الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَعْنِي: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِوَصْفٍ فِي الْأَصْلِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ اسْتِقْلَالَهُ بِالْحُكْمِ، بَلْ بِانْضِمَامِهِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، كَالْحُرِّيَّةِ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالتَّكْلِيفِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ؛ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَإِنِ ادَّعَى اسْتِقْلَالَهُ بِالْحُكْمِ كَوَصْفِ الرُّجُولِيَّةِ فِي الْمُرْتَدِّ، وَالطَّعْمِ مَعَ الْكَيْلِ فِي الرِّبَا؛ «كَفَى الْمُسْتَدِلَّ» فِي جَوَابِ الْمُعْتَرِضِ «بَيَانُ رُجْحَانِ مَا ذَكَرَهُ» أَعْنِي الْمُسْتَدِلَّ «بِدَلِيلٍ» يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِهِ أَوْ بِتَسْلِيمٍ مِنَ الْمُعْتَرِضِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ عَدَمِ مُنَاسَبَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ رُجْحَانِ مَا ذَكَرَهُ هُوَ وَأَوْلَوِيَّتُهُ، وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ تَعْلِيلَ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ بِتَبْدِيلِ الدِّينِ أَرْجَحُ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِوَصْفِ الرُّجُولِيَّةِ، وَأَنَّ تَعْلِيلَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ بِالْكَيْلِ أَوِ الطَّعْمِ مَثَلًا، أَرْجَحُ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِغَيْرِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ بِطُرُقِهِ سَهْلٌ يَسِيرٌ.
قَوْلُهُ: «وَأَمَّا فِي الْفَرْعِ» . هَذَا أَحَدُ قِسْمَيِ الْمُعَارَضَةِ، وَهِيَ إِمَّا فِي الْأَصْلِ، وَإِمَّا فِي الْفَرْعِ.
أَيِ:
الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ
تَكُونُ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ دَلِيلٍ آكَدَ مِنْ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قِيَاسُهُ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ أَوِ الْإِجْمَاعَ. وَهَذَا هُوَ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ: رُكْنٌ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَالسُّجُودِ، فَيَقُولُ لَهُ الْخَصْمَ: هَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالرَّفْعِ مِنْهُ» ، فَيَكُونُ قِيَاسُكَ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ. أَوْ يَقُولُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَقِيَاسُكَ عَلَى خِلَافِهِ، فَيَكُونُ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ.
قَوْلُهُ: «وَإِمَّا بِإِبْدَاءِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ مَانِعٍ لِلْحُكْمِ فِيهِ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ» .
هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي تَكُونُ بِهِ الْمُعَارَضَةُ، وَهُوَ أَنْ يُبْدِيَ الْمُعْتَرِضُ فِي فَرْعِ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ وَصْفًا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ، أَوْ يَمْنَعُ سَبَبِيَّةَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ، أَيْ: يَمْنَعُ كَوْنَ وَصْفِهِ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ.
وَحَاصِلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُبَيِّنُ مَا يَمْنَعُ عِلَّةَ الْمُسْتَدِلِّ، أَوْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَفَرْعِهِ.
