الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّالِثُ:
فَسَادُ الْوَضْعِ
، وَهُوَ اقْتِضَاءُ الْعِلَّةِ نَقِيضَ مَا عُلِّقَ بِهَا، نَحْوُ: لَفْظُ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِجَارَةِ، فَيُقَالُ: انْعِقَادُ غَيْرِ النِّكَاحِ بِهِ يَقْتَضِي انْعِقَادُهُ بِهِ لِتَأْثِيرِهِ فِي غَيْرِهِ.
وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ الِاقْتِضَاءِ الْمَذْكُورِ، أَوْ بِأَنَّ اقْتِضَاءَهَا لَمَّا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ أَرْجَحُ. فَإِنَّ ذِكْرَ الْخَصْمِ شَاهِدًا لِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرَهُ، فَهُوَ مُعَارَضَةٌ.
ــ
السُّؤَالُ: «الثَّالِثُ: فَسَادُ الْوَضْعِ، وَهُوَ اقْتِضَاءُ الْعِلَّةِ نَقِيضَ مَا عُلِّقَ بِهَا» وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا فَسَادَ الْوَضْعِ، لِأَنَّ وَضْعَ الشَّيْءِ: جَعْلُهُ فِي مَحَلٍّ عَلَى هَيْئَةٍ أَوْ كَيْفِيَّةٍ مَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ أَوْ تِلْكَ الْهَيْئَةُ لَا تُنَاسِبُهُ كَانَ وَضْعُهُ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ، وَمَا كَانَ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ يَكُونُ فَاسِدًا، فَنَقُولُ هَاهُنَا: إِنَّ الْعِلَّةَ إِذَا اقْتَضَتْ نَقِيضَ الْحُكْمِ الْمُدَّعَى أَوْ خِلَافَهُ، كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْحِكْمَةِ، إِذْ مِنْ شَأْنِ الْعِلَّةِ أَنَّ تُنَاسِبَ مَعْلُولَهَا، لَا أَنَّهَا تُخَالِفُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ فَاسِدَ الْوَضْعِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ، وَالْبَزْدَوِيُّ فِي «جَدْلَيْهِمَا» لِفَسَادِ الْوَضْعِ أَنْوَاعًا:
مِنْهَا: وُقُوعُ الْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، كَقَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ فِي إِبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ: لِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، فَأُبِيحَ، كَمَا لَوْ تَرَكَهَا نَاسِيًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَالظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ أَعْظَمُ.
الثَّانِي: وُقُوعُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ، كَاسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْحَنَفِيِّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ، وَحُكْمُ الْأَصْلِ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
الثَّالِثُ: دَعْوَى الْمُعْتَرِضِ إِشْعَارَ الْوَصْفِ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ، كَمَا تُذْكَرُ أَمْثِلَتُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ. وَذَكَرَ النِّيلِيُّ أَنَّ وُقُوعَ الْقِيَاسِ فِي مُصَادَمَةِ النَّصِّ قَدْ يُسَمَّى فَسَادَ الْوَضْعِ أَيْضًا. وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْعُرْفَ خَصَّ اعْتِبَارَ الْعِلَّةِ فِي ضِدِّ مُقْتَضَاهَا بِفَسَادِ الْوَضْعِ، وَاعْتِبَارَهَا فِي خِلَافِ مُقْتَضَاهَا بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ، وَسَيَأْتِي أَمْثِلَةُ الضِّدِّ وَالْخِلَافِ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ اصْطِلَاحِيٌّ لَا يَضُرُّ، وَإِطْلَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ لَا يُنَافِي اللُّغَةَ، بَلْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ فِيهَا.
