الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ
قِيَاسُ الشَّبَهِ:
قِيلَ: إِلْحَاقُ الْفَرْعِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ بِمَا هُوَ أَشْبَهُ مِنْهُمَا، كَالْعَبْدِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْبَهِيمَةِ، وَالْمَذْيِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ.
وَقِيلَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى حِكْمَةٍ مَا مِنْ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، إِذِ الْوَصْفُ إِمَّا مُنَاسِبٌ مُعْتَبَرٌ كَشِدَّةِ الْخَمْرِ، أَوْ لَا، كَلَوْنِهَا وَطَعْمِهَا، أَوْ مَا ظُنَّ مَظِنَّةً لِلْمَصْلَحَةِ وَاعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، كَإِلْحَاقِ مَسْحِ الرَّأْسِ بِمَسْحِ الْخُفِّ فِي نَفْيِ التَّكْرَارِ، لِكَوْنِهِ مَمْسُوحًا تَارَةً، وَبِبَاقِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي إِثْبَاتِهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي الطَّهَارَةِ أُخْرَى.
فَالْأَوَّلُ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُ كُلِّ وَصْفٍ ظَهَرَ كَوْنُهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ.
وَالثَّانِي: طَرْدِيٌّ بَاطِلٌ.
وَالثَّالِثُ: الشَّبَهُ، وَفِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ قَوْلَانِ لِأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما، وَالْأَظْهَرُ: نَعَمْ لِإِثَارَتِهِ الظَّنَّ، خِلَافًا لِلْقَاضِي.
وَالِاعْتِبَارُ بِالشَّبَهِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً خِلَافًا لِابْنِ عَلِيَّةَ.
وَقِيلَ: بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَنَاطٌ لِلْحُكْمِ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَقِيَاسُ الشَّبَهِ» إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْأُصُولِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِثْلِ وَالشَّبَهِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ، وَإِنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ مَا سَاوَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَشِبْهَ الشَّيْءِ وَشَبِيهَهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مِنَ الْأَوْصَافِ.
وَحِينَئِذٍ تَتَفَاوَتُ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمَا قُوَّةً وَضَعْفًا بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَهُمَا كَثْرَةً وَقِلَّةً، فَإِذَا اشْتَرَكَا فِي عَشَرَةِ أَوْصَافٍ، كَانَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمَا كَثْرَةً أَقْوَى مِمَّا إِذَا اشْتَرَكَا فِي تِسْعَةٍ فَمَا دُونَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَهَذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هُوَ الْأَمْرُ الْمُتَعَارَفُ، فَإِنْ أُطْلِقَ لَفْظُ الشَّبِيهِ عَلَى الْمِثْلِ، أَوْ لَفْظُ الْمِثْلِ عَلَى الشَّبِيهِ، فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْأَوْصَافِ.
قَوْلُهُ: «قِيلَ: إِلْحَاقُ الْفَرْعِ» أَيْ: اخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِ قِيَاسِ الشَّبَهِ، فَقِيلَ: هُوَ «إِلْحَاقُ الْفَرْعِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ بِمَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْهُمَا» أَيْ: مِنْ ذَيْنِكَ الْأَصْلَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي يَعْقُوبَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ تَرَدُّدُ الْعَبْدِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْبَهِيمَةِ، فِي التَّمْلِيكِ، فَمَنْ قَالَ: يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ; قَالَ: هُوَ إِنْسَانٌ يُثَابُ وَيُعَاقَبُ وَيَنْكِحُ وَيُطَلِّقُ، وَيُكَلَّفُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَيَفْهَمُ وَيَعْقِلُ، وَهُوَ ذُو نَفْسٍ نَاطِقَةٍ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُ ; قَالَ: هُوَ حَيَوَانٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَإِرْثُهُ أَشْبَهَ الدَّابَّةَ.
وَعَلَى هَذَا خَرَجَ الْخِلَافُ فِي ضَمَانِهِ إِذَا تَلِفَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ جَاوَزَتْ دِيَةَ الْحُرِّ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاعِ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا دُونَ دِيَةِ الْحُرِّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ تَشْبِيهًا لَهُ بِهِ، وَتَقَاعُدًا بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الْحُرِّ.
