المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أغراض حذف المفعول - البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها

- ‌فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته

- ‌أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها

- ‌تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة

- ‌الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة

- ‌معنى الفصاحة والبلاغة

- ‌العيوب المخلة بفصاحة الكلمة

- ‌فصاحة الكلام

- ‌فصاحة المتكلم

- ‌الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري

- ‌ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم

- ‌مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ

- ‌المراد بعلم المعاني، وما يعنى به

- ‌أحوال الإسناد الخبري

- ‌الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري

- ‌أضرب الخبر

- ‌مراعاة حال المتكلم

- ‌التجوز في الإسناد

- ‌الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

- ‌تعريف الحقيقة العقلية

- ‌المجاز العقلي وعلاقاته

- ‌الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته

- ‌قرينة المجاز العقلي

- ‌بلاغة المجاز العقلي

- ‌الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر

- ‌حذف المسند إليه

- ‌ذكر المسند إليه

- ‌الدرس: 8 تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالإضمار

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية

- ‌تعريف المسند إليه باسم الإشارة

- ‌الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

- ‌تعريف المسند إليه بـ"أل

- ‌تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة

- ‌الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع

- ‌(تنكير المسند إليه

- ‌توابع المسند إليه

- ‌الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه

- ‌(تقديم المسند إليه

- ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

- ‌الدرس: 12 أحوال المسند

- ‌أغراض حذف المسند وذكره

- ‌قرائن حذف المسند

- ‌أسباب ذكر المسند في الكلام

- ‌الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض تنكير المسند

- ‌أغراض تعريف المسند

- ‌أسرار تقديم المسند

- ‌المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم

- ‌أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات

- ‌الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض حذف المفعول

- ‌تقديم المفعول على العامل

- ‌الدرس: 15 الأساليب الإنشائية

- ‌التعريف بالأسلوب الإنشائي

- ‌أقسام الأسلوب الإنشائي

- ‌أسلوب الأمر

- ‌أسلوب النهي

- ‌الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية

- ‌أسلوب الاستفهام

- ‌من أدوات الاستفهام "هل

- ‌بقية أدوات الاستفهام

- ‌أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي

- ‌الدرس: 17 مبحث القصر

- ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

- ‌أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه

- ‌الدرس: 18 تابع: مبحث القصر

- ‌العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن

- ‌ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء

- ‌ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما

- ‌رابع طرق القصر: التقديم

- ‌من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية

- ‌الدرس: 19 باب: الفصل والوصل

- ‌باب: الوصل والفصل بين المفردات

- ‌باب: الوصل والفصل بين الجمل

- ‌الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل

- ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

- ‌مواضع الوصل بين الجمل

- ‌الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب

- ‌الإيجاز، وأنواعه

- ‌المساواة والإطناب

- ‌صور الإطناب

الفصل: ‌أغراض حذف المفعول

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الرابع عشر

(تابع: أحوال متعلقات الفعل)

‌أغراض حذف المفعول

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، كما نعوذ به من سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله وبعد:

فحديثنا -بمشيئة الله تعالى- عن باقي أحوال متعلقات الفعل، وأعني بذلك: أغراض حذف المفعول، وتقديم المفعول ونحوه من المتعلقات على العامل، وسر تقديم بعض المتعلقات على بعض.

فقد أبرز الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) ما يكمن وراء حذف المفعول به من دقائق ولطائف، وعندما ترجع إلى كتابه المذكور؛ يتبين لك أن كل مَن جاء بعده من البلاغيين قد استمدوا وأفادوا من حديثه عن المفعول، ومن تجليته لما يكمن وراء حذفه من مزايا وأسرار بلاغية.

ومعلوم أن الفعل اللازم لا يحتاج إلى مفعول، نحو: فرح محمد، وسعد علي، وبكَى عمرو، وشقي الكافر؛ ولذا لا يدخل معنا في حذف المفعول؛ إذ لا مفعول له أصلًا، إلا إذا عديته بالهمزة أو بالتضعيف، فقلت: أسعدت عليًّا، وأبكيتُ عمرًا، وأشقيت فلانًا، فعندئذ يصير الفعل متعديًا ويجري عليه ما يجري على الفعل المتعدي من أحكام.

