المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ وَحَقِيقَتُهُ: التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌ ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ وَحَقِيقَتُهُ: التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ

‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

وَحَقِيقَتُهُ: التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ إِمَّا إِثْبَاتٌ، وَالْعَقْلُ قَاصِرٌ عَنْهُ، أَوْ نَفْيٌ، فَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّرْعِ فَيُسْتَصْحَبُ، كَعَدَمِ وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ، وَصَلَاةٍ سَادِسَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالنَّاقِلِ، وَهُوَ تَمَسُّكٌ بِالْجَهْلِ، وَلَعَلَّهُ مَوْجُودٌ مَجْهُولٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: النَّاسُ إِمَّا:

عَامِّيٌّ لَا يُمْكِنُهُ الْبَحْثُ وَالِاجْتِهَادُ، فَتَمَسُّكُهُ بِمَا ذَكَرْتُمْ كَالْأَعْمَى يَطُوفُ فِي الْبَيْتِ عَلَى مَتَاعٍ.

أَوْ مُجْتَهِدٌ فَتَمَسُّكُهُ بَعْدَ جِدِّهِ وَبَحْثِهِ بِالْعِلْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ كَبَصِيرٍ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِ الْمَتَاعِ مِنْ بَيْتٍ لَا عِلَّةَ فِيهِ مَخْفِيَّةٌ لَهُ فَيَجْزِمُ بِعَدَمِهِ لَا سِيَّمَا وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ قَدْ مُهِّدَتْ وَأَدِلَّتُهُ قَدِ اشْتُهِرَتْ وَظَهَرَتْ، فَعِنْدَ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ مِنَ الْأَهْلِ يُعْلَمُ أَنْ لَا دَلِيلَ.

ــ

" اسْتِصْحَابُ الْحَالِ ":

هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الرَّابِعُ مِنَ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهُوَ اسْتِصْحَابُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْأُصُولِ أَوَّلَ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: " وَحَقِيقَتُهُ " أَيْ: وَحَقِيقَةُ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ " التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ

ص: 147

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَوْ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ " أَيْ: لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلٌ يَنْقُلُ عَنْ حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ تَارَةً يَكُونُ بِحُكْمِ دَلِيلِ الْعَقْلِ. كَاسْتِصْحَابِ حَالِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى بَرَاءَتِهَا، وَعَدَمِ تَوَجُّهِ الْحُكْمِ إِلَى الْمُكَلَّفِ، كَقَوْلِنَا: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، أَيْ: دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى انْتِفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّتِهِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُثْبِتُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَتَارَةً يَكُونُ الِاسْتِصْحَابُ بِحُكْمِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ كَاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْعُمُومِ وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا إِذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ الْمُسْتَصْحَبِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، كَالْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَى شُغْلِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، وَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَتَرْكِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

تَنْبِيهٌ: تَحْقِيقُ مَعْنَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ: هُوَ أَنَّ اعْتِقَادَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَاضِرِ يُوجِبُ ظَنَّ ثُبُوتِهِ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ.

وَيُمْكِنُ تَلْخِيصُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: هُوَ ظَنُّ دَوَامِ الشَّيْءِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ وُجُودِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ - أَعْنِي هَذَا الظَّنَّ - حُجَّةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُزَنِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.

ص: 148

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُرَتَّبَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ:

فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الْأَعْرَاضِ، وَهِيَ مَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، بَلْ يَفْتَقِرُ فِي وُجُودِهِ إِلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ، كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا كَالْحَرَكَةِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ قِسْمَانِ: قَارُّ الذَّاتِ، كَالسَّوَادِ وَسَائِرِ الْأَلْوَانِ، فَهَذَا يُوجَدُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَيَسْتَمِرُّ، وَسَيَّالٌ لَيْسَ بِقَارِّ الذَّاتِ، كَالْحَرَكَاتِ الزَّمَانِيَّةِ، وَهِيَ حَرَكَاتُ الْفُلْكِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهُوَ الْحَقُّ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَقَاءِ الْمَوْجُودِ ; هَلْ هُوَ عَرَضٌ قَارٌّ، أَوْ سَيَّالٌ يُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ قَارٌّ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِبَقَاءِ الشَّيْءِ إِلَّا اسْتِمْرَارَ وُجُودِهِ، وَهِيَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ قَارَّةٌ، بِخِلَافِ الْحَرَكَةِ، فَإِنَّهَا سَيَّالَةٌ يُدْرَكُ سَيَلَانُهَا عَدَمًا أَوْ وُجُودًا، فَلَوْ كَانَ الْبَقَاءُ مِثْلَهَا، لِأُدْرِكَ كَمَا أُدْرِكَتْ، ثُمَّ بَنَوْا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْبَاقِيَ ; هَلْ يَفْتَقِرُ فِي بَقَائِهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: الْبَقَاءُ عَرَضٌ قَارٌّ، قَالَ: لَا يَفْتَقِرُ كَمَا لَا يَفْتَقِرُ الْأَسْوَدُ فِي اسْوِدَادِهِ إِلَى مُسَوِّدٍ.

