الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ
. وَهُوَ: اعْتِقَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا، ثُمَّ قَدْ قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: إِنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَهُوَ هَوَسٌ، إِذْ مَا هَذَا شَأْنُهُ لَا يُمْكِنُ النَّظَرُ فِيهِ لِتُسْتَبَانَ صِحَّتُهُ مِنْ سَقَمِهِ.
وَقِيلَ: مَا اسْتَحْسَنَهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ، فَإِنْ أُرِيدَ مَعَ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَوِفَاقٌ، وَإِلَّا مُنِعَ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَامِّيِّ إِلَّا النَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَحَيْثُ لَا نَظَرَ فَلَا فَرْقَ، وَيَكُونُ حُكْمًا بِمُجَرَّدِ الْهَوَى وَاتِّبَاعًا لِلشَّهْوَةِ فِيهِ، وأَيْضًا مَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ عَقْلِيًّا ضَرُورِيًّا وَلَا نَظَرِيًّا، وَإِلَّا لَكَانَ مُشْتَرَكًا، وَلَا سَمْعِيًّا، إِذْ تَوَاتُرُهُ مَفْقُودٌ وَآحَادُهُ كَذَلِكَ، أَوْ لَا يُفِيدُ.
قَالُوا: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلُ إِلَيْكُمْ، مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا وَاسْتَحْسَنَتِ الْأُمَّةُ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ وَنَحْوِهِ.
قُلْنَا: أَحْسَنُ الْقَوْلِ وَالْمُنَزَّلُ مَا قَامَ دَلِيلُ رُجْحَانِهِ شَرْعًا، وَالْخَبَرُ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ لَا الِاسْتِحْسَانِ، وَإِنْ سُلِّمَ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ، وَسُومِحَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهَا لِعُمُومِ مَشَقَّةِ التَّقْدِيرِ فَيُعْطَى الْحَمَّامِيُّ عِوَضًا إِنْ رَضِيَهُ وَإِلَّا زِيدَ، وَهُوَ مُنْقَاسٌ، وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ الْعُدُولُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ خَاصٍّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ.
وَقَدْ قَرَّرَ مُحَقِّقُو الْحَنَفِيَّةِ الِاسْتِحْسَانَ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَاللَّطَافَةِ، ذَكَرْنَا الْمَقْصُودَ مِنْهُ غَيْرَ هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
قَوْلُهُ: «الثَّالِثُ» ، يَعْنِي مِنَ الْأُصُولِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا «الِاسْتِحْسَانُ» ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحُسْنِ، «وَهُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا» ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: «اعْتِقَادُ الشَّيْءِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حَسَنًا» ، وَلَمْ نَقُلِ: الْعِلْمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ حَسَنًا؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعِلْمُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الِاعْتِقَادُ صَحِيحًا إِذَا طَابَقَ الْوَاقِعَ، وَقَدْ يَكُونُ فَاسِدًا إِذَا لَمْ يُطَابِقْ. وَحِينَئِذٍ قَدْ يَسْتَحْسِنُ الشَّخْصُ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَلَا يَكُونُ حَسَنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَدْ يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ فِي اسْتِحْسَانِهِ.
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ النَّاسِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَبَعْضُهُمْ عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ، وَبَعْضُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهِيَ أُمُورٌ مُسْتَقْبَحَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ
أَيْ: قَدْ يَسْتَحْسِنُ بَعْضُهُمْ مَا لَا يَسْتَحْسِنُ غَيْرُهُ، فَلَوْ قُلْنَا: الْعِلْمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ حَسَنًا، لَخَرَجَ مِنْهُ مَا لَيْسَ حُسْنُهُ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِذَا قُلْنَا:«اعْتِقَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا» ، تَنَاوَلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَدْ قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: إِنَّ مَا سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانِ بِأَنَّهُ «اعْتِقَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا» هُوَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ.
أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَقَدْ «قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: إِنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ» ، أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَنْ يُفْصِحَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، أَيْ: تَعْرِيفُ الِاسْتِحْسَانِ بِهَذَا: «هَوَسٌ» ، أَوْ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُنْقَدِحِ هَوَسٌ، «لِأَنَّ مَا هَذَا شَأْنُهُ» ، أَيْ: لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عَنْهُ «لَا يُمْكِنُ النَّظَرُ فِيهِ لِتُسْتَبَانَ» ، أَيْ: لِتُخْتَبَرَ «صِحَّتُهُ مِنْ سَقَمِهِ» .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْهَوَسُ بِالتَّحْرِيكِ طَرَفٌ مِنَ الْجُنُونِ.
