الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي، فَبِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ «بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالشَّهَادَةِ، وَالظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومَاتِ» فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ، وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ الْحَدُّ. وَقِيَاسُ قَوْلِكُمْ، إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، فَيَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ.
هَذَا آخِرُ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» مِنْ أَدِلَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مُنْتَظِمَةٌ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَاقْتَضَاهُ تَرْتِيبُهُ وَلَفْظُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ فِي الشَّرْحِ:
جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ
، وَالْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ، كَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ، وَعَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَالرَّكَعَاتِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَنَحْوِهَا، وَحَدِّ الزَّانِي وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْقَصَّارِ وَالْبَاجِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَكْثَرِ النَّاسِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
لَنَا: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَمِنْ أَنَّا إِذَا فَهِمْنَا مَنَاطَ الْحُكْمِ، وَأَفَادَنَا الْقِيَاسُ الظَّنَّ، قِسْنَا، وَإِلَّا فَلَا.
احْتَجَّ الْخَصْمُ بِنَحْوِ مَا سَبَقَ بِأَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ لَا يُعْقَلُ مَعْنَى اخْتِصَاصِهَا بِمَا اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ أَدْنَى، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عِشْرِينَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِثْقَالًا دُونَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَوْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَإِيجَابِ مِائَةٍ فِي الْحَدِّ دُونَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ سَوْطًا أَوْ مِائَةً وَسَوْطٍ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ دُونَ يَوْمَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَصِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا فِي الظِّهَارِ وَنَحْوِهِ دُونَ أَحَدٍ وَسِتِّينَ، أَوْ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ لَا يُعْقَلُ تَعَذُّرُ الْقِيَاسِ فِيهَا، إِذِ الْقِيَاسُ فَرْعُ تَعَقُّلِ الْمَعْنَى، وَإِذَا انْتَفَى الْأَصْلُ، انْتَفَى الْفَرْعُ.
وَالْجَوَابُ بِمَا سَبَقَ مَنْ أَنَّا حَيْثُ لَا نَفْهَمُ الْمَعْنَى، لَا نَقِيسُ.
قُلْتُ: فَكَأَنَّ النِّزَاعَ صَارَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ جَوَازُ فَهْمِ الْمَعْنَى فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ: يَجُوزُ فَهْمُهُ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا، فَيَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا إِذَا تَحَقَّقَ مَنَاطُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ لِتَعَذُّرِ تَحَقُّقِ مَنَاطِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ.
وَحِينَئِذٍ الْأَشْبَهُ مَا قُلْنَاهُ، إِذْ جَوَازُ فَهْمِ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحَالٌّ، وَلَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ مَحَلَّ الْخِلَافِ، وَإِلَّا عَادَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ فِي التَّعَبُّدِ، وَجَوَازِهِ حَيْثُ عُقِلَ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قُلْتُ: قَدْ حَصَلَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَدَاخُلٌ بِمُوجِبِ الِاخْتِصَارِ، وَقَدْ فَصَّلْتُهُ فِي الشَّرْحِ كَمَا رَأَيْتَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالنَّفْيُ ضَرْبَانِ: أَصْلِيٌّ: فَيَجْرِي فِيهِ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِانْتِفَاءِ حُكْمِ شَيْءٍ عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْ مِثْلِهِ، فَيُؤَكَّدُ بِهِ الِاسْتِصْحَابُ، لَا قِيَاسُ الْعِلَّةِ، إِذِ لَا عِلَّةَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ.
وَطَارِئٌ: كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسَانِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْإِثْبَاتِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَالنَّفْيُ ضَرْبَانِ: أَصْلِيٌّ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: النَّفْيُ إِمَّا أَصْلِيٌّ أَوْ طَارِئٌ، فَالْأَصْلِيُّ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ ثُبُوتٌ، كَنَفْيِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، وَنَفْيِ صَوْمِ شَهْرٍ غَيْرِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا «يَجْرِي فِيهِ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ» دُونَ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مُمْكِنٌ مَوْجُودٌ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا أَمْكَنَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ قَبْلَ الشَّرْعِ، لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِهِ وَأَحْكَامِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وَجُودُهَا قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ هَاهُنَا «هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِانْتِفَاءِ» الْحُكْمِ فِي «شَيْءٍ عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْ مِثْلِهِ» أَوْ بِعَدَمِ انْتِفَاءِ خَوَاصِّ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَجَبِ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ لِأَنَّ فِيهِ مَفْسَدَةً خَالِصَةً أَوْ رَاجِحَةً، وَهَذَا الْفِعْلُ الْآخَرُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ.