والفعل المتعدي: له مفعول يقع عليه، ولا يحذف ذلك المفعول، ويرد الفعل بدونه إلا لأغراض بلاغية وأسرار دقيقة يقتضيها المقام، منها:

أن يكون الغرض من التركيب إثبات المعنى الذي اشتق منه الفعل لفاعله، أو نفيه عنه، من غير نظر إلى تعلقه بمفعول معين، وعندئذٍ يكون الفعل المتعدي كاللازم في أنك لا ترى له مفعولًا لا لفظًا ولا تقديرًا، تقول: فلان يحل ويعقد، ويعطي ويمنع، ويأمر وينهى، ويضر وينفع، وتقول: محمد يعطي، ويبذل ويضيف

ص: 321

ويقري. فالمراد من ذلك: إثبات المعاني التي اشتقت منها الأفعال لفاعليها دونما نظر إلى تعلقها بمفعول ونحوه. وكأنك تريدأن تقول صار فلان بحيث يكون منه الحل والعقد، والإعطاء والمنع، والأمر والنهي، والضر والنفع، والإعطاء والإبذال، والإقراء والضيافة، صار أهلًا لذلك.

ولو أثبت المفعول، فقلت مثلًا: يعطي الذهب أو الدراهم؛ لضاع هذا الغرض؛ إذ ينصرف الذهن إلى نوع المعطى لا إلى جنس الإعطاء؛ ولذا فإنك عندما تريد بِطِي المفعول هذا الغرض، وهو: إثبات المعنى في نفسه للفاعل، فإنك لا تنظر إلى المفعول المطوي، ولا تلتفت إليه ولا تخطره ببالك، ولا تقدره؛ إذ المقدر كالمذكور، ومما ورد في النظم الكريم قوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9). فالمعنى -والله تعالى أعلم-: هل يستوي مَن له علم ومن لا علم له، من غير أن يقصد النص على معلوم.

وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم:43، 44)، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (النجم: 48). فالمراد: أنه هو الذي منه الإضحاك والإبكاء، والإحياء والإماتة، والإغناء والإقناء، دون قصد إلى مفعول يقع عليه الفعل. وكذا قوله:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 258). أي: يكون منه الإحياء والإماتة دون نظر إلى مَن أحيا ولا إلى مَن أمات.

وقوله عز وجل: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17). فالمفعول المطوي في: {يُبْصِرُونَ} من قبيل المتروك المطروح الذي لا يلتفت إليه، ولا يخطر بالبال، ولا يقدر. إذ المراد: وتركهم في ظلمات لا يتأتى الإبصار منهم. وقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22). أي: وأنتم يقع منكم العلم وتتصفون به.

ص: 322

وقوله كذلك: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام: 110). أي: ونتركهم في ضلالهم يترددون حائرين متصفين بالعمى، وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلا للشيء، وأن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه أو لا يكون إلا منه أو لا يكون منه، فإن الفعل لا يعدى هناك؛ لأن تعديته تنقض الغرض، وتغير المعنى. كذا في (الدلائل).

فمثال الإخبار بأن الفاعل مِن شأنه أن يكون منه الفعل قولك: هو يعطي، إذا أريد التوكيد وتقوية الحكم لا القصر. وقولك: يعطي محمد، ويكرم خالد. ومثال الإخبار بأن الفعل لا يكون إلا من الفاعل: قولك: هو يعطي، هو يحل ويعقد، إذا أردت بتقديم المسند إليه القصر.

ومثال الإخبار بأن الفعل لا يكون من الفاعل: قولك: هو لا يعطي، فلان لا يحل ولا يعقد، وتأمل بعدئذ قول الله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} (القصص:23، 24). تجد أن المفعول قد طُوي في أربعة مواضع، إذ المعنى: وجد عليه أُمةً من الناس يسقون غنمهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما؛ حتى يصدر الرعاء، وقالتَا: لا نسقي غنمنا، فسقى لهما غنمهما، ولكن هذا التقدير غير مراد؛ فالمفعول لا يلتفت إليه في الآيات، ولا يخطر بالبال ولا يُنوَى؛ لأن إرادته وتقديره يؤديان إلى خلاف المراد.