وَكَذَا الْمَذْيُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ، فَمَنْ حَكَمَ بِنَجَاسَتِهِ، قَالَ: هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْفَرْجِ لَا يُخْلَقْ مِنْهُ الْوَلَدُ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ، أَشْبَهَ الْبَوْلَ، وَمَنْ حَكَمَ بِطَهَارَتِهِ، قَالَ: هُوَ خَارِجٌ تُحَلِّلُهُ الشَّهْوَةُ، وَيَخْرُجُ أَمَامَهَا، فَأَشْبَهَ الْمَنِيَّ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي طَهَارَةِ الْمَذْيِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَنِيِّ، أَوْ رُطُوبَةٌ تُرْخِيهَا الْمَثَانَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَفَقَّدْتَ مَوَاقِعَ الْخِلَافِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَجَدْتَهَا نَازِعَةً إِلَى الشَّبَهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، فَإِنَّ غَالِبَ مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَجِدُهَا وَاسِطَةً بَيْنَ طَرَفَيْنِ تَنْزِعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضَرْبٍ مِنَ الشَّبَهِ فَيَجْذِبُهَاَ أَقْوَى الشَّبَهَيْنِ إِلَيْهِ، فَإِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَقَعَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ، فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، بَلْ فِي أَيِّ الطَّرَفَيْنِ أَشْبَهُ بِهَا حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ جُمْلَةً مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي «الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى» وَ «تَلْخِيصِ الْحَاصِلِ» .
وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ فَسَّرَ قِيَاسَ الشَّبَهِ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَنَاطَانِ لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْمَلُ مِنَ الْآخَرِ، وَهَذَا نَحْوٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا عُرِفَ الْمَنَاطُ فِيهِ قَطْعًا; غَيْرَ أَنَّهُ يَفْتَقِدُ فِي آحَادِ الصُّوَرِ إِلَى تَحْقِيقِهِ. ذَكَرَ هَذَيْنِ الْآمِدِيُّ; قَالَ: وَفَسَّرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ - يَعْنِي الشَّبَهَ - الْوَصْفُ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ لِذَاتِهِ، وَيَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ لِذَاتِهِ، كَقَوْلِنَا، الْخَلُّ مَائِعٌ لَا تَنْبَنِي الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ، فَلَا تَزَالُ بِهِ النَّجَاسَةُ كَالدُّهْنِ، فَقَوْلُنَا: لَا تَنْبَنِي الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ لَيْسَ مُنَاسِبًا فِي ذَاتِهِ، لَكِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُنَاسِبِ، إِذِ الْعَادَةُ أَنَّ الْقَنْطَرَةَ لَا تُبْنَى عَلَى الْأَشْيَاءِ الْقَلِيلَةِ، بَلْ عَلَى الْكَثِيرَةِ، كَالْأَنْهَارِ وَنَحْوِهَا، وَالْقِلَّةُ مُنَاسِبَةٌ لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّهَارَةِ بِمَا اتَّصَفَ بِهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ الْعَامَّ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَسْبَابُهُ عَامَّةَ الْوُجُودِ، إِذْ تَكْلِيفُ الْكُلِّ مَا لَا يَجِدُهُ إِلَّا الْبَعْضُ بَعِيدٌ عَنِ الْقَوَاعِدِ وَالْحِكْمَةِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِهَذَا إِذَا قَلَّ الْمَاءُ، وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ، سَقَطَ حُكْمُهُ فِي اعْتِبَارِ الطَّهَارَةِ، وَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى التَّيَمُّمِ.
قَالَ الْقَاضِي: فَالْوَصْفُ إِمَّا مُنَاسِبٌ بِذَاتِهِ، أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْمُعْتَبَرُ، وَالثَّانِي، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمُنَاسِبِ، أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ الشَّبَهُ، وَالثَّانِي الطَّرْدُ.
