المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأصول المختلف فيها - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌الأصول المختلف فيها

‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

أَرْبَعَةٌ:

أَحَدُهَا: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهُ - شَرْعٌ لَنَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، اخْتَارَهُ التَّمِيمِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالثَّانِي: لَا، وَلِلشَّافِعِيَّةِ كَالْقَوْلَيْنِ.

الْمُثْبَتُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} الْآيَةَ، وَدِلَالَتُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ، {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ: السِّنُّ بِالسِّنِّ إِلَّا مَا حُكِيَ فِيهِ عَنِ التَّوْرَاةِ، وَرَاجَعَ صلى الله عليه وسلم التَّوْرَاةَ فِي رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ بِـ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} عَلَى قَضَاءِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا.

وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَاتِ: التَّوْحِيدُ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الشَّرَائِعِ، وَ «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» إِشَارَةٌ إِلَى عُمُومِ:{فَمَنِ اعْتَدَى} ، أَوِ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَمُرَاجَعَتُهُ التَّوْرَاةَ تَحْقِيْقًا لِكَذِبِهِمْ وَإِنَّمَا حَكَمَ بِالْقُرْآنِ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قِيَاسٌ أَوْ تَأْكِيدٌ لِدَلِيلِهِ بِهِ، أَوْ عَلِمَ عُمُومَهُ لَهُ، لَا حُكْمٌ بِشَرْعِ مُوسَى.

ــ

" الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ ":

لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهِيَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ، أَخَذَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأُصُولِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَيْضًا: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَالِاسْتِحْسَانُ، وَالِاسْتِصْلَاحُ.

قَوْلُهُ: " أَحَدُهَا "، أَيْ: أَحَدُ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ: " شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهُ - شَرْعٌ لَنَا ". أَيْ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا إِنْ وَرَدَ نَاسِخُهُ فِي شَرْعِنَا، فَلَيْسَ شَرْعًا

ص: 169

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَنَا، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ لَهُ نَاسِخٌ فِي شَرْعِنَا، فَهُوَ شَرْعٌ لَنَا " فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ " عَنْ أَحْمَدَ، وَ " اخْتَارَهُ التَّمِيمِيُّ " مِنْ أَصْحَابِنَا " وَالْحَنَفِيَّةُ ".

قَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَوْلُ " الثَّانِي " لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، " وَلِلشَّافِعِيَّةِ كَالْقَوْلَيْنِ ".

قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَارَهُ.

قَوْلُهُ: " الْمُثْبِتُ " أَيِ: احْتَجَّ الْمُثْبِتُ لِكَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [الْمَائِدَةِ: 44]" وَدَلَالَتُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ ":

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَهَا مُسْتَنَدًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ عز وجل فِي آخِرِهَا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [الْمَائِدَةِ: 44] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّنَا عليه السلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الْأَنْعَامِ: 90] يَعْنِي أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمْرُهُ لَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّ شَرْعَهُمْ شَرْعٌ لَهُ قَطْعًا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النَّحْلِ: 123] ; أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ سبحانه وتعالى بِالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:

ص: 170

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 161] ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشُّورَى: 13] الْآيَةَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَيْنِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِتَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ بِالْقِصَاصِ فِي السِّنِّ، " وَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ: السِّنُّ بِالسِّنِّ إِلَّا مَا حُكِيَ فِيهِ عَنِ التَّوْرَاةِ " بِقَوْلِهِ عز وجل: "{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} إِلَى قَوْلِهِ عز وجل: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [الْمَائِدَةِ: 45] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام قَضَى بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ شَرْعًا لَهُ، لَمَّا قَضَى بِهِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " رَاجَعَ التَّوْرَاةَ فِي رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ " مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا وَجَدَ فِيهَا أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ، رَجَمَهُمَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ عليه السلام " اسْتَدَلَّ " عَلَى وُجُوبِ " قَضَاءِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا " بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طَهَ: 14] ، وَإِنَّمَا الْخِطَابُ فِيهَا لِمُوسَى عليه السلام عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلًا، فَنَامَ فِيهِ وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى فَاتَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَمَرَهُمْ، فَخَرَجُوا عَنِ الْوَادِي، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ

ص: 171

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الصُّبْحَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ.

فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ احْتَجَّ بِهَا مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا.

