المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التَّقْلِيدُ لُغَةً: جَعْلُ شَيْءٍ فِي الْعُنُقِ مُحِيطًا بِهِ، وَالشَّيْءُ قِلَادَةٌ. وَشَرْعًا: قَبُولُ - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌ ‌التَّقْلِيدُ لُغَةً: جَعْلُ شَيْءٍ فِي الْعُنُقِ مُحِيطًا بِهِ، وَالشَّيْءُ قِلَادَةٌ. وَشَرْعًا: قَبُولُ

‌التَّقْلِيدُ

لُغَةً: جَعْلُ شَيْءٍ فِي الْعُنُقِ مُحِيطًا بِهِ، وَالشَّيْءُ قِلَادَةٌ.

وَشَرْعًا: قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، كَأَنَّ الْمُقَلِّدَ يُطَوِّقُ الْمُجْتَهِدَ إِثْمَ مَا غَشَّهُ بِهِ فِي دِينِهِ، وَكَتَمَهُ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَلَيْسَ قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقْلِيدًا، إِذْ هُوَ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ.

وَيَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ إِجْمَاعًا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ.

لَنَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ تَكْلِيفِ الْعَامَّةِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهَا مُثَابٌ فَلَا مَحْذُورَ.

قَالُوا: الْوَاجِبُ الْعِلْمُ ; أَوْ مَا أَمْكَنَ مِنَ الظَّنِّ، وَالْحَاصِلُ مِنْهُ بِاجْتِهَادٍ أَكْثَرَ.

قُلْنَا: فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ، ثُمَّ تَكْلِيفُهُمُ الِاجْتِهَادَ يُبْطِلُ الْمَعَايِشَ، وَيُوجِبُ خَرَابَ الدُّنْيَا فِي طَلَبِ أَهْلِيَّتِهِ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُدْرِكُهَا فَتَتَعَطَّلُ الْأَحْكَامُ بِالْكُلِّيَّةِ.

ــ

«التَّقْلِيدُ لُغَةً» أَيْ: هُوَ فِي اللُّغَةِ «جَعْلُ شَيْءٍ فِي الْعُنُقِ» عُنُقِ الدَّابَّةِ وَغَيْرِهِ «مُحِيطًا بِهِ» ، احْتِرَازًا مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِالْعُنُقِ، فَلَا يُسَمَّى قِلَادَةً فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِا، وَذَلِكَ كَالْعُقُودِ،الْمَخَانِقِ، وَالْمُرْسِلَاتِ فِي حُلُوقِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالسُّبَحِ الَّتِي هِيَ فِي حُلُوقِ الْمُتَزَهِّدِينَ، وَالْقَلَائِدِ فِي أَعْنَاقِ

ص: 650

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْخَيْلِ. وَفِي الْحَدِيثِ: ارْكَبُوا الْخَيْلَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا الْأَوْتَارَ قَلَائِدَ فِي أَعْنَاقِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَخْتَنِقَ إِذَا أَمْعَنَتْ فِي الْجَرْيِ، لِانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهَا. هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «وَالشَّيْءُ» - يَعْنِي الْمُحِيطُ بِالْعُنُقِ - يُسَمَّى «قِلَادَةً» ، وَجَمْعُهَا قَلَائِدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عز وجل:{وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} [الْمَائِدَةِ: 2] يَعْنِي مَا يُقَلِّدُهُ الْهَدْيَ فِي عُنُقِهِ مِنَ النِّعَالِ أَوْ آذَانِ الْقُرَبِ وَنَحْوِهَا.

قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» ، أَيْ: وَالتَّقْلِيدُ شَرْعًا، أَيْ: فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: «قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ» ; اسْتِعَارَةً مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، «كَأَنَّ الْمُقَلِّدَ يُطَوِّقُ الْمُجْتَهِدَ

ص: 651

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إِثْمَ مَا غَشَّهُ بِهِ فِي دِينِهِ، وَكَتَمَهُ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ» ، أَيْ: يَجْعَلُهُ طَوْقًا فِي عُنُقِهِ «أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ» عز وجل: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 13]«عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ» يَعْنِي مِنَ التَّقْلِيدِ اللُّغَوِيِّ كَمَا سَبَقَ.

قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقْلِيدًا إِذْ هُوَ - يَعْنِي قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ» .

قُلْتُ: قَالَ الْآمِدِيُّ: التَّقْلِيدُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ مُلْزِمَةٍ، كَأَخْذِ الْعَامِّيِّ بِقَوْلِ مِثْلِهِ، وَالْمُجْتَهِدِ بِقَوْلِ مِثْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بِخِلَافِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلِ الْأُمَّةِ - يَعْنِي فِي الْإِجْمَاعِ - وَالْعَامِّيِّ لِلْمُفْتِي لِعَدَمِ عُرُوِّهِ عَنِ الْحُجَّةِ الْمُلْزِمَةِ بِهِ.

قُلْتُ: هَذَا مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ تَقْلِيدٌ أَوْ غَيْرُهُ.

وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أُرِيدَ بِالْحُجَّةِ مَا أَفَادَ مَدْلُولَهُ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ تَقْلِيدٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا أَفَادَ مَدْلُولَهُ مُطْلَقًا، فَلَيْسَ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ، لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُفِيدُ مَدْلُولَهُ بِوَاسِطَةِ تَصْدِيقِ الْمُعْجِزِ لَهُ، وَالْإِجْمَاعُ يُفِيدُ مَدْلُولَهُ بِوَاسِطَةِ شَهَادَةِ الصَّادِقِ لَهُ بِالْعِصْمَةِ، وَقَوْلُ الْمُفْتِي يُفِيدُ مَدْلُولَهُ بِوَاسِطَةِ الْإِجْمَاعِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّيِّ.

قَوْلُهُ: «وَيَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ إِجْمَاعًا» ، أَيْ: بِالْإِجْمَاعِ، «خِلَافًا لِبَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ» مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.