قُلْتُ: هَذَا التَّقْسِيمُ يُشْبِهُ وَمُتَّجِهٌ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، لَكِنَّ تَمْثِيلَهُ لِمَا يَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ بِقَوْلِهِ: مَائِعٌ لَا يُبْنَى عَلَى جِنْسِهِ الْقَنَاطِرُ فِيهِ وَمَا وُجِدَ بِهِ مُنَاسَبَتُهُ بِمَحَلٍّ بَعِيدٍ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ طَرْدٌ مَحْضٌ لَا مُنَاسِبٌ، وَلَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُنَاسِبِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: مَائِعٌ لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ أَوْ لَا يُصَادُ مِنْهُ السَّمَكُ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْوَصْفِ الَّذِي يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ لِوُجُودِهَا وَلَا عَدَمِهَا.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى اللَّفْظِ; غَيْرَ أَنَّ الْأَشْبَهَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ هَذَا الْأَخِيرُ.
قُلْتُ: وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» فَهَذِهِ تَعْرِيفَاتٌ ذُكِرَتْ لِلشَّبَهِ، ذَكَرْنَاهَا تَكْمِلَةً لِلْفَائِدَةِ، ثُمَّ عُدْنَا إِلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: الْجَمْعُ» هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَهُوَ:«الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى حِكْمَةٍ مَا» . وَقَالَ فِي «الرَّوْضَةِ» : عَلَى حِكْمَةِ الْحُكْمِ «مِنْ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ» وَهَذَا نَحْوٌ مِمَّا اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ، يَعْنِي الَّتِي اقْتَرَنَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهَا «إِمَّا مُنَاسِبٌ مُعْتَبَرٌ» أَيْ: تَعَلُّمُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْحُكْمِ، وَاعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ، لِأَجْلِ مُنَاسَبَتِهِ قَطْعًا، كَمُنَاسَبَةِ شِدَّةِ الْخَمْرِ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ، وَالْقَطْعِ لِلسَّرِقَةِ، وَالزِّنَا لِلْحَدِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ لِأَحْكَامِهَا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، أَوْ لَيْسَ مُنَاسِبًا وَلَا مُعْتَبَرًا، كَلَوْنِ الْخَمْرِ وَطَعْمِهَا، إِذْ لَا يُنَاسِبَانِ تَحْرِيمَهَا، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّمَا قُتِلَ الْقَاتِلُ، وَحُدَّ السَّارِقُ وَالزَّانِي وَالْقَاذِفُ; وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ، لِكَوْنِهِ أَسْوَدَ، أَوْ أَبْيَضَ، أَوْ طَوِيلًا، أَوْ قَصِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا طَرْدٌ مَحْضٌ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُعَلِّقِ الْحُكْمَ عَلَيْهِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ تَصَرُّفَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِ الْعُقَلَاءِ، وَهَذَا خَارِجٌ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ تَصَرُّفًا لَهُ، وَأَيْضًا لِإِلْفِنَا مِنْهُ فِي مَوَارِدِ تَصَرُّفِهِ وَمَصَادِرِهَا عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ، فَهَذَانَ الطَّرَفَانِ مَعْلُومَا الْحُكْمِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ; وَهُوَ «مَا ظَنَّ» أَنَّهُ «مَظِنَّةٌ لِلْمَصْلَحَةِ» أَيْ: يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْحُكْمِ، وَظَنَنَّا أَنَّهُ مَظِنَّتُهَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِذَلِكَ، وَرَأَيْنَا الشَّارِعَ قَدِ اعْتَبَرَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا هُوَ الشَّبَهِيُّ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَرَدُّدِهِ بِالشَّبَهِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَهُمَا الْمُنَاسِبُ وَالطَّرْدِيُّ ; لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّا لَمْ نَقْطَعْ بِانْتِفَاءِ مُنَاسَبَتِهِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، بَلْ ظَنَنَّا ذَلِكَ فِيهِ أَشْبَهَ الْمُنَاسِبَ الْمَقْطُوعَ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّا لَمْ نَقْطَعْ بِمُنَاسَبَتِهِ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ أَشْبَهَ الطَّرْدِيَّ الْمَقْطُوعَ بِخُلُوِّهِ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ الْمَصْلَحِيَّةِ.
