المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المعارضة في الأصل - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌ المعارضة في الأصل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَيْ:‌

‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

مَعْنَاهَا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ الْمُسْتَدِلُّ مُقْتَضِيًا آخَرَ لِلْحُكْمِ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ، يَعْنِي الْمُسْتَدِلَّ. وَحِينَئِذٍ لَا يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، لِأَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا، أَيْ: عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ، بَلْ يَحْتَمِلُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ، أَيْ: أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ هُوَ الْوَصْفَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلَّتُهُ الْوَصْفَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، أَيِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي الْأَصْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلِّيَةُ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا، الَّذِي عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ، وَالَّذِي بَيَّنَهُ الْمُعْتَرِضُ.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، أَيْ: هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ «أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَاتِ» ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا، «إِذِ الْمَأْلُوفُ» ، أَيْ: لِأَنَّ الْمَأْلُوفَ، أَيْ: الَّذِي أَلِفْنَاهُ مِنَ الشَّرْعِ بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ تَصَرُّفِهِ وَمَصَادِرِهَا «مُرَاعَاةُ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا» ، وَإِذَا كَانَ الْوَصْفَانِ جَمِيعًا مُنَاسِبَيْنَ، بِحَيْثُ تُتَوَقَّعُ الْمَصْلَحَةُ عَقِيبَهُمَا كَمَا ذُكِرَ فِي تَعْرِيفِ الْمُنَاسِبِ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الشَّرْعِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَتِهِمَا، إِذْ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْلُوفُ مِنْ تَصَرُّفِ الْعُقَلَاءِ، وَالشَّرْعُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ، وَذَلِكَ «كَمَنْ أَعْطَى» قَرِيبًا لَهُ فَقِيرًا احْتَمَلَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِقَرَابَتِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِفَقْرِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِفَقْرِهِ وَقَرَابَتِهِ جَمِيعًا جَمْعًا بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ. وَهَذَا أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَاتِ لِمُنَاسَبَتِهِمَا جَمِيعًا لِلْعَطَاءِ، وَكَوْنِ الْمُكَلَّفِ الْعَاقِلِ لَا يُخِلُّ بِبَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى أَقْرَبَ قَرَابَتِهِ، تَعَارَضَتْ فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ الثَّلَاثَةُ، أَعْنِي هَلْ أَعْطَاهُ لِمُطْلَقِ الْقَرَابَةِ أَوْ لِخُصُوصِيَّةِ الْأَقْرَبِيَّةِ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ؟ وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ يُعْطِي أَجْنَدَ

ص: 528

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

جُنْدِهِ، وَأَشْجَعَهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ أَثَرًا فِي حِمَايَةِ الْمَلِكِ تَتَعَارَضُ فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ، هَلْ أَعْطَاهُ لِمُطْلَقِ الْجُنْدِيَّةِ وَالْكَفَاءَةِ؟ أَوْ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ؟ أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ؟ وَهُوَ أَظْهَرُ، لِمَا ذَكَرْنَا.

وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ، كَانَ التَّعْلِيلُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، بَلْ تَعْلِيلًا بِالْمَرْجُوحِ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ تَقَادِيرَ، وَيَبْطُلُ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ مِنْهَا، وَوُقُوعُ اثْنَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَرْجَحُ وَأَظْهَرُ مِنْ وُقُوعِ وَاحِدٍ مِنْهَا.

وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا لَوْ عَلَّلَ الْحَنْبَلِيُّ قَتْلَ الْمُرْتَدَّةِ بِقَوْلِهِ: بَدَّلَتْ دِينَهَا، فَتُقْتَلُ كَالرَّجُلِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا يَتَعَيَّنُ تَبْدِيلُ الدِّينِ مُقْتَضِيًا لِلْقَتْلِ، بَلْ هُنَاكَ مَعْنًى آخَرُ فِي الرَّجُلِ يَقْتَضِيهِ لَيْسَ فِي الْمَرْأَةِ وَهُوَ جِنَايَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِتَنْقِيصِ عَدَدِهِمْ، وَتَكْثِيرِ عَدُوِّهِمْ وَتَقْوِيَتِهِ، إِذْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالنِّكَايَةِ. وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ تَبْدِيلُ الدِّينِ، أَوِ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا. وَحِينَئِذٍ لَا يَتَعَيَّنُ التَّبْدِيلُ عِلَّةً لِلْقَتْلِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّلَ الْحَنْبَلِيُّ صِحَّةَ أَمَانِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ: مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ، فَعَارَضَهُ الْحَنَفِيُّ بِأَنْ يَقُولَ: فِي الْحُرِّ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْعَبْدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِمَصْلَحَةِ الْأَمَانِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لَهَا، وَهُوَ أَنَّ الْحُرَّ مُتَفَرِّغُ الْبَالِ لِلنَّظَرِ فِي مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالِاحْتِيَاطِ لَهُمْ فِي الْأَمَانِ أَوْ عَدَمِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَبْدُ، فَإِنَّهُ فِي مَظِنَّةِ اشْتِغَالِ الْبَالِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ قَيْدِ الرِّقِّ،

ص: 529

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالِاهْتِمَامِ بِقَضَاءِ وَظَائِفِهِ، فَتَتَقَاعَدُ مَصْلَحَةُ أَمَانِهِ عَنْ مَصْلَحَةِ أَمَانِ الْحُرِّ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ مُعْتَبَرًا فِي الْحُرِّ لَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ الْعَبْدِ بِهِ، لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ مَا فِيهِ مِنَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ بِالْمَصْلَحَةِ.

قَوْلُهُ: «وَيَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ حَذْفُ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ فِي دَلِيلِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ أَهْمَلَهُ، وَرَدَ مُعَارَضَةً» .

يَعْنِي أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ؛ هَلْ يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي دَلِيلِهِ بِحَذْفِهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْجَدَلِيِّينَ سَبَقَ تَوْجِيهُهُمَا فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُؤَالِ النَّقْضِ، فَإِنْ أَهْمَلَ الْمُسْتَدِلُّ ذَلِكَ - أَعْنِي الِاحْتِرَازَ - عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، «وَرَدَ» عَلَيْهِ «مُعَارَضَةً» ، أَيْ: كَانَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِهِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، وَيَلْزَمُهُ جَوَابُهُ.

مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي رَفْعِ الْيَدِ فِي الرُّكُوعِ: رُكْنٌ غَيْرُ الْإِحْرَامِ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الْيَدِ، كَالسُّجُودِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَرِزْ عَنِ الْإِحْرَامِ وَإِلَّا عَارَضَهُ بِهِ الْخَصْمُ بِأَنْ يَقُولَ: رُكْنٌ، فَشُرِعَ فِيهِ الرَّفْعُ كَالْإِحْرَامِ.

قُلْتُ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا الِاحْتِرَازَ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ مَا يَحْتَرِزُ عَنْهُ الْمُسْتَدِلُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَمْ يَكُنْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ ضَرُورَةٌ، وَإِنْ كَانَ وَارِدًا لَمْ يَنْفَعْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِالذِّكْرِ الْمُجَرَّدِ، إِذْ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ حَتَّى تَسْتَثْنِيَهُ، إِذِ الْإِحْرَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ أَرْكَانٌ، فَإِذَا قِسْتَ عَلَى السُّجُودِ، قِسْتُ أَنَا عَلَى الْإِحْرَامِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ مُنَاسَبَةَ احْتِرَازِهِ، وَاطِّرَادِ عِلَّتِهِ مَعَهُ، فَيَكُونُ احْتِرَازًا صَحِيحًا.

قَوْلُهُ: «وَيَكْفِي الْمُعْتَرِضَ فِي تَقْرِيرِهَا بَيَانُ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ،

ص: 530

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَلَا يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ فِي دَفْعِهَا إِلَّا بَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ» .