قَوْلُهُ: " وَأُجِيبَ "، أَيْ: أَجَابَ النَّافُونَ لِذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ السَّبْعَةِ بِأَنْ قَالُوا: " إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَاتِ " الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ إِنَّمَا هُوَ " التَّوْحِيدُ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ " الْمَعْرُوفَةُ بِأُصُولِ الدِّينِ، وَمَا يَجُوزُ عَلَى الْبَارِئِ جل جلاله وَمَا لَا يَجُوزُ، " وَهِيَ " أَيِ: الْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ " مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الشَّرَائِعِ " كُلِّهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا: اللَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ أَزَلِيٌّ بَاقٍ سَرْمَدِيٌّ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، خَالِقٌ لِلْعَالَمِ، مُرْسِلٌ لِلرُّسُلِ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، لَيْسَ بِجَائِرٍ وَلَا ظَالِمٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَا أَنَّ شَرْعَ مِنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فِي فُرُوعِ الدِّينِ، بِدَلِيلِ مَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَدِلَّتِنَا عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَلَيْسَ إِشَارَةً إِلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ، بَلْ إِمَّا إِلَى عُمُومِ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 194] ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْعُدْوَانَ فِي السِّنِّ وَغَيْرِهَا، أَوْ إِلَى عُمُومِ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [الْمَائِدَةِ: 45] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (وَالْجُرُوحُ) بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ كِتَابِنَا وَشَرْعِنَا، لَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا.

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَمَّا " مُرَاجَعَتُهُ التَّوْرَاةَ " فِي رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ فَلَيْسَ عَلَى جِهَةِ اسْتِفَادَةِ الْحُكْمِ مِنْهَا بَلْ تَحْقِيْقًا لِكَذِبِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُ رَآهُمْ سَوَّدُوا وُجُوهَهُمَا، وَطَافُوا بِهِمَا بَيْنَ النَّاسِ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّانِي، فَاسْتَدْعَى بِالتَّوْرَاةِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا الْحُكْمَ بِالرَّجْمِ " تَحْقِيقًا لِكَذِبِهِمْ " عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَحْرِيفِهِمُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي مَوْضِعِ:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 93]، " وَإِنَّمَا حَكَمَ بِالْقُرْآنِ " بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ ". وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا مِمَّا نُسِخَ خَطُّهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ.

قُلْتُ: لَكِنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ أَنَّ قِصَّةَ الْيَهُودِيَّيْنِ كَانَتْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الرَّجْمِ الْمَذْكُورَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ عليه الصلاة والسلام بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طَهَ: 14] ، فَهُوَ إِمَّا " قِيَاسٌ " لِنَفْسِهِ عَلَى مُوسَى فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِذِكْرِ اللَّهِ عز وجل، أَيْ: عِنْدَ ذِكْرِهِ، " أَوْ تَأْكِيدٌ " مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " لِدَلِيلِهِ " عَلَى قَضَاءِ الصَّلَاةِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ خَطَابًا لِمُوسَى عليه السلام، أَوْ أَنَّهُ عليه السلام عَلِمَ عُمُومَ الْآيَةِ لَهُ، " لَا " أَنَّهُ " حَكَمَ بِشَرْعِ مُوسَى " عليه السلام.

ص: 173

النَّافِي: لَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا لَمَا صَحَّ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} وَ «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» ، إِذْ يُفِيدَانِ اخْتِصَاصَ (كُلٍّ) بِشَرِيعَةٍ، وَلَلَزِمَهُ وَأُمَّتَهُ تَعَلُّمُ كُتُبِهِمْ، وَالْبَحْثُ عَنْهَا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ النَّصِّ فِي شَرْعِهِ، وَلَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْوَحْيِ فِي الظِّهَارِ وَاللِّعَانِ وَالْمَوَارِيثِ وَنَحْوِهَا، وَلَمَا غَضِبَ حِينَ رَأَى بِيَدِ عُمَرَ قِطْعَةً مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَكَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِهِ وَمُنَاقَضَةٌ لِقَوْلِهِ:«لَوْ كَانَ» مُوسَى حَيًّا لَاتَّبَعَنِي، وَلَمَا صَوَّبَ مُعَاذًا فِي انْتِقَالِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الِاجْتِهَادِ، لَا يُقَالُ: الْكِتَابُ تَنَاوَلَ التَّوْرَاةَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمْ يُعْهَدْ مِنْ مُعَاذٍ اشْتِغَالٌ بِهَا وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ فِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْقُرْآنِ.

وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ: بِأَنَّ اشْتِرَاكَ الشَّرِيعَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَنْفِي اخْتِصَاصَ كُلِّ نَبِيٍّ بِشَرِيعَةٍ اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ، وَعَنِ الْبَاقِي بِأَنَّهَا حُرِّفَتْ فَلَمْ تُنْقُلْ إِلَيْهِ مَوْثُوقًا بِهَا، وَالْكَلَامُ فِيمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِذَا تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِهَا فَلَا غَضَّ وَلَا تَبَعِيَّةَ.

ــ

قَوْلُهُ: " النَّافِي "، أَيْ: النَّافِي لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: " لَوْ كَانَ " شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا " شَرْعًا لَنَا، لَمَا صَحَّ " قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَةِ: 48]، وَلَمَا صَحَّ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، " إِذْ يُفِيدَانِ "

ص: 174

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَعْنِي: الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ " اخْتِصَاصَ كُلٍّ " مِنَ الرُّسُلِ " بِشَرِيعَةٍ "، لَكِنْ قَدْ صَحَّ مَضْمُونُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، فَلَا يَكُونُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعًا لَنَا.

الثَّانِي: لَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا، لَلَزِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " وَأُمَّتَهُ تَعَلُّمَ كُتُبِهِمْ "، أَيْ: كُتُبُ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، " وَالْبَحْثُ عَنْهَا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ النَّصِّ فِي شَرْعِهِ " عَلَى حَادِثَةٍ مَا، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا.

الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا " لَمَا تَوَقَّفَ " النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " فِي الظِّهَارِ، وَاللِّعَانِ، وَالْمَوَارِيثِ وَنَحْوِهَا " مِنَ الْأَحْكَامِ " عَلَى الْوَحْيِ "، لَكِنْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى الْوَحْيِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ شَرْعَهُمْ لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَإِلَّا لَبَادَرَ بِاسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ مِنْ كُتُبِهِمْ وَالسُّؤَالِ عَنْهُ فِيهَا لِأَنَّهَا مَنْ شَرْعِهِ كَالْقُرْآنِ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى يَوْمًا بِيَدِ عُمَرَ رضي الله عنه قِطْعَةً مِنَ التَّوْرَاةِ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَا هَذَا؟ أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى! لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي، وَلَوْ كَانَ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا، " لَمَا غَضِبَ " مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَا يَغْضَبُ مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ.

الْخَامِسُ: لَوْ كَانَ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا، " لَكَانَ " النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " تَبَعًا لِغَيْرِهِ " فِي الشَّرْعِ، وَفِي ذَلِكَ " غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِهِ وَمُنَاقَضَةٌ لِقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا

ص: 175

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَاتَّبَعَنِي إِذْ يَكُونُ تَابِعًا لِمُوسَى مَتْبُوعًا لَهُ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِ فِي عَصْرِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.

السَّادِسُ: أَنَّهُ عليه السلام لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَصَوَّبَ مُعَاذًا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعًا لَنَا، لَمَّا صَوَّبَهُ، بَلْ كَانَ يَقُولُ لَهُ: إِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَسُنَّتِي شَيْئًا، فَاطْلُبِ الْحُكْمَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، ثُمَّ اجْتَهَدْ رَأْيَكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا:" وَلَمَا صَوَّبَ مُعَاذًا فِي انْتِقَالِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الِاجْتِهَادِ ".

قَوْلُهُ: " لَا يُقَالُ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ، أَيْ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُ مُعَاذٍ رضي الله عنه: أَحْكُمُ بِكِتَابِ اللَّهِ. عَامٌّ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مَنْ كُتُبِ مَنْ قَبْلَنَا، وَلِذَلِكَ صَحَّ تَنَزُّلُهُ فِي مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ، وَاتَّجَهَ تَصْوِيبُهُ.

فَالْجَوَابُ أَنَّا نَقُولُ: " لَمْ يُعْهَدْ مِنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه اشْتِغَالٌ " بِالتَّوْرَاةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يُحْمَلَ الْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ: أَحْكُمُ بِكِتَابِ اللَّهِ، عَلَى مَا يَتَنَاوَلُهَا مَعَ الْقُرْآنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ " إِطْلَاقَ الْكِتَابِ " وَكِتَابُ اللَّهِ " فِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ

ص: 176

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَنْصَرِفُ إِلَى الْقُرْآنِ "، فَيُحْمَلُ الْكِتَابُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه عَلَيْهِ. وَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، فَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، دَلَّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ هُوَ بِشَرْعٍ لَنَا. فَهَذِهِ سِتَّةُ أَوْجُهٍ تَدَلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

قَوْلُهُ: " وَأُجِيبَ "، أَيْ: أَجَابَ الْمُثْبِتُونَ عَنِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ بِمَا ذُكِرَ.