مِثَالُهُ: إِنَّمَا لَمْ تَجِبْ صَلَاةٌ سَادِسَةٌ وَحَجٌّ ثَانٍ فِي الْعُمْرِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، وَوُجُوبِ صَوْمِ شَهْرٍ ثَانٍ، أَوْ وُجُوبِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
شَوَّالٍ فِيهِ مِثْلُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ، فَهَذَا قِيَاسٌ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي الِانْتِفَاءِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِجَامِعِ مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ.
مِثَالُ الثَّانِي، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِانْتِفَاءِ الْخَوَاصِّ أَنْ يُقَالَ: تَرْتِيبُ الْوَعِيدِ مِنْ خَوَاصِّ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي صَلَاةِ الْوَتْرِ وَالضُّحَى، وَصَوْمِ أَيَّامِ الْبِيضِ، فَلَا تَكُونُ وَاجِبَةً.
وَقَوْلُنَا: «فَيُؤَكَّدُ بِهِ الِاسْتِصْحَابُ» أَيْ: إِنَّ هَذَا الِانْتِفَاءَ مُسْتَغْنٍ بِاسْتِصْحَابِ دَلِيلِ الْعَقْلِ النَّافِي عَنْ دَلِيلٍ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ إِنَّمَا وَقَعَ مُؤَكِّدًا لِاسْتِصْحَابِ حَالِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى لَوْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ السَّادِسَةِ، لَكَانَ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ مُسْتَقِلًّا بِنَفْيِ وُجُوبِهَا.
أَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا، لِمَا سَبَقَ، وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَا يَتَجَدَّدُ بَعْدَ عَدَمِهِ، وَهَذَا النَّفْيُ ثَابِتٌ بِالْأَصَالَةِ، فَلَا عِلَّةَ لَهُ إِلَّا إِرَادَةَ الْبَارِئِ جل جلاله عَدَمَ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ النَّفْيُ; بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِيجَادَهُ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تُعَلَّلَ بِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ.
وَأَمَّا النَّفْيُ الطَّارِئُ، أَيِ: الْحَادِثُ الْمُتَجَدِّدُ بَعْدَ عَدَمِهِ، «كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ الدَّيْنِ» بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِيهَا، «فَيَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسَانِ» : قِيَاسُ الدَّلَالَةِ، وَقِيَاسُ الْعِلَّةِ، «لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ» فَهُوَ «كَالْإِثْبَاتِ» الشَّرْعِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْيَ الطَّارِئَ بِالشَّرْعِ لَهُ خَوَاصٌّ يَسْتَدِلُّ بِانْتِفَائِهَا عَلَى انْتِفَائِهِ، وَآثَارٌ يَسْتَدِلُّ بِوُجُودِهَا عَلَى وُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ لَهُ عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ يُعَلَّلُ بِهَا، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا شَارَكَهُ فِيهَا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِثَالُ الْأَوَّلِ - وَهُوَ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ فِي النَّفْيِ الطَّارِئِ - أَنْ يَقُولَ: مِنْ خَوَاصِّ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ الدَّيْنِ أَنْ لَا يُطَالَبَ بِهِ بَعْدَ أَدَائِهِ، وَلَا يَرْتَفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَا يُحْبَسَ بِهِ، وَلَا يُحَالَ بِهِ عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْخَوَاصِّ مَوْجُودَةٌ، فَدَلَّ عَلَى وُجُودِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، كَمَا نَقُولُ: مِنْ خَوَاصِّ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ جَوَازُ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَالتَّصَدُّقِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ. وَقَدِ انْتَفَتْ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَاصِبِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِ لَهَا، وَثَبَتَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ لَهَا.
