المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ جواز الإجماع - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌ جواز الإجماع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ اتِّفَاقُ جُمْلَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي عَصْرٍ مَا عَلَى حُكْمِ وَاقِعَةٍ مِنَ الْوَقَائِعِ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ.

قَالَ: وَنَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ الِاشْتِرَاكَ، إِمَّا فِي الْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، أَوِ الِاعْتِقَادِ. وَبِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ: الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ: الشَّرْعِيَّاتِ، وَالْعَقْلِيَّاتِ، وَالْعُرْفِيَّاتِ.

قَوْلُهُ: «وَأَنْكَرَ قَوْمٌ جَوَازَهُ» أَيْ:‌

‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

مِنْ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ «عَقْلًا» أَيْ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى حُكْمِ وَاقِعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَقَلِّينَ.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ» أَيْ: جَوَازُ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى حُكْمٍ مَا «ضَرُورِيٌّ» أَيْ: مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.

قَوْلُهُ: «فَإِنْكَارُهُ» أَيْ: حَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ جَوَازَ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ ضَرُورِيٌّ، فَإِنْكَارُ جَوَازِهِ «عِنَادٌ» لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الضَّرُورِيَّاتِ عِنَادٌ.

نَعَمْ. هَؤُلَاءِ اسْتَبْعَدُوا وُقُوعَهُ مَعَ كَثْرَةِ الْعِبَادِ وَتَبَاعُدِ الْبِلَادِ وَاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ، فَظَنُّوا الِاسْتِبْعَادَ اسْتِحَالَةً.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْوُقُوعُ يَسْتَلْزِمُهُ» هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِهِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ وَقَعَ، وَالْوُقُوعُ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ، أَيْ: يَدُلُّ عَلَيْهِ

ص: 7

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ الْجَوَازَ لِلْوُقُوعِ، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ، أَمَّا وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ «فَكَالْإِجْمَاعِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ» الْخَمْسِ، وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ، وَوَاجِبَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَحْكَامٍ أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، وَفِيهَا لَا يَخْتَلِفُونَ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِالتَّوَاتُرِ، لَا بِالْإِجْمَاعِ.

قُلْنَا: الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا ثَابِتٌ، لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَأَمَّا التَّوَاتُرُ فِيهَا، فَهُوَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ، أَوْ أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ مَعًا، أَوْ مُرَتَّبًا، لَمَّا تَوَاتَرَتْ أُجْمِعَ عَلَيْهَا، أَوْ لَمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهَا، تَوَاتَرَتْ، وَكَيْفَمَا كَانَ، فَالْإِجْمَاعُ فِيهَا ثَابِتٌ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ.

وَأَمَّا أَنَّ الْوُقُوعَ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ، فَلِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مَا هُوَ جَائِزُ الْوُقُوعِ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ مَعَ وُجُودِ الْعَقْلِ، وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَوَعِيدِ الشَّرْعِ الْبَاعِثِ عَلَى الْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ، وَقِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ كَيْفَ يَمْتَنِعُ! هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى جَوَازِهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ وَالتَّسْهِيلِ لَهُ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ هَاهُنَا أُمُورًا لَا يَمْتَنِعُ مَعَهَا وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ:

أَحَدُهَا: وُجُودُ الْعَقْلِ فِي الْمُجْتَهِدِينَ.

ص: 8

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالثَّانِي: نَصْبُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَى الْأَحْكَامِ.

وَالثَّالِثُ: وَعِيدُ الشَّرْعِ الْبَاعِثُ عَلَى الْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالنَّظَرِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ، كَقَوْلِهِ عز وجل: انْظُرُوا {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} [الْأَعْرَافِ: 7 و185] ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ بِالنَّظَرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي النَّظَرِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَالْعَقْلُ يَضْطَرُّ صَاحِبَهُ مَعَ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِ الِاجْتِهَادِ إِلَى النَّظَرِ، وَيَسْتَعِينُ عَلَى دَرْكِ الْحَقِّ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ إِدْرَاكُهُ، خُصُوصًا مَعَ قِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الرَّابِعُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّ مُجْتَهِدِي كُلِّ عَصْرٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ قَلِيلٌ جِدًّا، بِحَيْثُ إِنَّ الْإِقْلِيمَ الْعَظِيمَ، الطَّوِيلَ الْعَرِيضَ، لَا يُوجَدُ فِيهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ، فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَعَ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأُمُورِ، لَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ:» وَاخْتِلَافُ الْقَرَائِحِ عَقْلِيٌّ بِخِلَافِ اخْتِلَافِ الدَّوَاعِي الشَّهْوَانِيَّةِ، إِذْ هُوَ طَبَعِيٌّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا جَلِيٌّ «.

هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَمَشْهُورٍ لِمُنْكِرِي جَوَازِ الْإِجْمَاعِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ اتِّفَاقَ الْمُجْتَهِدِينَ لَوْ جَازَ وُقُوعُهُ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، أَوْ قَطْعِيٍّ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَذْهَانِ وَالْقَرَائِحِ اجْتِمَاعُ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَى مُوجِبِ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَادَةً اتِّفَاقُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الشَّهَوَاتِ وَالدَّوَاعِي عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ اتِّفَاقُهُمْ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ يُبْطِلُ فَائِدَةَ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْقَاطِعَ

ص: 9

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تَتَوَفَّرُ دَوَاعِي نَقْلِهِ، فَيَسْتَحِيلُ خَفَاؤُهُ عَادَةً، فَيَجِبُ ظُهُورُهُ، وَمَعَ ظُهُورِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا كَانَ حُجَّةً لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْقَاطِعِ، وَإِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْقَاطِعِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَانَ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ.

وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّهُ يَجُوزُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَعَنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمْ.

أَمَّا انْعِقَادُهُ عَنِ الظَّنِّيِّ فَجَائِزٌ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ كَمَا سَبَقَ.

قَوْلُكُمْ: يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى مُوجِبِهِ عَادَةً، كَمَا يَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَذْهَانِ وَالْقَرَائِحِ فِي النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ عَقْلِيٌّ، أَيْ: مُسْتَنَدُهُ الْعَقْلُ وَالْعَقْلُ مَعَ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَبَاعِثِ الْوَعِيدِ عَلَى النَّظَرِ يُرْشِدُ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ، لَا يَخْتَلِفُ، فَيَصِحُّ وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ اخْتِلَافِ الدَّوَاعِي الشَّهْوَانِيَّةِ» يَعْنِي شَهَوَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّهُ «طَبَعِيٌّ» أَيْ: مُسْتَنَدُهُ الطَّبْعُ، وَالطِّبَاعُ تَخْتَلِفُ بِحَقَائِقِهَا وَأَعْرَاضِهَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا فِي أُصُولِ الْعَالَمِ، وَمَا رُكِّبَ مِنْهُ.

أَمَّا أُصُولُ الْعَالَمِ أَعْنِي عَالَمَ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَهِيَ الْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعُ فَاخْتِلَافُ طِبَاعِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا مَحْسُوسٌ، إِذِ الْأَرْضُ طَبْعُهَا الْهُبُوطُ التَّامُّ، وَالنَّارُ طَبْعُهَا الصُّعُودُ التَّامُّ، وَالْمَاءُ طَبْعُهُ الْهُبُوطُ الْقَاصِرُ، وَالْهَوَاءُ طَبْعُهُ الصُّعُودُ الْقَاصِرُ، وَالنَّارُ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ، وَالْهَوَاءُ حَارٌّ رَطْبٌ، وَالْمَاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ، وَالْأَرْضُ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ.

وَأَمَّا مَا تَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْعَنَاصِرِ مِنَ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَغَيْرِهِ، وَاخْتِلَافِ

ص: 10

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

طِبَاعِهِ وَأَمْزِجَتِهِ ظَاهِرٌ، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ ذَلِكَ تَخْتَلِفُ شَهَوَاتُهُمْ، فَمِنْهُمُ الْمَحْرُورُ الَّذِي يُؤْثِرُ تَنَاوُلَ الْمُبَرِّدَاتِ، وَالْمَقْرُورُ الَّذِي يُؤْثِرُ تَنَاوُلَ الْمُسَخِّنَاتِ وَذُو الْمِزَاجِ الْيَابِسِ الَّذِي يُؤْثِرُ الْمُرَطِّبَاتِ، وَذُو الْمِزَاجِ الرَّطْبِ الَّذِي يُؤْثِرُ تَنَاوُلَ الْمُجَفِّفَاتِ، لِأَنَّ الضِّدَّ مِنْ ذَلِكَ يُقْمَعُ بِضِدِّهِ، وَتَقْتَضِي الطَّبِيعَةُ تَعْدِيلَ الْمِزَاجِ بِتَنَاوُلِهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ عَلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ وَالْمُرْتَدِّ، وَحَدِّ الزَّانِي، وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَنَحْوِهَا، لِأَنَّا لَمَّا عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ مِنْ حِكْمَةِ الشَّرْعِ، التَّشَوُّفَ إِلَى حِفْظِ النُّفُوسِ، وَالْأَدْيَانِ، وَالْأَنْسَابِ، وَالْعُقُولِ، وَوَرَدَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِعُقُوبَاتِ أَهْلِ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا فِي النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، لَا جَرَمَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُقُوبَاتِ هَؤُلَاءِ، وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَجُزِ الِاتِّفَاقُ عَلَى الِاغْتِذَاءِ بِالْبِطِّيخِ أَوِ الْبَاذِنْجَانِ أَوِ السَّمَكِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، مِنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ هُنَاكَ أَمْزِجَةً لَا تُوَافِقُ هَذِهِ الْمَآكِلَ، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا أَصْحَابُهَا.