«لَنَا» عَلَى جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: «الْإِجْمَاعُ» مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم وَغَيْرِهِمْ -

ص: 652

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

سِوَى هَذَا الْمُخَالِفِ - «عَلَى عَدَمِ تَكْلِيفِ الْعَامَّةِ ذَلِكَ» - يَعْنِي الِاجْتِهَادَ فِي الْفُرُوعِ - فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى عَامِيٍّ اتَّبَعَ مُفْتِيًا فِيمَا أَفْتَاهُ سَوَاءَ ذَكَرَ لَهُ الدَّلِيلَ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْمُخْطِئَ فِيهَا» ، أَيْ: فِي الْفُرُوعِ «مُثَابٌ» ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الْحَاكِمِ يُخْطِئُ فَلَهُ أَجْرٌ. وَحِينَئِذٍ لَا مَحْذُورَ فِي تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ فِيهَا، لِأَنَّهُ فِي تَقْلِيدِهِ كَالْمُجْتَهِدِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَالْمُجْتَهِدُ إِذَا أَخْطَأَ فِيهَا لَا مَحْذُورَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امْتَثَلَ حُكْمَ الشَّرْعِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ ; هَذَا بِالتَّقْلِيدِ، وَهَذَا بِالِاجْتِهَادِ.

قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، أَيِ: احْتَجَّ الْخَصْمُ عَلَى مَنْعِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِلْعَامِّيِّ، بِأَنَّ «الْوَاجِبَ» فِيهَا «الْعِلْمُ أَوْ مَا أَمْكَنَ مِنَ الظَّنِّ» إِذَا تَعَذَّرَ الْعِلْمُ. «وَالْحَاصِلُ» مِنَ الظَّنِّ بِالِاجْتِهَادِ أَكْثَرُ مِنَ الْحَاصِلِ مِنْهُ بِالتَّقْلِيدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الظَّنُّ الْأَكْثَرُ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالْأَقْرَبُ إِلَى الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَاجِبٌ، وَإِذَا وَجَبَ الظَّنُّ الْأَكْثَرُ وَجَبَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إِلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْعِلْمُ لِقَوْلِهِ عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الْإِسْرَاءِ: 36]، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 33] . وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْعِلْمَ إِذَا تَعَذَّرَ، وَجَبَ مَا أَمْكَنَ مِنَ الظَّنِّ لِقَوْلِهِ عليه السلام: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَقِيَاسًا عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا بَعْضَ صَاعٍ مِنْ فِطْرَتِهِ

ص: 653

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا مَا يَكْفِي بَعْضَ طَهَارَتِهِ، لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي بَلَدِهِ مَصْرِفًا لِلزَّكَاةِ أَخْرَجَهَا إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَبَاقِي مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ ظَاهِرَةٌ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، أَيْ: فِي جَوَابِ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ «فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ» ، وَالْإِشَارَةُ بِالنَّصِّ إِلَى قَوْلِهِ عز وجل:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 7]، وَقَوْلُهُ عليه السلام فِي قِصَّةِ ذِي الشَّجَّةِ الْمَشْهُورَةِ: أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ وَقَوْلُهُ عليه السلام فِي حَدِيثِ ذَهَابِ الْعِلْمِ: رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا مَفْهُومُهُ مَنْ أَفْتَى بِعِلْمٍ يَكُونُ هَادِيًا، وَمَنْ كَانَ هَادِيًا، جَازَ اتِّبَاعَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِالْإِجْمَاعِ إِلَى إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم كَمَا ذُكِرَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ تَكْلِيفُهُمْ» ، أَيْ: تَكْلِيفُ الْعَامَّةِ «الِاجْتِهَادَ يُبْطِلُ الْمَعَايِشَ، وَيُوجِبُ خَرَابَ الدُّنْيَا فِي طَلَبِ أَهْلِيَّتِهِ» ، أَيْ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ، أَيْ صَيْرُورَةِ الْعَامَّةِ أَهْلًا لَهُ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفَرَاغِ وَالنَّظَرِ، وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ، وَمُمَارَسَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ، «وَلَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ» - أَيْ: أَكْثَرَ الْعَامَّةِ - لَوْ تَجَرَّدَ لِطَلَبِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ «لَا يُدْرِكُهَا» ، إِذْ قَدْ وُجِدَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَجَرَّدَ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ فَمَاتَ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ فِيهِ عَلَى عَامِّيَّتِهِ، إِذِ الْمُجْتَهِدُونَ لِعِزَّةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ كَالْمُلُوكِ فِي

ص: 654

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْأَعْصَارِ لَا يُوجَدُ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ، فَكَانَتْ «تَتَعَطَّلُ الْأَحْكَامُ بِالْكُلِّيَّةِ» لَوْ كُلِّفَ الْعَامَّةُ الِاجْتِهَادَ، لِأَنَّهُمْ مَادَّةُ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا تَشَاغَلُوا بِطَلَبِ الِاجْتِهَادِ، انْقَطَعَتْ مَادَّةُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَعَطَّلَتِ الْأَحْكَامُ، إِذِ الْعَامِّيُّ لَا يَقُومُ مِنْهُ مُجْتَهِدٌ، وَيَنْقَطِعُ بِتَشَاغُلِهِ بِالْعِلْمِ مَادَّةَ طَلَبِهِ الْعِلْمَ، فَيَشْتَغِلُونَ بِضَرُورَاتِهِمْ عَنْ طَلَبِهِ، فَيَخْلُو الْوَقْتُ عَمَّنْ يَسْتَرْشِدُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ.

ص: 655

وَلَا تَقْلِيدَ فِي مَا عُلِمَ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، كَالْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِيهِ، وَلَا فِي الْأَحْكَامِ الْأُصُولِيَّةِ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ، وَنَحْوِهِا، لِظُهُورِ أَدِلَّتِهَا فِي نَفْسِ كُلِّ عَاقِلٍ، وَإِنْ مَنَعَ الْعَامِّيَّ عِيُّهُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهَا.

وَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ إِنْ عَلِمَ خَطَأَ مَنْ قَلَّدَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَهُ، أَوْ أَصَابَتَهُ فِيمَ عَلِمَهَا إِنْ كَانَ لِتَقْلِيدِهِ آخَرَ، فَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْأَوَّلِ، أَوْ بِاجْتِهَادِهِ فِيهِ فَلْيَجْتَهِدْ فِي الْمَطْلُوبِ وَلْيُلْغِ وَاسِطَةَ التَّقْلِيدِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ، إِذِ الْعَامِّيُّ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّبَهِ لِاشْتِبَاهِهِمَا، لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا ; مَعَ تَفَرُّقِ الْآرَاءِ وَكَثْرَةِ الْأَهْوَاءِ، بَلْ نَحَارِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَسْتَقِلُّونَ بِذَلِكَ، فَإِذَا مُنِعَ مِنَ التَّقْلِيدِ لَزِمَ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ شَيْئًا.

ــ

قَوْلُهُ: «وَلَا تَقْلِيدَ فِيمَا عُلِمَ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً كَالْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ» ، وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ. «لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ» يَعْنِي الْعَامِّيَّ وَغَيْرَهُ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، إِذْ التَّقْلِيدُ يَسْتَدْعِي جَهْلَ الْمُقَلِّدِ بِمَا قَلَّدَ فِيهِ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِيمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ، وَالْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَرْكَانِ بِالضَّرُورَةِ الْحَاصِلَةِ عَنِ التَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهُمَا مُرَكَّبَانِ مِنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ كَمَا سَبَقَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ.

قَوْلُهُ: «وَلَا فِي الْأَحْكَامِ» ، أَيْ: وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي الْأَحْكَامِ «الْأُصُولِيَّةِ» الْكُلِّيَّةِ، «كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ، وَنَحْوِهَا» مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ الظَّاهِرَةِ الْأَدِلَّةِ، «لِظُهُورِ أَدِلَّتِهَا فِي نَفْسِ كُلِّ عَاقِلٍ، وَإِنْ مَنَعَ الْعَامِّيَّ عِيُّهُ» ، أَيْ: قُصُورُ عِبَارَتِهِ «مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهَا» ، أَيْ: عَنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ،

ص: 656

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَإِنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا رَأَى هَذَا الْعَالَمَ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ، عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ لَهُ صَانِعًا، وَإِنْ قَصُرَتْ عِبَارَتُهُ عَنْ تَقْرِيرِ دَلِيلِ الدُّورِ وَالتَّسَلْسُلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَإِذَا رَأَى الْعَالَمَ جَارِيًا عَلَى نِظَامِ الْحِكْمَةِ عَلِمَ أَنَّ صَانِعَهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَلَا مُشَارِكَ، لِمَا عَلِمَ فِي مُسْتَقَرِّ الْعَادَةِ مِنْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَفْسَدُ بِتَعَدُّدِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَقْرِيرُ الدَّلِيلِ مِنْ قَوْلِهِ عز وجل:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الَأَنْبِيَاء: 22] ، وَإِذَا رَأَى إِنْسَانًا قَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِشَرْطِهِ ; عَلِمَ صِدْقَهُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَقْرِيرُ دَلِيلِ النُّبُوَّةِ، وَدَفْعُ الشُّبَهِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: «وَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُقَلِّدَ إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ خَطَأَ مَنْ قَلَّدَهُ أَوْ إِصَابَتَهُ، فَإِنْ عَلِمَ خَطَأَهُ، «لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَهُ» فِي الْخَطَأِ كَمَا فِي الْفُرُوعِ وَأَوْلَى، وَإِنْ عَلِمَ إِصَابَتَهُ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَهَا بِتَقْلِيدٍ آخَرَ، أَوْ بِاجْتِهَادِهِ هُوَ، فَإِنْ عَلِمَهَا بِتَقْلِيدِ شَخْصٍ آخَرَ قُلْنَا: الْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّخْصِ الْآخَرِ، كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي قَلَّدْتُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: بِمَ عَلِمْتَ إِصَابَةَ هَذَا الَّذِي قَلَّدْتَهُ، بِتَقْلِيدِكَ فِي ذَلِكَ غَيْرَكَ، أَوْ بِاجْتِهَادِكَ؟ وَيَتَسَلْسَلُ التَّعْلِيلُ، أَوْ يَنْتَهِي إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ عَلِمَ الْمُقَلِّدُ إِصَابَةَ مَنْ قَلَّدَهُ بِاجْتِهَادِهِ «فَلْيَجْتَهِدْ فِي الْمَطْلُوبِ وَلْيُلْغِ وَاسِطَةَ التَّقْلِيدِ» ، فَنَقُولُ لَهُ: إِذَا كَانَ لَكَ أَهْلِيَّةٌ تَعْلَمُ بِهَا إِصَابَةَ مَنْ تُقَلِّدُهُ مِنْ خَطَئِهِ، فَاجْتَهِدْ أَنْتَ فِيمَا قَلَّدْتَ فِيهِ، وَأَلْغِ وَاسِطَةَ التَّقْلِيدِ، أَيْ: لَا تَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اعْتِقَادِكَ وَاسِطَةً

ص: 657

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تُقَلِّدُهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْوَاسِطَةَ تَكُونُ لَاغِيَةً لَا فَائِدَةَ فِيهَا، بَلْ مَعَ تَقْلِيدِهَا إِنَّمَا اعْتَمَدْتَ عَلَى اجْتِهَادِكَ. وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْإِقْرَارُ يُلْغِي الْبَيِّنَةَ، وَحُضُورُ شَاهِدَ الْأَصْلِ يُلْغِي اعْتِبَارَ شَاهِدِ الْفَرْعِ.