أَيْ: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَكْفِيهِ فِي تَقْرِيرِ الْمُعَارَضَةِ بَيَانُ مُطْلَقِ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ، أَعْنِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِمَا عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ، أَوْ لِمَا أَبْدَاهُ هُوَ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الْوَصْفَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الِاحْتِمَالَاتُ مُتَسَاوِيَةً، أَوْ بَعْضُهَا رَاجِحًا، وَبَعْضُهَا مَرْجُوحًا.

وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ، فَلَا يَكْفِيهِ فِي دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي عُلِّلَ بِهِ مُسْتَقِلٌّ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ وَلَا غَيْرِهِ. وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُعْتَرِضِ وَالْمُسْتَدِلِّ: هُوَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُدَّعٍ لِاسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَالْمُعْتَرِضُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَالْمُنْكِرُ يَكْفِيهِ مُطْلَقُ الْإِنْكَارِ، وَالْمُدَّعِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيِّنَةٍ وَحُجَّةٍ يُثْبِتُ بِمِثْلِهَا دَعْوَاهُ.

وَحُجَّةُ الْمُسْتَدِلِّ هَهُنَا لَيْسَ إِلَّا بَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِالْحُكْمِ، كَاسْتِقْلَالِ تَبْدِيلِ الدِّينِ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ بِصِحَّةِ الْأَمَانِ، وَالْمُعْتَرِضُ بِمُجَرَّدِ بَيَانِهِ احْتِمَالًا آخَرَ يَصْلُحُ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ عِلَّةً أَوْ جُزْءَ عِلَّةِ قَدْ وَفَى بِمَا عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ دَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ، فَلِذَلِكَ كَفَاهُ بَيَانُ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ كَيْفَ كَانَ، وَلَمْ يَكْفِ الْمُسْتَدِلَّ «إِلَّا بَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ» .

قَوْلُهُ: «إِمَّا بِثُبُوتِ عِلِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بِنَصٍّ أَوْ إِيمَاءٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الطُّرُقِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ بِبَيَانِ إِلْغَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ،

ص: 531

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كَإِلْغَاءِ الذُّكُورِيَّةِ فِي جِنْسِ أَحْكَامِ الْعِتْقِ، أَوْ بِأَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ ثَبَتَ بِدُونِ مَا ذَكَرَهُ، فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ» .

هَذَا بَيَانُ الطُّرُقِ الَّتِي يُبَيِّنُ بِهَا الْمُسْتَدِلُّ اسْتِقْلَالَ مَا عَلَّلَ بِهِ الْحُكْمَ، وَبِهِ يَحْصُلُ جَوَابُ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ.

وَثَمَّ طَرِيقٌ آخَرُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَنَظْمُ عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ تَقْدِيرًا هَكَذَا: وَلَا يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ فِي دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ إِلَّا بَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِالْحُكْمِ، وَبَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِالْحُكْمِ يَحْصُلُ بِطُرُقٍ:

أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ عِلِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ، أَيْ: إِثْبَاتُ كَوْنِهِ عِلَّةً بِالنَّصِّ، أَوْ إِيمَاءِ النَّصِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، ثُمَّ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ، كَالْإِجْمَاعِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ، كَالْمُنَاسَبَةِ، وَالسَّبْرِ، وَالدَّوَرَانِ.

مِثَالُ النَّصِّ: أَنْ يَقُولَ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ: قَوْلَهُ عليه السلام: مَنْ بَدَّلَ دِينَهَ فَاقْتُلُوهُ ظَاهِرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِي أَنَّ تَبْدِيلَ الدِّينِ عِلَّةٌ لِلْقَتْلِ مُسْتَقِلَّةٌ بِهِ قَاعِدَتُهَا إِلَى الْمُرْتَدَّةِ، وَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ.