وَسِرُّ الْفَرْقِ: أَنَّ الْعَقْلَ أَمْرٌ مُخْتَارٌ، يَدُورُ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ مَا دَارَ، بِخِلَافِ الطَّبْعِ، فَإِنَّهُ مَجْبُورٌ بِقُدْرَةِ الْجَبَّارِ، عَلَى مَا سُخِّرَ لَهُ بِطَرِيقِ الِاضْطِرَارِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لِذَوِي الْأَبْصَارِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:«وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا جَلِيٌّ» .

وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْقَاطِعِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ الْإِجْمَاعِ،

ص: 11

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لِأَنَّهُ كَافٍ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ.

قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: إِنَّمَا يُحْكَمُ بِتَصَوُّرِ وُجُودِهِ» يَعْنِي وُجُودَ الْإِجْمَاعِ «عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عِنْدَ قِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ» يَعْنِي الْإِمْكَانَ الْمَوْقُوفَ عَلَى آرَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْعَادٍ، كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهِ، وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ تَوَسَّطَ بَيْنَ إِحَالَةِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ، وَتَجْوِيزِهِ عَلَى اسْتِبْعَادٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ دَلِيلُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيُّ كَمَا مَرَّ، فَانْتَفَتِ الِاسْتِحَالَةُ، وَقَامَ دَلِيلٌ بَعْدَ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا فِي كُلِّ عَصْرٍ، إِذْ مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ جِدًّا انْتِشَارُ الْحَادِثَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْبِلَادِ الْوَاسِعَةِ، وَبُلُوغُهَا إِلَى الْأَطْرَافِ الشَّاسِعَةِ، لِيَقِفَ عَلَيْهَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ، ثُمَّ يَذْكُرُ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا عَلَيْهِ فِي حُكْمِهَا يَعْتَمِدُ، وَإِلَيْهِ يَسْتَنِدُ ثُمَّ يُطْبِقُونَ فِيهَا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَادَةَ عَلَى هَذَا لَا تُسَاعِدُ، فَلِذَلِكَ ذَهَبَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى مَا ذَهَبَ، وَلَعَمْرِي إِنَّهُ لِنِعْمَ الْمَذْهَبُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَوَادِثِ تَقَعُ فِي أَقَاصِي الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، وَلَا يَعْلَمُ بِوُقُوعِهَا مَنْ بَيْنَهُمَا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَمَا وَالَاهُمَا، فَكَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ الْكُلِّيِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ بِإِجْمَاعٍ جُزْئِيٍّ، وَهُوَ إِجْمَاعُ مُجْتَهِدِي الْإِقْلِيمِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ.

ص: 12

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَمَّا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً، فَمُتَعَذِّرٌ فِي مِثْلِهَا، إِذِ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا فَرْعُ الْعِلْمِ بِهَا، وَالتَّصْدِيقُ مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ، فَمَنْ لَا يَعْلَمُ مَحَلَّ الْحُكْمِ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 13

وَهُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ خِلَافًا لِلنَّظَّامِ فِي آخَرِينَ.

لَنَا: وَجْهَانِ.

الْأَوَّلُ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يُوجِبُ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ، وَهُوَ دَوْرِيٌّ {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ: عُدُولًا {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وَالْعَدْلُ لَا سِيَّمَا بِتَعْدِيلِ الْمَعْصُومِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا حَقٌّ، فَالْإِجْمَاعُ حَقٌّ.

الثَّانِي: مَا تَوَاتَرَ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ مِنْ نَحْوِ: «أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ» ، «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» حَتَّى صَارَ كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وَجُودِ حَاتِمٍ.

وَيَرِدُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهَا ظَوَاهِرُ، وَعَلَى الثَّانِي مَنْعُ التَّوَاتُرِ بِدَعْوَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا شُبِّهَ بِهِ، ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِهِ وَهُوَ ظَنِّيٌّ إِذْ يَحْتَمِلُ: لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالِةِ الْكُفْرِ، وَالْأَجْوَدُ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقَاطِعِ إِجْمَاعًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا لَتَعَارَضَ الْإِجْمَاعَانِ، أَعْنِي الْإِجْمَاعَ عَلَى تَقْدِيمِهِ، وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُهُ، وَلِلنَّظَّامِ مَنْعُ الْأُولَى.

