتصال؛ ولذا سَمَى البلاغيون هذا الموضع بالتوسط بين الكمالين.
الموضع الثاني من مواضع الوصل بين الجمل: كمال الانقطاع مع الإيهام؛ كقولك لتاجر مثلًا: أتبيع هذه السلعة؟ فيجيبك: لا، وعافاك الله، وقولك لصديق لك: أشُفي والدك؟ فيجيب: لا، ولطف الله به، وقولك: أتاب العاصي؟ فتجاب: لا، ويهديه الله، فبين الجملتين كما ترى كمال انقطاع؛ لأن جملة "لا" خبرية لفظًا ومعنى، والجمل: عافاك الله، لطف الله ب، يهديه الله خبرية لفظًا إنشائية معنى، وكمال الانقطاع يُوجب الفصل بين الجملتين، إلا أن الفصل ها هنا يوهم خلاف المراد؛ إذ يُتوهم أن المجيب يدعو بعدم العافية وعدم اللطف وعدم الهداية، وأنه قد أجاب بجملة واحدة منفية، سُلّطت فيها "لا" على ما بعدها، وليس بجملتين، فدفعًا لهذا الإيهام يجب الوصل بين الجملتين؛ ولذلك إذا اندفع هذا الإيهام بأن يسكت المتكلم قليلًا بعد النطق بالحرف "لا"، أو يذكر الجملة المنفية كاملة فيقول: لا أبيعه، ثم يذكر الجملة الدعائية "عافاك الله" عندئذ يجب الفصل؛ إذ لا إيهام.
إذا وجدت المناسبة أو الجامع المسوّغ للوصل، وكذا عند قصد التشريك في الحكم الإعرابي، فما مراد البلاغيين بهذا الجامع أو بتلك المناسبة إذن؟ يريد البلاغيون بذلك أن يكون المسند إليه في الجملة الأولى بسببٍ من المسند إليه في الجملة الثانية، وكذا المسند فيهما، يقول عبد القاهر: "واعلم أنه يجب أن يكون المحدَّث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المحدَّث عنه في الأخرى، كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشبيه والنظير أو النقيض للخبر الأول، فلو قلتَ: زيدٌ طويل القامة وعمرو شاعر، كان خُلفًا؛ لأنه لا مشاكلة ولا تعلق بين طول القامة وبين الشِّعر، وإنما الواجب أن يقال: زيد كاتب وعمرو شاعر وزيد طويل القامة وعمرو قصير.
وجملة الأمر أنها -يقصد الواو- لا تجيء حتى يكون المعنى في هذه الجملة لِفقًا لمعنى في الأخرى ومضامًّا له، مثل: أن زيدًا وعمرًا، إذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة؛ كانت الحال التي يكون عليها أحدهما من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك مضمومة في النفس إلى الحال التي عليها الآخر من غير شك، وكذا السبيل أبدًا، والمعاني في ذلك كالأشخاص، فإنما قلت مثلًا: العلم حسن والجهل قبيح؛ لأن كون العلم حسنًا مضموم في العقول إلى كون الجهل قبيحا، واعلم أنه إذا كان المخبَر عنه في الجملتين واحدًا كقولنا: هو يقول ويفعل، ويضر وينفع، ويسيء ويحسن، ويحل ويعقد، وأشباه ذلك ازداد معنى الجمع في الواو قوةً وظهورًا، وكان الأمر حينئذٍ صريحًا". انتهى.
هذا، وقد اختلف البلاغيون في المتعلَّقات؛ إذ ينبغي أن يعتبر فيها التناسب أيضًا، والصواب أنه لا يعتبر فيها ذلك إلا إذا كانت مقصودة بالذات، ومرادة في الجملتين، كقول الله تعالى:{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} (غافر: 41)، هذا وقد تكون المناسبة بين الجمل دقيقةً خفية، وعندئذ تحتاج إلى تأمّل السياق ومعرفة قرائن الأحوال به، وانظر مثلًا إلى قول الله تعالى:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 17 - 20) تجد أن المناسبة بين الإبل والسماء والجبال والأرض لا تتضح لك إلا بالتأمل وإطالة النظر؛ إذ عند التأمل تعرف أن أهل الوَبر تكون عنايتهم مصروفة إلى الإبل؛ حيث ينتفعون بها في جلّ معاشهم وانتفاعهم بها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب، وذلك يكون بنزول المطر، فيكثر تقلب وجوههم في السماء، ثم لابد لهم من مأوى يتحصنون به، ولا شيء لهم
في ذلك كالجبال، ثم لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرضٍ إلى سواها، بهذا يتضح لك أن الإبل والسماء والجبال والأرض متناسبةً في ذهن البدوي وأخيلة أهل الوبر.