مِثَالُ مَنْعِ الْحُكْمِ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ: رُكْنٌ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الْيَدِ كَالسُّجُودِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: رُكْنٌ، فَيُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الْيَدِ كَالْإِحْرَامِ، فَقَدْ مَنَعَ الْحُكْمَ وَهُوَ عَدَمُ مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَقَاسَهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْقَلْبِ، وَهُوَ نَوْعُ مُعَارَضَةٍ كَمَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمَثَالُ مَنْعِ السَّبَبِيَّةِ: أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْمُرْتَدَّةِ: بَدَّلَتْ دِينَهَا، فَتُقْتَلُ كَالرَّجُلِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: أُنْثَى، فَلَا تُقْتَلُ بِكُفْرِهَا، كَالْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ تَبْدِيلَ الدِّينِ لَيْسَ سَبَبًا لِقَتْلِ الْمَرْأَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمُتْلَفِ: مَالٌ مَمْلُوكٌ لِمَعْصُومٍ، فَيُضْمَنُ بِكَمَالِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْأَلْفِ كَالْبَهِيمَةِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: إِنْسَانٌ مَعْصُومٌ، فَلَا يَزِيدُ بَدَلُهُ عَلَى الْأَلْفِ كَالْحُرِّ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلَّةُ فِي ضَمَانِهِ كَوْنَهُ مَالًا بَلْ كَوْنَهُ إِنْسَانًا مَعْصُومًا، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْعَ السَّبَبِيَّةِ أَعَمُّ مِنْ مَنْعِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ مَنْعَ سَبَبِيَّةِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ قَدْ يَلْزَمُهُ مَنْعُ الْحُكْمِ بِأَنْ لَا يَكُونَ صَالِحًا لِإِثْبَاتِهِ إِلَّا هُوَ، وَلَا وَصْفَ الْمُعْتَرِضِ الَّذِي يُبْدِيهِ، وَقَدْ لَا يَلْزَمُهُ مَنْعُ الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْمُعْتَرِضِ صَالِحًا لِإِثْبَاتِهِ خَالَفَ الْوَصْفَ الْمُسْتَدِلَّ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ مَنَعَ الْحُكْمَ، احْتَاجَ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهِ مَانِعًا إِلَى مِثْلِ طَرِيقِ الْمُسْتَدِلِّ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ» فِي عِلَّتِهِ وَأَصْلِهِ وَقُوَّةِ عِلَّتِهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مِثَالِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ حَيْثُ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: رُكْنٌ فَلَا يَرْفَعُ فِيهِ الْيَدَيْنِ كَالسُّجُودِ، فَالسُّجُودُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ رُكْنٌ، وَالْعِلَّةُ وَصْفٌ شَبَهِيٌّ، وَهُوَ كَوْنُ الرُّكُوعِ رُكْنًا كَالسُّجُودِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: رُكْنٌ فَيَرْفَعُ فِيهِ الْيَدَيْنِ كَالْإِحْرَامِ، فَالْإِحْرَامُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ رُكْنٌ، وَالْعِلَّةُ أَيْضًا وَصْفٌ شَبَهِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَارِضَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَاوِمًا لِلْمُعَارَضِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - وَلَا يُقَاوِمُهُ إِلَّا إِذَا سَاوَاهُ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَوْصَافِهِ الْخَاصَّةِ.
يَعْنِي أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ، أَوْ يَمْنَعَ سَبَبِيَّةَ الْوَصْفِ الَّذِي عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ. وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَبْقَى احْتِمَالُ حِكْمَةِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ مَعَ مَا أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ أَوْ لَا يَبْقَى، «فَإِنْ بَقِيَ احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ» «وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ» ، أَيْ: وَلَوْ كَانَ احْتِمَالًا بَعِيدًا، لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْمُسْتَدِلَّ، لِأَنَّ احْتِمَالَ حِكْمَةِ وَصْفِهِ بَاقٍ، وَالْوَصْفُ مَظِنَّةٌ لَهُ، وَقَدْ أَلِفْنَا مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهُ يَكْتَفِي فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ مَظِنَّتِهِ، وَمُجَرَّدِ وُجُودِ احْتِمَالِ حِكْمَتِهِ، وَهَذَا حَاصِلٌ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ إِلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لِلْوَصْفِ الَّذِي أَبْدَاهُ بِالِاعْتِبَارِ حَتَّى يَقْوَى عَلَى إِبْطَالِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْسُوسِ: شَخْصٌ جَاءَ يُكَابِرُ شَخْصًا عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ دَارِهِ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ، وَبَقِيَ عِيَالُهُ وَرَحْلُهُ فِيهَا، فَيَحْتَاجُ الْمُكَابِرُ لَهُ إِلَى قَطْعِ عَلَائِقِهِ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْهَا. أَوْ إِنْسَانٌ نَازَعَ شَخْصًا رَاكِبًا بَهِيمَةً عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ، فَأَنْزَلَهُ عَنْهَا، وَبَقِيَ خُرْجُهُ عَلَيْهَا، أَوْ مِقْوَدُهَا فِي يَدِهِ، فَيَحْتَاجُ الْمُنَازِعُ إِلَى إِلْقَاءِ خُرْجِهِ عَنْهَا، أَوْ فَكِّ مِقْوَدِهَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوِيَا بِالنِّسْبَةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِلَيْهَا، وَإِلَّا فَمَا دَامَ لِرَاكِبِهَا بِهَا عَلَقَةٌ كَانَ أَحَقَّ بِهَا، فَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ إِذَا عُورِضَ، وَبَقِيَتْ حِكْمَتُهُ، كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُعْتَرِضُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ وَصْفِهِ، فَيَسْتَوِيَانِ حِينَئِذٍ فِي الِاعْتِبَارِ أَوِ السُّقُوطِ.
وَمِثَالُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ فِي النَّبِيذِ: مُسْكِرٌ فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِتَحْرِيمِهِ أَوْ: غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَلَا يَحْرُمُ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ، فَيُقَالُ لَهُ: الْحِكْمَةُ فِي الْإِسْكَارِ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَالْمُسْكِرُ مَظِنَّةٌ لَهَا، وَذَلِكَ كَافٍ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ عَمَلًا بِوُجُودِ الْمَظِنَّةِ حَتَّى تَأْتِيَ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُعْتَرِضُ بِشَاهِدٍ عَلَى اعْتِبَارِ وَصْفِكَ وَهُوَ أَنَّ مَا لَيْسَ مَقْطُوعًا بِتَحْرِيمِهِ، أَوْ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ لَا يَكُونُ حَرَامًا. وَإِنْ لَمْ تَبْقَ حِكْمَةُ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ مَعَ مَا أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ، لَمْ يَحْتَجْ - يَعْنِي الْمُعْتَرِضَ - إِلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ بِالِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ تَابِعٌ لِبَقَاءِ الْحِكْمَةِ، لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهَا، وَمَعَ انْتِفَاءِ الْمَقْصُودِ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْوَسِيلَةِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَسْأَلَةُ ضَمَانِ الْعَبْدِ وَنَظَائِرُهَا مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ، فَإِنَّ الْأَشْبَاهَ قَدْ تَتَعَادَلُ، فَلَا تَبْقَى حِكْمَةُ شُبَهِ الْمُسْتَدِلِّ، كَمَا إِذَا قَالَ: مَالٌ لِمَعْصُومٍ، فَيُضْمَنُ بِكَمَالِ قِيمَتِهِ كَالْبَهِيمَةِ، فَالْحِكْمَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْعَدْلِ بِجَبْرِ مَا فَاتَ مِنْ مَالِ الْمَالِكِ بِقِيمَةِ الْفَائِتِ، فَإِذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ: إِنْسَانٌ مَعْصُومٌ، فَلَا يَزِيدُ بَدَلُهُ عَلَى الْأَلْفِ كَالْحُرِّ؛ كَانَتْ هَذِهِ حِكْمَةً مُقَاوِمَةً، أَوْ مُقَارِبَةً لِلْأُولَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ بَدَلَ الْإِنْسَانِ الْمَعْصُومِ أَلْفًا، فَالزَّائِدُ عَلَيْهِ افْتِئَاتٌ عَلَيْهِ، فَطَعَنَ فِي حِكْمَتِهِ، وَهَذَا إِنْسَانٌ مَعْصُومٌ، فَلَا يَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ هَهُنَا إِلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ بِالِاعْتِبَارِ لِمُقَاوَمَتِهِ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُرَجِّحَ وَصْفَهُ عَلَى وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ بِأَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتَهُ مُتَّجِهٌ، لَكِنْ مَا ذَكَرْتُهُ أَنَا أَرْجَحُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي بَابِ الضَّمَانِ وَالْإِتْلَافِ أَشْبَهُ بِالْبَهِيمَةِ مِنْهُ بِالْحُرِّ، لِأَنَّ شِبْهَ الْمَالِيَّةِ فِيهِ أَمْكَنُ مِنْ شِبْهِ الْحُرِّيَّةِ لِثُبُوتِ أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ فِيهِ مِنْ وُرُودِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَنَحْوِهَا عَلَيْهِ، وَأَحْكَامُ الْأَحْرَارِ لَا يَتَثَبَّتُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا قَلِيلٌ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، فَكَانَ بِالْمَالِ أَشْبَهَ، فَأُلْحِقَ بِهِ فِي الضَّمَانِ بِقِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ.