وَمَنْ قَالَ: هُوَ عَرَضٌ سَيَّالٌ، قَالَ: يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ عَدَمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ يَتَعَقَّبُ وُجُودَهُ، وَبَقَاؤُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوَاصُلِ أَجْزَائِهِ، وَتَتَابُعُ أَجْزَاءِ مَا هَذَا

ص: 149

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

شَأْنُهُ بِدُونِ مُؤَثِّرٍ مُحَالٌ، ثُمَّ بَنَوْا عَلَى هَذَا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْمَعْهُودِ السَّابِقِ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ إِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُؤَثِّرٍ، كَانَ الِاسْتِصْحَابُ حُجَّةً ; وَإِنِ احْتَاجَ، لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِجَوَازِ التَّغَيُّرِ لِعَدَمِ الْمُؤَثِّرِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ حُجَّةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُقَلَاءَ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا تَحَقَّقُوا وُجُودَ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمَهُ، وَلَهُ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِهِ، سَوَّغُوا تَرْتِيبَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ زَمَانِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، حَتَّى إِنَّ الْغَائِبَ يُرَاسِلُ أَهْلَهُ، وَيُرَاسِلُونَهُ، بِنَاءً عَلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِهِمْ، وَوُجُودِهِ فِي الْمَاضِي، وَيُنْفِذُ إِلَيْهِمُ الْأَمْوَالَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، لَمَا سَاغَ لَهُمْ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ مِنْ لَوَازِمِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَبِعْثَةُ الرُّسُلِ حَقٌّ، فَلَازِمُهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا.

أَمَّا أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ مِنْ لَوَازِمَ الْبِعْثَةِ، فَلِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ هِيَ اطِّرَادُ وُقُوعِ الشَّيْءِ دَائِمًا، أَوْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، فَالْأَوَّلُ كَدَوَرَانِ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ فِي أَفْلَاكِهَا، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إِبْرَاهِيمَ: 33] ، وَالثَّانِي كَطُلُوعِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، وَغُرُوبِهَا فِي الْمَغْرِبِ، وَكَوُقُوعِ الْمَطَرِ فِي الشِّتَاءِ، وَزِيَادَةِ نَيْلِ مِصْرَ فِي أَيَّامِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ قَالَ قَائِلٌ: دَلِيلُ نُبُوَّتِي

ص: 150

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَنَّ الشَّمْسَ لَا تَطْلُعُ الْيَوْمَ مِنَ الْمَشْرِقِ، أَوْ أَنَّهَا لَا تَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ، بَلْ تَجُولُ فِي أَطْرَافِ الْفَلَكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ; لَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِانْخِرَاقِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ عَلَى يَدَيْهِ.

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِصْحَابُ حُجَّةً، لَمَا كَانَ انْخِرَاقُ الْعَوَائِدِ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ حُجَّةً، لِجَوَازِ أَنْ تَتَغَيَّرَ أَحْكَامُ الْعَوَائِدِ وَأَحْوَالُهَا، فَلَا يَكُونُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ أَمْسِ خَارِقًا لَهَا الْيَوْمَ، فَلَا يَكُونُ الْأَصْلُ بَقَاءَ مَا كَانَ مِنْ كَوْنِهِ خَارِقًا عَلَى مَا كَانَ، لَكِنْ لَمَّا رَأَيْنَا انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ حُجَّةً لِلْأَنْبِيَاءِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ حُجَّةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ عَهِدْنَا فِي اطِّرَادِ الْعَادَةِ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ، فَهِيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ وَنَجْزِمُ بِهَذَا جَزْمًا عَادِيًّا، فَإِذَا امْتَنَعَ طُلُوعُهَا مِنَ الْمَشْرِقِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، عَقِيبَ دَعْوَى الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ، حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ مُعْجِزًا، خَارِقًا لِلْعَادَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ بَقَاءَ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، لِجَوَازِ تَغَيُّرِ الْعَادَةِ كَمَا سَبَقَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: " أَمَّا الْأَوَّلُ " ; يَعْنِي التَّمَسُّكَ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ، لِأَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ هُوَ " التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ

ص: 151

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَنْهُ نَاقِلٌ " ثُمَّ أَخَذْنَا فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ. وَبَيَانِهِ.

أَيْ: أَمَّا أَنَّ الْتَمَسُّكَ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ حُجَّةٌ " فَلِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ: إِمَّا إِثْبَاتٌ " أَوْ نَفْيٌ ".

