الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمَا يُعْتَبَرُ لِلْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً ".
لَمَّا ذَكَرَ الِاجْتِهَادَ مَا هُوَ، وَالنَّاقِصَ مِنْهُ وَالتَّامَّ، أَخَذَ يُبَيِّنُ الْمُجْتَهِدَ وَشُرُوطَهُ، فَالْمُجْتَهِدُ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الِاجْتِهَادِ، وَحَصَّلَ أَهْلِيَّتَهُ، " وَشَرْطُ الْمُجْتَهِدِ إِحَاطَتُهُ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ "، أَيْ: طُرُقِهَا الَّتِي تُدْرَكُ مِنْهَا، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهَا، " وَهِيَ الْأُصُولُ " الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا، وَهِيَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِدْلَالُ، وَالْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، " وَمَا يُعْتَبَرُ لِلْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ " مِنْ حَيْثُ الْكَمِّيَّةِ وَالْمِقْدَارِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْكَيْفِيَّةِ كَتَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ، وَتَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ آلَةٌ لِلْمُجْتَهِدِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ، فَوَجَبَ اشْتِرَاطُهُ، كَالْقَلَمِ لِلْكَاتِبِ، وَالْقَدُومِ وَنَحْوِهِ لِلنَّجَّارِ.
قَوْلُهُ: «فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا تَفْصِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي
مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ
.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَهُوَ قَدْرُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ، كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ مِقْدَارَ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ كَمَا تُسْتَنْبَطُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي؛ كَذَلِكَ تُسْتَنْبَطُ مِنَ الْأَقَاصِيصِ وَالْمَوَاعِظِ وَنَحْوِهَا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَقَلَّ أَنْ يُوجَدَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَإِذَا أَرَدْتَ تَحْقِيقَ هَذَا، فَانْظُرْ إِلَى كِتَابِ «أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ» لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَصَرُوهَا فِي خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ إِنَّمَا نَظَرُوا إِلَى مَا قُصِدَ مِنْهُ بَيَانُ الْأَحْكَامِ دُونَ مَا اسْتُفِيدَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ بَيَانُهَا.
قَوْلُهُ: «بِحَيْثُ يُمْكِنُ اسْتِحْضَارُهَا لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا، لَا حِفْظُهَا» ، أَيْ: الْقَدْرُ الْمُعْتَبَرُ مَعْرِفَتُهُ لِلْمُجْتَهِدِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَحْفَظَهُ، وَإِنْ حَفِظَهُ، فَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهُ بِلَفْظِهِ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَعْرِفُ مَوَاقِعَهُ مِنْ مَظَانِّهِ، لِيَحْتَجَّ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الِاجْتِهَادِ - وَهُوَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِدَلِيلِهِ - يَحْصُلُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَكَذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ» ، أَيْ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ مِنَ السُّنَّةِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الْآيَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْقُرْآنِ
قُلْتُ: فَالْكَلَامُ هُنَا فِي التَّقْدِيرِ، كَالْكَلَامِ هُنَاكَ، أَعْنِي أَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ بَعْضُ السُّنَّةِ دُونَ بَعْضٍ، بَلْ قَلَّ حَدِيثٌ يَخْلُو عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ. وَمَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ، كَالْقَاضِي عِيَاضٍ، وَالنَّوَاوِيِّ عَلَى «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، وَالْخَطَّابِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَى «الْبُخَارِيِّ» ، وَفِي شَرْحِ «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» وَغَيْرِهَا؛ عَرِفَ ذَلِكَ.
نَعَمْ أَحَادِيثُ السُّنَّةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، فَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي الدَّوَاوِينِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْهَا مَشْهُورٌ، كَالصَّحِيحَيْنِ وَبَقِيَّةِ السُّنَنِ السِّتَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَقَدْ قَرَّبَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
النَّاسُ ذَلِكَ بِتَصْنِيفِ كُتُبِ الْأَحْكَامِ، كَكِتَابَيْ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سُرُورٍ، وَكُتُبِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْحَقِّ الْمَغْرِبِيِّ، وَكِتَابِ «الْأَحْكَامِ التَّيْمِيَّةِ» وَنَحْوِهَا، وَأَجْمَعَ مَا رَأَيْتُهُ مِنْ كُتُبِ الْأَحْكَامِ لَهَا أَحْكَامُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ، فَصَارَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ سَهْلُ الْمَرَامِ وَ «مُخْتَصَرُ التِّرْمِذِيِّ» الَّذِي أَلَّفَهُ نَافِعٌ فِي هَذَا الْبَابِ.