يقول الإمام عبد القاهر: لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره، ويؤتَى بالفعل مطلقًا؛ وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من

ص: 323

الناس في تلك الحال سَقْي، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتَا: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي. فأما ما كان المسقى أغنمًا أم إبلًا أم غيرَ ذلك؟ فخارج عن الغرض وموهم خلافَه؛ فذلك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما، جاز أن يكون لم ينكر الذود، لا من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان مكان الغنم الإبل لم ينكر الذود، ثم إنك إذا قلت: ما لك تمنع أخاك؟ كنتَ منكرًا المنع، لا من حيث هو منع بل من حيث هو منع أخ.

انتهى من كلام عبد القاهر في (الدلائل).

وقد يكون الغرض من طي المفعول والسكوت عنه هو إثبات المعنى في نفسه للفاعل دون قصد إلى مفعول معين، إلا أن هذا الإثبات المطلق يستلزم إثباتًا مقيدًا، انظر مثلًا إلى قول البحتري يمدح الخليفة المعتز، ويعرِّض بالمستعين:

شجو حساده وغيظ عُداه

أن يرى مبصرٌ ويسمع واع

فالمعنى: إنما يؤلم حساده، ويغيظ أعداءَه أن يوجد في الدنيا مَن يرى ويسمع، من يرى مبصر ويسمع واعْ؛ لأنه إذا وجد من يرى ويسمع فسوف يرى قطعًا مآثرَه وأمجاده، وسوف يسمع لا محالة عن محاسنه وسيرته، فقد اشتهرت محاسنه وذاعت مآثره، بحيث لا تخفى على من يسمع ويرى؛ لأنها ملأت الآفاق، وحلت بكل موضع. والذي يحزن حساده ويغيظ أعداءَه -يعرِّض بالمستعين- أن يوجد من يرى ومن يسمع؛ لأن وجوده يستلزم أن يسمع أخبار المعتز، وأن يرى فضائله ومحاسنه.

ولذا يذكر الخطيب: أن الفعل مطلقًا قد جُعل كنايةً عن الفعل مقيدًا بمفعول مخصوص، إذ بين مجرد الرؤية والسماع، وبين رؤية المحاسن وسماع الأخبار تلازم وارتباط. كذا كذا ذكره الخطيب في (الإيضاح)

ص: 324

ومن جيد ذلك قول عمرو بن معد يكرب:

فلو قومي أنطقتني رماحهم

نطقت ولكن الرماح أجرت

فهنا يقصد قومه بالجبن والفرار، وأنهم لم يبلوا في الحرب بلاء، ولم يصنعوا شيئًا يستحقون به الحمد والثناء. فما كان منه قد حبس لسانه وقطعه عن النطق مشيدًا بهم، ولو كان منهم جهاد وبلاء حسن لنطق وأشاد به. هذا هو المعنى، وتجد الشاعر قد سكت عن المفعول وطواه في قوله: ولكن الرماح أجرت؛ لأن غرضه: أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسنة عن النطق، ولو قال: أجرتني لجاز أن يتوهم أنها أجرت لسانه هو دون ألسنة غيره، وأن الرماح قد صنعت شيئًا لو أبصره غير عمرو؛ لأشاد به ونطق، فلما كان في تعدية أجرت ما يوهم ذلك، وقف فلم يعد البتة ولم ينطق بالمفعول؛ لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرماح، ويصحح أنه كان منها، وتسلم بكليتها لذلك. كذا في (الدلائل).

ويرى الخطيب: أن غرض الشاعر أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسنة عن النطق بمدحهم والافتخار بهم؛، حتى يلزم بطريق الكناية مطلوبه، وهو أنها أجرت لسانه هو، فإثبات الإجرار للرياح مطلقًا يستلزم إطلاقه مقيدًا. كذا في (الإيضاح).