مِثَالُ الْإِيمَاءِ: أَنْ يَقُولَ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ أَنَّهُ نَصٌّ فِي التَّعْلِيلِ بِالتَّبْدِيلِ: الْقَتْلُ حُكْمٌ اقْتَرَنَ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ وَهُوَ تَبْدِيلُ

ص: 532

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الدِّينِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةَ فِيهِ، كَالْقَطْعِ مَعَ السَّرِقَةِ، وَالْجَلَدِ مَعَ الزِّنَى.

وَبِالْجُمْلَةِ: طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ قَدْ سَبَقَتْ، فَمَنْ عَرَفَهَا هُنَاكَ اسْتَعْمَلَهَا هُنَا.

الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ لَاغٍ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، كَالذُّكُورِيَّةِ فِي الْعِتْقِ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْأَمَةِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا: رَقِيقٌ أَوْ مَمْلُوكٌ، فَسَرَى عِتْقُ الْمُوسِرِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: فِي الْعَبْدِ مَعْنًى خَاصٌّ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ السَّرَايَةِ أَوْ جُزْءَهَا وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَرَى الْعِتْقُ فِيهِ، وَكَمُلَتْ حُرِّيَّتُهُ صَلَحَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ لِمَا لَا تَصْلُحُ لَهُ الْأَمَةُ. فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: مَا ذَكَرْتَهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْمُنَاسَبَةِ إِلَّا أَنَّ الذُّكُورِيَّةَ وَالْأُنُوثِيَّةَ وَصْفٌ مُلْغًى فِي بَابِ الْعِتْقِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ لَمْ نَرَهُ الْتَفَتَ إِلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، فَهُوَ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ.

وَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَصْفُ الرِّقِّ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَمَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي النَّبِيذِ: مُسْكِرٌ فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: فِي الْخَمْرِ وَصْفٌ زَائِدٌ يَصْلُحُ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ، أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُعْتَصَرًا مِنَ الْعِنَبِ، فَيَكُونُ تَأْثِيرُهُ فِي فَسَادِ الْعَقْلِ أَشَدَّ، فَيَخْتَصُّ لِذَلِكَ بِالتَّحْرِيمِ بِخِلَافِ النَّبِيذِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: مُجَرَّدُ الْإِسْكَارِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّصُّ حَيْثُ قَالَ عليه السلام: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَدَارَ التَّحْرِيمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا. فَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ مَاءِ

ص: 533

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْعِنَبِ، فَهُوَ وَإِنْ دَارَ التَّحْرِيمُ مَعَهُ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ اعْتِبَارٌ لِلْمَادَّةِ، وَلَيْسَ مَعْهُودًا مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ الْمَوَادِّ مَعَ تَأْثِيرِ الْأَوْصَافِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي خُصُوصِيَّةِ الْمُحَدَّدِ، دَارَ مَعَ الْقَتْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْقِصَاصِ.

الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ «مِثْلَ الْحُكْمِ» الْمُتَنَازَعِ فِيهِ «ثَبَتَ بِدُونِ مَا ذَكَرَهُ» الْمُعْتَرِضُ، فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ أَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحُكْمِ، فَيَسْتَقِلُّ بِهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ.

مِثَالُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ أَمَانِ الْعَبْدِ: إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: مُسْلِمُ مُكَلَّفٌ فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ، فَعَارَضَهُ الْخَصْمُ فِي الْحُرِّ بِوَصْفِ الْحُرِّيَّةِ كَمَا سَبَقَ، يَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: قَدْ صَحَّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، فَيَكُونُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ وَصْفِ الْإِسْلَامِ وَالتَّكْلِيفِ مُسْتَقِلًّا بِالصِّحَّةِ.

