المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الرَّابِعُ:‌ ‌ الْمَنْعُ ، وَهُوَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: الرَّابِعُ:‌ ‌ الْمَنْعُ ، وَهُوَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ

الرَّابِعُ:‌

‌ الْمَنْعُ

، وَهُوَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِطُرُقِهِ؛ وَمَنْعُ وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً فِي الْأَصْلِ فَيُثْبِتُهُ حِسًّا أَوْ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا بِدَلِيلِهِ، أَوْ وُجُودِ أَثَرٍ، أَوْ لَازِمٍ لَهُ، وَمَنْعُ عِلِّيَّتِهِ، وَمَنْعُ وَجُودِهَا فِي الْفَرْعِ، فَيُثْبِتُهُمَا بِطُرُقِهِمَا كَمَا سَبَقَ.

ــ

السُّؤَالُ «الرَّابِعُ: الْمَنْعُ» .

قَوْلُهُ: «وَهُوَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ» لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ جِنْسِ الْمَنْعِ فِي مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ. وَشَرَعَ فِي ذِكْرِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ:

أَوَّلُهَا: «مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ» .

الثَّانِي: «مَنْعُ وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً» أَيْ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الَّذِي ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ.

الثَّالِثُ: مَنْعُ كَوْنِهِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ.

الرَّابِعُ: مَنْعُ وَجُودِهِ فِي الْفَرْعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْمَنْعُ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَمَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهِ، وَمَنْعُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، وَمَنْعُ وَجُودِهِ فِي الْفَرْعِ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا قُلْنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، إِمَّا جَهْلًا بِالْحُكْمِ، أَوْ عِنَادًا، فَهَذَا مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ؛ لَكَانَ هَذَا مَنْعَ

ص: 481

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً فِي الْأَصْلِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، لَكَانَ هَذَا مَنْعَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ؛ لَكَانَ هَذَا مَنْعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، فَفِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ مُنُوعٍ، وَفِي الْفَرْعِ مَنْعٌ وَاحِدٌ.

قَوْلُهُ: «وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْأَصَحِّ» أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِمَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:

أَحَدُهَا: يَنْقَطِعُ، لِأَنَّا لَوْ مَكَّنَّاهُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِثْبَاتِهِ بِالدَّلِيلِ، لَانْتَشَرَ الْكَلَامُ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى.

مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ حَنْبَلِيٌّ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ: إِنَّهُ نَجِسٌ، فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، كَجِلْدِ الْكَلْبِ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ حُكْمَ الْأَصْلِ؛ وَهُوَ أَنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ بَلْ يَطْهُرُ عِنْدِي، فَشَرَعَ الْمُسْتَدِلُّ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ: أَنَّهُ حَيَوَانٌ نَجِسُ الْعَيْنِ، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، كَجِلْدِ الْخِنْزِيرِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يَتَسَلْسَلُ الْمَنْعُ، مِثْلُ أَنْ يَمْنَعَ الْمُعْتَرِضُ الْحُكْمَ فِي جِلْدِ الْخِنْزِيرِ، أَوِ الْوَصْفَ فِي جِلْدِ الْكَلْبِ، فَيَخْرُجُ قَانُونُ النَّظَرِ عَنْ وَضْعِهِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِذَلِكَ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْمَنْعُ جَلِيًّا فِي مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، مَشْهُورًا، يَعْلَمُهُ غَالِبُ الْفُقَهَاءِ، انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الْآحَادُ وَالْخَوَاصُّ،

ص: 482

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَمْ يَنْقَطِعْ.

وَالْفَرْقُ: أَنَّ خَفَاءَ الْمَنْعِ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ، فَيُمَكَّنُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْكَمُ بِانْقِطَاعِهِ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ كَالْمُفَرِّطِ إِذَا قَاسَ عَلَى أَصْلٍ مَمْنُوعٍ، حَيْثُ عَرَّضَ الْكَلَامَ لِلتَّسَلْسُلِ وَالِانْتِشَارِ.

وَقَدْ مَثَّلَ الْمَنْعَ الْجَلِيَّ بِقَوْلِهِ: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، قِيَاسًا عَلَى الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَهُوَ جَلِيٌّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْمُسْلِمَ بِالذِّمِّيِّ.

وَكَقَوْلِنَا: يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعُ نَقْصٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْحَاضِرِ، كَمَا يُقْضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ نَقْصٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ مَنْعًا جَلِيًّا مَشْهُورًا.