قُلْتُ: وَهُوَ فِي عُرْفِ النَّاسِ: الْكَلَامُ الْخَالِي عَنْ فَائِدَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ هَذَا التَّعْرِيفَ لِلِاسْتِحْسَانِ وَقَالَ: لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِمِثْلِ هَذَا إِذَا تَحَقَّقَ الْمُجْتَهِدُ كَوْنَهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَإِنْ نُوزِعَ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ، عَادَ النِّزَاعُ إِلَى اللَّفْظِ.
قُلْتُ: رَجَعَ الْأَمْرُ فِي هَذَا إِلَى أَنَّهُ عَمَلٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا نِزَاعَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا قَالَ، لَكِنْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ النُّفُوسَ يَصِيرُ لَهَا فِيمَا تُعَانِيهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحِرَفِ مَلَكَاتٌ قَارَّةٌ فِيهَا تُدْرِكُ بِهَا الْأَحْكَامَ الْعَارِضَةَ فِي تِلْكَ الْعُلُومِ وَالْحِرَفِ، وَلَوْ كُلِّفَتِ الْإِفْصَاحَ عَنْ حَقِيقَةِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ بِالْقَوْلِ، لَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي جَوَابِ الْمَسَائِلِ الْإِسْكَنْدَرَانِيَّاتِ، وَيُسَمِّي ذَلِكَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَغَيْرُهُمْ: دُرْبَةٌ، وَأَهْلُ التَّصَوُّفِ: ذَوْقًا، وَأَهْلُ الْفَلْسَفَةِ وَنَحْوُهُمْ: مَلَكَةً.
وَمِثَالُ ذَلِكَ الدَّلَّالُونَ فِي الْأَسْوَاقِ قَدْ صَارَ لَهُمْ دُرْبَةً بِمَعْرِفَةِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ وَمُعَانَاتِهِمْ حَتَّى صَارُوا أَهْلَ خِبْرَةٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ شَرْعًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فِي قِيَمِ الْأَشْيَاءِ، فَيَرْكَبُ أَحَدُهُمُ الْفَرَسَ، فَيَسُوقُهُ، أَوْ يَرَاهُ رُؤْيَةً مُجَرَّدَةً أَوْ يَأْخُذُ الثَّوْبَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ عَلَى حَسَبِ مَا هُوَ دَلَّالٌ فِيهِ، فَيَقُولُ: هَذَا يُسَاوِي كَذَا، أَوْ قِيمَتُهُ كَذَا، فَلَا يُخْطِئُ بِحَبَّةٍ زِيَادَةً وَلَا نَقْصًا، مَعَ أَنَّا لَوْ قُلْنَا لَهُ: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ قِيمَتَهُ كَذَا؟ لَمَا أَفْصَحَ بِحُجَّةٍ، بَلْ يَقُولُ: هَكَذَا أَعْرِفُ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ دُرْبَةٌ وَمَلَكَةٌ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ لِكَثْرَةِ نَظَرِهِ فِيهَا، حَتَّى تَلُوحَ لَهُ الْأَحْكَامُ سَابِقَةً عَلَى أَدِلَّتِهَا وَبِدُونِهَا، أَوْ تَلُوحُ لَهُ أَحْكَامُ الْأَدِلَّةِ فِي مِرْآةِ الذَّوْقِ وَالْمَلَكَةِ عَلَى وَجْهٍ تَقْصُرُ عَنْهَا الْعِبَارَةُ، كَمَا يَلُوحُ الْوَجْهُ فِي الْمِرْآةِ، وَلَوْ سُئِلَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ كَيْفِيَّةِ ظُهُورِهِ، لَمَا أَدْرَكَهُ، بَلْ قَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْخَوَاصِّ، فَإِذَا اتَّفَقَ ذَلِكَ لِلْمُجْتَهِدِ، وَحَصَلَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ، جَازَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا يَصِيرُ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ بِمَا يُشْبِهُ الْإِلْهَامَ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ إِنَّمَا بُنِيَتْ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَدِلَّةِ، فَتَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَا اسْتَحْسَنَهُ» . هَذَا قَوْلٌ آخَرٌ فِي تَعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانِ أَيْ: وَقِيلَ: الِاسْتِحْسَانُ: «مَا اسْتَحْسَنَهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ، فَإِنْ أُرِيدَ مَعَ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَوِفَاقٌ» ، أَيْ: فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ إِذِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ مُتَّبَعٌ، وَانْضِمَامُ الْعَقْلِ إِلَيْهِ لَا يَضُرُّ، بَلْ هُوَ مُؤَكِّدٌ، وَإِنْ لَمْ يُرَدْ ذَلِكَ، بَلْ أُرِيدَ مَا اسْتَحْسَنَهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ الْمُجَرَّدِ بِدُونِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِوَجْهَيْنِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ «لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَامِّيِّ إِلَّا النَّظَرَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَحَيْثُ لَا نَظَرَ» ، أَيْ: فَإِذَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى اسْتِحْسَانِهِ الْعَقْلِيِّ نَظَرٌ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، «فَلَا