فَأُجِيبَ " عَنِ الْأَوَّلَيْنِ " ; وَهْمَا: لَوْ كَانَ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا، لَمَا صَحَّ:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} ، وَلَا قَوْلُهُ: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ " بِأَنَّ اشْتِرَاكَ الشَّرِيعَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَنْفِي اخْتِصَاصَ كُلِّ نَبِيٍّ بِشَرِيعَةٍ اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ "، وَهُوَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَيْ: إِنَّ الشَّرِيعَتَيْنِ إِذَا اشْتَرَكَتَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَاخْتَلَفَتَا فِي بَعْضِهَا، صَحَّ أَنْ يَكُونَ شَرْعُ إِحْدَى الشَّرِيعَتَيْنِ شَرْعًا لِمَنْ بَعْدَهَا بِاعْتِبَارِ الْبَعْضِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَصَحَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنَ النَّبِيِّينَ شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ بِاعْتِبَارِ الْبَعْضِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَنَافٍ. وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} لَا يَنْفِي كَوْنَ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعًا لَنَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُفِيدُ اخْتِصَاصَهُ بِشَرِيعَةٍ لَا يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لِجَوَازِ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَوْ بِبَعْضِهِ.

وَأُجِيبَ " عَنِ الْبَاقِي "، أَيْ: بَاقِي الْوُجُوهِ بِأَنَّ كُتُبَ مَنْ قَبْلَهُ " حُرِّفَتْ، فَلَمْ تُنْقَلْ إِلَيْهِ مَوْثُوقًا بِهَا "، فَلِذَلِكَ لَمْ يَطْلُبْ أَحْكَامَ الْوَقَائِعِ الْعَارِضَةِ لَهُ فِيهَا، وَلِذَلِكَ غَضِبَ مِنْ نَظَرِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي قِطْعَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَصَوَّبَ مُعَاذًا

ص: 177

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

رضي الله عنه فِي انْتِقَالِهِ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَرْكَ ذِكْرِ كُتُبِ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيمَا حُرِّفَ مِنْهَا، وَلَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ، إِنَّمَا " الْكَلَامُ فِيمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَحْكَامِهَا "، فَذَلِكَ الَّذِي هُوَ شَرْعٌ لَهُ لَا غَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: " وَإِذَا تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِهَا "، إِلَى آخِرِهِ.

هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهِ الْخَامِسِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" لَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا، لَكَانَ " النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " تَبَعًا لِغَيْرِهِ "؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ بِتَحْرِيفِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ لَمْ يَنْتَظِمْهُ.

وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا تَعَبَّدَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ وَبِمُقْتَضَى كُتُبِهِمْ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِهِ، وَلَا جَعْلُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُطِيعٌ لِلَّهِ عز وجل، لَا لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، فَهُوَ كَالْمَلَائِكَةِ لَمَّا أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عليه السلام، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ غَضٌّ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَقْصٌ؛ لِأَنَّ سُجُودَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ عز وجل، لَا لِآدَمَ عليه السلام. وَبِالْجُمْلَةِ إِذَا كَانَتْ طَاعَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ سبحانه وتعالى لَمْ يَضُرُّهُ مَا كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْوَسَائِطِ وَالْأَسْبَابِ.

ص: 178

وَالْمَأْخَذُ الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّحْسِينُ الْعَقْلِيُّ، فَإِنَّ الْمُثْبِتَ يَقُولُ: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ حُسْنُهَا ذَاتِيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فَهِيَ حَسَنَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا فَتَرْكُنَا لَهَا قَبِيحٌ، وَالنَّافِي يَقُولُ: حُسْنُهَا شَرْعِيٌّ إِضَافِيٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حَسَنًا فِي حَقِّهِمْ قَبِيحًا فِي حَقِّنَا، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا انْبَنَى الْخِلَافُ فِي جَوَازِ النَّسْخِ وَكَوْنِهِ رَفْعًا كَمَا سَبَقَ.

أَمَّا قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَقِيلَ: كَانَ صلى الله عليه وسلم مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لِشُمُولِ دَعْوَتِهِ لَهُ، وَقِيلَ: لَا؛ لِعَدَمِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِزَمَنِ الْفَتْرَةِ، وَقِيلَ: التَّوَقُّفُ لِلتَّعَارُضِ.