ــ

قَوْلُهُ: «وَهُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، خِلَافًا لِلنَّظَّامِ فِي آخَرِينَ» يَعْنِي: الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلنَّظَّامِ بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَالشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ، قَالُوا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

قَالَ النَّظَّامُ: الْإِجْمَاعُ كُلُّ قَوْلٍ قَامَتْ حُجَّتُهُ، وَنُسِبَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ شَنَاعَةَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

ص: 14

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «لَنَا» أَيْ: عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ «وَجْهَانِ» أَيْ: طَرِيقَانِ أَوْ مَسْلَكَانِ: «الْأَوَّلُ» : مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النِّسَاءِ: 115] ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَوَعَّدَ بِالنَّارِ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ «يُوجِبُ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ» وَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمْرٍ، كَانَ سَبِيلًا لَهُمْ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ دَوْرِيٌّ» أَيِ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ، عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ دَوْرِيٌّ، أَيْ: يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ، لِأَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ لَيْسَتْ قَاطِعَةً فِي الدِّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهَا ظَاهِرَةٌ، لَكِنَّ الظَّوَاهِرَ إِنَّمَا ثَبَتَ كَوْنُهَا حُجَّةً بِالْإِجْمَاعِ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً بِالظَّوَاهِرِ، لَزِمَ الدَّوْرُ.

قُلْتُ: يُمْكِنُ مَنْعُ لُزُومِ الدَّوْرِ هَاهُنَا بِأَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّوَاهِرَ إِنَّمَا كَانَتْ حُجَّةً بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ بِالْوَضْعِ وَالْعُرْفِ اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُ الظَّوَاهِرَ فِي كَلَامِهَا، وَتَتَفَاهَمُ بِهَا مَقَاصِدَهَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِجْمَاعٌ، ثُمَّ وَرَدَتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، فَسَلَكْنَا فِي الِاحْتِجَاجِ بِظَوَاهِرِهَا نَهْجَهُمْ فِي ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ الْمَذْكُورُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [الْبَقَرَةِ: 143]

ص: 15

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

«أَيْ: عُدُولًا» خِيَارًا، كَذَلِكَ قَالَ أَئِمَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ:

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْوَسَطُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: أَعْدَلُهُ، وَقَالَ تَعَالَى:{جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ: عَدْلًا، وَيُقَالُ أَيْضًا: شَيْءٌ وَسَطٌ، أَيْ: بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ: عُدُولًا.

قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: قِيلَ لِلْعَدْلِ: وَسَطٌ، لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي أَخْلَاقِهِ.

وَقِيلَ: شُبِّهَ بِوَسَطِ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِمَّا يَلْحَقُ الْأَطْرَافَ مِنَ الْآفَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسَطِ الْعُدُولُ، قَوْلُهُ تَعَالَى:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الْبَقَرَةِ: 143] أَيْ: لِتَشْهَدُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْأُمَمِ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ بَلَّغُوهُمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَأَحْكَامِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسَطِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، خُصُوصًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، عَلَى ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ: وَهُوَ الْعَدْلُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَسَطَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الْعَدْلُ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَصْفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْمَدْحُ إِذَا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ يَكُونُ صَوَابًا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَصْفَ بِالْعَدَالَةِ، إِمَّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ

ص: 16

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لِمَجْمُوعِهِمْ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِوُجُودِ آحَادِ الْفُسَّاقِ فِيهِمْ كَثِيرًا، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْوَصْفَ بِالْعَدَالَةِ لِمَجْمُوعِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، لِأَنَّ قَائِلَ غَيْرِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ يَكُونُ كَاذِبًا، وَالْكَاذِبُ لَا يَكُونُ عَدْلًا.

وَيَرِدُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الصَّوَابَ وَالْحَقَّ؛ تَارَةً يَكُونُ عَنْ إِخْبَارٍ، فَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ وُجُودُهُ فِي الْأُمَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْعَدَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ جُعِلُوا وَسَطًا لِيَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ، وَالشَّهَادَةُ إِخْبَارٌ، وَتَارَةً يَكُونُ الصَّوَابُ وَالْحَقُّ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنَ الْوَصْفِ بِالْعَدَالَةِ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي الصَّوَابِ النَّظَرِيِّ، لَا فِي الصَّوَابِ الْإِخْبَارِيِّ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110]، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْمَدْحُ إِذَا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ، وَالصَّوَابُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ، مِنْ أَنَّ الصَّوَابَ النَّظَرِيَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاللَّامُ فِيهِمَا لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالْعُمُومِ، أَيْ: يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَفُوتَهُمْ حَقٌّ وَلَا صَوَابٌ، لَا يَأْمُرُونَ بِهِ، وَلَا يَفُوتَهُمْ بَاطِلٌ وَلَا خَطَأٌ، لَا يَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا اتَّفَقُوا