وَذَلِكَ كَمَا أَلْحَقْنَا نَحْنُ وَالْحَنَفِيَّةُ «مَسْحَ الرَّأْسِ بِمَسْحِ الْخُفِّ فِي نَفْيِ» تَكْرَارِ الْمَسْحِ «لِكَوْنِهِ مَمْسُوحًا» فَقُلْنَا: مَمْسُوحٌ فِي الطَّهَارَةِ، فَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُهُ، كَمَسْحِ الْخُفِّ، وَأَلْحَقَهُ الشَّافِعِيُّ «بِبَاقِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي» إِثْبَاتِ التَّكْرَارِ «لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي الطَّهَارَةِ» فَقَالَ: مَسْحُ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي طَهَارَةِ الْوُضُوءِ، فَسَنَّ تَكْرَارَهُ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيَاسَيْنِ جَامِعٌ وَفَارِقٌ، إِذِ الْأَوَّلُ قِيَاسُ مَمْسُوحٍ عَلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَمْسُوحٍ، فَالْمَسْحُ جَامِعٌ، وَلَكِنَّهُ قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى بَدَلٍ، فَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ، إِذْ مَسْحُ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي الْوُضُوءِ، وَمَسْحُ الْخُفِّ بَدَلٌ فِيهِ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَالثَّانِي قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى أَصْلٍ، فَهَذَا هُوَ الْجَامِعُ، لَكِنَّهُ قِيَاسُ مَمْسُوحٍ عَلَى مَغْسُولٍ، فَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: قَوْلُنَا فِي الْوُضُوءِ: طَهَارَةٌ، أَوْ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ، أَوْ طَهَارَةٌ مُوجِبُهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ مُوجِبِهَا، فَاشْتُرِطَتْ لَهَا النِّيَّةُ كَالتَّيَمُّمِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: طَهَارَتَانِ، فَكَيْفَ يَفْتَرِقَانِ؟ ، وَهُوَ كَقَوْلِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه لِأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.
قُلْتُ هَذَا أَجْوَدُ مَا قَرَّرَ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَلِمَا قَرَّرَهُ الْغَزَالِيُّ بِمَعْنَاهُ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْأُصُولِيُّونَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ هَذَا، فَلَسْتُ أَدْرِي مَا الَّذِي أَرَادُوهُ، وَبِمَ فَصَلُوهُ عَنِ الطَّرْدِ الْمَحْضِ، وَعَنِ الْمُنَاسِبِ؟ !
قُلْتُ: حَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا عَنِ الطَّرْدِيِّ، وَإِلَّا لَمْ يُعْتَبَرْ بِاتِّفَاقٍ، وَمُنْحَطًّا عَنِ الْمُنَاسِبِ، وَإِلَّا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ الْمُنَاسَبَةَ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ أَقْيِسَةَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِالشَّبَهِ، رَأَى أَقْيِسَتَهُمْ تَارَةً يَتَخَيَّلُ فِيهَا الِاشْتِمَالَ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ الْمَصْلَحِيَّةِ، وَتَارَةً لَا يَتَخَيَّلُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: فَالْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِ الْوَصْفِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْمُنَاسِبُ، وَالطَّرْدِيُّ، وَالشَّبَهِيُّ.
فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْع بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ هُوَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ، كَثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِي النَّبِيذِ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَإِثْبَاتُ الْقِصَاصِ فِي الْمُثَقَّلِ بِعِلَّةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْعُدْوَانِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا فِي الْمُحَدَّدِ، «وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُ كُلِّ وَصْفٍ ظَهَرَ كَوْنُهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ» بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ إِلَّا اتِّبَاعَ مَنَاطِ الْحُكْمِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِهِ.
«وَالثَّانِي: طَرْدِيٌّ» وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُعْلَمُ خُلُوُّهُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَدَمُ الْتِفَاتِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَائِعٌ لَا يُبْنَى عَلَى جِنْسِهِ الْقَنَاطِرُ، أَوْ لَا يُصَادُ مِنْهُ السَّمَكُ، أَوْ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ السُّفُنُ، أَوْ لَا يَنْبُتُ فِيهِ الْقَصَبُ، أَوْ لَا يَعُومُ فِيهِ الْجَوَامِيسُ، أَوْ لَا يُزْرَعُ عَلَيْهِ الزُّرُوعُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ يُقَالُ: أَعْرَابِيٌّ أَوْ إِنْسَانٌ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قِيَاسًا عَلَى الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ.