ــ

قَوْلُهُ: " وَالْمَأْخَذُ الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ "، إِلَى آخِرِهِ. اعْلَمْ أَنَّا لَمَّا ذَكَرْنَا مَأْخَذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ، لَمْ يَتَحَقَّقْ وَاحِدٌ مِنَ الْمَأْخَذَيْنِ، فَاحْتَجْنَا إِلَى أَنْ نَذْكُرَ لَهَا مَأْخَذًا وَجِيزًا صَحِيحًا ; وَهُوَ التَّحْسِينُ الْعَقْلِيُّ كَمَا سَبَقَ شَرْحُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ. نَقُولُ:" الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ حُسْنُهَا ذَاتِيٌّ "، أَيْ: لِذَوَاتِهَا، أَوْ لِأَوْصَافٍ قَامَتْ بِهَا، وَالْحُسْنُ الذَّاتِيُّ وَنَحْوُهُ " لَا يَخْتَلِفُ فِي شَرْعِنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، كَتَحْرِيمِ الْقَتْلِ، وَالزِّنَى، وَالْقَذْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتِ الْأَحْكَامُ حَسَنَةً حُسْنًا لَا

ص: 179

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَتَغَيَّرُ، كَانَ تَرْكُنَا لَهَا قَبِيحًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْحَسَنِ قَبِيحٌ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ الْقَبِيحِ حَسَنٌ.

" وَالنَّافِي " فِي الْمَسْأَلَةِ " يَقُولُ ": حُسْنُ الْأَحْكَامِ لَيْسَ ذَاتِيًّا، بَلْ هُوَ " شَرْعِيٌّ إِضَافِيٌّ "، أَيْ: هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ.

وَحِينَئِذٍ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حَسَنًا فِي حَقِّهِمْ، قَبِيْحًا فِي حَقِّنَا "، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِهِ، وَنُهِينَا عَنْهُ، كَقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ، كَانَ حَسَنًا فِي حَقِّ قَوْمِ مُوسَى بِقَوْلِهِ:{يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 54] الْآيَةَ. وَهُوَ قَبِيحٌ فِي حَقِّنَا لِأَنَّا مَنْهِيُّونَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا التَّوْبَةُ عِنْدَنَا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ.

قَوْلُهُ: " وَعَلَى هَذَا أَيْضًا انْبَنَى الْخِلَافُ فِي جَوَازِ النَّسْخِ وَكَوْنِهِ رَفْعًا، كَمَا سَبَقَ " فِي بَابِ النَّسْخِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ.

أَمَّا جَوَازُ النَّسْخِ، فَلِأَنَّ الْمَانِعَ لَهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ حَسَنًا، كَانَ نَسْخُهُ قَبِيحًا، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا، فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ، فَيَمْتَنِعُ النَّسْخُ.

وَالْمُجِيزُ لَهُ يَقُولُ: الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ تَابِعَانِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ الْآنَ بِشَيْءٍ، فَيَكُونُ حَسَنًا، وَأَنْ يَنْهَى عَنْهُ فِيمَا بَعْدُ، فَيَكُونُ قَبِيحًا.

وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي كَيْفِيَّةِ النَّسْخِ، فَلِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، قَالَ: النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْحُسْنِ قَبِيحٌ، وَابْتِدَاءُ شَرْعِ الْقَبِيحِ أَقْبَحُ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، قَالَ: النَّسْخُ رَفْعُ الْحُكْمِ، وَلَا قُبْحَ فِيمَا أَمَرَ

ص: 180

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الشَّرْعُ بِهِ، وَلَا حُسْنَ فِيمَا نَهَى عَنْهُ.

قَوْلُهُ: " أَمَّا قَبْلَ الْبَعْثَةِ "، إِلَى آخِرِهِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا هُوَ فِيمَا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا بُدَّ، أَمَّا قَبْلَ بِعْثَتِهِ عليه السلام فَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ:

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: " كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ " مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام " لِشُمُولِ دَعْوَتِهِ لَهُ "، أَيْ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ دَعَا إِلَى شَرْعِهِ كُلَّ الْمُكَلَّفِينَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الدَّعْوَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ كَانَ بِشَرْعِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَوْ مُوسَى وَعِيسَى عليهم السلام.

قُلْتُ: وَمُقْتَضَى دَلِيلِهِمْ أَنْ يَتَعَيَّنَ شَرْعُ عِيسَى عليه السلام لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ عَمَّتْ، وَنَسَخَتْ مَا قَبِلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَبِعُمُومِهَا تَنَاوَلَتِ النَّبِيَّ عليه السلام، وَبِنَسْخِهَا لِمَا قَبِلَهَا مَنَعَتْ مِنَ اتِّبَاعِهِ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ.