مِثَالُ مَا عُلِّقَ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ ضِدَّ مَا تَقْتَضِيهِ: قَوْلُنَا فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ: لَفْظُ «يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ» كَلَفْظِ «الْإِجَارَةِ» . فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ «انْعِقَادَ غَيْرِ النِّكَاحِ» بِلَفْظِ الْهِبَةِ «يَقْتَضِي» وَيُنَاسِبُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ، لَكِنَّ تَأْثِيرَهُ فِي انْعِقَادِ غَيْرِ النِّكَاحِ بِهِ - وَهُوَ الْهِبَةُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ حَظًّا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ فَلْيَنْعَقِدْ بِهِ، كَالْهِبَةِ، وَيَلْتَزِمُ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ، أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ إِنْ أَمْكَنَ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الْحَنَفِيِّ: قَتْلُ الْعَمْدِ كَبِيرَةٌ، فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، قِيَاسًا عَلَى الزِّنَا وَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ كَبِيرَةً يَقْتَضِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
التَّغْلِيظَ عَلَيْهِ، لَا التَّخْفِيفَ عَنْهُ، وَفِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ تَغْلِيظٌ، وَفِي إِسْقَاطِهَا تَخْفِيفٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الشَّفْعَوِيِّ فِي تَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ: مَسْحٌ، فَيُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ، كَالْمَسْحِ فِي الِاسْتِجْمَارِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ مَسْحًا مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَمُنَاسِبٌ لَهُ، وَالتَّكْرَارُ مُنَافٍ لَهُ.
وَمِثَالُ مَا عُلِّقَ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ وَلَيْسَ بِضِدٍّ، قَوْلُنَا: فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْجِرَاحَاتِ جِنَايَةٌ عَلَى آدَمِيٍّ، فَيُضْرَبُ بَدَلَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ كَالنَّفْسِ، فَيُقَالُ: هَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ، إِذْ جِنَايَةُ الشَّخْصِ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ضَمَانِهَا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، عَمَلًا بِمُوجَبِ النَّصِّ وَالْعُرْفِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي أَنَّ الْعَبْدَ تَتَقَدَّرُ قِيمَتُهُ، لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، فَتَقَدَّرَتْ قِيمَتُهُ كَالْحُرِّ، فَيُقَالُ: هَذَا عَلَى خِلَافِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُشِيرُ إِلَى تَقْدِيرٍ.
قُلْتُ: هَكَذَا ذَكَرَ النِّيلِيُّ فِي أَمْثِلَةِ اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ ضِدَّ حُكْمِهَا وَخِلَافِهِ، وَلَعَلَّ فِيهِ نَظَرًا، فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْقِيمَةِ وَعَدَمَهُ، وَاخْتِصَاصَ الْجِنَايَةِ بِالْجَانِي وَعَدَمَهُ، نَحْوٌ مِنَ اقْتِضَاءِ الْكَبِيرَةِ الْكَفَّارَةَ وَعَدَمِهَا، وَانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَعَدَمِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَالْخِلَافَيْنِ، وَالْمِثْلَيْنِ، وَالنَّقِيضَيْنِ، وَبِعَرْضِ هَذَا عَلَى ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ.
قَوْلُهُ: «وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ الِاقْتِضَاءِ الْمَذْكُورِ، أَوْ بِأَنَّ اقْتِضَاءَهَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَرْجَحُ» . أَيْ: وَجَوَابُ فَسَادِ الْوَضْعِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا بِأَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَدِلُّ كَوْنَ عِلَّتِهِ تَقْتَضِي نَقِيضَ مَا عُلِّقَ بِهَا، أَوْ بِأَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ، لَكِنْ يُبَيِّنَ أَنَّ اقْتِضَاءَهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، هُوَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَعْنَى الْآخَرِ، فَيُقَدَّمُ لِرُجْحَانِهِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ انْعِقَادَ الْهِبَةِ بِلَفْظِهَا، أَوْ كَوْنِ لَفْظِ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ.
قَوْلُكُمْ: انْعِقَادُ غَيْرِ النِّكَاحِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُودِ.
قُلْنَا: إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْهِبَةُ، أَمَّا غَيْرُهُ، فَلَا لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَأْثِيرَ اللَّفْظِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضُوعِهِ، لِإِشْعَارِهِ بِخَوَاصِّهِ، وَدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الْوَضْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةُ لَهَا خَوَاصٌّ لَا يُشْعِرُ بِهَا لَفْظُ الْهِبَةِ، فَيَضْعُفُ عَنْ إِفَادَتِهَا، وَالتَّأْثِيرِ فِي انْعِقَادِهَا بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ تَجَوُّزٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّجَوُّزِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قُوَّةَ اللَّفْظِ وَسُلْطَانَهُ، وَظُهُورَ دَلَالَتِهِ، لَمَّا كَانَتْ فِي مَوْضُوعِهِ، كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِهِ تَفْرِيقًا لِقُوَّتِهِ، وَكَالتَّغْرِيبِ لَهُ عَنْ مَوْطِنِهِ، فَيَضْعُفُ بِذَلِكَ عَنِ التَّأْثِيرِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ انْعِقَادَ غَيْرِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ يَقْتَضِي انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ، لَكِنِ اقْتِضَاؤُهُ لِعَدَمِ انْعِقَادِهِ أَقْوَى مِنَ اقْتِضَائِهِ لِانْعِقَادِهِ، لِأَنَّ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ; يَقْتَضِي أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ مَجَازٌ فِي النِّكَاحِ عَنِ الْهِبَةِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي نَفْيَهُمَا، وَتَخْصِيصُ كُلِّ عَقْدٍ بِلَفْظٍ هُوَ وَفْقُ الْأَصْلِ، وَمَا وَافَقَ الْأَصْلَ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّا خَالَفَهُ.