ص: 17

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلَيْهِ، وَتَآمَرُوا بِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَكُلَّ مَا اتَّفَقُوا عَلَى نَفْيِهِ، وَتَنَاهَوْا عَنْهُ بَاطِلٌ وَخَطَأٌ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ مِنْ لَوَازِمِ إِجْمَاعِهِمْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَيَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:(تَأْمُرُونَ) وَ (تَنْهَوْنَ) مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ، فَيَصْدُقُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ اللَّامَ فِي الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، أَوْ لِبَعْضِ الْجِنْسِ، لِاسْتِحَالَةِ نَهْيِهِمْ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ فِي الْوُجُودِ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ.

قَوْلُهُ: «وَالْعَدْلُ» إِلَى آخِرِهِ هَذَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

{جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [الْبَقَرَةِ: 143] وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ سبحانه وتعالى أَخْبَرَ أَنَّ الْأُمَّةَ عُدُولٌ، وَ «الْعَدْلُ» لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا حَقٌّ فَالْإِجْمَاعُ حَقٌّ «لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْهُمْ» لَا سِيَّمَا «إِذَا كَانَ الْعَدْلُ عَدْلًا» بِتَعْدِيلِ الْمَعْصُومِ «فَيَكُونُ الْحَقُّ لَازِمًا لَهُ، لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَصَرُّفِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ النَّظَرِيَّ لَا يَلْزَمُ ضَرُورَةً عَنِ الْعَدْلِ، بَلِ الْحَقُّ الْإِخْبَارِيُّ هُوَ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْعَدَالَةِ.

الثَّانِي: مِنَ الْمَسْلَكَيْنِ فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ:» مَا تَوَاتَرَ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ مِنْ نَحْوِ: أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ إِلَى آخِرِهِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ صَادِرٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ وَالْمَعْصُومُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا الصَّوَابُ.

ص: 18

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَمَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ صَادِرٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، فَلِمَا سَبَقَ فِي حَدِّهِ، وَلِأَنَّ الْفَرْضَ ذَلِكَ، وَنَعْنِي بِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ مَجْمُوعَ مُجْتَهِدِيهَا، لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، إِذْ إِلَيْهِمْ إِبْرَامُ أُمُورِهِمْ وَنَقْضُهَا، وَحَلُّهَا وَعَقْدُهَا، وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ شَاحَّ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ؛ الْتَزَمْنَا قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي اعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ الْخَصْمَ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.

وَأَمَّا أَنَّ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ، فَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ النَّبَوِيَّةَ فِي عِصْمَتِهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا، وَاشْتِرَاكِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ نَفْيُ الْخَطَأِ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الضَّلَالَةِ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ بِالَّذِي يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ وَفِي لَفْظٍ: «عَلَى الْخَطَأِ» وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ، فَأَعْطَانِيهَا، أَيْ: أَعْطَانِي تِلْكَ الْخَصْلَةَ الْمَطْلُوبَةَ. مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَلَا

ص: 19

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يُبَالِي بِشُذُوذِ مَنْ شَذَّ، مَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ، فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ،

ص: 20

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، مَنْ خَرَجَ عَنِ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ، شَذَّ فِي النَّارِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ، تَنَاقَلَهَا الْأَئِمَّةُ، وَتَدَاوَلُوهَا، مُتَلَقِّينَ لَهَا بِالْقَبُولِ، غَيْرَ مُنْكِرِينَ لِشَيْءٍ مِنْهَا، حَتَّى صَارَتْ لِتَوَاتُرِهَا الْمَعْنَوِيِّ كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ، وَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عِصْمَةَ الْأُمَّةِ مِنَ الْخَطَأِ.

وَأَمَّا أَنَّ الْمَعْصُومَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا الصَّوَابُ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْمَعْصُومِ وَمَفْهُومُهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الصَّادِرَ عَنِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ صَوَابٌ، وَالصَّوَابُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ حُجَّةً.