قُلْتُ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ هِيَ الْمُقَابَلَةُ عَلَى جِهَةٍ، وَالْمُمَانِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعٌ لِمَقْصُودِ خَصْمِهِ، مُثْبِتٌ لِمَقْصُودِهِ هُوَ، فَإِذًا لِلْمُعَارَضَةِ جِهَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: جِهَةُ مَنْعِ مَقْصُودِ الْمُسْتَدِلِّ فَيَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ فِيهَا إِلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْمَنْعِ بِالدَّلِيلِ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَدِلَّ الْحَنْبَلِيُّ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ: بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ، فَتَشْرَبُ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: مَا ذَكَرْتَ مِنَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الدَّلِيلِ وَإِنْ دَلَّ؛ غَيْرَ أَنَّ عِنْدِي مَانِعًا يُعَارِضُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام: الْهِرَّةُ سَبُعٌ، فَعَمِلْتُ بِحَدِيثِ الْإِصْغَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الْكَرَاهَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا.
الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ لِلْمُعَارَضَةِ: إِثْبَاتُ مَطْلُوبِ الْمُعْتَرِضِ كَمَا ذُكِرَ مِنْ إِثْبَاتِ كَرَاهِيَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ، فَهُوَ مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى مَانِعٌ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُسْتَدِلٌّ، فَبِالضَّرُورَةِ يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى أَنْ يَنْقَلِبَ مُعْتَرِضًا عَلَى اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَرِضِ، لِيَسْلَمَ لَهُ دَلِيلُهُ، فَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِ بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى النَّصِّ، أَوِ الْقِيَاسِ مِمَّا سَبَقَ، فَيَقُولُ هَهُنَا: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. سَلَّمْنَاهُ؛ لَكِنَّ السَّبُعِيَّةَ فِيهِ لَيْسَتْ حَقِيقَةً، بَلْ مَجَازًا شَبَهِيًّا صُورِيًّا، كَمَا يُقَالُ لِلطَّوِيلِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نَخْلَةٌ، لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الطُّولِ، وَلِلْمُعْتَدِلِ وَلِلْقَدِّ: رُمْحٌ لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الِاعْتِدَالِ وَالِاهْتِزَازِ. سَلَّمْنَاهُ؛ لَكِنْ حَدِيثُنَا أَصَحُّ وَأَثْبَتُ، فَيُرَجَّحُ، وَالْمَرْجُوحُ مَعَ الرَّاجِحِ عَدَمٌ فِي الْحُكْمِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ عَلَى النَّصِّ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ قِيَاسًا؛ اعْتَرَضَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِأَسْئِلَةِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورَةِ لِلِاسْتِفْسَارِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْمَنْعِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَسْئِلَةِ عَلَى مَا شُرِحَ فِيهَا.
وَأَصْلُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُعَارَضَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَدِلِّ كَالدَّلِيلِ الِابْتِدَائِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعْتَرِضِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُسْتَدِلًّا مُعْتَرِضًا مِنْ جِهَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ مُنْكِرٌ مِنْ جِهَتَيْنِ.
وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّهَا بِنَاءٌ مِنَ الْمُعْتَرِضِ، إِذْ هِيَ تَقْرِيرُ دَلِيلٍ فِي حُكْمِ الْمُسْتَأْنَفِ، وَوَظِيفَةُ الْمُعْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا لِمَا يَذْكُرُهُ الْمُسْتَدِلُّ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ خِلَافُ وَظِيفَتِهِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ الْمُسْتَدِلُّ مَنْصِبَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا سُؤَالٌ مَقْبُولٌ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِنَاءً فَهِيَ بِنَاءٌ بِالْعَرْضِ، وَهِيَ بِالذَّاتِ هَدْمٌ لِمَا بَنَاهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، فَأَشْبَهَتِ الْمَنْعَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.