أَمَّا عُمُومُ دَعْوَتِهِ فَلِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [الْمُؤْمِنُونَ: 50]، {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 91] ، {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مَرْيَمَ: 21] ، وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ، أَيْ: آيَةٌ عَلَى سَعَادَةِ السُّعَدَاءِ بِاتِّبَاعِهِ، وَعَلَى شَقَاوَةِ الْأَشْقِيَاءِ بِمُخَالَفَتِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عُمُومَ الدَّعْوَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مَرْيَمَ: 31]، أَيْ:

ص: 181

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَنِ اتَّبَعَنِي كُنْتُ مُبَارَكًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ عُمُومَ الدَّعْوَةِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى سَمَّاهُ نَاصِرًا لَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ نَاصِرًا لِلَّهِ عز وجل، كَانَ عَامَّ الدَّعْوَةِ، إِلَّا أَنْ يَقُومَ عَلَى اخْتِصَاصِهَا دَلِيلٌ.

أَمَّا أَنَّهُ كَانَ نَاصِرًا لِلَّهِ عز وجل، فَلِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} [الصَّفِّ: 14] وَالتَّقْدِيرُ: كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا كَانَ عِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ أَنْصَارَ اللَّهِ.

وَأَمَّا أَنَّ مَنْ كَانَ نَاصِرًا لِلَّهِ عز وجل، كَانَ عَامَّ الدَّعْوَةِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ، فَلِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَدِينِهِ الْحَقِّ، وَالْمَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ لِلدَّعْوَةِ بِبَعْضِ الْبِلَادِ كَاخْتِصَاصِ دَعْوَةِ لُوطٍ عليه السلام بِقُرَى سَدُومَ، أَوْ بِبَعْضِ الْقَبَائِلِ، كَاخْتِصَاصِ دَعْوَةِ شُعَيْبٍ بِمَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، اخْتُصَّتِ الدَّعْوَةُ بِمُوجِبِ الدَّلِيلِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الْمَائِدَةِ: 116] الْآيَةَ، وَلَفْظُ النَّاسِ عَامٌّ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ عُمُومًا، فَغَلَا بَعْضُهُمْ، فَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35] ، وَعِيسَى مِنْهُمْ، وَكَانَتْ دَعْوَةُ أُولِي الْعَزْمِ عَامَّةً، فَكَذَلِكَ عِيسَى.

أَمَّا قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}

ص: 182

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[آلِ عِمْرَانَ: 48 - 49] ، فَلَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَدِلَّةِ عُمُومِ دَعْوَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَى النَّاسِ مُرْسَلٌ إِلَى كُلِّ جُزْءٍ وَطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ.

وَأَمَّا أَنَّ شَرِيعَتَهُ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَلِأَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا، وَشَرِيعَةُ عِيسَى نَسَخَتْ شَرِيعَةَ مُوسَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 50] ، يَعْنِي فِي شَرْعِ التَّوْرَاةِ، وَذَلِكَ هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي نَسْخِ الشَّرِيعَةِ نَسْخُ جَمِيعِهَا، بَلْ يَكْفِي فِي تَسْمِيَتِهَا مَنْسُوخَةً نَسْخُ بَعْضِ أَحْكَامِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام نَسَخَتْ كُلَّ شَرِيعَةٍ قَبْلَهَا، مَعَ أَنَّهَا قَرَّرَتْ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، فَلَمْ تُنْسَخْ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْتُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ قَبْلَ بِعْثَتِهِ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ لِذَلِكَ شَرِيعَةَ عِيسَى، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ.

وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ ; مِنْهُمْ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ " إِلَيْهِ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ " لِطُولِ الْمُدَّةِ، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّقَلَةِ، " وَهُوَ الْمُرَادُ بِزَمَنِ الْفَتْرَةِ " وأَيْضًا لِئَلَّا يَلْحَقَهُ الْغَضُّ بِتَبَعِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُ.

وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الدَّلِيلِ فِيهِ، وَهُمُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.

قُلْتُ: مِنَ الْمُتَّجِهِ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالْإِلْهَامِ، أَيْ: يُلْهِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَاتٍ

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَيَخْلُقُ فِيهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِمَشْرُوعِيَّتِهَا لَهُ، وَبِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهَا. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي تَعَبُّدِهِ عليه الصلاة والسلام قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 184

الثَّانِي: قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ: حُجَّةٌ، يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَيُخَصُّ بِهِ الْعَامُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ وَجَدِيدِ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقِيلَ: الْحُجَّةُ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقِيلَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما لِلْحَدِيثَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ.