قَوْلُهُ: «وَيَرِدُ عَلَى الْأَوَّلِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْمَسْلَكَيْنِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِمَا عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَاتِ الثَّلَاثِ، فَيَرِدُ عَلَيْهِ «أَنَّهَا ظَوَاهِرُ» لَا قَوَاطِعُ فِي الدِّلَالَةِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْإِجْمَاعُ الْقَاطِعُ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يَصْلُحُ

ص: 21

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مُسْتَنَدًا لِلْقَوِيِّ، وَهَذَا عَيْنُ السُّؤَالِ الدَّوْرِيِّ الَّذِي سَبَقَ إِيرَادُهُ وَجَوَابُهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، فَيَرِدُ عَلَيْهِ مَنْعُ تَوَاتُرِهَا التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ بِدَعْوَى الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا شُبِّهَتْ بِهِ، مِنْ شَجَاعَةِ عَلِيٍّ، وَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا عَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا الْأَخْبَارَ الْمُدَّعَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، وَالْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى شَجَاعَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَجَدْنَاهَا يَعْنِي الْعُقُولَ لَا تُصَدِّقُ بِالْأَوَّلِ كَتَصْدِيقِهَا بِالثَّانِي، بَلْ تَصْدِيقُهَا بِالثَّانِي أَقْوَى بِكَثِيرٍ جِدًّا، وَلَوْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً، لَسَاوَتْ أَخْبَارَ عَلِيٍّ وَحَاتِمٍ فِي قُوَّةِ التَّصْدِيقِ بِهَا، لِأَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ كَمَا سَبَقَ، وَالْإِدْرَاكُ الْعِلْمِيُّ لَا يَتَفَاوَتُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْلَ جَازِمٌ بِوُجُودِ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمِصْرَ، وَبَغْدَادَ، وَالْبَصْرَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُتَوَاتِرَةِ جَزْمًا مُتَسَاوِيًا، لِتَوَاتُرِهَا، بِخِلَافِ الْبَصْرَةِ وَضَيْعَةٍ مِنْ ضِيَاعِ الْعِرَاقِ، يُقَالُ لَهَا: صَرْصَرَا، وَغَيْرِهَا مِنَ الضِّيَاعِ، فَإِنَّ الْجَزْمَ بِهِمَا غَيْرُ مُتَسَاوٍ، لِعَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي التَّوَاتُرِ، فَإِنَّ صَرْصَرَا، لَمْ يَقَعِ الْجَزْمُ بِهَا إِلَّا عِنْدَ مَنْ عَايَنَهَا، أَوْ قَرُبَ مِنْهَا، فَتَوَاتَرَتْ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الْبَصْرَةِ; فَإِنَّهُ يُصَدِّقُ بِهَا مَنْ قَرُبَ وَمَنْ بَعُدَ، فَإِنْ وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ تَفَاوُتًا بَيْنَ التَّصْدِيقِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ; وَأَنَّهُ بِمَكَّةَ أَشَدُّ تَصْدِيقًا; فَلَيْسَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى حَقِيقَةِ الْجَزْمِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى طُرُقِ الْإِخْبَارِ بِمَكَّةَ، فِي كُلِّ عَامٍ، عَلَى لِسَانِ

ص: 22

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَنْ يَقْصِدُهَا مِنْ وُفُودِ الْحَاجِّ; أَمَّا الْجَزْمُ، فَحَقِيقَتُهُ لَا تَتَغَيَّرُ، وَلَا تَتَفَاوَتُ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَوَجَدْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ أَخْبَارِ عَلِيٍّ وَحَاتِمٍ، وَالْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِصْمَةِ الْأُمَّةِ ; دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً، لِأَنَّ أَخْبَارَ عَلِيٍّ وَحَاتِمٍ مُتَوَاتِرَةٌ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ دُونَهَا فِي جَزْمِ الْعَقْلِ بِمُوجِبِهَا، وَمَا دُونَ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَكُونُ مُتَوَاتِرًا.

سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَخْبَارَ الْمَذْكُورَةَ مُتَوَاتِرَةٌ، لَكِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعُمُومِهَا وَهُوَ يَعْنِي الْعُمُومَ ظَنِّيٌّ لَا قَاطِعٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةِ الْكُفْرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِصْمَتُهَا مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ أَخَصُّ مِنَ الْخَطَأِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْأَخَصِّ انْتِفَاءُ الْأَعَمِّ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا اتَّجَهَ حَمْلُ الضَّلَالَةِ عَلَى الْكُفْرِ، حُمِلَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ وَجُعِلَ الْكُفْرُ مُبَيِّنًا لَهُ. وَقَوْلُهُ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ حَدِيثٌ لَيْسَ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُرْوَى. وَبَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْجَمَاعَةِ، لَا لِأَنَّ الصَّوَابَ الِاجْتِهَادِيَّ لَازِمٌ لَهَا، بَلْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعُ لِلْهَيْبَةِ فِي نَفْسِ عَدُوِّ الْإِسْلَامِ، وَأَجْدَرُ بِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَالِاحْتِرَازِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الْقَاصِيَةَ شَبَّهَ الشَّيْطَانَ بِالذِّئْبِ، وَالْمُنْفَرِدَ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِالشَّاةِ الْمُتَخَلِّفَةِ عَنْ

ص: 23

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

جَمَاعَةِ الْغَنَمِ، فَيَحْكُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ حُكْمَ الذِّئْبِ عَلَى الْقَاصِيَةِ.

وَلِهَذَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا مَخَافَتِي مِنَ الْوَسْوَاسِ، لَسَكَنْتُ بِلَادًا لَا أَنِيسَ بِهَا، وَهَلْ يُهْلِكُ النَّاسَ إِلَّا النَّاسُ. وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَدِلَالَتِهَا عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا يُنَاقِضُهَا، مِمَّا حَالُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالشُّهْرَةِ مِثْلُ حَالِهَا، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَتَفَرَّقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّتَهُ تَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، فَالْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ لَوْ دَلَّتْ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، لَكَانَتْ إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى عِصْمَةِ جَمِيعِهَا، أَوْ عَلَى عِصْمَةِ بَعْضِهَا.

وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ دَلَّ عَلَى خَطَأِ أَكْثَرِهَا، وَهُوَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ مِنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فِي النَّارِ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا، بَلْ لَا يَكُونُ صَالِحًا، فَضْلًا عَنْ مَعْصُومٍ.

ص: 24

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ مُجْتَهِدِي ذَلِكَ الْبَعْضِ لَيْسُوا جَمِيعَ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ ; بَلْ هُمْ مُجْتَهِدُو جُزْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْأُمَّةِ، إِذْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فِيهَا مُجْتَهِدُونَ، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ. وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ تَقْدِيرُ أَحَادِيثِكُمْ: لَا يَجْتَمِعُ مُجْتَهِدُو فِرْقَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ، وَهُوَ خَبْطٌ عَظِيمٌ، وَصَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ أَكْثَرِ مَضْمُونِهِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمَسْلَكَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يَنْهَضَانِ بِالدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ.

قَوْلُهُ: «وَالْأَجْوَدُ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقَاطِعِ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَالْأَجْوَدُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ هَذَا الْمَسْلَكُ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّصِّ الْقَاطِعِ، مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً قَاطِعَةً «لَتَعَارَضَ الْإِجْمَاعَانِ أَعْنِي الْإِجْمَاعَ عَلَى» تَقْدِيمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى النَّصِّ الْقَاطِعِ «وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُهُ» وَتَعَارُضُ الْإِجْمَاعَيْنِ مُحَالٌ.

قَوْلُهُ: «وَلِلنَّظَّامِ مَنْعُ الْأُولَى» أَيْ: مَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: الْإِجْمَاعُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّصِّ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ هُوَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ، إِذِ النِّزَاعُ مَعَهُ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ تَفْسِيرِهِ الْإِجْمَاعَ بِكُلِّ قَوْلٍ

ص: 25

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَامَتْ حُجَّتُهُ، فَإِذَا قَامَتْ حُجَّةُ النَّصِّ، كَانَ مُقَدَّمًا عِنْدَهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ الِاتِّفَاقِيِّ، إِذْ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَهُ.

وَحِينَئِذٍ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقَاطِعِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَعَارُضُ الْإِجْمَاعَيْنِ، ثُمَّ اسْتِحَالَةُ تَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، فَيَكُونُ دَوْرًا وَمُصَادَرَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ.

ص: 26

وَقِيلَ: لَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ فِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى خَالَفَ النَّظَّامُ، وَالْإِجْمَاعُ قَبْلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِإِجْمَاعٍ سُكُوتِيٍّ ضَعِيفٍ عَلَى قَطْعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ.

وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى بَاقِي الْأَدِلَّةِ، لَا بِمَعْنَى الْجَازِمِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِلَّا لَمَا اخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِ مُنْكِرِ حُكْمِهِ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ فِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى خَالَفَ النَّظَّامُ، وَالْإِجْمَاعُ قَبْلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ» .

هَذَا دَلِيلٌ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّظَّامِ فِي نَفْيِ ذَلِكَ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، لَمْ يَزَالُوا يَتَمَسَّكُونَ عَلَى صِحَّةِ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ خِلَافًا فِي التَّمَسُّكِ بِهِ، حَتَّى ظَهَرَ النَّظَّامُ فَخَالَفَ فِيهِ، وَيَسْتَحِيلُ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَةِ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَكَرِّرَةِ، مَعَ اخْتِلَافِ فِطَرِهِمْ، وَتَفَاوُتِ مَذَاهِبِهِمْ فِي الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ،

ص: 27

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَذَلِكَ قَاطِعٌ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ، بِأَنَّهُمْ ظَفِرُوا بِقَاطِعٍ، دَلَّ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ النَّظَّامِ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ خِلَافُهُ مُعْتَبَرًا، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقَاطِعِ.