أَمَّا الْإِثْبَاتُ " فَالْعَقْلُ قَاصِرٌ عَنْهُ " أَيِ: الْعَقْلُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ هَادٍ وَمُرْشِدٌ، لَا مُشَرِّعٌ وَمُوجِبٌ.

وَأَمَّا النَّفْيُ، أَيْ: نُفْيُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ " فَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَيْهِ "" فَيُسْتَصْحَبُ ".

أَمَّا أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ، فَلِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، وَالْمَحْكُومَ بِهِ، وَالْمَحْكُومَ فِيهِ مِنْ لَوَازِمِ الْحُكْمِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا انْتِفَاءَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ، وَنَعْلَمُ قَطْعًا انْتِفَاءَ الْعَالَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِدُهُورٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ قَطْعًا. وَإِذَا ثَبَتَ لَنَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي وَقْتٍ مَا، اسْتَصْحَبْنَا حُكْمَ ذَلِكَ الِانْتِفَاءِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلِيلِ الِاسْتِصْحَابِ.

وَمَعْنَى الِاسْتِصْحَابِ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمِهِ مُصَاحِبًا لِاعْتِقَادِنَا، أَوْ لِقُلُوبِنَا وَأَذْهَانِنَا.

مِثَالُ اسْتِصْحَابِ نَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ: " عَدَمُ وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ " وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ سِوَى رَمَضَانَ، وَعَدَمُ " صَلَاةٍ سَادِسَةٍ " مَكْتُوبَةٍ، فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ، لَكَانَ الْعَقْلُ دَلِيلًا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِصْحَابِ الْمَذْكُورِ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ كُلُّ حُكْمٍ نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى نَفْيِهِ، أَوْ لَمْ

ص: 152

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَنُصَّ عَلَى إِثْبَاتِهِ وَلَا نَفْيِهِ.

قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالنَّاقِلِ " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا سُؤَالٌ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالِاسْتِصْحَابِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ إِنَّمَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهُ، إِذْ لَوْ وُجِدَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْهُ، لَمَا كَانَ حُجَّةً، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى التَّمَسُّكُ بِالِاسْتِصْحَابِ تَمَسُّكًا بِعَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهُ، إِذْ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْأَصْلُ بَقَاءُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى النَّفْيِ، أَنَّا لَا نَعْلَمُ وُجُودَ دَلِيلٍ نَاقِلٍ لَهُ عَنِ النَّفْيِ إِلَى الْإِثْبَاتِ، وَإِذَا تَلَخَّصَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ تَمَسُّكٌ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ، فَالتَّمَسُّكُ بِالْعَدَمِ " تَمَسُّكٌ بِالْجَهْلِ " بِالدَّلِيلِ، وَالْجَهْلُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَمَسَّكًا عَلَى شَيْءٍ، وَلَعَلَّ الدَّلِيلَ النَّاقِلَ عَنِ الِاسْتِصْحَابِ مَوْجُودٌ لَمْ تَعْلَمُوهُ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى النَّفْيِ.

قَوْلُهُ: " لِأَنَّا نَقُولُ " هَذَا جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ " النَّاسَ: إِمَّا عَامِّيٌّ لَا يُمْكِنُهُ الْبَحْثُ وَالِاجْتِهَادُ " فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ " أَوْ مُجْتَهِدٌ " يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا، فَتَمَسُّكُهُ بِالِاسْتِصْحَابِ مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ ; هُوَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْجَهْلِ، فَهُوَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ " كَالْأَعْمَى يَطُوفُ فِي الْبَيْتِ عَلَى مَتَاعٍ " وَآلَةُ الْبَصَرِ لَا تُسَاعِدُهُ عَلَى إِدْرَاكِهِ.

أَمَّا الْمُجْتَهِدُ الَّذِي يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَى الدَّلِيلِ " فَتَمَسُّكُهُ بَعْدَ " الْجِدِّ

ص: 153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهِ إِنَّمَا هُوَ " بِالْعِلْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ " لَا بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ، فَهُوَ " كَبَصِيرٍ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِ الْمَتَاعِ مِنْ بَيْتٍ لَا عِلَّةَ فِيهِ مُخْفِيَةٌ لَهُ " أَيْ: لِلْمَتَاعِ، أَيْ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ أَمْرٌ يَسْتُرُ الْمَتَاعَ، فَيُخْفِيهِ عَنْ طَالِبِهِ " فَيَجْزِمُ بِعَدَمِهِ " عِنْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ إِذَا بَالَغَ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ، فَلَمْ يَجِدْهُ، جَزَمَ بِعَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ " لَا سِيَّمَا وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ قَدْ مُهِّدَتْ، وَأَدِلَّتُهُ قَدِ اشْتُهِرَتْ وَظَهَرَتْ " وَفِي الدَّوَاوِينِ قَدْ دُوِّنَتْ " فَعِنْدَ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ " فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ " يُعْلَمُ " أَنَّهُ " لَا دَلِيلَ " هُنَاكَ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِصْحَابُ مِنْهُ تَمَسُّكًا بِالْعِلْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ، لَا بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ.