«وَالثَّالِثُ: الشَّبَهُ» أَيْ: قِيَاسُ الشَّبَهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفِ شَبَهِيٍّ، وَهُوَ مَا نَزَلَ عَنِ الْمُنَاسِبِ وَارْتَفَعَ عَنِ الطَّرْدِيِّ، أَوْ مَا تَوَهَّمَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَقْطَعْ بِهَا فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَالْخِلَافُ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ قِيَاسٍ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَبَهٍ وَاطِّرَادٍ، إِذِ الْوَصْفُ فِي قِيَاسِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ يُشْبِهُ الْوَصْفَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَالْمِثْلِيَّةُ أَخَصُّ مِنَ الْمُشَابَهَةِ، وَالْأَعَمُّ لَازِمٌ لِلْأَخَصِّ، كَوَصْفِ الْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ هُوَ مُسَاوٍ لِوَصْفِ الْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ فِي مَاهِيَّةِ الْإِسْكَارِ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الشَّبَهِ الْوَصْفُ فِيهِ مُطَّرِدٌ، إِذْ بِدُونِ الِاطِّرَادِ لَا يَكُونُ شَبَهًا مُعْتَبَرًا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ قِيَاسٍ مُشْتَمِلًا عَلَى الشَّبَهِ وَالِاطِّرَادِ، فَلِمَ خُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ عَلَيْهِ، كَقِيَاسِ الْعِلَّةِ وَالطَّرْدِ وَالشَّبَهِ؟ .
فَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا أُضِيفَ إِلَى أَخَصِّ صِفَاتِهِ وَأَقْوَاهَا، لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ أَخَصُّ صِفَاتِ الْمُنَاسِبِ الْمُؤَثِّرِ، وَالطَّرْدَ أَخَصُّ صِفَاتِ الطَّرْدِيِّ، وَالشَّبَهَ أَخَصُّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صِفَاتِ الشَّبَهِيِّ، وَهَذَا كَمَا يُقَسَّمُ الْجِسْمُ إِلَى نَبَاتِيٍّ وَحَيَوَانِيٍّ وَإِنْسَانِيٍّ إِضَافَةً لِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا إِلَى أَخَصِّ أَوْصَافِهِ، وَهِيَ النَّبَاتِيَّةُ فِي النَّبَاتِ، وَالْحَيَوَانِيَّةُ فِي الْحَيَوَانِ، وَالْإِنْسَانِيَّةُ فِي الْإِنْسَانِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةٌ: الْمُؤَثِّرُ، ثُمَّ الْمُنَاسِبُ، ثُمَّ الشَّبَهُ، ثُمَّ الطَّرْدُ، فَأَدْنَاهَا الطَّرْدِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَهُ كُلُّ قَائِلٍ بِالْقِيَاسِ، وَأَعْلَاهَا الْمُؤَثِّرِ وَهُوَ الَّذِي فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقِرَّ بِهِ كُلُّ مُنْكِرٍ لِلْقِيَاسِ. قَالَ: وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْمُؤَثِّرِ مُؤَثِّرًا بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ سَبْرٍ حَاصِرٍ.
قَوْلُهُ: «وَفِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ» أَيْ: بِقِيَاسِ الشَّبَهِ «قَوْلَانِ لِأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما، وَالْأَظْهَرُ» - يَعْنِي مِنَ الْقَوْلَيْنِ - «نَعَمْ» أَيْ: يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ «لِإِثَارَتِهِ الظَّنَّ خِلَافًا لِلْقَاضِي» أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ.
حُجَّةُ مَنْ صَحَّحَ التَّمَسُّكَ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُثِيرُ ظَنًّا غَالِبًا بِثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَكُلُّ مَا أَثَارَ ظَنًّا غَالِبًا، فَهُوَ مُتَّبَعٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، فَالْقِيَاسُ الشَّبَهِيُّ مُتَّبَعٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَلَا نَعْنِي بِصِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ إِلَّا هَذَا.