كما أنه قد يتحد كل من المسند والمسند إليه ولا تجد مسوغًا للفصل على نحو ما ترى في قولك: انظر إلى غزارة علم عمرو، وانظر إلى هذا القطع في ثوبك، فمثل هاتين الجملتين لا يجمعهما سياق واحد، لا منفصلتين ولا موصولتين، على الرغم من اتحاد المسند والمسند إليه في كلٍّ منهما، وقد يختلف كلٌّ منهما في الجملتين وتوجد المناسبة المسوِّغة للوصل، على نحو ما ترى في قوله تعالى:{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} (يوسف: 88) فالمسندُ إليه فيهما الضر، وإخوة يوسف مختلفان لا تناسب بينهما، وكذلك المسندان المس والمجيء، وعلى الرغم من هذا وصلَ بين الجملتين لوجود المسوّغ للوصل وهو أن المسّ سببٌ في المجيء. وهذا -في حد ذاته- من محسنات الوصل؛ إذ من محسناته أن تتناسبَ الجملتان في الاسمية والفعلية، وفي المُضي والمضارعة، وفي الأمر والنهي، وفي الإطلاق والتقييد، انظر إلى قوله تعالى مثلًا:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14) تجد تناسب الجملتين في الاسمية، ومنه قول الشاعر:
أُسودٌ إذا ما أبدت الحرب نابها
…
وفي سائر الدهر الغيوث المواطر
ومن تناسبهما في المضي قوله تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) وقول الشاعر:
أعطيت حتى تركت الريح حاسرةً
…
وجُدت حتى كأن الغيث لم يَجُد
ومن تناسبهما في المضارعة قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (آل عمران: 26)، ومن تناسبهما في الأمر والنهي قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31)، وقوله عز وجل:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير} (لقمان: 17 - 19). ومن تناسبهما في التقييد قول الشاعر:
دنوتَ تواضعًا وعلوت مجدًا
…
فشاناك انحدارٌ وارتفاع
وإنما يعد التناسب فيما ذُكر من محسنات الوصف: ما لم يدع داعٍ إلى المخالفة، فلو دعا داعٍ إلى المخالفة كان الحسن في تلك المخالفة التي دعا إليها هذا الداعي واقتضاها المقام، انظر مثلًا إلى قوله عز وجل:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء: 142) فقد آثر التعبير بالمضارع {يُخَادِعُونَ} ؛ ليفيد أن خداع المنافقين حادث متجدد وبالاسم {خَادِعُهُمْ} ؛ ليفيد أن فعل الله ثابت ودائم في جميع الأحوال، وفي هذا زيادة في التنكيل والتعذيب، ومن ذلك قوله تعالى:{فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة: 87) يقول الزمخشري في بيان السر البلاغي للمخالفة في الآية: "فإن قلتَ: هلا قيل: وفريقًا قتلتم؟ قلتُ: هو على وجهين؛ أن تراد الحال الماضية؛ لأن الأمر فظيع، فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، وأن يُراد: وفريقًا تقتلونهم بعد؛ لأنكم تحومون حول قتل النبي صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم". انتهى.
وبهذا يتضح لك أن المقام قد يقتضي عدم تناسب الجملتين فيما ذُكر، وعندئذ يكون الحسن فيما اقتضاه المقام ودعا إليه الحال.
على أن ما ذكرناه آنفًا من أن الواو لما فيها من معنى المغايرة، فهي تؤذن بالاستقلال، يعني أن القائل عندما يقول: جاء زيد وغلامه يسعى بين يديه، قد أخبر إخبارين؛ أخبر بمجيء زيد ثم بحاله عند المجيء، وهذا من شأنه أن يُؤكد جملة الحال، وأن يفيد شدة لصوقها بصاحبها، أما إذا قال القائل: جاء زيدٌ غلامه يسعى بين يديه، فهو يُخبر خبرًا واحدًا؛ يخبر عن مجيءٍ هذه حاله وتلك هيئته، تأمل قول عبد القاهر:"وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن كل جملة وقعت حالًا، ثم امتنعت من الواو؛ فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها، فضممته إلى الفعل الأول في إثباتٍ واحد، وكل جملة جاءت حالًا ثم اقتضت الواو، فذاك لأنك مستأنف بها خبرًا وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأول في الإثبات". تفسير هذا: أنك إذا قلت: جاءني زيدٌ يسرع، كان بمنزلة قولك: جاءني زيدٌ مسرعًا، في أنك تثبت مجيئًا فيه إسراعٌ، وتصل أحد المعنيين بالآخر، وتجعل الكلام خبرًا واحدًا، وتريد أن تقول: جاءني كذلك، وجاءني بهذه الهيئة.