قَوْلُهُ: «وَفِيِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ» ، أَيْ: تَكْلِيفُ الْعَامَّةِ الِاجْتِهَادَ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ «الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ» ، وَبِالْفَرْقِ «بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّبَهِ لِاشْتِبَاهِهِمَا» ، أَيْ: لِاشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ وَالشُّبْهَةِ، إِذِ الدَّلِيلُ مَا لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِهِ ثُبُوتُ الْمَدْلُولِ، وَالشُّبْهَةُ تُوهِمُ ثُبُوتَ مَا نُصِبَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لِمُشَابَهَتِهَا الدَّلِيلَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَهِيَ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِي أَحْكَامِ الْأُصُولِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِتَقْرِيرِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَدَفْعِ الشُّبَهِ عَنْهَا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَامِّيِّ، بَلْ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ عَادَةً «لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا مَعَ تَفَرُّقِ الْآرَاءِ، وَكَثْرَةِ الْأَهْوَاءِ، بَلْ نَحَارِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ» وَشُطَّارُهُمْ «لَا يَسْتَقِلُّونَ بِذَلِكَ» وَحَيْثُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، «فَإِذَا مُنِعَ» يَعْنِي الْعَامِّيَّ «مِنَ التَّقْلِيدِ لَزِمَ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ شَيْئًا» ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الِاجْتِهَادِيَّ مُتَعَذِّرٌ عَلَيْهِ، وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ.

وَحَاصِلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَنْعِ عُمُومِ الدَّلِيلِ السَّابِقِ عَلَى مَنْعِ التَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ لِظُهُورِ أَدِلَّتِهَا فِي نَفْسِ كُلِّ عَاقِلٍ.

وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي نُفُوسِ الْعُلَمَاءِ. أَمَّا الْعَامَّةُ فَلَا.

ص: 658

فَالْأَشْبَهُ إِذًا، أَنْ لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ فِي حُكْمٍ اعْتِقَادِيٍّ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ مُجْتَهِدٍ، أَوْ عَامِّيٍّ مَعَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ تَرْكِ الْعِنَادِ.

وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِمَّا يَلْزَمُ الْجَاحِظَ، إِذْ أَكْثَرُ مُخَالِفِي الْمِلَّةَ عَانَدُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَفْرِغْ وُسْعَهُ فِي الِاجْتِهَادِ.

وَأَنَّ الْكُفْرَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي رِسَالَتِهِ، إِذْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرَ الْمُعَانِدِينَ وَمُنْكِرِي الضَّرُورِيَّاتِ، لِقَصْدِهِمُ الْحَقَّ مَعَ اسْتِبْهَامِ طَرِيقِهِ.

ــ

وَقَوْلُهُ: «فَالْأَشْبَهُ إِذًا» ، أَيْ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَدَفْعِ الشُّبَهِ عَنْهَا، فَالْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ «أَنْ» يُقَالَ:«لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ فِي حُكْمٍ اعْتِقَادِيٍّ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ مُجْتَهِدٍ أَوْ عَامِّيٍّ مَعَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ تَرْكِ الْعِنَادِ» .

فَقَوْلُنَا: «اعْتِقَادِيٍّ» هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ الْأُصُولِيَّةِ لِأَنَّ حَظَّ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا الِاعْتِقَادُ.

وَقَوْلُنَا: «غَيْرِ ضَرُورِيٍّ» احْتِرَازٌ مِمَّا سَبَقَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي اشْتَرَكَ فِيهَا الْعَامَّةُ وَغَيْرُهُمْ.

وَقَوْلُنَا: «مُجْتَهِدٍ، أَوْ عَامِّيٍّ» لَيْسَ احْتِرَازًا عَنْ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ بَدَلٌ تَفْصِيلِيٌّ مِنْ قَوْلِنَا:«عَلَى مَنْ أَخْطَأَ» ، أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا أَوْ عَامِيًّا.

ص: 659

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقَوْلُنَا: «مَعَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ» احْتِرَازٌ مِمَّنْ لَا يَجْتَهِدُ فِي مُعْتَقَدِهِ أَصْلًا، بَلْ يَعْتَقِدُ مَا خَطَرَ لَهُ أَوْ مَا مَالَ إِلَيْهِ هَوَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَأْثَمُ، لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ، أَوْ تَابِعَ الْهَوَى فِي اجْتِهَادِهِ.

وَقَوْلُنَا: «بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ» ، أَيْ: يَكْتَفِي مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَهُ، وَمَا بَلَغَتْهُ قُوَّتُهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنْهُ مَا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ، إِذْ ذَلِكَ مَا لَا يُطَاقُ.

وَقَوْلُنَا: «مَعَ تَرْكِ الْعِنَادِ» ، احْتِرَازٌ مِنْ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُعَانِدَ فِي اجْتِهَادِهِ بِأَنْ يَظْهَرَ لَهُ الصَّوَابُ، فَيَحِيدَ عَنْهُ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عز وجل عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمْلِ: 14] .

قَوْلُهُ: «وَفِيهِ» ، أَيْ: فِي هَذَا الضَّابِطِ الْمَذْكُورِ لِعَدَمِ الْإِثْمِ «احْتِرَازٌ مِمَّا يَلْزَمُ الْجَاحِظَ» عَلَى قَوْلِهِ: لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ مَعَ الْجِدِّ فِي طَلَبِهِ مِنْ رَفْعِ الْإِثْمِ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ، لِأَنَّهُمْ جَدُّوا فِي طَلَبِ الْحَقِّ، فَلَمْ يُصِيبُوهُ، فَلَا يَلْزَمُ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّابِطِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُخَالِفِينَ لِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ عَانَدُوا الْحَقَّ مَعَ وُضُوحِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عز وجل:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الْأَنْعَامِ: 33]، {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الْأَنْعَامِ: 114] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، مِمَّا دَلَّ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. «وَمِنْهُمْ» - أَيْ: وَمِنْ مُخَالِفِي الْمِلَّةِ - «مَنْ لَمْ يَسْتَفْرِغْ وُسْعَهُ فِي الِاجْتِهَادِ» ، فَكَانَ خَطَؤُهُ لِتَقْصِيرِهِ، فَلَحِقَهُمُ الْإِثْمُ لِذَلِكَ، وَنَحْنُ قَدَّرْنَا الضَّابِطَ الْمَذْكُورَ، لِنَفِيَ الْإِثْمِ بِأَنْ يُوجَدَ الْجِدُّ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَأَنْ تَنْتَفِيَ الْمُكَابَرَةُ وَالْمُعَانَدَةُ، فَلَا يَلْزَمُنَا مَا لَزِمَ الْجَاحِظَ مِمَّا سَبَقَ.

قَوْلُهُ: «وَأَنَّ الْكُفْرَ» . هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَالْأَشْبَهُ أَنْ لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ

ص: 660

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ذَكَرَ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْكُفْرَ «إِنْكَارُ مَا عُلِمَ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً» ، فَلَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِإِنْكَارِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُصُولِ الضَّرُورِيَّةِ، كَمَسْأَلَةِ الْقَدْرِ، وَالْحَرْفِ، وَالصَّوْتِ، وَنَحْوِهَا عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .

قُلْتُ: وَهَذَا كَالتَّقْرِيرِ لِلضَّابِطِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ عَمَّنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ إِذَا انْحَصَرَ فِي إِنْكَارِ الضَّرُورِيَّاتِ، فَالضَّرُورِيَّاتُ لَا يُخْطِئُ فِيهَا أَحَدٌ عَامِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ، فَيَبْقَى مَا عَدَا الضَّرُورِيَّاتِ «هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ» مُصَنِّفِ «الرَّوْضَةِ» «فِي رِسَالَتِهِ» ، وَهِيَ رِسَالَةٌ رَدَّ فِيهَا عَلَى بَعْضِ الْحَرَّانِيِينَ قَوْلَهُ بِتَكْفِيرِ كُلِّ مُبْتَدِعٍ فِي مَسَائِلِ الْعَقَائِدِ، كَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَ «لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا» مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ غَيْرَ الْمُعَانِدِينَ وَمُنْكِرِي الضَّرُورِيَّاتِ لِقَصْدِهِمُ الْحَقَّ مَعَ اسْتِبْهَامِ طَرِيقِهِ.

قُلْتُ: فَهُمْ بِقَصْدِ الْحَقِّ مُثَابُونَ أَوْ غَيْرُ آثِمِينَ، وَبِاسْتِبْهَامِ طَرِيقِهِ مَعْذُورُونَ.

وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى قَاعِدَةٍ قَرَّرْتُهَا فِي ذَلِكَ فِي «الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى» وَكِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .

أَمَّا مُنْكِرُو الضَّرُورَاتِ، فَيَلْزَمُهُمُ الْعِنَادُ، لِأَنَّ مَنْ يَعِشْ خَمْسِينَ سَنَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَقُولُ: الصَّلَاةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَالزِّنَا غَيْرُ مُحَرَّمٍ، فَهَذَا لَا يُرْتَابُ فِي أَنَّهُ مُعَانِدٌ، وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَقَدَ فِي اللَّهِ عز وجل مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ، كَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ جِسْمٌ ; وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْجِسْمِيَّةَ لَا تَلِيقُ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ بِالْحُرْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، مُتَلَاعِبٌ بِهَا، فَهَذَانِ يَكْفُرَانِ، وَمَنْ سِوَاهُمْ، فَلَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 661

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَائِدَةٌ: قَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَالْحَشْوِيَّةُ وَالتَّعْلِيمِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ فِي اللَّهِ عز وجل، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْمَسَائِلِ: لَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ إِلَّا الْحَنَابِلَةُ.

قُلْتُ: قَدْ رَأَيْتَ أَيُّهَا النَّاظِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِنَا فِي ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، كَيْفَ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ نَهْيًا عَامًا، فَقَالَ: مِنْ ضِيقِ عِلْمِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ غَيْرَهُ، فَبَانَ أَنَّ مَا قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِمَّا الْتِبَاسٌ عَلَيْهِ، أَوْ تَلْبِيسٌ مِنْهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 662

ثُمَّ هُنَا مَسْأَلَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ الْعَامِّيَّ يُقَلِّدُ مَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلِاجْتِهَادِ بِطَرِيقٍ مَا، دُونَ مَنْ عَرَفَهُ بِالْجَهْلِ اِتِفَاقًا فِيهِمَا.

أَمَّا مَنْ جَهِلَ حَالَهُ فَلَا يُقَلِّدُهُ أَيْضًا، خِلَافًا لِقَوْمٍ.

لَنَا: غَالِبُ النَّاسِ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ، فَاحْتِمَالُ الْأَهْلِيَّةِ مَرْجُوحٌ، وَلِأَنَّ مَنْ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَجَبَ مَعْرِفَةُ حَالِهِ، كَالنَّبِيِّ بِالْمُعْجِزِ، وَالشَّاهِدِ وَالرَّاوِي بِالتَّعْدِيلِ.

قَالُوا: الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلَدًا لَا يَسْأَلُ عَنْ عِلْمِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ وَلَا عَنْ عَدَالَتِهِ.

قُلْنَا: الْعَادَةُ لَيْسَتْ حُجَّةً عَلَى الدَّلِيلِ، لِجَوَازِ مُخَالَفَتِهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ وُجُوبُ السُّؤَالِ عَنْ عِلْمِهِ مُلْتَزَمٌ، وَالْعَدَالَةُ أَصْلِيَّةٌ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ.

ــ

قَوْلُهُ: «ثُمَّ هُنَا» ، أَيْ: فِي بَابِ التَّقْلِيدِ «مَسْأَلَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعَامِّيَّ يُقَلِّدُ مَنْ عَلِمَ، أَوْ ظَنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلِاجْتِهَادِ بِطَرِيقٍ مَا، دُونَ مَنْ عُرِفَ بِالْجَهْلِ اِتِفَاقًا فِيهِمَا» . أَيِ: الْحُكْمُ فِي الصُّورَتَيْنِ إَثْبَاتٌ فِي الْأُولَى، وَنَفْيٌ فِي الثَّانِيَةِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ التَّقْلِيدَ لِلْعَامِّيِّ.