ولا يخفى عليك، أن الاعتداد بالمعنى المكنى به أولى وأبلغُ في تحقيق مراد الشاعر من الاعتداد بالمعنى المكنى عنه؛ ولذا كان رأي عبد القاهر أدق، وعباراته وتحليلاته لطي المفعول أولى بالقبول، وما كان أغنى الخطيب عن القول بالكناية، وعن ذلك التحديد القائل للمغزى من الحذف. إن ما ذكره مستمد من كلام عبد القاهر، ومحاولة لإيجازه وتحديده، ولكنه إيجاز مخل، وتحديد قد قتل روح التذوق والاستمتاع.

ص: 325

هذا، وقد يُقصد بحذف المفعول الإيضاح بعد الإبهام، وهذا غرض جليل؛ لأن الشيء إذا أُبهِم تطلعت النفوس إليه واشتاقت لمعرفته، فإذا ما بين بعد ذلك وقع في النفس موقعًا حسنًا، وترك فيها أثرًا طيبًا.

ويكثر هذا الحذف في مفعول المشيئة أو الإرادة الواقعة بعد "لو"، و"إن" ونحوهما من أدوات الشرط. كما ترى في قول الله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9). إذ المعنى: ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين. فحذف مفعول: {شَاءَ} ؛ لدلالة جواب الشرط عليه، وفي هذا الحذف إبهام يعقبه إيضاح وتبيين؛ لأن المخاطب إذا سمع قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ} (النحل: 93). تعلقت نفسه بشيء قد أبهم وهو مفعول: {شَاءَ} ، وتطلعت إلى معرفته، فإذا ما ذكر الجواب:{لَهَدَاكُمْ} استبان ذلك الشيء، وعرف بعد أن كان قد أبهم؛ ولذا كان أوقع في النفس وأبلغ وأشد تأثيرًا.

وكذا القول في الآيات الكريمة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (الأنعام: 35)، {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الشورى: 24)، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (الشورى: 32، 33)، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السجدة: 13) فقد حُذف مفعول المشيئة في الآيات الكريمة وتقديره: لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، لئن يشأ الله الختم على قلبك يختم، لئن يشأ الله إسكان الريح أسكنها، لو شئنا إتيان كل نفس هداها لآتينا. ولا يخفى عليك ما في حذف المفعول، ثم دلالة الجواب عليه من الإيضاح بعد الإبهام؛ فهذا مما يجعل المعنى يقر في النفس ويثبت ويقع منها موقعًا حسنًا.

ص: 326

ومن ذلك قول طرفة بن العبد:

فإن شئتَ لم ترقل وإن شئت أرقلت

مخافةَ ملوى من القد مُحصد

لم تَرقل: لم تسرع، والمَلوى: هي الصوت المفتول المحكم، كذلك المحصد، والقد: أي: الجلد المشقوق. يتحدث طرفة عن ناقته فيقول: إن شئت الإرقال أرقلت، وإن شئت عدم الإرقال لم ترقلي، فطوى مفعول المشيئة في الموضعين، كما ترى وفي طيه إبهام أزاله وأبهمه جواب الشرط، ومثله قول البحتري:

لو شئتَ لم تفسد سماحة حاتم

كرمًا ولم تهدم مآثرَ خالد

يصف ممدوحه: بأنه قد بلغ الغاية في الكرم والمجد، حتى فاق شهرة حاتم وخالد فيهما. والأصل لو شئت عدم إفساد سماحة حاتم وعدم هدم مآثر خالد لم تفسد ولم تهدم، فأبهم بحذف المفعول ثم بين بجواب الشرط.

يقول عبد القاهر: الأصل: لا محالة، لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم حذف ذلك من الأول؛ استغناءً بدلالته في الثاني عليه، ثم هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة، وهو على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة ألا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلى اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعتَ فيه إلى ما هو أصله، فقلت: لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها صِرت إلى كلام غث، وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس، وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له أبدًا لطفًا ونبلًا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك. وأنت إذا قلت: لو شئت، علِم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء، وهو يضع في نفسه أن ها هنا شيئًا تقتضي مشيئته له أن يكون أو لا يكون، فإذا قلت: لم تفسد سماحة حاتم، عرف ذلك الشيء.