قَوْلُهُ: «إِلَّا أَنَّهُ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَمْشِيَةٌ لِمَذْهَبِ النَّظَّامِ بِتَوْهِينِ مَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِ، مِنَ الْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ مُتَّجِهٌ بِالْجُمْلَةِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ «إِلَّا أَنَّهُ تَمَسُّكٌ بِإِجْمَاعٍ سُكُوتِيٍّ ضَعِيفٍ عَلَى قَطْعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ» أَيْ: عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً قَاطِعَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مَا زَالُوا يَتَمَسَّكُونَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ خِلَافًا ; هُوَ مَعْنَى الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ، وَهَلْ ذَلِكَ إِلَّا إِثْبَاتُ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ، كَمَا سَبَقَ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ بِالظَّوَاهِرِ.

وَاحْتَجَّ الْآمِدِيُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ: بِأَنَّ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى حُكْمٍ، وَجَزَمُوا بِهِ، وَبَلَغَ عَدَدُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، اسْتَحَالَ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يَتَنَبَّهَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِيمَا حَكَمُوا بِهِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ بِحُكْمِ الْعَادَةِ عَلَى إِصَابَتِهِمْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

ص: 28

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ تَخْتَصُّ بِمَا إِذَا بَلَغَ الْمُجْمِعُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَقَصُوا عَنْهُ.

قُلْتُ: هَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ السَّابِقَةُ فِي قَوْلِنَا: وَقِيلَ: لَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ حَتَّى خَالَفَ النَّظَّامُ، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ بُلُوغِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، بَلِ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ عَادَةً إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ، قَضَتِ الْعَادَةُ بِصَوَابِهِمْ فِيهِ. أَمَّا اشْتِرَاطُ التَّوَاتُرِ، فَغَيْرُ مُتَّجِهٍ، لِأَنَّ عَدَدَهُ غَيْرُ مَحْصُورٍ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِعَدَدِ التَّوَاتُرِ الْعَدَدُ الَّذِي إِذَا أَخْبَرَ، حَصَّلَ خَبَرُهُ الْعِلْمَ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ حَاصِلٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، عِنْدَ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ، لَا بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ عَنِ الْإِخْبَارِ.

وَحِينَئِذٍ لَا يُعْلَمُ الْعَدَدُ الَّذِي لَوْ أَخْبَرَ، لَأَفَادَ خَبَرُهُ الْعِلْمَ مَا هُوَ.

قَوْلُهُ: «وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً» إِلَى آخِرِهِ.

لَمَّا سَبَقَ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، وَكَانَ الْقَاطِعُ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، كَقَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ، وَتَارَةً يُطْلَقُ عَلَى مَا يَجِبُ امْتِثَالُ مُوجِبِهُ قَطْعًا، وَلَا يَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُ شَرْعًا ; أَحْبَبْتُ أَنْ أُبَيِّنَ مَا الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إِجْمَالٍ وَاحْتِمَالٍ.

وَمَعْنَى كَوْنِهِ حُجَّةً قَاطِعَةً: أَنَّ الْعَمَلَ يَجِبُ «بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى بَاقِي الْأَدِلَّةِ» : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، فَيُقَدَّمُ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَمِيعِهَا بِحَيْثُ إِذَا

ص: 29

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَدَلَّ نَصُّ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْقِيَاسِ، أَوْ جَمِيعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ دُونَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بَاقِي الْأَدِلَّةِ، لِدِلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نَصٍّ قَاطِعٍ نَاسِخٍ لِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ، أَوْ مُعَارِضٍ لَهَا رَاجِحٍ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً الْقَطْعَ الْعَقْلِيَّ، وَهُوَ الْجَزْمُ «الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ» لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا بِهَذَا التَّفْسِيرِ، لَمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، لِأَنَّ الْقَوَاطِعَ الْعَقْلِيَّةَ لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا، وَلَا فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَحْكَامَهَا الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا، كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، أَوْ بِنَفْيِ الصَّانِعِ، أَوْ تَوْحِيدِهِ، أَوْ قُدْرَتِهِ، أَوْ عِلْمِهِ، أَوْ بِنَفْيِ النُّبُوَّاتِ، وَدِلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَكِنْ سَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي تَكْفِيرِ مُنْكِرِ الْحُكْمِ الْجَمَاعِيِّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ قَاطِعًا، هُوَ الْقَطْعُ الشَّرْعِيُّ لَا الْعَقْلِيُّ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 30