لَنَا عَلَى الْعُمُومِ: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ وَخُصَّ فِي الصَّحَابِيِّ بِدَلِيلٍ.

قَالُوا: غَيْرُ مَعْصُومٍ فَالْعَامُّ وَالْقِيَاسُ أَوْلَى.

قُلْنَا: كَذَا الْمُجْتَهِدُ وَيَتَرَجَّحُ الصَّحَابِيُّ بِحُضُورِ التَّنْزِيلِ وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ، وَقَوْلُهُ أَخَصُّ مِنَ الْعُمُومِ فَيُقَدَّمُ.

وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُنْكَرَ عَلَى الْقَائِلِ قَوْلُهُ.

لَنَا: الْقِيَاسُ عَلَى تَعَارُضِ دَلِيلَيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا خَطَأٌ قَطْعًا.

قَالُوا: اخْتِلَافُهُمْ تَسْوِيغٌ لِلْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَرَجَعَ عُمَرُ إِلَى قَوْلِ مُعَاذَ رضي الله عنهما فِي تَرْكِ رَجْمِ الْمَرْأَةِ.

قُلْنَا: إِنَّمَا سَوَّغُوا الْأَخْذَ بِالْأَرْجَحِ، وَرُجُوعُ عُمَرَ لِظُهُورِ رُجْحَانِ قَوْلِ مُعَاذٍ عِنْدَهُ.

ــ

قَوْلُهُ: " الثَّانِي "، أَيِ: الْأَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْأُصُولِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا " قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ " هُوَ " حُجَّةٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَيُخَصُّ بِهِ الْعَامُّ " عِنْدَ " مَالِكٍ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ وَجَدِيدِ " قَوْلَيْ " الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ " حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْكَرْخِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ - يَعْنِي قَوْلَ

ص: 185

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الصَّحَابِيِّ - فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَيَكُونُ حُجَّةً لَا لَذَاتِهِ، بَلْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُجَّةِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ، وَإِذَا لَمْ يُخَالِفْهُ، احْتُمِلَ أَنَّهُ عَنِ اجْتِهَادٍ، فَيَكُونُ كَاجْتِهَادِ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " الْحُجَّةُ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ "؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدِي [" وَقِيلَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ] وَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَانَ هُمَا الْحَدِيثَانِ الْمَشْهُورَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا فِي " الْمُخْتَصَرِ ".

قَوْلُهُ: " لَنَا عَلَى الْعُمُومِ "، أَيْ: عَلَى عُمُومِ كَوْنِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْمَذْكُورِ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِالشَّيْخَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا قَوْلُهُ عليه السلام: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهِمْ، وَدَلَالَةُ الْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُمَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ دَلَالَةُ مَفْهُومٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ مَفْهُومُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَارَضٌ بِمَفْهُومِ الْآخَرِ.

قَوْلُهُ: " وَخُصَّ فِي الصَّحَابِيِّ بِدَلِيلٍ ". هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ هُوَ خِطَابٌ لِعَوَامِّ عَصْرِهِ، وَإِذْنٌ لَهُمْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فِي الْفُتْيَا، لَا أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عَلَى

ص: 186

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمُجْتَهِدِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مُقْتَضَى الْحَدِيثِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عَلَى صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ، إِمَامًا كَانَ الصَّحَابِيُّ، أَوْ حَاكِمًا، أَوْ مُفْتِيًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّحَابِيُّ مُرَادًا مِنَ الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَوَامُّ وَهُوَ مَحَلُّ وِفَاقٍ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي عُمُومَ الِاقْتِدَاءِ بِكُلِّ صَحَابِيٍّ، وَلِكُلِّ صَحَابِيٍّ، لَكِنَّ الصَّحَابِيَّ خُصَّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ، فَبَقِيَ الْحَدِيثُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِ مِنْ مُجْتَهِدِي التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي خُصَّ بِهِ الصَّحَابِيُّ مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، إِمَّا الْإِجْمَاعُ، أَوْ قَرِينَةُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُقْتَدِيًا بِغَيْرِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا، وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّيْنِ إِنْ كَانَا مُقَلِّدَيْنِ، فَحُكْمُهُمَا التَّقْلِيدُ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُقَلِّدًا، فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَا مُجْتَهِدَيْنِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِأَنْ يُقَلِّدَ الْآخَرَ مِنَ الْعَكْسِ، فَيَسْتَقِلُّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِهِ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُ صَاحِبِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