فَرْقَ» إِذَنْ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَامِّيِّ، «وَيَكُونُ» ذَلِكَ مِنَ الْمُجْتَهِدِ «حُكْمًا بِمُجَرَّدِ الْهَوَى، وَاتِبَاعًا لِلشَّهْوَةِ فِيهِ» ، أَيْ: فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ شَرْعًا؛ لِقَوْلِهِ عز وجل:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وَقَوْلُهُ عز وجل:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مَرْيَمَ: 59] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا، أَوْ سَمْعِيًّا، أَيْ: مَعْلُومًا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ، أَمَّا بُطْلَانُ كَوْنِهِ عَقْلِيًّا أَوْ سَمْعِيًّا، فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْلِيًّا لَكَانَ إِمَّا ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا، لَكِنَّهُ لَيْسَ ضَرُورِيًّا، لِأّنَّ الضَّرُورِيَّاتِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَلَا اشْتِرَاكَ فِيمَا ذَكَرُوهُ، وَلَيْسَ نَظَرِيًّا؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ لَيْسَ قَاطِعًا، وَإِلَّا لَكَانَ مُشْتَرَكًا، وَلَا مَظْنُونًا؛ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي النَّظَرِ، وَلَوْ كَانَ سَمْعِيًّا، لَكَانَ إِمَّا تَوَاتُرًا، وَهُوَ مَفْقُودٌ، أَوْ آحَادًا وَهُوَ كَذَلِكَ، أَيْ: مَفْقُودٌ أَيْضًا كَالتَّوَاتُرِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَاتُرٌ وَلَا آحَادٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِيهِ دَلِيلًا سَمْعِيًّا آحَادًا، لَكِنَّ الْآحَادَ لَا تُفِيدُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُفِيدُ ظَنًّا مَا، وَالِاسْتِحْسَانُ أَصْلٌ قَوِيٌّ، فَلَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَآحَادُهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كَذَلِكَ أَوْ لَا يُفِيدُ» ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ، وَالدَّلِيلُ مُنْحَصِرٌ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، فَمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا، لَا يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَصْلًا، وَمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَصْلًا يَكُونُ بَاطِلًا.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ هُمُ الْمُخَالِفُونَ فِي هَذَا. وَاحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزُّمَرِ: 18] .
الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزُّمَرِ: 55] .
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ عليه السلام: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْأُمَّةَ اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ لِلْمَاءِ الْمَصْبُوبِ، وَلَا لِمُدَّةِ الْمُقَامِ فِيهِ، وَلَا لِلْأُجْرَةِ عَنْ ذَلِكَ، وَاسْتَحْسَنُوا شُرْبَ الْمَاءِ مِنْ أَيْدِي السَّقَّائِينَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ عِوَضٍ، فَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَاقِعٌ، فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ قَطْعًا.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: أَحْسَنُ الْقَوْلِ» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّ أَحْسَنَ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُمَرِ: 18] وَأَحْسَنَ الْمُنَزَّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [الزُمَرِ: 55] هُوَ «مَا قَامَ دَلِيلُ رُجْحَانِهِ شَرْعًا» لَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ اسْتِحْسَانِ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي سِيَاقِ الْآيَتَيْنِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَمَّا الْأَوْلَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي} {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُمَرِ: 17 - 18] الْآيَةَ، هِيَ فِي سِيَاقِ التَّوْحِيدِ، وَاجْتِنَابِ الشِّرْكِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، إِذْ لَوْ كَانَ التَّوْحِيدُ ضَرُورِيًّا لَمَا أَشْرَكَ أَحَدٌ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ ; فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الْأَعْرَافِ: 3] ، وَالِاسْتِدْلَالُ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ كَمَا سَبَقَ، لَا دَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ لَهُ دِلَالَةً عَلَى الِاسْتِحْسَانِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ «مَا قَامَ دَلِيلُ رُجْحَانِهِ شَرْعًا» ، أَيْ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا مَعَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَقِيَامِ دَلِيلِ الرُّجْحَانِ شَرْعًا.