كذا في (الدلائل).

ص: 327

ثم اقرأ قول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال: 31). أي: لو نشاء أن نقول مثل هذا لقلناه. وقوله عز وجل: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: 39). أي: مَن يشأ إضلاله يضلله، ومن يشأ أن يجعله على صراط مستقيم يجعله، فلن يخفى عليك ما في حذف المفعول من دقة وجمال؛ مردهما إلى ما يتركه الإيضاح بعد الإبهام في النفس من وقع طيب وأثر حسن، هذا إذا لم يكن في تعلق فعل المشيئة أو الإرادة بالمفعول به غرابة، وذلك بأن يكون المفعول من الأمور العجيبة الغريبة، أو من الأمور البعيدة التي نادرًا ما تقع. فإن كان الأمر كذلك وجب ذِكر المفعول؛ ليتقرر في نفس السامع ويأنس به.

انظر مثلًا إلى قول أبي الهندام الخزاعي في النساء:

قضى وطرًا منك الحبيب المودع

وحل الذي لا يُستطاع فيدفع

ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته عليه

ولكن ساحة الصبر أوسعُ

لما كان بكاء الدمع من الأمور العجيبة الغريبة، وكانت إرادة الإنسان بأن يبكي دمًا أعجبَ وأغربَ، فقد ذكره الشاعر؛ ليتقرر في نفس الشاعر ويأنس به؛ لأنه عندئذٍ يكون قد ذكره مرتين؛ مرة مفعولا للمشيئة، ومرة جوابًا للشرط، والشيء إذا كرر فإنه يتقرر في النفس وتأنس به وتسكن إليه، خاصةً وأن غرابة المفعول تقتضي هذا التقرير، ويكون الإنسان مخبِرًا عن عزة نفسه مفتخرًا بعلو مكانته: لو شئت أن أرد على الأمير لرددت، ولو شئتُ أن ألقَى الخليفة كل يوم للقيته، تراه قد ذكر مفعول المشيئة؛ لكونه من الأمور المستبعدة التي تكبرها النفس، ولا تقرها بسهولة. فالأمر إذن يحتاج إلى تقرير وتأكيد؛ ولذا ذكر المفعول، وكرر ذكره ثانيةً في الجواب.

ص: 328

ومن ذلك: قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الزمر: 4). فاتخاذ الله ولدًَا من الأمور الغريبة العجيبة، وقد آثر النظم الكريم التعبير عن ذلك بأسلوب الشرط "لو": هو حرف امتناع لامتناع ردعًا وزجرًا لأولئك الذين قالوا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} (البقرة: 116){وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30){وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) وقال المشركون: الملائكة بنات الله. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. فلو كان المفعول بهذه الغرابة ورد ذكره بهذه الإرادة -كما ترى -. أما قول أبي الحسين علي بن أحمد الجوهري أحد شعراء الصاحب بن عباد:

فلم يبقِ من الشوق غير تفكري

فلو شئتُ أن أبكي بكيت تفكرًا

فليس مفعول المشيئة فيه غريبًا؛ لأن المراد بالبكاء المذكور بعد شئت بكاء الدمع لا بكاء التفكر المذكور في الجواب، فالشاعر لم يرد أن يقول: فلو شئت أن أبكي تفكرًا بكيت تفكرًا، ولكنه أراد أن يقول: أثناني النحول حتى لو شئت بكاء فبريت جفوني، وعصرت عيني؛ ليسيل منهما دمع لم أجده، ولخرج بدل الدمع التفكر، فالبكاء الثاني لا يصلح أن يكون تفسيرًا للبكاء الأول لو حذف. ومراد الشاعر لا يتم إلا بذكر مفعول المشيئة، وليس المعنى هنا في هذا البيت كالمعنى في بيت أبي الهندام؛ لأن البكاء هناك في الموضعين بكاء دم، أما هنا، فالأول: بكاء دموع، والثاني: بكاء تفكر. فلا يصلح الثاني دليلًا على الأول، ونظيره أن تقول:، لو شئت أن تعطي درهمًا أعطيت درهمين، فالثاني وهو جواب الشرط، لا يصلح أن يكون تفسيرًا للأول، وهو مفعول شئت؛ لأن الأول إعطاء درهم، والثاني إعطاء درهمين.