ص: 154

وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَاسْتِصْحَابِ الْعُمُومِ وَالنَّصِّ حَتَّى يَرِدَ مُخَصِّصٌ أَوْ نَاسِخٌ وَاسْتِصْحَابِ حُكْمٍ ثَابِتٍ كَالْمِلْكِ وَشَغْلِ الذِّمَّةِ بِالْإِتْلَافِ وَنَحْوِهِ.

أَمَّا اسْتِصْحَابُ حَالِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ كَالتَّمَسُّكِ فِي عَدَمِ بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ دُخُولِهِ فِيهَا فَيُسْتَصْحَبُ، فَالْأَكْثَرُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ شَاقِلَا.

لَنَا: الْإِجْمَاعُ إِنَّمَا حَصَلَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ لَا وُجُودِهِ، فَهُوَ إِذَنْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْخِلَافُ يُضَادُّ الْإِجْمَاعَ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ، كَالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ مَعَ السَّمْعِيِّ النَّاقِلِ، بِخِلَافِ الْعُمُومِ وَالنَّصِّ، وَدَلِيلِ الْعَقْلِ لَا يُنَافِيهَا الِاخْتِلَافُ فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهَا مَعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَنَافِي الْحُكْمِ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ خِلَافًا لِقَوْمٍ، وَقِيلَ: فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَقَطْ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَأَمَّا الثَّانِي» وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ ; فَهُوَ كَافٍ «كَاسْتِصْحَابِ الْعُمُومِ وَالنَّصِّ حَتَّى يَرِدَ مُخَصِّصٌ أَوْ نَاسِخٌ» أَيْ: كَاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْعُمُومِ حَتَّى يَرِدَ مُخَصِّصٌ لَهُ، وَاسْتِصْحَابِ حُكْمِ النَّصِّ حَتَّى يَرِدَ لَهُ نَاسِخٌ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلْتُ فِي عِبَارَتِي اللَّفَّ وَالنَّشْرَ، وَكَذَلِكَ «اسْتِصْحَابُ» كُلِّ «حُكْمٍ ثَابِتٍ، كَالْمِلْكِ» حَتَّى يُوجَدَ مَا يُزِيلُهُ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ «وَشَغْلِ الذِّمَّةِ» حَتَّى يُوجَدَ مَا يُفْرِغُهَا بِأَدَاءِ الدَّيْنِ إِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِدَيْنٍ، أَوْ بِأَدَاءِ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ إِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِإِتْلَافِ شَيْءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاغِلِ.

تَنْبِيهٌ: كُلُّ مَا كَانَ أَصْلًا فِي الدِّلَالَةِ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، حَتَّى

ص: 155

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَقُومَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْهُ، فَاللَّفْظُ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ، وَعَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، وَعَلَى الْإِفْرَادِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الِاشْتِرَاكِ، وَعَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالدِّلَالَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْإِضْمَارِ، وَعَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ، وَعَلَى التَّأْصِيلِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الزِّيَادَةِ، وَعَلَى التَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعَلَى التَّأْسِيسِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّأْكِيدِ، وَعَلَى الْإِحْكَامِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ النَّسْخِ، وَعَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ اللُّغَوِيِّ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ وَارِدًا مِنَ الشَّرْعِ، أَوْ بِالْعَكْسِ إِنْ كَانَ وَارِدًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ اللُّغَوِيِّ، كُلُّ ذَلِكَ عَمَلًا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الرَّاجِحِ، وَالْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيَّنٌ، فَالِاسْتِصْحَابُ إِذَنْ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حُكْمِيٍّ، وَلَفْظِيٍّ.

قَوْلُهُ: «أَمَّا اسْتِصْحَابُ حَالِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، كَالتَّمَسُّكِ فِي عَدَمِ بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ» أَيْ: بِأَنْ يُقَالَ: أَجْمَعْنَا «عَلَى صِحَّةِ دُخُولِهِ فِيهَا» أَيْ: فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ «فَيُسْتَصْحَبُ» حَالُ تِلْكَ الصِّحَّةِ «فَالْأَكْثَرُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ شَاقِلَا» .

وَقَالَ الْآمِدِيُّ: مَنَعَ الْغَزَّالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنِ اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ. قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ، كَمَا نَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى حُصُولِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ قَبْلَ خُرُوجِ الْخَارِجِ

ص: 156

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، فَيَسْتَصْحِبُهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ.