وَتَحْقِيقُ الْقِسْمَةِ فِيهِ: أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَفْتِيَ شَخْصًا، فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ، أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ أَهْلٌ لَلْفُتْيَا، أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ جَاهِلٌ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، أَوْ يَجْهَلُ حَالَهُ، فَلَا يَعْلَمُ أَهْلِيَّتَهُ وَلَا عَدَمَهَا. فَالْأَوَّلُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَعِلْمِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ إِمَّا بِإِخْبَارِ عَدْلٍ عَنْهُ بِذَلِكَ، أَوْ بِاشْتِهَارِهِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْفُتْيَا، أَوْ بِانْتِصَابِهِ لَهَا وَانْقِيَادِ

ص: 663

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النَّاسِ لِلْأَخْذِ عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «بِطَرِيقٍ مَا» ، وَالظَّنُّ يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ لِمَا عُرِفَ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ مَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ جَهْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ كَالْعَالِمِ يُفْتِي بِغَيْرِ دَلِيلٍ. أَمَّا مَنْ جَهِلَ حَالَهُ، فَلَا يُقَلِّدُهُ أَيْضًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، خِلَافًا لِقَوْمٍ.

«لَنَا» عَلَى أَنْ لَا يُقَلِّدَهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ «غَالِبَ النَّاسِ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ، فَاحْتِمَالُ الْأَهْلِيَّةِ مَرْجُوحٌ» .

يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَمَّا جُهِلَ حَالُهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ، لَكِنَّ غَالِبَ الْإِنْسِ غَيْرُ أَهْلٍ لَلْفُتْيَا، فَحَمْلُ هَذَا عَلَى الْغَالِبِ رَاجِحٌ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ أَهْلِيَّتُهُ مَرْجُوحَةً، فَيَنْتَفِي ظَنُّ أَهْلِيَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُفْتِيَ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَكُلُّ «مَنْ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَجَبَ مَعْرِفَةُ حَالِهِ» ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَجَبَ مَعْرِفَةُ حَالِهِ وَامْتِحَانِهِ بِظُهُورِ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِهِ، «وَالشَّاهِدُ وَالرَّاوِي» لَمَّا وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِمَا، وَجَبَ مَعْرِفَةُ حَالِهِمَا «بِالتَّعْدِيلِ» .

قَوْلُهُ: «قَالُوا» . هَذَا حُجَّةُ الْخَصْمِ عَلَى قَبُولِ فُتْيَا الْمَجْهُولِ الْحَالِ. وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ «الْعَادَةَ» جَرَتْ بِأَنَّ «مَنْ دَخَلَ بَلَدًا لَا يَسْأَلُ عَنْ عِلْمِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ وَلَا عَدَالَتِهِ» ، وَالْعَوَائِدُ الْمَشْهُورَةُ حُجَّةٌ لِدِلَالَتِهَا عَلَى اتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَيْهَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ عليه السلام: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ.

ص: 664

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «قُلْنَا» هَذَا جَوَابُ مَا ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَادَةَ «حُجَّةٌ عَلَى الدَّلِيلِ، لِجَوَازِ مُخَالَفَتِهَا إِيَّاهُ» ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُسْتَفْتَى كَمَا سَبَقَ. وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْعَادَةِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ وَكَذَلِكَ مُطْلَقُ «الْعَادَةِ لَيْسَتْ حُجَّةً عَلَى» مُطْلَقِ «الدَّلِيلِ لِجَوَازِ» أَنْ تُخَالِفَهُ، وَمَا خَالَفَ الدَّلِيلَ لَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَادَةَ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلِ الْعَادَةُ خِلَافُهُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلَدًا احْتَاطَ لِدِينِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ إِلَّا عَنْ أَهْلِهِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ ; لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ شُهْرَتَهَا، بَلْ هُوَ عَادَةُ شُذُوذِ النَّاسِ وَجُهَّالِهِمْ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَشْهُورَةٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقٍ عَلَيْهَا حَتَّى تَكُونَ حُجَّةً.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ وُجُوبُ السُّؤَالِ عَنْ عِلْمِهِ مُلْتَزِمٌ» ، أَيْ: نَلْتَزِمُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلَدًا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ عِلْمِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اسْتَفَدْتُمُوهُ مِنَ الْعَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ.

قَوْلُهُ: «وَالْعَدَالَةُ أَصْلِيَّةٌ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ» .

هَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَدَالَةِ وَالْعِلْمِ: بِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُفْتِي إِنَّمَا لَمْ يَجِبِ السُّؤَالُ عَنْهَا، لِأَنَّهَا الْأَصْلُ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَهُ أَصْلِيٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ، فَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا السُّؤَالَ عَنْ عِلْمِ الْمُفْتِي دُونَ عَدَالَتِهِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 665

الثَّانِيَةُ: يَكْفِي الْمُقَلِّدَ سُؤَالُ بَعْضَ مُجْتَهَدِي الْبَلَدِ، وَفِي وُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ:

النَّافِي: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَسْوِيغِ سُؤَالِ مُقَلِّدِيهِمُ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ لِأَنَّ الْفَضْلَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِخَاصَّةِ الْأَفْضَلِيَّةِ.

الْمُثْبِتُ: الظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنْ قَوْلِ الْأَفْضَلِ أَغْلَبُ، فَإِنْ سَأَلَهُمَا وَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ الْأَفْضَلِ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ كَالْمُجْتَهِدِ يَتَعَارَضُ عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ، أَوْ يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ خِلَافٌ، الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيُعَرَفُ الْأَفْضَلُ بِالْإِخْبَارِ وَإِذْعَانِ الْمَفْضُولِ لَهُ وَتَقْدِيمِهِ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَمَارَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلظَّنِّ، فَإِنِ اسْتَوَيَا عِنْدَهُ اتَّبَعَ أَيَّهُمَا شَاءَ.

وَقِيلَ: الْأَشَدُّ، إِذِ الْحَقُّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ، وَالْبَاطِلُ خَفِيفٌ وَبِيٌّ.