ص: 329

ولا نبعد إذا قلنا: أن الغرابة في بيت الجوهري في جواب الشرط بكيت تفكرًا، وأنه لغرابته لا يدل على مفعول المشيئة لو حذف؛ ولذا وجب ذكره حتى لا يضيع غرض الشاعر كما بينا.

قد يقصد بحذف المفعول تهيئة العبارة لوقوع الفعل على صريح لفظ المفعول؛ إظهارًا لكمال العناية بوقوعه عليه، انظر إلى قول البحتري يمدح المعتز:

قد طلبنا فلم نجد لك

في السؤدد والمجد والمكارم مثلًا

يريد أن يقول: قد بحثنا لك عن شبيه في صفاتك العالية، فأجهدنا البحث، وأضنانا دون أن نعثر على هذا الشبيه، فأنت فردٌ في صفاتك لا نظير لك ولا مثيل. وتجد الشاعر قد حذف مفعول طلب؛ ليتسنى له أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل؛ لأن نفي الوجود هو الأصل في المدح والغرض منه، أما الطلب فكالشيء يذكر ليبنَى عليه الغرض، ويؤكد به أمره. ولو قيل: قد طلبنا لك مثلًا في السؤدد والمجد والمكارم، فلم نجده لوقع الفعل طلب على صريح لفظ المفعول، والفعل المنفي الذي هو الغرض الأصلي للمديح فلم نجد على ضميره. وفرق بين أن يقع الفعل على صريح اللفظ، وأن يقع على ضميره.

من أجل هذا؛ حذف الشاعر مفعول طلب؛ لأن حذفه يمكنه من أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المفعول، وشيء آخر تراه وراء حذف المفعول في البيت وهو: البيان والإيضاح بعد الإبهام، فحذف مفعول طلب قد جعل السامع يشغل به ويبحث عنه، فلما ذكر مع الفعل الثاني فلم نجد وقع في نفسه موقعًا حسنًا؛ لأنه جاء والنفس متطلعة إليه ومنشغلة به.

ومزية ثالثة تجدها وراء هذا الحذف وهي: مراعاة الأدب في مقام المدح، فالشاعر كان حذرًا ولطيفًا؛ إذ تحاشى أن يواجه الممدوح بأنه يطلب له نظيرًا، ويبحث عن

ص: 330

مثيل له، بل أشار إلى ذلك إشارةً خاطفةً، ولم يمد القول، وكأنه يريد أن يطويه سريعًا؛ ليصل إلى الغرض الأصلي من المدح وهو: نفي وجود المثل.

كذا في (الإيضاح).

وتأمل معي قول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة، وينفي عن نفسه مدح اللئام:

ولم أمدح لأرضيه بشعري

لئيمًا أن يكون أصاب مالًا

ولكن الكِرام لهم ثنائي

فلا أجزي إلى ما قيل قال

تجد أنه لما كان الغرض الأصلي أن ينفي عن نفسه مدح اللئام، وكان الإرضاء تعليلًا له، فقد ذكر الشاعر المفعول في الموضعين؛ وذلك ليقع نفي المدح على صريح لفظ اللئيم، ويقع الإرضاء على ضمير، ولو أنه حذف مفعول أمدح فقال: ولم أمدح لأرضي بشعري لئيمًا لما تحقق غرضه، ولتوهم متوهم أنه يريد أن ينفي عن نفسه إرضاء اللئيم، وأن هذا هو أصل كلامه وغرضه منه، وليس هذا في الحقيقة مراد الشاعر، بل مراده أن ينفي عن نفسه مدح اللئام؛ ليوقع في نفس ممدوحه أن ما يسمعه من شعر لا يعرف إلا الكرام، وأنه ليس موكلًا إلا بهم.