وَعَلَى هَذَا النَّمَطِ يَكُونُ الْجَوَابُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمِثَالِ، فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ كَفَّارَةِ الْعَمْدِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ تَقْتَضِي التَّغْلِيظَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ بِأَنَّ لِلشَّرْعِ أَنْ يُقَابِلَ الْكَبِيرَةَ بِيَسِيرِ الْعُقُوبَةِ، وَالصَّغِيرَةَ بِعَظِيمِ الْعُقُوبَةِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَرْحَمَ الْعَاصِيَ، وَيُعَذِّبَ الطَّائِعَ، وَيُغْنِيَ الطَّالِحَ، وَيُفْقِرَ الصَّالِحَ. وَإِنَّمَا انْقَسَمَتِ الْأَفْعَالُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَفَاسِدَ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ. أَمَّا أَنَّهَا تَقْتَضِي عُقُوبَاتٍ بِحَسَبِهَا صِغَرًا وَكِبَرًا فَلَا. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُتَّجِهًا كَمَا تَرَاهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمَأْلُوفَ مِنَ الشَّرْعِ يَرُدُّهُ، حَيْثُ جَعَلَ الْعُقُوبَاتِ تَابِعَةً لِصِغَرِ الْأَفْعَالِ وَكِبَرِهَا.
سَلَّمْنَا أَنَّ كَوْنَهَا كَبِيرَةً يَقْتَضِي التَّغْلِيظَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِسْقَاطَ الْكَفَّارَةِ تَخْفِيفٌ، بَلْ هُوَ تَغْلِيظٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْكَبِيرَةِ قَدْرًا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَتَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ يُخَفِّفُ عَنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَكَانَ تَأْخِيرُهُ بِكَمَالِهِ عَلَيْهِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ أَغْلَظَ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ. وَهَذَا كَمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُؤْمِنَ تُكَفَّرُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا، لِيَلْقَى اللَّهَ عز وجل نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، بِخِلَافِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ، وَيُعَجَّلُ لَهُمْ مَعْرُوفُهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِيُلَاقُوا عَذَابَ الْآخِرَةِ كَامِلًا، لَمْ يُخَفَّفْ مِنْهُ شَيْءٌ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ.
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَحْثٌ قَدِ اسْتَقْصَيْتُهُ فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» لَمْ يَتَّسِعْ هَذَا الْمَكَانُ لِذَكَرِهِ، وَلَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ إِنَّمَا نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي الصِّنَاعَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ فِي الْمِثَالَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهُوَ عَنْ قَوْلِ الْمُعْتَرِضِ: إِنَّ جِنَايَةَ الْآدَمِيِّ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ضَمَانِهَا بِهِ، وَإِنَّ وَصْفَ الْآدَمِيِّ لَا يُشِيرُ إِلَى تَقْدِيرِ قِيمَتِهِ; فَبِنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجِنَايَةَ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الضَّمَانِ بِفَاعِلِهَا، إِذْ لِلشَّرْعِ أَنْ يَجْعَلَ فِعْلَ زَيْدٍ أَمَارَةً عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِعَمْرٍو، كَمَا جَازَ أَنْ يُجْعَلَ عَمَلُ زَيْدٍ فِي نِيَابَةِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَابِلَةِ لِلنِّيَابَةِ، وَإِهْدَاءِ ثَوَابِ الْقُرْبِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ الْمَالِيَّةِ، عَلَمًا وَأَمَارَةً عَلَى نَفْعِ عَمْرٍو، وَبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ.