بَيَانُ الْأُولَى; وَهِيَ إِثَارَتُهُ الظَّنَّ هُوَ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا ثَبَتَ فِي مَحَلٍّ مُشْتَمِلٍ عَلَى أَوْصَافٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، ثُمَّ إِذَا رَأَيْنَا مَحَلًّا آخَرَ قَدْ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْأَوْصَافُ أَوْ أَكْثَرُ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ هَذَا الْمَحَلُّ كَذَلِكَ الْمَحَلُّ فِي اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَحِينَئِذٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَغْلُبُ عَلَى ظَنِّنَا اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْحُكْمِ.
بَيَانُ الثَّانِيَةِ; وَهِيَ أَنَّ مَا أَثَارَ الظَّنَّ مُتَّبَعٌ، بِالْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَحْوِهِمَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّعَبُّدَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَهُوَ مُعَلَّلٌ بِالْمَصْلَحَةِ، لَكِنَّ الْمَصْلَحَةَ لَا مَنْصُوصَ عَلَيْهَا، وَلَا ظَاهِرَةَ الْمُنَاسَبَةِ، فَتَعَيَّنَ اشْتِمَالُ أَوْصَافِ الْمَحَلِّ عَلَيْهَا، فَإِذَا شَارَكَ مَحَلَّ الْأَصْلِ مَحَلٌّ آخَرُ فِي تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِهِ فِي الْحُكْمِ، لِغَلَبَةِ الظَّنِّ تَسَاوِيهِمَا فِيهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ.
قَالَ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ الْحَوَارِيُّ فِي تَقْرِيرِ هَذَا: إِنَّ لِلَّهِ عز وجل فِي كُلِّ حُكْمٍ يُثْبِتُهُ سِرًّا وَحِكْمَةً، فَهَذَا الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ غَيْرُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَفِي مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ أَوْصَافٌ يُعْرَفُ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَخْلُو عَنِ الْمَصْلَحَةِ قَطْعًا، وَيُوهِمُ اشْتِمَالُ الْبَعْضِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمَا يُوهِمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ; كَانَ هَذَا قِيَاسًا شَبَهِيًّا.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: حَرَّمَ الشَّارِعُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَهُ لِكَوْنِهِ مَكِيلًا، أَوْ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَّمَهُ لِمَصْلَحَةٍ لَا نَعْلَمُ عَيْنَهَا، لَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي ضِمْنِ الطُّعْمِ، لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْمَصَالِحِ الْكَثِيرَةِ، لِكَوْنِهَا قِوَامَ الْعَالَمِ الْمُعِينَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ الْكَيْلِ، إِذْ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ.
قُلْتُ: هَذَا الْمِثَالُ صَحِيحٌ، لَكِنَّ تَعْلِيلَ التَّحْرِيمِ بِالطُّعْمِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَصْلَحَةِ قِوَامِ الْعَالَمِ فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ مَا كَانَ قِوَامًا لِلْعَالَمِ هُوَ مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَلَا يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ لِأَجْلِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ حَرَّمَ التَّفَاضُلَ تَحْصِيلًا لِلتَّنَاصُفِ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَدَفْعًا لِلتَّغَابُنِ فِيهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا مَنَاسِبًا، وَالتَّعْلِيلُ بِالْكَيْلِ أَنْسَبُ، لِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا نَفْيُ التَّغَابُنِ فِي الْأَمْوَالِ، وَأَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّفَاضُلُ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ أَوْلَى.
قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّبَهِ وَالْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْمَصْلَحَةُ بِخِلَافِ الشَّبَهِ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ مُطْلَقَةٌ; يَعْنِي مُبْهَمَةً.
قُلْتُ: وَحَاصِلُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ يُؤَثِّرُ فِي عَيْنِ الْمَصْلَحَةِ، وَالشَّبَهَ يُؤَثِّرُ فِي جِنْسِهَا، فَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ نَحْوُ مَا بَيْنَ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ وَالْمُلَائِمِ وَالْغَرِيبِ.