قُلْتُ: وَكَذَا قَوْلُنَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا مَالِكٌ لِلصَّيْدِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَيَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الْمِلْكِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا مَالِكٌ لِمَا فِي يَدِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَيَسْتَصْحِبُ الْمِلْكَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ الْمِعْمَارِ الْبَغْدَادِيُّ: قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَالصَّيْرَفِيُّ: وَهُوَ دَلِيلٌ يَعْنِي اسْتِصْحَابَ حَالِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ.

قَوْلُهُ: «لَنَا:» أَيْ: عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَنَّ «الْإِجْمَاعَ» فِي صُورَةِ التَّيَمُّمِ مَثَلًا «إِنَّمَا حَصَلَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ» . أَمَّا حَالَ وُجُودِهِ «فَهُوَ» «مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْخِلَافُ يُضَادُّ الْإِجْمَاعَ» فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَا يَبْقَى الْإِجْمَاعُ مَعَ الْخِلَافِ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ مَثَلًا، كَمَا أَنَّ النَّفْيَ الْأَصْلِيَّ الدَّالَّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ لَا يَبْقَى مَعَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ النَّاقِلِ عَنْ حُكْمِ النَّافِي، لِكَوْنِهِ يُضَادُّهُ. وَهَذَا «بِخِلَافِ الْعُمُومِ وَالنَّصِّ، وَدَلِيلِ الْعَقْلِ» كَالْقِيَاسِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحُكْمِ «لَا يُنَافِيهَا» «فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهَا» مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَلَا كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الْخِلَافَ يُنَافِيهِ، فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ مَعَهُ.

احْتَجَّ الْخَصْمُ بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْخِلَافِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ دَوَامُهُ لِمَا سَبَقَ، فَيَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ دَائِمَ الثُّبُوتِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

ص: 157

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ دَوَامُهُ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُنَافِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخِلَافَ الْحَادِثَ يُنَافِي الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَبْقَى الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَأَيْضًا ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَدِلَّةُ مُنْحَصِرَةٌ فِي النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي صُورَةِ التَّيَمُّمِ وَالطَّهَارَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْخَارِجِ مَثَلًا.

فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِصْحَابُ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.

قُلْنَا: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا يُنَافِيهِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

فَائِدَةٌ: الْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ: أَنَّ الْأَقْوَى لَا يُرْفَعُ بِالْأَضْعَفِ، فَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: إِنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ قَاطِعَةٌ، وَقَدْ رَفَعَهَا الشَّرْعُ بِالْقِيَاسِ فِي التَّكْلِيفَاتِ، وَبِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَرَجُلَيْنِ، وَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ قَدْ رَفَعَتِ الْبَرَاءَةَ الْقَاطِعَةَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا بَرَاءَةَ الْوَاحِدِ مِنَّا مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَةِ مِنْ وُلُوغٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْ تَحْرِيمِ شُرْبِ النَّبِيذِ، ثُمَّ شَغَلْنَا ذِمَّتَهُ بِوُجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ عليه السلام: حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ صَلِّي فِيهِ، وَبِقَوْلِهِ عليه السلام: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ. . . الْحَدِيثَ، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِلَ الْأَنْجَاسَ سَبْعًا. وَشَغَلْنَاهَا بِتَحْرِيمِ النَّبِيذِ بِقِيَاسِهِ عَلَى الْخَمْرِ فَكَيْفَ هَذَا؟

ص: 158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْجَوَابُ: أَمَّا التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنْهَا، بَلِ الْأَصْلُ اشْتِغَالُهَا بِهَا، نَظَرًا إِلَى أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَمَّا اسْتَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عليه السلام أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالتَّكَالِيفِ بِالْعِبَادَاتِ أَنْ يُطِيعُوا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 172] . فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ ; الذِّمَمُ مَشْغُولَةٌ بِالتَّوْحِيدِ وَأَحْكَامِهِ وَفُرُوعِهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِحَقِّ الْأَصْلِ فِيهَا.

وَإِنَّمَا انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا فِيمَا بَيْنَ يَوْمِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِ، وَيَوْمِ بُلُوغِهِ حَدَّ التَّكْلِيفِ، لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي عِلْمِ اللَّهِ عز وجل كَمَا يَنْقَطِعُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ، بِالْجُنُونِ وَالْحَيْضِ، وَبِأَسْبَابِ الرُّخَصِ. وَحِينَئِذٍ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ رَافِعًا لِلْبَرَاءَةِ الْقَاطِعَةِ مِنَ التَّكْلِيفِ، بَلْ مُؤَكِّدٌ وَمُجَدِّدٌ لِاشْتِغَالِهَا الْأَصْلِيِّ بِهِ، وَالضَّعِيفُ قَدْ يُؤَكِّدُ الْقَوِيَّ وَلَا يَرْفَعُهُ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: الْأَصْلُ عَدَمُ التَّكْلِيفِ ; إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى زَمَنِ وُجُودِ الْمُكَلَّفِ فِي هَذِهِ

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْحَيَاةِ، وَهَذِهِ النَّشْأَةِ، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى أَوَّلِ أَزْمِنَةِ التَّكْلِيفِ، فَهُوَ يَوْمُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّظَرُ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ.