وَأَمَّا «مَسْأَلَةُ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهَا» ، أَيِ: اسْتِحْسَانُهُمْ دُخُولَ الْحَمَامِ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَسُومِحَ فِيهِ «لِعُمُومِ مَشَقَّةِ التَّقْدِيرِ» ، إِذْ يَشُقُّ جِدًّا أَنْ يُجْعَلَ فِي الْحَمَّامِ صَاعٌ يُقَّدَرُ بِهِ الْمَاءُ، وَبَنْكَامٌ يُقَدَّرُ بِهِ الزَّمَانُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ تَقْدِيرُ الزَّمَانِ وَالْمَاءِ، تَعَذَّرَ تَقْدِيرُ الْأُجْرَةِ وَالثَّمَنِ، فَوَقَعَ الِاصْطِلَاحُ عَلَى رَفْضِ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِهِ، ثُمَّ «يُعْطَى الْحَمَّامِيُّ عِوَضًا» عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ رَضِيَهُ، فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَهُ، زِيدَ حَتَّى يَرْضَى، «وَهُوَ» ، أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ «مُنْقَاسٌ» ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَيْ: مُتَّجِهٌ فِي الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ، أَوْ لَعَلَّهُ مِنْ بَابِ الْإِجْمَاعِ الدَّالِّ عَلَى النَّصِّ، أَوْ لَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَقَرَّ عَلَيْهِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ وَنَحْوُهُ تَصْلُحُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْإِجْمَاعِ أَوِ النَّصِّ أَوِ الْقِيَاسِ، كَانَ إِضَافَتُهُ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ تَحَكُّمًا.
قَوْلُهُ: «وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ فِيهِ» ، أَيْ: فِي الِاسْتِحْسَانِ: «أَنَّهُ الْعُدُولُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ خَاصٍّ» .
قُلْتُ: مِثَالُهُ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ: وَإِذَا اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلِّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ; لَمْ يُجْزِ اسْتِحْسَانًا، وَجَازَ قِيَاسًا، فَالْحُكْمُ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ الْجَوَازُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لَكِنْ عَدَلَ بِهَا عَنْ نَظَائِرِهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ، فَمُنِعَتْ. وَحَاصِلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ الدَّلِيلِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ.
قَالَ ابْنُ الْمِعْمَارِ الْبَغْدَادِيُّ: وَمِثَالُ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَالَهُ أَحْمَدُ رضي الله عنه أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ حَتَّى يُحْدِثَ.
وَقَالَ: يَجُوزُ شِرَاءُ أَرْضِ السَّوَادِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ يُشْتَرَى مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ، فَقَالَ: الْقِيَاسُ هَكَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الْمُصْحَفِ، وَيُؤْمَرُ بِشِرَائِهِ اسْتِحْسَانًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ» ، أَيِ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، كَذَلِكَ حُكِيَ فِي «الرَّوْضَةِ» عَنِ الْقَاضِي يَعْقُوبَ. قَالَ: وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ حُكْمًا إِلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حُكْمٍ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكَرُ، أَيْ: هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: قَالَ الْبَاجِيُّ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُجَّةً إِجْمَاعًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: هُوَ الْعُدُولُ عَمَّا حُكِمَ بِهِ فِي نَظَائِرِ مَسْأَلَةٍ إِلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ أَقْوَى مِنْهُ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جَوَّدْنَاهُ فِي حَدِّهِ آنِفًا، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَنِ الْمَنْسُوخِ إِلَى النَّاسِخِ، وَعَنِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ صَادِقٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الِاسْتِحْسَانُ هُوَ تَرْكُ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ غَيْرِ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ لِوَجْهٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: غَيْرِ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ، عَنْ تَرْكِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ شُمُولَهُ لَفْظِيٌّ. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى الْأَوَّلِ، عَنْ تَرْكِ الْقِيَاسِ الْمَرْجُوحِ إِلَى الْقِيَاسِ الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ لَيْسَ طَارِئًا عَلَى الْآخَرِ بِحَقِّ الْأَصْلِ.