قَوْلُهُ: «وَمَعْرِفَةُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ اجْتِهَادًا» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ إِمَّا بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الْأَهْلِيَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مَا يَعْرِفُ بِهِ صِحَّةَ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ. أَيْ: طَرِيقِهِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَيِّ الْبِلَادِ هُوَ، أَوْ أَيِ التَّرَاجِمِ، وَيَعْلَمُ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ وَضَبْطَهُمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ وُجُودَ شُرُوطِ قَبُولِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَمُوجِبَاتِ رَدِّهِ.
وَإِمَّا بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ، بِأَنْ يَنْقِلَهُ «مِنْ كِتَابٍ صَحِيحٍ ارْتَضَى الْأَئِمَّةُ رُوَاتَهُ» ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كَالصَّحِيحَيْنِ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ ظَنَّ الصِّحَّةِ يَحْصُلُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الثَّانِي لِتَحْصِيلِهِ مِنَ الظَّنِّ أَكْثَرَ.
قَوْلُهُ: «وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مِنْهُمَا» ، أَيْ: مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ بَطَلَ حُكْمُهُ، وَصَارَ الْعَمَلُ عَلَى النَّاسِخِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، أَفْضَى إِلَى إِثْبَاتِ الْمَنْفِيِّ، وَنَفْيِ الْمُثْبَتِ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ وَصِيَّةُ السَّلَفِ وَاهْتِمَامُهُمْ بِمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى قَاصًّا يَقُصُّ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ وَهُوَ يَخْلِطُ الْأَمْرَ بِالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةَ بِالْحَظْرِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَبُو مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَبُو يَحْيَى، قَالَ: أَنْتَ أَبُو اعْرِفُونِي، ثُمَّ أَخَذَ أُذُنَهُ فَفَتَلَهَا، وَقَالَ: لَا تَقُصَّ فِي مَسْجِدِنَا بَعْدُ.
«وَيَكْفِيهِ» مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنْ يَعْرِفَ «أَنَّ دَلِيلَ هَذَا الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ» ، يَعْنِي وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْمَنْسُوخَةِ مِنَ النَّاسِخَةِ، وَالْإِحَاطَةُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَيْسَرُ مِنْ غَيْرِهِ، لِقِلَّةِ الْمَنْسُوخِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْكَمِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي نَاسِخِ الْقُرْآنِ وَمَنْسُوخِهِ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَمَكِّيٌّ صَاحِبُ «الْإِعْرَابِ» ، وَمِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ، وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي نَاسِخِ الْحَدِيثِ وَمَنْسُوخِهِ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ شَاهِينَ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرُهُمْ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً مِنْ تَفَاسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الْبَسِيطَةِ كَتَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ، وَشَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَاوِيِّ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ سَبَقَتِ الطُّرُقُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ.
قَوْلُهُ: «وَمِنَ الْإِجْمَاعِ» . أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الْإِجْمَاعِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
«مَا تَقَدَّمَ فِيهِ» ، أَيْ: فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ. مِثْلَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ اتِّفَاقُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِاتِّفَاقِ بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِ السَّابِقِ تَقْرِيرُهَا.
قَوْلُهُ: «وَيَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا أَمْ لَا» .