وَأَمَّا رَفْعُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، فَنَقُولُ: الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ عَدَمِ اشْتِغَالِهَا بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ.

أَمَّا دَوَامُ ذَلِكَ الْعَدَمِ إِلَى حِينِ الدَّعْوَى، فَلَا قَاطِعَ بِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْغَرِيمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ حَقِّ خَصْمِهِ، شَغَلَهَا بِأَنْ غَصَبَهُ، أَوِ اقْتَرَضَ مِنْهُ، أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالْمُدَّعِي يَدَّعِي تَجْدِيدَ شَغْلِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَدَّعِي اسْتِمْرَارَ فَرَاغِ ذِمَّتِهِ وَدَوَامَهُ، فَصَارَ اخْتِلَافُهُمَا فِي دَوَامِ فَرَاغِ الذِّمَّةِ وَعَدَمِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى فَرَاغِهَا الْأَصْلِيِّ، كَالِاخْتِلَافِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ. وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ الْبَيِّنَةُ الشَّرْعِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ رَافِعَةً لِأَمْرٍ قَطْعِيٍّ، لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ هُوَ ثُبُوتُ مُجَرَّدِ عَدَمِ شَغْلِ الذِّمَّةِ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تَرْفَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَرْفَعُ دَوَامَ ذَلِكَ الْعَدَمِ، وَهُوَ ظَنِّيٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَصَارَتِ الْبَيِّنَةُ كَالْمُرَجِّحِ لِقَوْلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَهُوَ الْمُدَّعِي.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَقْرِيرٌ مُتَّجِهٌ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا جُعِلَتْ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ جَانِبَ الْمُدَّعِي ضَعِيفٌ، لِدَعْوَاهُ خِلَافَ الْأَصْلِ، وَهُوَ اشْتِغَالُ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فَرَاغُهَا، وَجَانِبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَوِيٌّ لِدَعْوَاهُ وَفْقَ الْأَصْلِ، وَهُوَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ

ص: 160

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مِنَ الْحَقِّ، وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنَ الْيَمِينِ، فَجُعِلَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى فِي جَانِبِ الْأَضْعَفِ، وَالَّتِي هِيَ أَضْعَفُ فِي جَانِبِ الْأَقْوَى تَعْدِيلًا.

قُلْنَا: هَذَا لَا يُشْكِلُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي كَوْنَ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُنْكِرُ رَاجِحًا، لَكِنَّ الرُّجْحَانَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا أَوْ غَيْرَ قَاطِعٍ، وَرُجْحَانُ جَانِبِ الْمُنْكِرِ غَيْرُ قَاطِعٍ؛ لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِهِمَا فِي دَوَامِ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ الْقَاطِعَةِ.

وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: جَانِبُ الْمُنْكِرِ رَاجِحٌ لِحُصُولِ الْقَطْعِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ بِالْجُمْلَةِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ. فَلِهَذَا الرُّجْحَانِ ضَمَمْنَا إِلَيْهِ الْحُجَّةَ الضَّعِيفَةَ، وَهِيَ الْيَمِينُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الرُّجْحَانُ قَاطِعًا، حَتَّى يَكُونَ رَفْعُهُ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ رَفْعًا لِلْقَاطِعِ بِالظَّنِّيِّ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: «وَنَافِي الْحُكْمِ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، خِلَافًا لِقَوْمٍ. وَقِيلَ: فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَقَطْ» .

اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَدِلِّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ: مَا الْأَمْرُ كَذَا، أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَا، فَالْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ الَّذِي ادَّعَى نَفْيَهُ، وَلَا يَكْفِيهِ مُجَرَّدُ دَعْوَى النَّفْيِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ عَلَى النَّفْيِ، كَأَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِكَوْنِ دَعْوَاهُ مُوَافِقَةً لِلْأَصْلِ، وَهُوَ عَدَمُ الْأَشْيَاءِ وَانْتِفَاؤُهَا، فَمَنِ ادَّعَى وُجُودَهَا وَثُبُوتَهَا، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَلِهَذَا بَنَى بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟

إِنْ قُلْنَا: هُوَ حُجَّةٌ، فَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي

وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.