وَمُثِّلَ الْمَنْعُ الْخَفِيُّ بِقَوْلِنَا فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِرَمَضَانَ: صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ كَالْقَضَاءِ، وَقَوْلِنَا فِي الْوُضُوءِ: عِبَادَةٌ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، كَالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّ الْمَنْعَ فِي ذَلِكَ خَفِيٌّ، إِذْ مَنْعُ احْتِيَاجِ الْقَضَاءِ إِلَى النِّيَّةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ زُفَرَ، وَأَمَّا افْتِقَارُ التَّيَمُّمِ إِلَى النِّيَّةِ، فَلَا أَعْلَمُ عِنْدَهُمْ فِيهِ خِلَافًا.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ خَفَاءَ الْمَنْعِ وَظُهُورَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَدِلِّ فِي عِلْمِهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَقْوَالِ النَّاسِ، وَظُهُورِ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِأَمَارَاتِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِكَ، فَهُوَ جَلِيٌّ فِي حَقِّكَ، لَكِنْ عَلَى هَذَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا ادَّعَى خَفَاءَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَقَدِ ادَّعَى مُمْكِنًا، وَالْأَصْلُ عَلَى وَفْقِهِ، وَهُوَ عَدَمُ عِلْمِهِ، فَلَوْ حُكِمَ بِانْقِطَاعِهِ بِذَلِكَ لَأَفْضَى إِلَى تَكْذِيبِهِ، فَالْأَشْبَهُ عَلَى هَذَا أَنْ يُرْجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ. إِنْ قَالَ: عَلِمْتُ الْمَنْعَ، انْقَطَعَ، وَإِلَّا فَلَا. وَيَلْزَمُهُ

ص: 483

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الصِّدْقُ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.

أَمَّا ضَبْطُ خَفَاءِ الْمَنْعِ وَظُهُورِهِ بِمَا يَعْلَمُهُ غَالِبُ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَكِنَّهُ مُتَفَاوِتٌ جِدًّا، إِذْ غَالِبُ الْفُقَهَاءِ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَذْهَبِ خَصْمِهِمْ، كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَذَاهِبِهِمْ، وَقَدْ يَبْلُغُ الْفَقِيهُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَيَخْفَى عَنْهُ غَالِبُ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.

وَبِالْجُمْلَةِ: فِي هَذَا الْقَوْلِ التَّفْصِيلِيِّ نَظَرٌ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى عُرْفِ أَهْلِ بَلَدِ الْمُنَاظَرَةِ، إِنْ كَانُوا يَعُدُّونَ مَنْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ انْقِطَاعًا، انْقَطَعَ؛ وَإِلَّا فَلَا، إِذْ لِلْجَدَلِ مَرَاسِمُ وَحُدُودٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي الْوُقُوفُ مَعَهَا.

وَقَالَ الْآمِدِيُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَدِلِّ مَدْرَكٌ، يَعْنِي طَرِيقًا إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ غَيْرَ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ جَازَ، وَلَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا بِالْمَنْعِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْرَكٌ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ خَفِيًّا لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِلَّا انْقَطَعَ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ ذَكَرَهُ فِي «الْجَدَلِ» .

وَاخْتَارَ فِي «الْمُنْتَهَى» : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ، وَالَّذِي صُحِّحَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .

وَوَجْهُهُ: أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، فَإِذَا امْتَنَعَ كَانَ لَهُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَرْكَانِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ فِي ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ: أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ، فَضَمِنَ، قِيَاسًا عَلَى الْغَاصِبِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَغْصُوبِ، بَلْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ، إِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَعُودَ الْعَبْدُ، أَوْ تُوجَدَ الضَّالَّةُ،

ص: 484

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ، وَيَمْلِكُ الْغَاصِبُ الْعَيْنَ، بِحَيْثُ إِذَا عَادَتْ كَانَتْ لَهُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ: أَنَّ الْغَصْبَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيَكُونُ حَرَامًا، فَيَجِبُ تَرْكُهُ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَالِكِهِ، وَمَا وَجَبَ رَدُّهُ مَعَ بَقَائِهِ، وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ عِنْدَ فَوَاتِهِ، لِأَنَّهَا بَدَلُهُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ عليه السلام: وَعَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ لَكِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْفَرْعَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَجَابَ عَنْ تَمَلُّكِ الْغَاصِبِ الْعَيْنَ بِالْقِيمَةِ، بِقَوْلِهِ عليه السلام: لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَهُوَ نَصٌّ، فَلَا يُسْمَعُ الِاجْتِهَادُ مَعَهُ.

وَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: يَجِبُ غَسْلُ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ سَبْعًا، قِيَاسًا عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ الْحُكْمَ فِي الْكَلْبِ، وَإِنَّمَا يُغْسَلُ عِنْدِي ثَلَاثًا، أَوْ يُكَاثِرُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: الدَّلِيلُ عَلَى غَسْلِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ سَبْعًا: قَوْلُهُ عليه السلام: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ. . . الْحَدِيثَ.

ص: 485

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِطُرُقِهِ» ، أَيْ: إِذَا مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ حُكْمَ الْأَصْلِ لَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ، وَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِطُرُقِهِ مِنْ نَصِّ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً فِي الْأَصْلِ» . هَذَا هُوَ الْمَنْعُ الثَّانِي، وَقَدْ سَبَقَ مِثَالُهُ.