قُلْتُ: لَكِنَّ هَذَا خِلَافُ مَنْصُوصِ الشَّرْعِ وَمَأْلُوفِهِ، سَلَّمْنَا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، لَكِنَّ عِنْدَنَا مُنَاسِبٌ رَاجِحٌ، وَهُوَ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ عَنْ صَاحِبِهِمْ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، وَرِفْقًا بِهِ، لِانْقِهَارِهِ بِكَثْرَةِ الْغَرَامَاتِ، لِكَثْرَةِ الْجِنَايَاتِ خَطَأً، وَصَارَ ذَلِكَ عَدْلًا عَامًّا مِنَ الشَّرْعِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ تَارَةً يَكُونُ حَامِلًا، وَتَارَةً يَكُونُ مَحْمُولًا عَنْهُ، وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ أَعَمُّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَصْفَ الْآدَمِيِّ لَا يُشِيرُ إِلَى تَقْدِيرِ قِيمَتِهِ، بَلْ هُوَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْآدَمِيَّةَ وَصْفٌ شَرِيفٌ، وَشَرَفُهُ يَقْتَضِي صِيَانَتَهُ عَنِ الْإِهْدَارِ، وَالصِّيَانَةُ تَقْتَضِي تَقْدِيرَ بَدَلِ نَفْسِهِ، لِئَلَّا يَدْخُلَهُ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَإِذَا كَانَتِ الْأَغْرَاضُ مِنَ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ تُضْبَطُ أَبْدَالُهَا بِأَمْثَالِهَا وَقِيمَتِهَا، لِيَرْجِعَ إِلَيْهَا عِنْدَ حَاجَةِ التَّضْمِينِ، احْتِيَاطًا لَهَا مِنْ دُخُولِ الْغَرَرِ فِيهَا، فَالْإِنْسَانُ الَّذِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هُوَ أَشْرَفُ مِنْهَا أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ لَهُ.
سَلَّمْنَا عَدَمَ إِشْعَارِ الْوَصْفِ بِتَقْدِيرِ الْقِيمَةِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْعِرْ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِالتَّقْدِيرِ، بَلْ لَنَا ذَلِكَ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْأُصُولِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِذَلِكَ كَالْحُرِّ، وَقَدْ قَدَّرَ الشَّرْعُ بَدَلَهُ، فَيَلْحَقُ الْعَبْدُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُفَوِّضُ بُضْعَهَا، فَيُعْقَدُ عَلَيْهَا بِلَا مَهْرٍ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْهُ مُقَدَّرًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، خُصُوصًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا الْمَهْرَ حَقًّا لِلَّهِ عز وجل ثَابِتًا لِشَرَفِ الْمَحَلِّ، لِئَلَّا يُسْتَبَاحَ بِلَا عِوَضٍ، وَمَصْرِفُهُ الْمَرْأَةُ، كَالزَّكَاةِ حُقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَصْرِفُهُ الْفُقَرَاءُ، وَإِذَا شَهِدَتِ الْأُصُولُ لِلْحُكْمِ بِالِاعْتِبَارِ; لَمْ يَضُرَّ فَقْدُ الْمُنَاسَبَةِ، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ وَضْعِيَّةٌ لَا تَلْزَمُهَا الْمُنَاسَبَةُ، بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ ذَكَرَ الْخَصْمُ شَاهِدًا لِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرَهُ، فَهُوَ مُعَارَضَةٌ» . يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا عَلَّلَ بِوَصْفٍ، فَادَّعَى الْمُعْتَرِضُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ الْمُدَّعَى، وَذَكَرَ لَهُ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ فِي اقْتِضَاءِ النَّقِيضِ; كَانَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً مِنْهُ لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، وَانْتِقَالًا مِنْ سُؤَالِ فَسَادِ الْوَضْعِ إِلَى إِيرَادِ الْمُعَارَضَةِ، وَهُوَ انْقِطَاعٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ انْقِطَاعًا، فَهُوَ مُسْتَقْبَحٌ، لِكَوْنِهِ نَشْرًا لِلْكَلَامِ، وَانْتِقَالًا مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: لَفْظُ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا الْوَصْفُ يَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ، إِذِ انْعِقَادُ غَيْرِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
النِّكَاحِ بِهِ يَقْتَضِي انْعِقَادَهُ بِهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ حَيْثُ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ الْبَيْعِ، وَهُوَ السَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ، فَإِنَّ هَذَا صَارَ خُرُوجًا عَنْ خُصُوصِيَّةِ فَسَادِ الْوَضْعِ إِلَى طَرِيقِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ، حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْمُسْتَدِلِّ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، لَكِنْ عِنْدِي مَا يُعَارِضُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ، قَدِ انْعَقَدَ بِهِ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ الْهِبَةُ وَغَيْرُهَا.
وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ، إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: مَسْحٌ، فَيُسَنُّ تَكْرَارُهُ كَمَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: وَصْفُكَ يَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِكَ، إِذِ الْمَسْحُ مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلتَّكْرَارِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّثْقِيلِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ مَسْحُ الْخُفِّ، يُكْرَهُ تَكْرَارُهُ، لَمَّا كَانَ مَسْحُ الْخُفِّ مُشْعِرًا بِالتَّخْفِيفِ، فَيُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ: أَنْتَ مُنْقَطِعٌ بِانْتِقَالِكَ عَنْ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ إِلَى الْمُعَارَضَةِ، فَإِنْ سَامَحَهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ بِمَا يُجِيبُ بِهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ.
فَيَقُولُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّلَمَ وَالْإِجَارَةَ يَنْعَقِدَانِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، حَتَّى يَجُوزَ مِثْلُهُ فِي لَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ النِّكَاحِ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّلَمَ وَالْإِجَارَةَ مُغَايِرَانِ لِلْبَيْعِ، بَلْ هُمَا نَوْعَانِ لَهُ، إِذِ الْبَيْعُ يَنْقَسِمُ إِلَى بَيْعِ مَنْفَعَةٍ وَهِيَ الْإِجَارَةُ، وَإِلَى بَيْعِ عَيْنٍ مَوْجُودَةٍ، أَوْ مَوْصُوفَةٍ، وَهُوَ غَالِبُ أَنْوَاعِهِ، أَوْ مَعْدُومَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ السَّلَمُ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْهِبَةِ، مُخْتَصٌّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عَنْهَا بِخَوَاصٍّ لَا يُشْعِرُ بِهَا لَفْظُهَا كَمَا سَبَقَ.
وَفِي الْمِثَالِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ يُكَرَهُ تَكْرَارُهُ كَمَا فِي مُبْدَلِهِ، وَهُوَ غَسْلُ الرِّجْلِ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ إِنَّمَا يُكْرَهُ تَكْرَارُهُ، لِكَوْنِهِ مَسْحًا عَلَى الْخُفِّ، لَا لِكَوْنِهِ مَسْحًا مُطْلَقًا، لِأَنَّ تَكْرَارَهُ يَضُرُّ بِالْخُفِّ، وَيُتْلِفُ مَالِيَّتَهُ، وَفِي ذَلِكَ إِضَاعَةُ مَالٍ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَأَيْضًا لَيْسَ هُوَ أَصْلًا فِي الطَّهَارَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِنَظَائِرِهِ، مِمَّا هُوَ أَصْلٌ فِيهَا بِخِلَافِ مَسْحِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ لَا مَالِيَّةَ فِيهِ تُتْلَفُ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ، فَقَرُبَ إِلْحَاقُهُ بِنَظَائِرِهِ فِي التَّكْرَارِ، كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
فَحَاصِلُ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا فِي الْجَوَابِ: إِمَّا مَنْعُ حُكْمِ الْمُعَارَضَةِ، أَوِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حُكْمِ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ، عَلَى أَنَّ فِي قِيَاسِ تَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى تَكْرَارِ مَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ نَظَرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قِيَاسُ أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ عَلَى أَمْرٍ مَعْقُولٍ، وَشَرْطُ الْقِيَاسِ وُجُودُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَلَيْسَ مَعْنَى التَّطْهِيرِ مَوْجُودًا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، كَوُجُودِهِ فِي مَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّأْسَ يَجِبُ مَسْحُهُ مَعَ الْقَطْعِ بِطَهَارَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إِلَّا مُسَمَّى الطَّهَارَةِ، وَهُوَ شَبَهٌ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا نَحْنُ ذَكَرْنَا مِثَالًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ضَعْفِ الْقِيَاسِ لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.