وَمَثَّلَهُ الْقَرَافِيُّ بِتَضْمِينِ مَالِكٍ الصُّنَّاعَ الْمُؤَثِّرِينَ فِي الْأَعْيَانِ بِصَنْعَتِهِمْ، وَتَضْمِينِ الْحَمَّالِينَ لِلطَّعَامِ وَالْإِدَامِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْحَمَّالِينَ. فَهَذَا تَرْكُ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ تَرْكُ عَدَمِ التَّضْمِينِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْإِجَارَةِ، وَهُوَ غَيْرُ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّضْمِينِ قَاعِدَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، لَا لَفْظِيَّةٌ، وَتُرِكَ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ لِوَجْهٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْفَرْقِ فِي صُورَةِ التَّضْمِينِ أَوْلَى مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
اعْتِبَارِ الْجَامِعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صُورَةِ عَدَمِ التَّضْمِينِ. وَهَذَا الْفَرْقُ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِجَارَاتِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ وَهُوَ صُورَةُ التَّضْمِينِ كَالْمُسْتَثْنَى عَنْ ذَلِكَ لِمَعْنًى، وَالْمُسْتَثْنَى طَارِئٌ عَلَى الْأَصْلِ، بِخِلَافِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَصْلًا لِلْآخَرِ حَتَّى يَكُونَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ قَرَّرَ مُحَقِّقُو الْحَنَفِيَّةِ الِاسْتِحْسَانَ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَاللَّطَافَةِ، ذَكَرْنَا الْمَقْصُودَ مِنْهُ غَيْرَ هَاهُنَا» أَشَرْتُ بِهَذَا إِلَى مَا رَأَيْتُهُ فِي «شَرْحِ الْأَخْسِيكَثِيَّةِ» لِصَاحِبِ «الْوَافِي» مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ مُتَأَخِّرِي فُضَلَائِهِمُ الْمَشَارِقَةِ أَهْلِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ، وَذَكَرْتُ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ فِي تَلْخِيصِ «الْحَاصِلِ» ، وَلَيْسَ الْآنَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ شَيْءٌ، لَكِنْ أَذْكُرُ جُمْلَةً مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْبَزْدَوِيِّ، وَهُوَ أَصْلُ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
قَالَ: الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ، لَكِنْ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ جَائِزٌ.
قَالَ: وَلِلِاسْتِحْسَانِ أَقْسَامٌ: مِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالْأَمْرِ مِثْلُ السَّلَمِ، وَالْإِجَارَةِ، وَبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ فِعْلِ النَّاسِي، وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الِاسْتِصْنَاعُ.
قُلْتُ: يَعْنِي الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَحْصِيلِ الصَّنَائِعِ. وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ كَتَطْهِيرِ الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْأَوَانِي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قُلْتُ: يَعْنِي الْحُكْمَ بِتَطْهِيرِهَا إِذَا تَنَجَّسَتْ أَوْ نَفْسَ مُعَالَجَتِهَا لِتَطْهُرَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ.
قَالَ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَأَحَدُ نَوْعَيِ الْقِيَاسِ مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ، وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ، وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ وَأَثَرُهُ.
وَأَحَدُ نَوْعَيِ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا، وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ، وَخَفِيَ فَسَادُهُ.
قَالَ: وَلَمَّا كَانَتِ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا عِلَّةً بِأَثَرِهَا لَا بِظُهُورِهَا، سَمَّيْنَا مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ قِيَاسًا، وَمَا قَوِيَ أَثَرُهُ اسْتِحْسَانًا، أَيْ: قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا، وَقَدَّمْنَا الثَّانِيَ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا - عَلَى الْأَوَّلِ - وَإِنْ كَانَ جَلِيًّا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ دُونَ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
أَحَدُهَا: الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ، وَالْعُقْبَى بَاطِنَةٌ، لَكِنَّ أَثَرَهَا وَهُوَ الدَّوَامُ وَالْخُلُودُ، وَصَفْوُ الْعَيْشِ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ الدُّنْيَا، وَهُوَ ضِدُّ ذَلِكَ.
الثَّانِي: النَّفْسُ فِي الْبَدَنِ أَظْهَرُ فِي الْقَلْبِ، لَكِنَّ الْقَلْبَ أَقْوَى أَثَرًا لِدَوَرَانِ صَلَاحِ الْجَسَدِ وَفَسَادِهِ مَعَ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَفَسَادِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، كَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ.
الثَّالِثُ: الْبَصَرُ أَظْهَرُ مِنَ الْعَقْلِ، لَكِنَّ أَثَرَ الْعَقْلِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ أَعَمُّ، وَإِدْرَاكَهُ أَوْثَقُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْغَلَطِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْمَعْقُولَاتِ.
فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقِيَاسُ إِذَا عَارَضَهُ الِاسْتِحْسَانُ؛ لِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ وَعَدَمِ الْقِيَاسِ فِي التَّقْدِيرِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ سُؤْرَ سِبَاعِ الطَّيْرِ نَجِسٌ، كَسُؤْرِ سِبَاعِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْبَهَائِمِ بِجَامِعِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ فِيهِمَا، وَالِاسْتِحْسَانُ يَقْتَضِي أَنَّهُ طَاهِرٌ فَرْقًا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ سِبَاعَ الْبَهَائِمِ إِنَّمَا نَجِسَ سُؤْرُهَا لِمُجَاوَرَتِهِ رُطُوبَةَ فَمِهَا وَلُعَابِهَا، بِخِلَافِ سِبَاعِ الطَّيْرِ، فَإِنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا، وَهُوَ عَظْمٌ يَابِسٌ طَاهِرٌ خَالٍ عَنْ مُجَاوَرَةِ نَجِسٍ. وَإِذَا كَانَ عَظْمُ الْمَيْتَةِ طَاهِرًا ; فَعَظْمُ الْحَيِّ أَوْلَى. فَهَذَا أَثَرٌ قَوِيٌّ بَاطِنٌ، فَسَقَطَ لَهُ حُكْمُ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ.
وَأَمَّا عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي اسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ، وَعَارَضَهُ اسْتِحْسَانٌ اسْتَتَرَ فَسَادُهُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ فِي مَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ: يَجُوزُ أَنْ يَرْكَعَ بَدَلًا مِنَ السُّجُودِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] ، فَدَلَّ عَلَى قِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ السُّجُودِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعُ خِلَافُهُ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ، فَهَذَا أَثَرٌ ظَاهِرٌ لِهَذَا الِاسْتِحْسَانِ، لَكِنَّ الْقِيَاسَ لَهُ أَثَرٌ بَاطِنٌ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ السُّجُودَ عِنْدَ التِّلَاوَةِ لَيْسَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّوَاضُعُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِنَ الرُّكُوعِ، بِخِلَافِ رُكُوعِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِهَا ; فَإِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مَقْصُودَتَانِ، فَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، فَصَارَ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ مَعَ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ أَوْلَى مِنَ الْأَثَرِ الظَّاهِرِ مَعَ الْفَسَادِ الْخَفِيِّ.
هَذِهِ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ مِنْ كَلَامِهِ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ - كَمَا تَرَاهُ - جَيِّدٌ حَسَنٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ لَمْ يَفْهَمُوا مَقْصُودَهُمْ حَيْثُ رَدُّوا عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ، إِذْ قَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِهِ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ وَأَظْهَرُهُمَا أَثَرًا.
قُلْتُ: وَهَكَذَا حَكَىَ ابْنُ الْمِعْمَارِ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الِاسْتِحْسَانُ حُجَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً عِنْدَ أَحْمَدَ قَوْلَانِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ تَرْكُ قِيَاسٍ إِلَى قِيَاسٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ الْعُدُولُ عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ إِلَى دَلِيلٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ.
قُلْتُ: يَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ أَخَصُّ مِنَ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ، وَأَعَمُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ. أَمَّا أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ، فَمِنْ جِهَةِ رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهِ، وَكَوْنِهَا أَشَدَّ مُنَاسَبَةً فِي النَّظَرِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْقِيَاسِ. وَأَمَّا أَنَّهُ أَعَمُّ ; فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ تَابِعٌ لِلْعِلَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَالِاسْتِحْسَانَ تَابِعٌ لِلدَّلِيلِ عَلَى الْعُمُومِ: نَصًّا، كَحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ، وَنَبِيذِ التَّمْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ إِجْمَاعًا، كَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَعَدَمِ تَقْدِيرِ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ؛ لِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَاسْتِدْلَالًا، كَقَوْلِهِمِ: الْقِيَاسُ فِي مَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَأَنَا يَهُودِيٌّ. أَنْ لَا كَفَّارَةَ، لَكِنْ يَتَرَجَّحُ لُزُومُهَا لَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ إِنَّمَا كَانَ لِلتَّعَرُّضِ بِهَتْكِ الْحُرْمَةِ، وَالتَّبَرُّؤِ مِنَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ذَلِكَ، فَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَدْ بَانَ بِهَذَا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ: تَرْكُ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ إِلَى دَلِيلٍ أَقْوَى، أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَرْكُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ إِلَى الْآخَرِ. وَقَدْ سَبَقَ جُمْلَةٌ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ عَنْ أَحْمَدَ رضي الله عنه، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.