قَوْلُهُ: " قَالُوا: غَيْرُ مَعْصُومٍ "، أَيِ: احْتَجَّ الْخَصْمُ بِأَنَّ الصَّحَابِيَّ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنَ الْخَطَأِ، فَيَكُونُ " الْعَامُّ وَالْقِيَاسُ أَوْلَى " مِنْ قَوْلِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُخَصُّ بِهِ الْعَامُّ، وَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِكَوْنِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

قَوْلُهُ: " قُلْنَا: كَذَا الْمُجْتَهِدُ "، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ غَيْرُ

ص: 187

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَعْصُومٍ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ تَقْلِيدُهُ بِاتِّفَاقٍ، وَمُجْتَهِدُو الْأُمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ كَالْعَامَّةِ مَعَ الْعُلَمَاءِ؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ " بِحُضُورِ التَّنْزِيلِ، وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ "، فَيَتَرَجَّحُونَ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ. " وَقَوْلُهُ " أَيْ: وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ " أَخَصُّ مِنَ الْعُمُومِ " وَأَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، " فَيُقَدَّمُ " عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَالْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَدَلِيلُ قُوَّةِ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعَ الْأَدِلَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَمَا خَالَفَ الْعَامَّ وَالْقِيَاسَ إِلَّا عَنْ حُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ.

قَوْلُهُ: " وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ، لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ "، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: إِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عَلَى قَوْلَيْنِ فَأَكْثَرَ، لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ غَيْرِهِمُ الْأَخْذُ بِأَحَدِ الْأَقْوَالِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ " بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَ " بَعْضُ " الْمُتَكَلِّمِينَ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُنْكَرَ " ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمَأْخُوذُ بِهِ عَلَى قَائِلِهِ.

" لَنَا " عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: " الْقِيَاسُ عَلَى تَعَارُضِ دَلِيلَيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ " وَأَوْلَى، أَيْ: إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَا يَزِيدُ فِي الْقُوَّةِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ مِنْهُمَا، لَمْ يَجُزِ الْأَخْذُ بِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِتَرْجِيحٍ وَنَظَرٍ، فَكَذَلِكَ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَوْلَى.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ " خَطَأٌ قَطْعًا "؛ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الصَّوَابِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَإِذَا كَانَ أَحَدُ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ خَطَأً، فَالطَّرِيقُ إِلَى تَمْيِيزِ الْخَطَأِ مِنَ الصَّوَابِ لَيْسَ إِلَّا الدَّلِيلُ.

قَوْلُهُ: " قَالُوا "، إِلَى آخِرِهِ. أَيِ: احْتَجَّ الْخَصْمُ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِأَحَدِ

ص: 188

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْقَوْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ " تَسْوِيغٌ لِلْأَخْذِ بِكُلِّ " وَاحِدٍ " مِنْهُمَا "، فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا جَائِزًا بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

الثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رَجَعَ إِلَى قَوْلِ مُعَاذٍ رضي الله عنه فِي تَرْكِ رَجْمِ الْمَرْأَةِ، يَعْنِي أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ امْرَأَةً حَامِلًا لِأَجْلِ الزِّنَى، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ بْنُ جَبَلٍ: إِنْ كَانَ لَكَ سَبِيلٌ عَلَيْهَا ; فَلَيْسَ لَكَ سَبِيلٌ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَرَجَعَ عُمَرُ إِلَى قَوْلِهِ، وَأَخَّرَهَا حَتَّى وَضَعَتْ. فَرُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِ مُعَاذٍ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِدُونِ أَنْ يَسْتَعْلِمَ رَأْيَ غَيْرِهِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.

قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ.

أَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ " إِنَّمَا سَوَّغُوا الْأَخْذَ بِالْأَرْجَحِ " مِنْهُمَا، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي تَرْجِيحًا وَاجْتِهَادًا، لَا أَنَّهُمْ سَوَّغُوا الْأَخْذَ بِأَحَدِهِمَا تَشَهِّيًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ.

وَأَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي، فَبِأَنَّ " رُجُوعَ عُمَرَ " إِلَى قَوْلِ مُعَاذٍ رضي الله عنهما إِنَّمَا كَانَ " لِظُهُورِ " رُجْحَانِهِ عِنْدَهُ، لَا أَنَّهُ أَخَذَ بُقُولِهِ تَقْلِيدًا وَتَشَهِّيًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 189