ص: 161

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَهَذَا التَّفْرِيعُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا رُجْحَانَ وُجُوبِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِنَا: إِنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا.

وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ «فِي الشَّرْعِيَّاتِ» نَحْوُ: لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِلصَّلَاةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ نَحْوُ: لَيْسَ الْعَالَمُ بِقَدِيمٍ.

ص: 162

لَنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} وَالدَّعْوَى نَفْيُهُ، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْ دَعْوَاهُ بِعِبَارَةٍ نَافِيَةٍ، كَقَوْلِ مُدَّعِي حُدُوثَ الْعَالَمِ: لَيْسَ بِقَدِيمٍ، وَقِدَمُهُ لَيْسَ بِمُحْدَثٍ، فَيَسْقُطُ الدَّلِيلُ عَنْهُمَا فَتَعُمُّ الْجَهَالَةُ وَيَقَعُ الْخَبْطُ وَيَضِيعُ الْحَقُّ، وَطَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى النَّفْيِ بَيَانُ لُزُومِ الْمُحَالِ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَنَحْوِهِ.

قَالُوا: النَّفْيُ أَصْلِيُّ الْوُجُودِ، فَاسْتُغْنِيَ عَنِ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَلْزَمُهُ دَلِيلٌ.

قُلْنَا: الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الدَّلِيلِ لَا يُسْقِطُهُ، وَتَعَذُّرُهُ مَمْنُوعٌ، وَانْتِفَاءُ الدَّلِيلِ عَنِ الْمَدِينِ مَمْنُوعٌ، إِذِ الْيَمِينُ دَلِيلٌ، وَإِنْ سُلِّمَ فَلِتَعَذُّرِهِ، إِذِ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ لِتَعَذُّرِهَا، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ يَدِهِ عَلَى مِلْكِهِ أَغْنَاهُ عَنِ الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِجْمَاعِيٌّ كَنَفْيِ صَلَاةِ الضُّحَى، أَوْ نَصِّيٌّ كَنَفْيِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، أَوْ قِيَاسِيٌّ كَإِلْحَاقِ الْخُضْرَاوَاتِ بِالرُّمَّانِ فِي نَفْيِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَعَلَى نَفْيِ الْعَقْلِيِّ مَا سَبَقَ.

ــ

قَوْلُهُ: «لَنَا:» ، أَيْ: عَلَى أَنَّ نَافِيَ الْحُكْمِ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَلْزَمَ النَّافِيَ الدَّلِيلَ فِي مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ، فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ، لَمَا أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى عَدْلٌ فِي مُنَاظَرَتِهِ، وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى:

ص: 163

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [الْبَقَرَةِ: 111] ، فَهَذِهِ دَعْوَى نَافِيَةٌ، فَأَجَابَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بِقَوْلِهِ عز وجل {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 111] ، ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ عليه السلام بِمُطَالَبَتِهِمْ بِدَلِيلِ دَعْوَاهُمُ النَّافِيَةِ، فَقَالَ سبحانه وتعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 111]، أَيْ: أَقِيمُوا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَهُوَ إِلْزَامٌ بِالدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَى النَّفْيِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَافِيَ الْحُكْمِ لَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّلِيلُ، لَضَاعَ الْحَقُّ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَتَعَطَّلَ، لَكِنَّ تَعَطُّلَ الْحَقِّ بَاطِلٌ، فَالْمُفْضِي إِلَيْهِ بَاطِلٌ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ لَتَعَطَّلَ الْحَقُّ، «لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُمْكِنُهُ» أَنْ يُعَبِّرَ «عَنْ دَعْوَاهُ بِعِبَارَةٍ نَافِيَةٍ» فَيَقُولُ الْمُدَّعِي لِحُدُوثِ الْعَالَمِ:«لَيْسَ بِقَدِيمٍ» وَيَقُولُ الْمُدَّعِي لِقِدَمِهِ: «لَيْسَ بِمُحْدَثٍ» . وَحِينَئِذٍ «يَسْقُطُ الدَّلِيلُ عَنْهُمَا» لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَافٍ لِلْحُكْمِ، وَإِذَا سَقَطَ الدَّلِيلُ عَنْهُمَا ضَاعَ الْحَقُّ، فَلَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ طَرَفٍ هُوَ، إِذْ لَا يَظْهَرُ الْحَقُّ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَحِينَئِذٍ «تَعُمُّ الْجَهَالَةُ، وَيَقَعُ الْخَبْطُ» فِي الْأَحْكَامِ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تَعَطُّلَ الْحَقِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ تَعَطَّلَ لَقَامَ الْبَاطِلُ، إِذْ هُمَا ضِدَّانِ، أَوْ نَقِيضَانِ، لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَقِيَامُ الْبَاطِلِ وَظُهُورُهُ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ سُقُوطَ الدَّلِيلِ عَنِ النَّافِي بَاطِلٌ.