فالمقام في بيت البحتري قد اقتضى أن يحذف مفعول طلبه؛ ليقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، واقتضى في بيت ذي الرمة أن يذكر مفعولًا لأمدح ولأرضي؛ ليقع نفي المدح على صريح لفظ اللئيم أيضًا.

وقد يقصد بحذف المفعول دفع توهم غير المراد ابتداءً، ووقوع المعنى الذي يريده المتكلم في نفس مخاطبه من أول الأمر، كما في قول البحتري يمدح أبا الصقر الشيباني في قصيدته التي مطلعها:

أعن سَفهٍ يوم الأبيرق أم حلم

وقوف بربع أو بُكاء على رسم

ص: 331

قال مخاطبًا أبا الصقر:

وكم زدت عني من تحامل حادث

وصورة أيام حززنا إلى العظم

يريد أن يقول: إن الممدوح طالما دفع عنه عوادي الزمن، ورد عنه طغيان أيام ضربته فأوجعته، حتى بلغت في قسوتها الغاية فقوله: حززنا إلى العظم، كناية عن بلوغها الغاية في شدة، وتلاحظ أن الشاعر قد حذف مفعول حز وتقديره: حززنا اللحم إلى العظم، وهو يريد بهذا الحذف أن يقع المعنى في نفس السامع ابتداءً، إذ لو ذكر المفعول فقال: حززنا اللحم؛ لتوهم أن الحز كان ضعيفًا، وأنه أصاب بعض اللحم مما يلي الجلد ولم يصل إلى العظم، فما دفعه عنه الممدوح إذن شيء يسير، وليس صورة أيام وأحداث قد تحاملت عليه، فإذا ما وصل السامع إلى قوله: إلى العظم، اندفع هذا التوهم وزال.

ولكن الشاعر الحاذق هو الذي يوقع المعنى في ذهن سامعه من أول وهلة ولا يجعله يتصور في أول الأمر شيئًا غير مراد، ثم ينصرف إلى المراد.

يقول عبد القاهر: الأصل لا محالة: حززنا اللحم إلى العظم، إلا أن في مجيئه به محذوفًا وإسقاطه له من النطق وتركه في الضمير مزية عجيبة وفائدة جليلة، وذلك أن مَن حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعًا يمنعه به من أن يتوهم في بدء الأمر شيئًا غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد، ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال: وصورة أيام حززنا اللحم إلى العظم لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجيء إلى قوله: إلى العظم، أن هذا الحز كان في بعض اللحم دون كله، وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم، ولما كان كذلك ترك ذكر اللحم وأسقطه من اللفظ؛ ليبرئ السامعَ من هذا، ويجعله بحيث يقع المعنى منه على أنف الفهم، أي: في أوله؛ لأن أنف الشيء أوله.

ص: 332

ويتصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلى العظم.

انتهى من كلام عبد القاهر في (الدلائل).

قد يحذف المفعول؛ لإرادة التعميم والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر دون غيره، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (يونس: 25) تجد أن المفعول قد حذف؛ لإفادة العموم، وأن الدعوة ليست مقصورةً على أحد دون آخر، بل تتعدَّى إلى كل من تتأتَّى دعوتهم، فالمراد -والله أعلم- يدعو كل أحد تصلح دعوته إلى الجنة.

وتقول أنت لصاحبك: قد كان منك ما يؤلم، أي: ما الشأن في مثله أن يؤلم كل أحد، فحذفك المفعول أفاد التعميم؛ مبالغةً في إيلام ما كان منه، فهو من الشدة بحيث يؤلم كل أحد. ولو ذكرت المفعول، فقلت: قد كان منك ما يؤلمني؛ لفاتت تلك المبالغة المطلوبة.

وتأمل قول البحتري: إذا بعدت أَبْلت وإذ قربت شفت، وهجرانها يبلي ولقيانها يشفي، تجده قد حذف المفعول في أربعة مواضع، والتقدير: إذا بعدت عني أبلتني وإن قربت مني شفتني فهجرانها يبليني ولقيانها يشفيني، والحذف -كما ترى- قد أفاد المبالغة وعموم الفعل، وصور أن بعدها يبلي كل أحد فهو البِلَى والداء المضني، وأن قربها ولقيانها هو الشفاء والبُرء من كل داء.