وَمِثَالُ الثَّانِي - وَهُوَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ فِي النَّفْيِ الطَّارِئِ - أَنْ يُقَالَ: عِلَّةُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ دَيْنِ الْآدَمِيِّ هُوَ أَدَاؤُهُ، وَالْعِبَادَاتُ هِيَ دَيْنٌ لِلَّهِ عز وجل، فَلْيَكُنْ أَدَاؤُهَا عِلَّةَ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقِيَاسِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ عَلَى مَلِيءٍ عِلَّةٌ لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ مِنْهُ، فَلْتَكُنِ الْإِحَالَةُ بِدَيْنِ اللَّهِ عز وجل عِلَّةً لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا حَتَّى تَجُوزَ اسْتِنَابَةُ الْمُكَلَّفِ غَيْرَهُ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْوَاجِبَةِ عَنْهُ، كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْفَرْضِ وَنَحْوِهِ; لَكَانَ هَذَا قِيَاسًا صَحِيحًا فِي الْجُمْلَةِ. وَقَدْ ظَهَرَتْ صِحَّتُهُ فِي جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَصَوْمِ النَّذْرِ عَنِ الْأَمْوَاتِ، وَحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْقُرَبِ. وَإِنْ أَدَّى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ إِلَى طَرْدِ الْقِيَاسِ فِي بَقِيَّةِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلٍ أَوْ شُبْهَةٍ يُعْذَرُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ، كَانَ لَهُ طَرْدُهُ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ فُرُوضَ الْأَعْيَانِ لَا تُقْبَلُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا، وَلَا الْحَوَالَةُ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ خُوطِبَ بِفِعْلِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِفَسَادِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ إِنَّمَا تَنْقُلُ الْحَقَّ، وَتَبْرَأُ بِهَا ذِمَّةُ الْمُحِيلِ بِشَرْطِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ رَضِيَ بِنَقْلِ حَقِّهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ الْمَعْلُومُ عَدَمَ رِضَاهُ لِتُوَجِّهِ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ بِأَدَاءِ مَا خُوطِبَ بِهِ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَشْتَرِطُ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ فِي الْحَوَالَةِ، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ لِقِيَامِ الْفَارِقِ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَدَاؤُهُ، لَا تَعْبُّدُ عَيْنِ الْمُؤَدِّي لَهُ بِهِ، فَيَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ عز وجل فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ أَمْرَانِ: أَدَاؤُهُ وَتَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِهِ عَيْنًا، وَهُوَ أَعَمُّ الْأَمْرَيْنِ. فَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ بِنَائِبٍ، وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ تَعَبُّدُ الْأَعْيَانِ بِهِ، قَامَ الْبَعْضُ فِيهِ مَقَامَ الْبَعْضِ، فَهَذَا مَقْصُودُ الْكَلَامِ عَلَى لَفْظِ «الْمُخْتَصَرِ» .
وَأَشَارَ الْقَرَافِيُّ فِي «مُخْتَصَرِهِ» إِلَى أَنَّ فِي دُخُولِ الْقِيَاسِ فِي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ أَقْوَالًا ثَالِثُهَا الْمَذْكُورُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَهُوَ دُخُولُ قِيَاسِ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِ دُونَ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الْمُسْتَصْفَى» وَ «الرَّوْضَةَ» وَقَدْ ذَكَرْتُ تَوْجِيهَهُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَمَّا حُجَّةُ الْجَوَازِ مُطْلَقًا، فَقَدْ سَبَقَتْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِانْتِفَاءِ خَوَاصِّ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى انْتِفَائِهِ فِي قِيَاسِ الِاسْتِدْلَالِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ لِتَضَمُّنِهِ مَفْسَدَةَ كَذَا. وَهَذَا الْفِعْلُ يَتَضَمَّنُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ قِيَاسُ الْعِلَّةِ.
وَحُجَّةُ الْمَنْعِ مُطْلَقًا قَدْ أُشِيرَ إِلَيْهَا أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ النَّفْيَ الْأَصْلِيَّ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ بِذَاتِهِ، فَيَسْتَحِيلُ إِثْبَاتُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ اسْتِدْلَالٍ أَوْ عِلَّةٍ، لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ الثَّابِتِ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، لَا مُثْبِتٌ لَهُ.
وَأَمَّا الْعِلَّةُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ فَهْمُنَا بِالْقِيَاسِ إِلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ، فَنُعَدِّيهَا إِلَى مَا سَاوَى النَّفْيَ الَّذِي اسْتُفِيدَتْ مِنْهُ، كَقَوْلِنَا: إِنَّمَا لَمْ يُبَحِ السُّمُّ، لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالْأَبْدَانِ، مُفَوِّتٌ لِحُقُوقِ اللَّهِ عز وجل مِنْهَا، ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى كُلِّ مُضِرٍّ بِالْبَدَنِ، مُفَوِّتٍ لِلْعِبَادَةِ مِنْهُ، كَقَتْلِ النَّفْسِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ مُفِيدٌ لَوْ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِمُقْتَضَاهُ، لَصَحَّ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهِ، وَقَدِ اسْتَرْسَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَطَلْتُ فِيهَا طَلَبًا لِلْكَشْفِ عَنْهَا، إِذْ تَصَوُّرُهَا وَتَرْكِيبُ أَمْثِلَتِهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ خُصُوصًا الْمُبْتَدِئُ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.