حُجَّةُ الْقَاضِي فِي مَنْعِ التَّمَسُّكِ بِالشَّبَهِ وَهُوَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ - أَحْسَبُهُ عَبْدَ الْوَهَّابِ - ; وَهُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ يَنْفِي الْعَمَلَ بِالظَّنِّ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النَّجْمِ: 28] ; خَالَفْنَاهُ فِي قِيَاسِ الْمُنَاسَبَةِ لِلدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَالِاتِّفَاقِ، فَفِي قِيَاسِ الشَّبَهِ يَبْقَى عَلَى مُوجِبِ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم إِنَّمَا اجْتَمَعَتْ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ لَا عَلَى الشَّبَهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حُجَّةً.
وَأُجِيبُ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الْمُعَارَضَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الْحَشْرِ: 2] ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ نَوْعٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ عليه السلام: نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَقِيَاسُ الشَّبَهِ يُفِيدُ الظَّاهِرَ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ عَمَلًا بِالنَّصِّ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ قَوْلِ مُعَاذٍ رضي الله عنه أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَقَدْ صَوَّبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا.
الرَّابِعُ: مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ دَلَالَةِ قِيَاسِ إِخْرَاجِ الْمَوْتَى مِنَ الْأَرْضِ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَبِّ مِنْهَا عَلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ عِنْدَ ذِكْرِ أَدِلَّةِ أَصْلِ الْقِيَاسِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَاضِيَ خَالَفَ مَذْهَبَهُ حَيْثُ احْتَجَّ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ كَثِيرًا فِي «الْمُجَرَّدِ» وَ «التَّعْلِيقَةِ الْكُبْرَى» وَغَيْرِهِمَا.
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ «الرَّوْضَةِ» وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ إِذَا صَحَّ التَّمَسُّكُ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، فَهَلِ الْمُعْتَبَرُ بِالشَّبَهِ الْحُكْمِيِّ، أَوْ بِالشَّبَهِ الْحَقِيقِيِّ، أَوْ بِمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ مِنْهُمَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
مِثَالُ الشَّبَهِ الْحُكْمِيِّ: شَبَهُ الْعَبْدِ بِالْبَهِيمَةِ فِي كَوْنِهِمَا مَمْلُوكَيْنِ، وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ.
وَمِثَالُ الشَّبَهِ الْحَقِيقِيِّ: شَبَهُهُ بِالْحُرِّ فِي كَوْنِهِمَا آدَمِيَّيْنِ وَهُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَوْجَبَ ابْنُ عُلَيَّةَ الْجِلْسَةَ الْأُولَى قِيَاسًا عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الْوُجُوبِ، وَهَذَا شَبَهٌ صُورِيٌّ لَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.
مِثَالُ الثَّالِثِ: أَنَّا نَنْظُرُ فِي الْبِنْتِ الْمَخْلُوقَةِ مِنَ الزِّنَى، فَهِيَ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ ابْنَتُهُ، لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ مَائِهِ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، لِكَوْنِهَا لَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا، وَلَا يَتَوَلَّاهَا فِي نِكَاحٍ وَلَا مَالٍ، وَيُحَدُّ بِقَذْفِهَا، وَيُقْتَلُ بِهَا، وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، فَنَحْنُ أَلْحَقْنَاهَا بِبِنْتِهِ مِنَ النِّكَاحِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِهَا عَلَيْهِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ كَوْنُهَا مِنْ مَائِهِ، وَالشَّافِعِيُّ أَلْحَقَهَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ فِي إِبَاحَتِهَا لَهُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى الْحُكْمِيِّ، وَهُوَ انْتِفَاءُ آثَارِ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا شَرْعًا فَقَدْ صَارَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى اعْتِبَارِ الْوَصْفِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الظَّنَّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ أَبَدًا لِلشَّبَهِ حُكْمًا، وَلَا لِلشَّبَهِ حَقِيقَةً، بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاظِرُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ دُونَ الْمُنَاظِرِ لِخَصْمِهِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ لَوْ مَنَعَ حُصُولَ الظَّنِّ مِنَ الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ، لَاحْتَاجَ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى بَيَانِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَلَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ. وَحِينَئِذٍ يَبْقَى قِيَاسُ الشَّبَهِ وَاسِطَةً لَاغِيَةً لَا أَثَرَ لَهَا.