واقرأ مع ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1).

يقول الزمخشري: وفي قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا} من غير ذكر مفعول، وجهان؛ أحدهما: أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم، والثاني: ألا

ص: 333

يقصد قصد مفعول ولا حذفه، ويتوجه بالنهي إلى نفس التقدمة، كأنه قيل: لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل ولا تجعلوه منكم بسبيل، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (المؤمنون: 80). ويجوز أن يكون من قدم بمعنى: تقدم.

كذا في (الكشاف).

وقد يحذف المفعول؛ حتى لا يقع عليه الفعل؛ وذلك لمزية بلاغية وهدف يقصد إليه المتكلم. وانظر في ذلك إلى قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (الفرقان: 41). فالأصل: أهذا الذي بعثه اللهُ رسولًا، فحذف المفعول وهو الضمير العائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحذف ينبئ بحقد المشركين على النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ويصور مدى كراهيتهم له، حتى كأنهم لا يطيقون النطق بالبعث واقعًا عليه، فهم يتحاشون مجرد النطق بالبعث منسوبًا إليه، فضلًا عن الإيمان بذلك والتصديق.

وخذ قول الله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1: 3). فقد حذف المفعول، وهو الضمير العائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما تقديره: وما قلاك؛ وذلك لصونه عن نسبة القلي إليه؛ متحاشيًا لوقوع الفعل: {قَلَى} على ضمير المخاطب، ولو كان هذا الفعل منفيًا؛ لأن في ذلك ما يوحش بخلاف:{وَدَّعَكَ} فليس التوديع كالقلي. وحذف المفعول في الآية له مزية أخرى وهو رعاية الفاصلة والمحافظة على التنغيم الصوتي؛ لما له من قوة تأثير في النفوس، وذلك عندما يقتضيه المقام ويتطلبه المعنى، وهذا هو شأن الفواصل في النظم الكريم، هي تأتي تابعة للمعنى ومحققة لما يقتضيه المقام.

وعندما يتطلب المعنى ويقتضي المقام التخلي عن تتابع الفواصل؛ تجد الفاصلة قد قطعت وما يقتضيه المعنى قد أُقِر وأثبت، واقرأ قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي

ص: 334

أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} (الكهف:1، 2). فقد حذف مفعول: {لِيُنْذِرَ} والأصل: لينذر الذين كفروا بأسًا شديدًا؛ وذلك حتى لا يقع الإنذار على الذين كفروا فيكون في هذا تنفير لهم من قبول الهدى والإيمان بالحق. فحذف المفعول فيه ترغيب لهم في قبول الهداية والإيمان، واستمالة لهم نحو الحق والنور المبين.

ومن ذلك قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (الأعراف: 143). فالمراد: -والله أعلم- أرني ذاتك، فحذف المفعول؛ حتى لا تقع عليه الرؤية؛ إذ الذات العلية لا تقع عليها الرؤية المحيطة كما تقع على الأشياء، وإنما هي تجليات؛ ولذا قال موسى عليه السلام:{رَبِّ أَرِنِي} ؛ ليفيد قصده دون أن تقع الرؤية على الذات الإلهية؛ لأن هذا شيء لا يليق بالجلال. ففي مثل هذه الأمور الهائلة، وفي تلك المقامات الربانية ينبغي أن يكون الطلب تلميحًا وإيماء، ولا يليق أن يكون تصريحًا مكشوفًا.

كذا في (الخصائص والتراكيب).

وقد يحذف المفعول؛ استهجانًا لذكره والتصريح به. كما ترى في قول عائشة رضي الله عنها:، ((كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، فما رأيت منه ولا رأى مني)). تريد رؤية العورة.

وقد يحذف لمجرد الاختصار والإيجاز؛ حيث تدل عليه القرينة دلالة بينة جلية. فيعد ذكره عندئذٍ عبثًا، كما تقول: أصغيت إليه، تريد: أذني، وأغضيت عنه، تريد: بصري.

ص: 335