هَذَا كَمَا سَبَقَ فِي الْقَدْرِ الْكَافِي مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، أَوْ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ الْإِجْمَاعَ وَالْخِلَافَ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَلَعَلَّ هَذَا يَنْزِعُ إِلَى تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَمِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ «مِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ مَا يَكْفِيهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَصٍّ وَظَاهِرٍ، وَمُجْمَلٍ، وَحَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَعَامٍّ وَخَاصٍّ، وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، وَدَلِيلِ خِطَابٍ وَنَحْوِهِ» ، كَفَحْوَى الْخِطَابِ وَلَحْنِهِ وَمَفْهُومِهِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَوَقُّفًا ضَرُورِيًّا، كَقَوْلِهِ عز وجل:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [الْمَائِدَةَ: 45] ، يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِرَفْعِ (الْجُرُوحَ) وَنَصْبِهَا كَمَا سَبَقَ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَكَقَوْلِهِ عليه السلام: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرَثُونَ مُطْلَقًا، وَرَوَاهُ الشِّيعَةُ «صَدَقَةً» بِالنَّصْبِ وَهُوَ يَقْتَضِي نَفْيَ الْإِرْثِ عَمَّا تَرَكُوهُ لِلصَّدَقَةِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ يُوَرِّثُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ظَلَمُوا أَبَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بَكْرٍ رضي الله عنه وَشَنَّعُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَنَعَ فَاطِمَةَ حَقَّهَا، وَكَقَوْلِهِ عليه السلام: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَوَاهُ الشِّيعَةُ بِالنَّصْبِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى النِّدَاءِ، أَيْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْجَرِّ هُمَا مُقْتَدًى بِهِمَا، وَعَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ هُمَا مُقْتَدِيَانِ بِغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام فِي حَدِيثِ مُحَاجَّةِ آدَمَ وَمُوسَى: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى بِرَفْعِ آدَمَ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ وَمُوسَى مَفْعُولٌ، وَعَكَسَ الْقَدَرِيَّةُ ذَلِكَ، فَنَصَبُوا آدَمَ تَصْحِيحًا لِمَذْهَبِ الْقَدَرِ.
وَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَغَيْرِهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَبَنَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، كَفَرْقِهِ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتَهُ، فَهُوَ حُرٌّ، وَذَكَرَ الْجُرْجَانِيُّ جُمْلَةً مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ، وَذَكَرْتُ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ «الرَّدُّ عَلَى مُنْكِرِي الْعَرَبِيَّةِ» .
وَعِلْمٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ هَذَا التَّعَلُّقَ جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الِاجْتِهَادِ، وَيَلْحَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ التَّصْرِيفُ لِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَبْنِيَةِ الْكَلِمِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ مِنْ لَفْظِ مُخْتَارٍ وَمُغْتَالٍ، فَاعِلًا وَمَفْعُولًا.
قَوْلُهُ: «لَا تَفَارِيعَ الْفِقْهِ» . أَيْ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ تَفَارِيعَ الْفِقْهِ الَّتِي يُعْنَى بِتَحْقِيقِهَا الْفُقَهَاءُ، لِأَنَّ ذَلِكَ «مِنْ فُرُوعِ الِاجْتِهَادِ» الَّتِي وَلَّدَهَا الْمُجْتَهِدُونَ بَعْدَ حِيَازَةِ مَنْصِبِهِ، فَلَوِ اشْتُرِطْتَ مَعْرِفَتُهَا فِي الِاجْتِهَادِ، لَزِمَ الدَّوْرُ، لِتَوَقُّفِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الِاجْتِهَادُ عَلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ تَفَارِيعُ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ دَقَائِقِ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّصْرِيفِ حَتَّى يَكُونَ كَسِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشِ، وَالْمَازِنِيِّ، وَالْمُبَرِّدِ، وَالْفَارِسِيِّ، وَابْنِ جِنِّيٍّ وَنَحْوِهِمْ، لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْهَا فِي الْفِقْهِ دُونَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَتَقْرِيرَ الْأَدِلَّةِ وَمُقَوِّمَاتِهَا» . أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ «تَقْرِيرَ الْأَدِلَّةِ» وَمَا يَتَقَوَّمُ وَيَتَحَقَّقُ بِهِ كَيْفِيَّةُ نَصْبِ الدَّلِيلِ وَوَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَرُبَّمَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ مَعْرِفَةَ الْمَنْطِقِ، إِذْ بِهِ تَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَتَقْرِيرُ مُقَدَّمَاتِهَا وَوَجْهُ إِنْتَاجِهَا الْمَطَالِبِ، لِكَوْنِهِ ضَابِطًا لِلْأَشْكَالِ الْمُنْتِجَةِ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ، لَكِنَّهُ أَوْلَى وَأَجْدَرُ بِالْمُجْتَهِدِ خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا هَذَا الَّذِي قَدِ اشْتُهِرَ فِيهِ عِلْمُ الْمَنْطِقِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ رُبَّمَا عُدَّ نَاقِصَ الْأَدَوَاتِ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ، لِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ، وَلَمْ يَعْرِفُوا الْمَنْطِقَ الِاصْطِلَاحِيَّ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَدَلَالَاتِهَا عَلَى الْمَطَالِبِ بِالدُّرْبَةِ وَالْقُوَّةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِثْلَهُمْ فِيهِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَنْ سَاعَدَهُ طَبْعُهُ عَلَى صَوَابِ الْكَلَامِ وَاجْتِنَابِ اللَّحْنِ فِيهِ لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ عِلْمُ الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِوُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَبِمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، مُصَدِّقًا بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ، كُلٌّ بِدَلِيلِهِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لَيْسَ مَعْرِفَةَ الْكَلَامِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فِيهِ عَلَى عَادَةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْمُتَكَلِّمِينَ شَرْطًا فِي الِاجْتِهَادِ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ، إِذْ لَا يَبْلُغُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلْمِ إِلَّا وَقَدْ قَرَعَ سَمْعَهُ أَدِلَّةُ الْكَلَامِ فَيَعْرِفُهَا، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ مُقَلِّدٌ مَحْضٌ فِي تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأُصُولِ الْإِيمَانِ، لَجَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْفُرُوعِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
قَالَ: وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ، إِذْ بِهِ يَصِيرُ مُسْلِمًا، وَالْإِسْلَامُ شَرْطُ الْمُفْتِي لَا مَحَالَةَ.
قُلْتُ: الْمُشْتَرَطُ فِي الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ حُصُولُ ظَنِّ الْحُكْمِ الشَّرْعِيَّ، سَوَاءٌ انْحَصَرَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، أَوْ خَرَجَ عَنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُذْكَرْ فَمَعْرِفَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ.
وَمَنْ حَصَّلَ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةٍ، فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهَا وَإِنْ جَهِلَ حُكْمَ غَيْرِهَا. وَمَنَعَهُ قَوْمٌ لِجَوَازِ تَعَلُّقِ بَعْضِ مَدَارِكِهَا بِمَا يَجْهَلُهُ، وَأَصْلُهُ الْخِلَافُ فِي تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ.
وَلَنَا: قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ: لَا أَدْرِي، حَتَّى قَالَهُ مَالِكٌ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً مِنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ.
قَالُوا: لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ.
قُلْنَا: (لَا أَدْرِي) أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْعِلْمِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُ فِي اجْتِهَادِهِ بَلْ فِي قَبُولِ فُتْيَاهُ وَخَبَرِهِ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَمَنْ حَصَّلَ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةٍ، فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهَا وَإِنْ جَهِلَ حُكْمَ غَيْرِهَا، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ» ، إِلَى آخِرِهِ.
يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ كُلَّهَا إِنَّمَا تُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ الشَّرْعِ، كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رضي الله عنهم وَنَحْوِهِمْ. أَمَّا مَنْ أَفْتَى فِي فَنٍّ وَاحِدٍ، أَوْ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وُجِدَ فِيهِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْفَنِّ، أَوْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ ذَلِكَ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيمَا حَصَّلَ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، كَمَنْ عَرَفَ أُصُولَ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَهُوَ فَقِيهُ النَّفْسِ فِيهَا عَارِفًا بِمَعَانِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشَرَّكَةِ، وَمَسَائِلِ الْمُنَاسَخَاتِ وَالْجَدِّ، وَالْمَفْقُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِمَسَائِلِ الْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهَا، وَنَحْوِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ.
وَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، فَقَالُوا: لَا يَجْتَهِدُ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَّا مَنْ حَصَّلَ