وإياك أن يلتبس عليك الأمر، تظن أن جملة الحال قد انفصلت بهذه الواو عن صاحبها، وتباعدت عنه، إن الأمر على عكس هذا؛ لأن هذه الواو قد قربت الحال من صاحبها وأبرزتها جلية واضحة شديدة الالتصاق به، مؤكدة الانتساب إليه، وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الجملة الحالية قد يجب اقترانها بالواو وقد يمتنع وقد يجوز، فإذا كانت الحال جملة فعلية فعلها مضارع مثبَت غير مقرون
بـ"قد" امتنع اقترانها بالواو، كما في قول الله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 28) وقوله عز وجل: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام: 110) وقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} (الليل: 17، 18)، أما ما جاء من نحو قول العرب: قمت وأصك عينه، وقول عنترة:
علفتها عرضًا وأقتل قومها
…
زعمًا لعمرو أبيك ليس بمزعم
فقيل: إن ما في المثال شاذّ، وما في البيت إنما هو وما جاء على شاكلته ضرورة، وقيل: إنه على حذف المبتدأ والتقدير: قمت وأنا أصك، علقتها عرضًا وأنا أقتل، وهكذا، وإن كان المضارع مقرونًا بـ "قد" وجب اقتران الجملة بالواو، كما في قول الله تعالى:{وإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (الصف: 5) وكقولك: لمَ لم تستعد وقد ترحل غدًا؟ وإن كان المضارع منفيًّا جاز أمران؛ اقتران الجملة بالواو وترك الواو، والمضارع المنفي يظل مضارعًا إذا كان النفي بغير لمْ ولمّا، أما المنفي بلم أو لما فهو ماضٍ معنى؛ لأن لمْ ولمّا يقلبانه إلى الماضي وهو أي المنفي بلمْ ولمّا، مما يجوز فيه الأمران أيضًا، فمما جاء بالواو قوله تعالى:{فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ} (يونس: 89) في قراءة من قرأ بتخفيف النون؛ أي: لا أخوّف به.
وقولهم: يصيب ولا يدري، ويقول ولا يفعل، وهكذا، فـ "كان" في هذه الشواهد تامة بمعنى وجد، وقد اقترنت الجملة الحالية بالواو كما ترى وفعلها مضارع منفي، ومما جاء بغير الواو قوله:{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} (المائدة: 84) وقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 75)، وكذلك إذا كانت الجملة
الحالية جملة فعلية فعلها ماضٍ لفظًا أو معنى، جاز الأمران أيضًا؛ اقترانها بالواو وعدم اقترانها، والماضي لفظًا لا يقع حالًا إلا وهو مقرون بـ"قد" ظاهرة أو مقدرة، والماضي معنى هو المضارع المنفي بلمْ أو لمّا، فمما جاء بالواو قوله تعالى:{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} (آل عمران: 40) وقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} (مريم: 8) ومما جاء فعلها ماضيًا معنى وقد اقترن بالواو أيضًا قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (الأنعام: 93) وقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مريم: 20)، وإذا كانت جملة الحال اسمية فالأولى أن تأتي بالواو كقولك: جاء زيدٌ وعمرو أمامه، وأتاني وسيفه في يده، وكقول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقد يأتي بدون الواو كقولك: كلمته فوهُ إلى فيّ، ورجع عوده على بدئه، فإن كان المبتدأ في الجملة الحالية ضميرَ صاحب الحال وجبت الواو، ولا تصلح جملة الحال بدونها البتة، كقولك: جاء زيد وهو راكب، ودخلت عليه وهو يُملي الحديث، فلا يجوز أن تقول: جاء زيد هو راكب، ولا دخلت عليه هو يملي الحديث، ومن ذلك قول الله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22) وقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187) وإن كان الخبر في الجملة الحالية ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا، وقُدّم على المبتدأ كثر فيها أن تجيء بغير الواو، كقولك: قَدِم المقاتل على كتفه سيف، وأقبل في يده سوط، ويقلّ مجيئها عندئذ بالواو، كقولك: جاء وعليه
ثوب، ومرّ وفي يده سيف، وقد جاءت في النظم الكريم بالواو وبدونها، كما في قوله:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} (الحجر: 4) وقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} (الشعراء: 28).
إلى هنا ينتهي حديثنا عن باب الفصل والوصل، وقد عرفنا كم كان له من أهمية جليلة في معرفة أسرار ووجوه الفصل بين الجمل والمفردات أو الوصل فيما بينها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.