وَقِيلَ الْأَخَفُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، «لَا ضَرَرَ» ، «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ» .

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَا لِتَعَارُضِهِمَا، وَيَرْجِعَ إِلَى غَيْرِهِمَا إِنْ وَجَدَ، وَإِلَّا فَإِلَى مَا قَبْلَ السَّمْعِ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: يَكْفِي الْمُقَلِّدَ سُؤَالُ بَعْضِ مُجْتَهَدِي الْبَلَدِ» يَعْنِي مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ سُؤَالُ جَمِيعِهِمْ. «وَفِي وُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ» . أَيْ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَيَّرَ أَفْضَلَ الْمُجْتَهِدِينَ فَيَسْتَفْتِيَهِ؟ فِيهِ «قَوْلَانِ» : بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ «النَّافِي» ، أَيْ: احْتَجَّ النَّافِي لِوُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:

ص: 666

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا «عَلَى تَسْوِيغِ سُؤَالِ مُقَلِّدِيهِمُ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ» ، أَيْ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يُقَلِّدَ فَاضِلَهُمْ وَمَفْضُولَهُمْ، وَذَلِكَ يَنْفِي وُجُوبَ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ وَإِلَّا كَانَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خَطَأً وَهُوَ بَاطِلٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: «أَنَّ الْفَضْلَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ» بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ، فَلْيَكْفِ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ «وَلَا عِبْرَةَ بِخَاصَّةِ الْأَفْضَلِيَّةِ» .

قُلْتُ: وَلِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي رُتْبَةِ الْفَضَائِلِ، فَمَا مِنْ فَاضِلٍ إِلَّا وَثَمَّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عز وجل:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يُوسُفَ: 76] ، فَلَوِ اعْتُبِرَ الْأَفْضَلُ، لَانْسَدَّ بَابُ التَّقْلِيدِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إِذَا اعْتَبَرْنَا أَفْضَلَ الْمُجْتَهِدِينَ مُطْلَقًا، أَمَّا إِذَا قَيَّدْنَا ذَلِكَ بِمُجْتَهَدِي الْبَلَدِ، لَمْ يَلْزَمْ، لِأَنَّ الْفَاضِلَ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ مُشَارٌ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ.

قَوْلُهُ: «الْمُثْبِتُ» ، أَيْ: احْتَجَّ الْمُثْبِتُ لِوُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ بِأَنَّ «الظَّنَّ الْحَاصِلَ مِنْ قَوْلِ الْأَفْضَلِ أَغْلَبُ» ، فَيَكُونُ وَاجِبًا، أَمَّا الْأُولَى، فَظَاهِرَةٌ، وَأُمَّا الثَّانِيَةُ، فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لِتَعَذُّرِهِ، فَوَجَبَ الظَّنُّ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعِلْمِ كَمَا سَبَقَ.

قُلْتُ: الْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَالْأَوَّلُ أَيْسَرُ، وَالثَّانِي أَحْوَطُ.

قَوْلُهُ: «فَإِنْ سَأَلَهُمَا وَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: إِنْ سَأَلَ الْمُسْتَفْتِي مُجْتَهِدَيْنِ، فَأَكْثَرَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ، «فَهَلْ يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ

ص: 667

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْأَفْضَلِ» مِنْهُمْ «فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ» ، «أَوْ يَتَخَيَّرُ» فَيَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ؟ «فِيهِ خِلَافٌ» .

وَجْهُ اللُّزُومِ: أَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي قَوْلَانِ، وَأَحَدُهُمَا خَطَأٌ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالرُّجْحَانِ لِذَاتِهِ، فَلَزِمَهُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِرُجْحَانِ أَحَدِ الْقَائِلِينَ، «كَالْمُجْتَهِدِ» إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ، اسْتَعْمَلَ التَّرْجِيحَ فِيهِمَا، فَأَخَذَ بِالْأَرْجَحِ مِنْهُمَا، إِذْ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ، كَقَوْلِ الشَّارِعِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ.

وَجْهُ التَّخْيِيرِ: مَا سَبَقَ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عَلَى تَسْوِيغِ سُؤَالِ الْمُقَلِّدِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَعْلَمُ الْأَفْضَلَ بِالْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا يَعْرِفُ ذَا الْفَضْلِ مِنَ النَّاسِ ذَوُوهُ، بَلِ الْعَامِّيِّ يَغْتَرُّ بِظَوَاهِرِ هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَطَيْلَسَانٍ، فَرُبَّمَا اعْتَقَدَ الْمَفْضُولَ فَاضِلًا.

قَوْلُهُ: «الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ» ، أَيْ: وُجُوبُ مُتَابَعَةِ الْأَفْضَلِ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِمَعْرِفَةِ الْفَاضِلِ مِنَ الْمَفْضُولِ، لَكِنْ يُكَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ وُسْعَهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَالْخَطَأُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ مُغْتَفَرٌ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَخْتَلِفِ الْجَوَابُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي، بَلْ إِذَا جَاءَ يَسْتَفْتِي ابْتِدَاءً. أَمَّا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، فَيَجِبُ تَخَيُّرُ الْأَفْضَلِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيُّ: وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ، لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَيَتَّبِعُ الْأَعْمَى أُوثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: «وَيُعْرَفُ الْأَفْضَلُ» ، إِلَى آخِرِهِ.

لَمَّا رُجِّحَ وُجُوبُ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ احْتَاجَ أَنْ يُبَيِّنَ طُرُقَ مَعْرِفَتِهِ، وَهِيَ: إِمَّا إِخْبَارُ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ أَفْضَلِيَّتِهِ، وَهُوَ كَافٍ، أَوْ بِإِذْعَانِ «الْمَفْضُولِ لَهُ وَتَقْدِيمِهِ» عَلَى نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، كَالتِّلْمِيذِ مَعَ شَيْخِهِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ

ص: 668

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِهَا عَادَةً، أَوْ بِأَمَارَاتٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفِيدُ الْقَطْعَ، أَوِ الظَّنَّ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَوَيَا عِنْدَهُ» ، أَيْ: إِنِ اسْتَوَى الْمُجْتَهِدَانِ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي فِي الْفَضِيلَةِ، وَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: يَتَّبِعُ «أَيَّهُمَا شَاءَ» مُخَيَّرًا لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ.

الثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَشَدِّ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ «الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ وَالْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيٌّ» ، كَمَا يُرْوَى فِي الْأَثَرِ. وَفِي الْحِكْمَةِ: إِذَا تَرَدَّدْتَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، فَاجْتَنِبْ أَقْرَبَهُمَا مِنْ هَوَاكَ.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا خُيِّرَ عَمَّارٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَشَدَّهُمَا وَفِي لَفْظٍ: أَرْشَدَهُمَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ لِلْحَدِيثِ أَنَّ الرُّشْدَ فِي الْأَخْذِ بِالْأَشَدِّ.

الثَّالِثُ: يَأْخُذُ بِأَخَفِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّخْفِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ، كَقَوْلِهِ عز وجل:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

ص: 669

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[الْبَقَرَةِ: 185]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78]، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، وَقَوْلَهُ عليه السلام: بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ.

وَقَالَ شَيْخُنَا الْمُزَنِيُّ: مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِخِفَّةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ. أَوْ كَمَا قَالَ.

قُلْتُ: وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا.

قُلْتُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمَّارٍ فِيمَا حَكَيْنَا عَنْهُ مِنَ الْأَخْذِ بِأَشَدِّ الْأُمُورِ: أَنَّ عَمَّارًا كَانَ مُكَلَّفًا مُحْتَاطًا لِنَفْسِهِ وَدِينِهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُشَرِّعًا مُوَسِّعًا عَلَى النَّاسِ، لِئَلَّا يُحْرَجُوا فَيَنْفِرُوا، كَمَا صَحَّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ لِئَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ. وَقَالَ: يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَقَالَ لِبَعْضِ

ص: 670

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَصْحَابِهِ فِي سِيَاقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ: إِنَّ فِيكُمْ مُنْكِرِينَ مُنَفِّرِينَ.

قَوْلُهُ: «وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَا» - يَعْنِي قَوْلَا الْمُجْتَهِدَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا يَسْقُطَانِ - لِتَعَارُضِهِمَا، وَعَدَمِ الْمُرَجِّحِ لِأَحَدِهِمَا، «وَيَرْجِعَ» الْمُقَلِّدُ «إِلَى غَيْرِهِمَا» مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ «إِنْ وَجَدَ» غَيْرُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُمَا، رَجَعَ إِلَى «مَا قَبْلَ السَّمْعِ» ، وَفِيهِ الْأَقْوَالُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا.

تَنْبِيهٌ: إِذَا اخْتَلَفَ عَلَى الْمُقَلِّدِ جَوَابُ الْمُجْتَهِدَيْنِ، وَقُلْنَا: يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِمَا، فَذَلِكَ الْغَيْرُ إِنْ أَفْتَاهُ بِقَوْلٍ ثَالِثٍ غَيْرِ قَوْلَيْهِمَا، مِثْلَ أَنْ أَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ طَاهِرٌ، وَأَفْتَاهُ الْآخَرُ أَنَّهُ طَهُورٌ، فَأَفْتَاهُ الثَّالِثُ بِأَنَّهُ نَجِسٌ ; رَجَعَ إِلَيْهِ، وَكَانَ مُسْتَنَدُ الْعَمَلِ قَوْلَهُ.

وَإِنْ أَفْتَاهُ بِأَحَدِ قَوْلَيِ الْأَوَّلَيْنِ بِكَمَالِهِ أَوْ بِجُزْئِهِ، بِأَنْ فَصَّلَ لَهُ مَا أَطْلَقَاهُ مِثْلَ أَنْ أَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَطْهُرُ، وَإِنْ خُلِّلَتْ بِنَقْلِهَا عَنِ الشَّمْسِ إِلَى الظِّلِّ طَهُرَتْ، فَهَلْ تَكُونُ فُتْيَاهُ مُسْتَقِلَّةً بِاسْتِنَادِ عَمَلِ الْمُقَلِّدِ إِلَيْهَا، أَوْ تَكُونُ مُؤَكِّدَةً لِمَا وَافَقَهَا مَنْ فُتْيَا الْمُجْتَهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَصْلُهُمَا تَعَارُضُ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى، فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الثَّانِي بِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِقَوْلِ أَحَدِ الْمُجْتَهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَكِنْ

ص: 671

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

سَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ لِعَارِضِ التَّعَارُضِ، وَبِفُتْيَا الثَّالِثِ مُوَافِقًا لِأَحَدِهِمَا زَالَ التَّعَارُضُ، وَظَهَرَ رُجْحَانُ قَوْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْعَمَلِ، وَقَوْلُ الْمُفْتِي الثَّالِثِ مُؤَكِّدًا لَهُ.

وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا عَمِلَ بِفُتْيَاهُمَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا لَيْسَا أَهْلًا لَلْفُتْيَا، وَتَضَمَّنَ الْعَمَلُ بِالْفُتْيَا مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَلْفُتْيَا، فَإِنْ جَعَلْنَا عُمْدَةَ الْعَمَلِ فُتْيَا الثَّالِثِ اسْتَقَلَّ بِالضَّمَانِ كَمَا اسْتَقَلَّ قَوْلُهُ بِالْعَمَلِ، وَإِنْ جَعَلْنَا عُمْدَتَهُ فُتْيَا أَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ وَفُتْيَا الثَّالِثِ مُرَجِّحَةً ; كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي سَبَبِ الْإِتْلَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَثْلَاثًا عَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ حَطًّا لِرُتْبَةِ الْمُرَجِّحِ عَنْ رُتْبَةِ الْأَصْلِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ. وَضَبَطْنَا ذَلِكَ بِالثَّلَاثِ لِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ كَثِيرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 672