قَوْلُهُ: «فَيُثْبِتُهُ» أَيْ: إِذَا مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ وُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ، فَيُثْبِتُهُ الْمُسْتَدِلُّ «حِسًّا، أَوْ عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا» أَيْ: يُثْبِتُهُ بِالْحِسِّ، كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ مَحْسُوسَةٌ، أَوْ بِالْعَقْلِ؛ كَالْعُدْوَانِيَّةِ، أَيْ: كَوْنِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا. وَالشِّدَّةُ مُطْرِبَةٌ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ عُدْوَانٌ، وَأَنَّ هَذَا الشَّرَابَ مُسْكِرٌ، فَإِنَّ كَوْنَ الْقَتْلِ عُدْوَانًا وَالشَّرَابِ مُسْكِرًا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ بِدَوَرَانِ زَوَالِ الْعَقْلِ مَعَ شُرْبِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، أَوْ بِالشَّرْعِ، كَالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فِي قَوْلِنَا: طَاهِرٌ، فَجَازَ بَيْعُهُ، أَوْ نَجِسٌ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ: «بِدَلِيلِهِ، أَوْ وُجُودِ أَثَرٍ، أَوْ لَازِمٍ لَهُ» ، أَيْ: يُثْبِتُ الْوَصْفَ إِذَا مَنَعَهُ بِدَلِيلِهِ مِنْ حِسٍّ، أَوْ عَقْلٍ، أَوْ شَرْعٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِهِ بِوُجُودِ لَازِمٍ لَهُ، أَوْ أَثَرٍ مِنْ آثَارِهِ.

وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: بِوُجُودِ أَثَرٍ أَوْ أَمْرٍ مُلَازِمٍ لَهُ، أَوْ بِوُجُودِ مَلْزُومِهِ، لِأَنَّ

ص: 486

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وُجُودَ اللَّازِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَلْزُومِ، بِخِلَافِ الْأَثَرِ، فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِلْمُؤَثِّرِ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى لَازِمِهِ، وَالْأَمْرُ الْمُلَازِمُ لِلشَّيْءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمُلَازَمَةِ وُجُودِ النَّهَارِ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ لِوُجُودِ النَّهَارِ.

وَهَكَذَا عِبَارَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ أَثَرٍ، أَوْ أَمْرٍ يُلَازِمُهُ، وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ كَدَلَالَةِ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ عَلَى كَوْنِهِ عَمْدًا، لِأَنَّ الْعَمْدَ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْرِيمِ، وَدَلَالَةِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَتْلِ، لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِهِ، وَدَلَالَةِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ لَازِمٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ، وَكَلُحُوقِ النَّسَبِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ، لِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ مِنْ آثَارِ الْوَطْءِ الَّذِي لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَكَدَلَالَةِ فَسَادِ الْعَقْلِ عَلَى إِسْكَارِ الشَّرَابِ، وَجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِصْحَابِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ عِلِّيَتِهِ، وَمَنْعُ وَجُودِهَا فِي الْفَرْعِ» . هَذَانِ الْمَنْعَانِ الْآخَرَانِ، أَيْ: وَمِنَ الْمُنُوعِ مَنْعُ عِلَّةِ الْوَصْفِ، أَيْ: مَنْعُ كَوْنِهِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، وَمَنْعُ وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ كَمَا سَبَقَ مِثَالُهُ، فَيُثْبِتُهُمَا الْمُسْتَدِلُّ بِطَرِيقِهِمَا «كَمَا سَبَقَ» إِشَارَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ إِثْبَاتِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً، وَهِيَ النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَالسَّبْرُ، وَالدَّوَرَانُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ دَلِيلِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ مِنْ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ، وَهُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَنَحْوِهِ.

ص: 487

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَلَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَحُرِّمَ كَالْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةٌ، وَلَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ. لَكَانَ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ، لِإِفْضَائِهِ إِلَى مَصْلَحَةِ صِيَانَةِ الْعُقُولِ عَنِ الْفَسَادِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ إِمَّا لِلَوْنِهِ، أَوْ مَيَعَانِهِ، أَوْ إِزْبَادِهِ، أَوْ كَوْنِهِ مِنَ الْعِنَبِ، أَوْ لِإِسْكَارِهِ، وَالْأَوْصَافُ كُلُّهَا طَرْدِيَّةٌ إِلَّا الْإِسْكَارَ، فَكَانَ هُوَ الْعِلَّةَ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ، بِدَلِيلِ الْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، فَإِنَّ الشَّارِبَ لَهُ يَجِدُ النَّشَاطَ، وَغُرُوبَ الْعَقْلِ، وَدَبِيبَ الْأَعْضَاءِ، وَكَذَلِكَ يَرَى زَوَالَ الْعَقْلِ يَدُورُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَذَلِكَ دَلِيلُ كَوْنِهِ مُسْكِرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 488