ص: 534

فَإِنْ بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي أَصْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُدَّعَى ثُبُوتُهُ بِدُونِ مَا ذَكْرُهُ مُنَاسِبًا آخَرَ، لَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ حَذْفُهُ، وَلَا يَكْفِيهِ إِلْغَاءُ كُلٍّ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ بِالْأَصْلِ الْآخَرِ، لِجَوَازِ ثُبُوتِ حُكْمِ كُلِّ أَصْلٍ بِعِلَّةٍ تَخُصُّهُ، إِذِ الْعَكْسُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. وَإِنِ ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ اسْتِقْلَالَ مَا ذَكَرَهُ مُنَاسِبًا، كَفَى الْمُسْتَدِلَّ فِي جَوَابِهِ بَيَانُ رُجْحَانِ مَا ذَكَرَهُ هُوَ بِدَلِيلٍ، أَوْ تَسْلِيمٍ، وَأَمَّا فِي الْفَرْعِ بِذِكْرِ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ، إِمَّا بِالْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ آكَدَ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ كَمَا سَبَقَ، وَإِمَّا بِإِبْدَاءِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ مَانِعٍ لِلْحُكْمِ فِيهِ، أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَإِنْ مَنَعَ الْحُكْمَ، احْتَاجَ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهِ مَانِعًا إِلَى مِثْلِ طَرِيقِ الْمُسْتَدِلِّ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ مِنَ الْعِلَّةِ وَالْأَصْلِ؛ وَإِلَى مِثْلِ عِلَّتِهِ فِي الْقُوَّةِ، وَإِنْ مَنَعَ السَّبَبِيَّةَ، فَإِنْ بَقِيَ احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ مَعَهُ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ لَمْ يَضُرَّ الْمُسْتَدِلَّ، لِإِلْفِنَا مِنَ الشَّرْعِ اكْتِفَاءَهُ بِالْمَظِنَّةِ وَمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الْحِكْمَةِ، فَيَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ إِلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ بِالِاعْتِبَارِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَصْلٍ؛ إِذْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ تَابِعٌ لِلْحِكْمَةِ، وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهَا، وَفِي الْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ يَنْقَلِبُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا عَلَى إِثْبَاتِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا عَلَيْهَا بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ.

ــ

قَوْلُهُ: «فَإِنْ بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي أَصْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُدَّعَى ثُبُوتُهُ بِدُونِ مَا ذَكَرَهُ مُنَاسِبًا آخَرَ لَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ حَذْفُهُ» .

قُلْتُ: هَذَا مِنْ تَوَابِعِ هَذَا الْجَوَابِ الْأَخِيرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا بَيَّنَ فِي أَصْلِ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْفَرْعِ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَأَلْغَاهُ

ص: 535

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمُسْتَدِلُّ بِبَيَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي أَصْلٍ آخَرَ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ، فَبَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ فِي هَذَا الْوَصْفِ الثَّانِي وَصْفًا آخَرَ مُنَاسِبًا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ، لَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ إِبْطَالُ هَذَا الْوَصْفِ بِحَذْفِهِ، أَوْ مَنْعِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِبْطَالِ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُبْطِلْهُ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ لِلتَّعْلِيلِ، وَتَمْثِيلُهُ بِمَسْأَلَةِ الْأَمَانِ أَيْضًا إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ، فَعَارَضَهُ الْخَصْمُ بِوَصْفِ الْحُرِّيَّةِ، فَأَلْغَاهُ الْمُسْتَدِلُّ بِالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ حَيْثُ صَحَّ أَمَانُهُ بِدُونِ الْحُرِّيَّةِ، فَقَدْ صَارَ الْمَأْذُونُ لَهُ كَأَصْلٍ بِأَنْ قَاسَ عَلَيْهِ الْمُسْتَدِلُّ، فَإِذَا بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ فِي الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ وَصْفًا آخَرَ مُنَاسِبًا لِصِحَّةِ الْأَمَانِ، مَفْقُودًا فِي غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَذَلِكَ الْمُنَاسِبُ هُوَ الْإِذْنُ.

وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ أَنَّ السَّيِّدَ أَقَامَهُ مَقَامَهُ فِي الْقِتَالِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ الْكِفَايَةَ فِي ذَلِكَ وَرَصَانَةَ الرَّأْيِ، وَإِلَّا كَانَ السَّيِّدُ فَاسِقًا بِتَفْوِيضِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ إِلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهَا، وَالْفِسْقُ خِلَافُ ظَاهِرِ حَالِ الْمُسْلِمِ.

وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْإِذْنُ دَلِيلًا عَلَى صَلَاحِيَةِ هَذَا الْمَأْذُونِ لَهُ لِإِعْطَاءِ الْأَمَانِ، فَالْحُرِّيَّةُ وَإِنِ انْتَفَتْ حَقِيقَتُهَا، فَقَدْ خَلَفَهَا صِفَةٌ تُحَصِّلُ مَقْصُودُهَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهَا، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ إِبْطَالُ هَذَا الْمُنَاسِبِ، وَإِلَّا كَانَ مُعَارَضًا بِوَصْفِ الْإِذْنِ كَمَا عُورِضَ بِوَصْفِ الْحُرِّيَّةِ. وَسَبِيلُهُ فِي إِلْغَائِهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَثَلًا صِحَّةَ الْأَمَانِ مِنَ الْعَبْدِ فِي صُورَةٍ بِدُونِ الْإِذْنِ، وَلِلْمُعْتَرِضِ إِبْدَاءُ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ فِي تِلْكَ

ص: 536

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الصُّورَةِ، وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ إِلْغَاؤُهُ، وَهَلُمَّ جَرًّا فِي إِبْدَاءِ الْمُنَاسِبِ مِنَ الْمُعْتَرِضِ وَإِلْغَائِهِ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْإِلْغَاءُ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ، أَوْ إِبْدَاءُ الْوَصْفِ مِنَ الْمُعْتَرِضِ.

قُلْتُ: حَاصِلُ مَا ذُكِرَ مِنْ إِلْغَاءِ الْمُسْتَدِلِّ: وَصْفُ الْمُعْتَرِضِ فِي الْأَصْلِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَاسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ عَلَى أَصْلٍ، كَقِيَاسِ أَمَانِ الْعَبْدِ عَلَى أَمَانِ الْحُرِّ، ثُمَّ عَلَى أَمَانِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَذَلِكَ انْتِقَالٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ بِطَرِيقِ التَّصْحِيحِ لَهُ بِدَفْعِ مَا يُبْطِلُ تَعَلُّقَهُ بِهِ لَمْ يَضُرُّهُ وَلَمْ يَكُنْ مُنَتَقِلًا.

أَمَّا الْمُعْتَرِضُ، فَإِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَنَّ وَصْفَ الْحُرِّيَّةِ فِي أَمَانِ الْحُرِّ مُؤَثِّرٌ، وَوَصْفُ الْإِذْنِ فِي أَمَانِ الْمَأْذُونِ لَهُ أَيْضًا مُؤَثِّرٌ، فَقَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ مَا أَبْدَاهُ أَوَّلًا مِنْ وَصْفِ الْحُرِّيَّةِ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالتَّكْلِيفِ لَيْسَ مُتَعَيِّنًا لِلْعِلِّيَّةِ، بَلْ هُوَ وَصْفُ الْإِذْنِ. وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي يُعَارِضُ بِهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ. أَعْنِي أَنَّ الْوَصْفَ الْمَضْمُومَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّكْلِيفِ لَيْسَ هُوَ الْحُرِّيَّةَ عَيْنًا، بَلْ هُوَ الْحُرِّيَّةَ أَوِ الْإِذْنَ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرَهُمَا كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ إِنْ قَالَ بِصِحَّةِ الْأَمَانِ مَعَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا بِإِبْدَاءِ الْمُنَاسِبِ فِي مَحَلِّ الْإِلْغَاءِ.

فَلَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ لِلْمُعْتَرِضِ: أَنْتَ عَلَّلْتَ صِحَّةَ أَمَانِ الْحُرِّ بِوَصْفِ الْحُرِّيَّةِ لِكَمَالِ نَظَرِ الْحُرِّ بِتَفَرُّغِهِ، فَتَكْمُلُ مَصْلَحَةُ أَمَانِهِ، ثُمَّ جَعَلْتَ الْإِذْنَ فِي صُورَةِ الْمَأْذُونِ لَهُ خَلَفًا عَنِ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ لَا يُسَاوِيهَا فِي الْمَصْلَحَةِ لِتَحَقُّقِ الرِّقِّ فِي الْمَأْذُونِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَيَتَحَقَّقُ شَغْلُ الْخَاطِرِ، وَعَدَمُ فَرَاغِ الْبَالِ، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُعَارِضَنِي بِهِ فِي صُورَةِ الْمَأْذُونِ لَهُ عَنِ الْحُرِّيَّةِ - لَكَانَ هَذَا كَلَامًا

ص: 537

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

صَحِيحًا، لِأَنَّهُ عَلَّلَ بِوَصْفٍ وَلَمْ يُظْهِرْهُ بِكَمَالِهِ.

قَوْلُهُ: «وَلَا يَكْفِيهِ إِلْغَاءُ كُلٍّ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ بِالْأَصْلِ الْآخَرِ لِجَوَازِ ثُبُوتِ حُكْمِ كُلِّ أَصْلٍ بِعِلَّةٍ تَخُصُّهُ، إِذِ الْعَكْسُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الشَّرْعِيَّاتِ» .

اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْجَدَلِيِّينَ زَعَمَ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا أَبْدَى فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ مُنَاسِبًا آخَرَ غَيْرَ مَا عَرَّضَ بِهِ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ، كَفَى فِي جَوَابِهِ «إِلْغَاءُ كُلٍّ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ» اللَّذَيْنِ أَبْدَاهُمَا الْمُعْتَرِضُ «بِالْأَصْلِ الْآخَرِ» . مِثْلَ أَنْ يُلْغِيَ الْحُرِّيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ بِمَسْأَلَةِ الْمَأْذُونِ، حَيْثُ اكْتَفَى الْمُعْتَرِضُ فِيهِ بِالْإِذْنِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ. وَيُلْغِي الْإِذْنَ بِأَمَانِ الْحُرِّ حَيْثُ صَحَّ وَلَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ وُجُودُ الْإِذْنِ، وَإِذَا أَلْغَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ، سَقَطَتِ الْمُعَارَضَةُ مِنَ الْأَصْلَيْنِ وَبَقِيَ قِيَاسُ الْمُسْتَدِلِّ سَالِمًا عَنْ مُعَارِضٍ، فَتَبَيَّنَ هَهُنَا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ فِي الْأُصُولِ، فَيَثْبُتُ حُكْمُ كُلِّ أَصْلٍ بِعِلَّةٍ غَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ، كَأَمَانِ الْحُرِّ بِعِلَّةِ الْحُرِّيَّةِ، وَأَمَانِ الْمَأْذُونِ بِعِلَّةِ الْإِذْنِ، لِأَنَّ «الْعَكْسَ» - يَعْنِي عَكْسَ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - «غَيْرُ لَازِمٍ» كَمَا سَبَقَ، فَلَا يَجِبُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ، لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ فِي الْأَصْلِ الْآخَرِ. مَثَلًا لَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ صِحَّةِ الْأَمَانِ مِنَ الْمَأْذُونِ لِانْتِفَاءِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا انْتِفَاءُ صِحَّةِ أَمَانِ الْحُرِّ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْإِذْنِ، بَلْ جَازَ أَنْ تَثْبُتَ الصِّحَّةُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ فِيهِ. وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِإِلْغَاءِ كُلٍّ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ بِالْآخَرِ وَجْهٌ.

قَوْلُهُ: «وَإِنِ ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ اسْتِقْلَالَ مَا ذَكَرَهُ مُنَاسِبًا كَفَى الْمُسْتَدِلَّ فِي جَوَابِهِ بَيَانُ رُجْحَانِ مَا ذَكَرَهُ هُوَ بِدَلِيلٍ أَوْ تَسْلِيمٍ» .

ص: 538