الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الصِّحَّةِ وَالشُّهْرَةِ كَالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَوْ ثَبَتَ صِحَّتُهُمَا، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ خَفَاءُ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْهُمَا، فَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَخُفِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم حَتَّى رَوَى لَهُمْ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه وَإِذَا احْتُمِلَ ذَلِكَ، لَمْ يُعَارَضْ بِهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ بِإِيجَابِ التَّغْرِيبِ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ أَثَرَانِ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَفْقَهُ مِنَ الْآخَرِ ; قُدِّمَ قَوْلُ الْأَفْقَهِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.
وَمِثَالُهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي عَدِّهِ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ: أَوْ دَسْعَةٌ تَمْلَأُ الْفَمَ، مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَفْتَى بِعَدَمِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، لِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بُقُولِ الْأَفْقَهِ أَغْلَبُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِي
تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:
فَمِنْهَا: إِذَا كَانَ أَحَدُ احْتِمَالَيِ التَّصَرُّفِ يُعَرِّفُ حُكْمًا يُوَافِقُ الْعَقْلَ، وَالْآخَرَ يُعَرِّفُ حُكْمًا يُنَافِيهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى، كَقَوْلِهِ عليه السلام: مَنْ مَسَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ; يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْيَدَ نَدْبًا، إِزَالَةً لِنَفْرَةِ النَّفْسِ الَّتِي أَوْرَثَهَا مَسُّ الذَّكَرِ فِي الْيَدِ، فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الِاحْتِمَالُ، لِأَنَّهُ يُوَافِقُ الْعَقْلَ، وَالْأَوَّلُ يُنَافِيهِ.
قُلْتُ: الْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا بِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ تَصْحِيحُ دَلِيلٍ مُسْتَقِرٍّ، فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْمُوَافِقُ لَهُ يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ دَلِيلَيْنِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي هَذَا مَا يَخْرُجُ فِي الْخَبَرِ الْمُقَرَّرِ مَعَ النَّافِي.
أَمَّا الْمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى مَا رَجَّحَهُ فِيهِ بِأَنْ يُقَالَ: غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَيَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَيْهَا لِمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ. سَلَّمْنَاهُ ; لَكِنَّ قَوْلَهُ:«فَلْيَتَوَضَّأْ» أَمْرٌ، فَظَاهَرُهُ الْوُجُوبُ، فَحَمْلُهُ عَلَى اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْيَدِ خِلَافُهُ. سَلَّمْنَاهُ ; لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ النَّفْرَةِ لِلنَّفْسِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، كَيْفَ وَأَنَّهُ عليه السلام يَقُولُ فِي حَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنْ هُوَ إِلَّا بِضْعَةٌ - أَوْ مُضْغَةٌ - مِنْكَ. سَلَّمْنَاهُ ; لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ يُنَافِيهِ، كَيْفَ وَأَنَّ فِيهِ طَهَارَةً مِنَ الْأَدْرَانِ الدِّينِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ. وَوُقُوفُ الْمُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ كَذَلِكَ هُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَقْلِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُنَافِيهِ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا نَافَى الْعَقْلَ، رَجَحَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَزِمَ حَمْلُ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ عز وجل:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْأَنْعَامِ: 72] عَلَى مُسَمَّاهَا اللُّغَوِيِّ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَهُوَ الدُّعَاءُ، لِأَنَّهُ أَنْسَبُ فِي الْعَقْلِ مِنْ مُسَمَّاهَا الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّهُ حَرَكَةٌ مَحْضَةٌ لَا يَلْحَقُ الشَّرْعُ مِنْهَا نَفْعٌ، وَلَا يَتَوَقَّفُ نَفْعُ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهَا، إِذْ كَمْ مِنْ شَخْصٍ حَصَلَ لَهُ الْفَوْزُ الْأُخْرَوِيُّ بِغَيْرِ عَمَلٍ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَنَازَعَ النَّصَّ مَحْمَلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَلْزِمُ التَّخْصِيصَ، وَالْآخَرُ يَسْتَلْزِمُهُ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النِّسَاءِ: 3]، يَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: الْمُرَادُ بِالْمُسْتَطَابِ الْحَلَالُ طَبْعًا، فَيَتَنَاوَلُ جَوَازُ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَلَا تُوطَأُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْمُسْتَطَابِ: الْحَلَالُ، فَلَا يُنَاوِلُهَا، فَيُقَالُ: هَذَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْعَامِّ، وَالْمَحْمَلُ الْأَوَّلُ يُبْقِيهِ عَلَى عُمُومِهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَقَلِّ تَخْصِيصًا عَلَى الْأَكْثَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ «طَابَ» ، فَعَلَى أَيِّ مَحْمَلَيْهِ حُمِلَ، كَانَ عَامًّا فِي مَدْلُولِهِ، إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا طَابَ طَبْعًا، فَهُوَ عَامٌّ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ النِّزَاعُ بِمَعْزِلٍ عَنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ.
وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ أَحَدُ مَحْمَلَيِ النَّصِّ يَسْتَلْزِمُ التَّعَارُضَ، وَالْآخَرُ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَالثَّانِي أَوْلَى، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النِّسَاءِ: 25] ; حَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَأَحْمَدُ رضي الله عنهما عَلَى اشْتِرَاطِ عَدَمِ الطَّوْلِ لِنِكَاحِ الْأَمَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى لَا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُقْتَضِيَةَ لِجَوَازِ النِّكَاحِ مُطْلَقًا تُعَارِضُهُ، فَيَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْلَى لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ التَّعَارُضَ.
قُلْتُ: هَذَا بِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ مَمْنُوعٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَنَحْنُ لَمَّا قُلْنَا: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، كَانَتْ آيَةُ الطَّوْلِ مُقَيِّدَةٌ لِلنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ.
وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ الْأَقَلِّ إِضْمَارًا عَلَى الْأَكْثَرِ، وَقَدْ سَبَقَ، وَمُثِّلَ بُقُولِهِ عليه السلام: الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ فَإِضْمَارُ الْوُجُوبِ حَتَّى يَصِيرَ تَقْدِيرُهُ: يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ ; أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ نَفْيِهِ بِتَقْدِيرٍ: لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ.
قُلْتُ: فِي هَذَا التَّمْثِيلِ نَظَرٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَدْرَ الْحَدِيثِ: لَيْسَ الْوُضُوءُ مِنَ الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ، إِنَّمَا الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ. وَهَذَا يَمْنَعُ إِضْمَارُ نَفْيِ الْوُجُوبِ لِلتَّصْرِيحِ بِإِثْبَاتِهِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِضْمَارَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْكَلَامِ لَا مُنَافِيًا، وَقَوْلُهُ:«الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» جُمْلَةٌ إِثْبَاتِيَّةٌ، فَإِضْمَارُ نَفْيِ الْوُجُوبِ يُنَافِيهَا، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ فِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْوُجُوبُ وَالِاسْتِحْبَابُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: الْوُضُوءُ وَاجِبٌ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ، أَوْ: مُسْتَحَبٌّ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ.
وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ أَشْهَرِ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِثَالُهُ: أَنْ يَتَمَسَّكَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّزَوُّجِ عَلَى النَّوَافِلِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّوَافِلِ، وَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ: الْعَقْدُ، فَقَالَ الْخَصْمُ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ: الْوَطْءُ، فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: لَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا لَكِنَّهُ فِي الْعَقْدِ أَشْهَرُ، فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى.
قُلْتُ: النِّكَاحُ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فِي أَيِّهَا كَانَ حَقِيقَةً أَوْ أَشْهَرَ، صَحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ.
وَمِنْهَا: تَرْجِيحُ مَا أَفَادَ حُكْمًا شَرْعِيًّا عَلَى مَا أَفَادَ حُكْمًا حِسِّيًّا.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ يُحْتَمَلُ أَنِ الْمُرَادَ يَجِبُ فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، فَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ أَنَّ الرِّقَّةَ تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ حَتَّى يَكُونَ لَهَا رُبْعُ الْعُشْرِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَنْزِعُ إِلَى تَعَارُضِ التَّأْسِيسِ وَالتَّأْكِيدِ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ أَسَّسَ لَنَا حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُهُ، وَحَمْلُهُ عَلَى اشْتِمَالِ الرِّقَّةِ عَلَيْهِ يَكُونُ تَأَكِيدًا لِمَا عَلِمْنَاهُ بِالْحِسِّ.
وَمِنْهَا: إِذَا احْتَمَلَ النَّصُّ مَحْمَلَيْنِ ; أَحَدُهُمَا يُعَرِّفُ حُكْمًا مُخْتَلَفًا فِيهِ،