ص: 164

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَطَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى النَّفْيِ بَيَانُ لُزُومِ الْمُحَالِ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَنَحْوِهِ» أَيْ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّافِيَ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، فَطَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ بَيَانُ لُزُومِ الْمُحَالِ مِنْ إِثْبَاتِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْهُ الْمُحَالُ يَكُونُ مُحَالًا، فَإِذَا لَزِمَ الْمُحَالُ مِنَ النَّفْيِ كَانَ النَّفْيُ مُحَالًا، فَيَكُونُ الْإِثْبَاتُ حَقًّا، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا.

مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: الْعَالَمُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدِيِمًا لَلَزِمَ تَأْثِيرُ إِرَادَةِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ فِيهِ، لَكِنَّ تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي الْقَدِيمِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ أَثَرًا، وَكُلُّ أَثَرٍ مُحْدَثٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَنْقَلِبَ الْقَدِيمُ مُحْدَثًا، وَهُوَ مُحَالٌ، فَهَذَا الْمُحَالُ قَدْ لَزِمَ مِنْ إِثْبَاتِ قِدَمِ الْعَالَمِ، فَيَكُونُ مُحَالًا، وَإِذَا اسْتَحَالَ الْقِدَمُ، تَعَيَّنَ الْحُدُوثُ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّفِقُ لِلْمُسْتَدِلِّ، وَيَسْنَحُ لِخَاطِرِهِ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «قَالُوا:» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: احْتَجَّ النَّافُونَ لِوُجُوبِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ «النَّفْيَ أَصْلِيُّ الْوُجُودِ» يَعْنِي أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ، إِذِ الْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَمَّا سِوَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، فَكُلُّ شَيْءٍ يُسْتَدَلُّ عَلَى نَفْيِهِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْعَالَمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَالَمِ الْعَدَمُ وَالِانْتِفَاءُ، وَإِذَا كَانَ الْعَدَمُ وَالِانْتِفَاءُ ثَابِتًا بِحَقِّ الْأَصْلِ، اسْتُغْنِيَ عَنْ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّيْنُ» أَيْ: مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ دَيْنٌ «لَا

ص: 165

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَلْزَمُهُ دَلِيلُ» بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ؛ لِثُبُوتِهَا بِحَقِّ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْبَيِّنَةُ الْمُدَّعِيَ؛ لِدَعْوَاهُ خِلَافَ الْأَصْلِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بَعْدَ انْتِفَائِهِ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مَرْجِعُهُمَا أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ اسْتِغْنَاءُ مَا ثَبَتَ بِحَقِّ الْأَصْلِ عَنِ الدَّلِيلِ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ: أَنَّ «الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الدَّلِيلِ لَا يُسْقِطُهُ» إِذَا قَامَ دَلِيلُ وُجُوبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِمَا سَبَقَ، «وَتَعَذُّرُهُ مَمْنُوعٌ» . أَيْ: إِنِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ الدَّلِيلَ مُتَعَذِّرٌ عَلَى النَّفْيِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، مَنَعْنَا تَعَذُّرَهُ مُطْلَقًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِمْكَانِهِ بِبَيَانِ لُزُومِ الْمُحَالِ مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا «انْتِفَاءُ الدَّلِيلِ عَنِ» الْمَدْيُونِ، فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا، إِذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُنْكِرَ الدَّيْنِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَهُوَ الْيَمِينُ، وَهِيَ وَإِنْ قَصُرَتْ فِي الْقُوَّةِ عَنِ الْبَيِّنَةِ، لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا دَلِيْلًا، إِذِ الْأَدِلَّةُ مِنْهَا الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ لَيْسَتْ دَلِيلًا، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّلِيلَ إِنَّمَا سَقَطَ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّا لَوْ كَلَّفْنَاهُ دَلِيلًا، لَكَانَ دَلِيلُهُ الْبَيِّنَةَ، كَمَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ شَهَادَتُهَا بِالْإِثْبَاتِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَكَانَتْ شَهَادُتُهَا لَهُ بِالنَّفْيِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُدَّعِي قِبَلَهُ، لَكِنَّ «الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ» ؛ لِجَوَازِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي حَالِ نَوْمِهَا، أَوْ غَفْلَتِهَا، أَوْ غَيْبَتِهَا وَضَبْطِهَا لِلزَّمَانِ، بِحَيْثُ تَحَقَّقَ أَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مُتَعَذِّرٌ، فَسَقَطَ الدَّلِيلُ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَاهُنَا لِتَعَذُّرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الدَّلِيلِ فِي

ص: 166