الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عَلَى الْقِيَاسِ قَدْ تَكُونُ مِنْ مُسْتَفِيدٍ يَقْصِدُ مَعْرِفَةَ الْحُكْمِ خَالِصًا مِمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَكُونُ مِنْ مُعَانِدٍ يَقْصِدُ قَطْعَ خَصْمِهِ وَرَدِّهِ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مَعْنَى وُرُودِ السُّؤَالِ وَالنَّقْضِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَحَلِّهِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: إِنَّمَا قُلْتُ: «قِيلَ: اثْنَا عَشَرَ» لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُتَابَعَةٌ لِلْأَصْلِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ هَكَذَا قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَتَوَجَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ اثْنَا عَشَرَ سُؤَالًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنِّي قَدْ ذَكَرْتُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْكَلَامِ فِي الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ لَيْسَتْ فِي «الْمُسْتَصْفَى» بَلِ الْغَزَالِيُّ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا كَالْعِلَاوَةِ عَلَى أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَنَّ مَوْضِعَ ذِكْرِهَا عِلْمُ الْجَدَلِ.
قُلْتُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ فِيهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِحَالَةً لَهَا عَلَى فَنِّهَا الْخَاصِّ بِهَا، كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا، لِأَنَّهَا مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَصُولِ الْفِقْهِ وَمُكَمِّلُ الشَّيْءِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، أَكْثَرَ قَوْمٌ مِنْ ذِكْرِ الْمَنْطِقِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْكَلَامِيَّةِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَوَادِّهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ.
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» يَعْنِي مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ
«الِاسْتِفْسَارُ»
وَهُوَ طَلَبُ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ، وَبَيَانُ الْمُرَادِ بِهِ، «وَيَتَوَجَّهُ» - يَعْنِي الِاسْتِفْسَارَ - «عَلَى الْإِجْمَالِ» أَيْ: يَرِدُ عَلَيْهِ، وَيَسُوغُ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يُطَالِبَ بِتَفْسِيرِ لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ إِذَا كَانَ مُجْمَلًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُ الْمُجْمَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ لَا يُفِيدُ مَعْنًى مُعَيَّنًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَعْتَرِضَ الْمُعْتَرِضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعَانِيهِ، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا، أَوْ لَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّطْوِيلِ، وَانْتِشَارِ الْكَلَامِ، وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ عِلْمِ النَّظَرِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: إِنْ عَنَيْتَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ الْحَيْضُ، فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ عَنَيْتَ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ الْأَطْهَارُ، فَمَمْنُوعٌ، لِأَنَّ هَذَا تَطْوِيلٌ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، بَلِ الْأَقْرَبُ أَنْ يَقُولَ: مَا عَنَيْتَ بِالْأَقْرَاءِ؟ فَإِذَا قَالَ: الْحَيْضُ، أَوِ الْأَطْهَارُ، أَجَابَ بِحَسَبِ ذَلِكَ مِنْ تَسْلِيمٍ أَوْ مَنْعٍ.
وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، وَيُرِيدُ بِهِ الْحَيْضَ أَوِ الْأَطْهَارَ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَدْ يَقْصِدُ تَغْلِيطَ الْمُعْتَرِضِ، لِيُجِيبَ عَنْ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِفْسَارٍ، فَيَقُولُ هُوَ: أَخْطَأْتُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَيُرِيدُ الْمَعْنَى الْآخَرَ.
كَمَا حُكِيَ عَنِ الْيَهُودِ، أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّوحِ، وَهُوَ لَفْظٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقُرْآنِ، وَجِبْرِيلَ، وَعِيسَى، وَمَلَكٍ يُقَالُ لَهُ: الرُّوحُ، وَرُوحُ الْإِنْسَانِ الَّذِي فِي بَدَنِهِ، لِيُغَلِّطُوهُ بِذَلِكَ، يَعْنِي: إِنْ قَالَ لَهُمْ: الرُّوحُ مَلَكٌ، قَالُوا: بَلْ هُوَ رُوحُ الْإِنْسَانِ، أَوْ قَالَ: رُوحُ الْإِنْسَانِ، قَالُوا: بَلْ هُوَ مَلَكٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ مُسَمَّيَاتِ الرُّوحِ، فَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مَكْرَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ مُجْمَلًا كَسُؤَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الْإِسْرَاءِ: 85] ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّيَاتِ الْخَمْسَةِ وَغَيْرِهَا، كَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ «الْإِفْصَاحِ» فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ سَبَبُ الْإِجْمَالِ فِي مُسَمَّى الرُّوحِ، لَا كَوْنَ حَقِيقَتِهَا غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ، إِذْ قَدْ دَلَّتْ قَوَاطِعُ الشَّرْعِ عَلَى جِسْمِيَّتِهَا، وَاسْتَقْصَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ يُجْمِلُ الْمُسْتَدِلُّ لَفْظَهُ احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ، وَاسْتِبْقَاءً لَهَا فِي مَيْدَانِ النَّظَرِ مَجَالًا، بِحَيْثُ إِنْ تَوَجَّهَ سُؤَالُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيِ اللَّفْظِ، تَخَلَّصَ مِنْهُ بِتَفْسِيرِ كَلَامِهِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ.
وَمِثَالُهُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سُؤَالِ الْيَهُودِ عَنِ الرُّوحِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُغَالِطِينَ، لَا مُحْتَاطِينَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَوْ كَانَ بِالْأَقْرَاءِ، لَلَزِمَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، إِذْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَوَامِلَ، يَعْنِي بِالْقُرُوءِ الْأَطْهَارَ، وَكَمَالُهَا قَدْ يَتَخَلَّفُ فِيهَا إِذَا طَلَّقَهَا فِي أَثْنَاءِ طُهْرٍ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ قَرْءًا، فَلَا يَحْصُلُ اعْتِدَادُهَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَنَا أَرَدْتُ بِالْأَقْرَاءِ الْحَيْضَ، وَالْكَمَالُ لَازِمٌ فِيهَا، إِذْ بَعْضُ الْحَيْضَةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ قَرْءًا، فَيَكُونُ قَدْ أَعَدَّ الْإِجْمَالَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ; لِلْحَاجَةِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي آخِرِهِ، فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لِلْإِجْمَالِ، تَوَجَّهَ سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ، لِيَكُونَ الْمُعْتَرِضُ مُتَكَلِّمًا عَلَى بَصِيرَةٍ، آمِنًا مِنَ الْمُغَالَطَةِ وَالْمُخَاتَلَةِ.
قَوْلُهُ: «وَعَلَى الْمُعْتَرِضِ إِثْبَاتُهُ» . إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَعَلَى الْمُعْتَرِضِ إِثْبَاتُ الْإِجْمَالِ فِي لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ، إِذْ لَا يَكْفِي فِي ثُبُوتِهِ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَتْحٌ لِبَابِ الْعِنَادِ، إِذْ كُلُّ مُعْتَرِضٍ لَا يَعْجِزُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُسْتَدِلِّ: لَفْظُكَ مُجْمَلٌ، فَبَيِّنْهُ، فَيَلْزَمُ الْمُسْتَدِلُّ بِذَلِكَ مَا لَا يَلْزَمُهُ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُعْتَرِضِ إِثْبَاتُ الْإِجْمَالِ فِي لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ، فَطَرِيقُهُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ «مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا» احْتِمَالًا مُطْلَقًا، وَلَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ تُسَاوِي الِاحْتِمَالَاتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَعْسُرُ عَلَيْهِ، فَتَسْقُطُ فَائِدَةُ الِاعْتِرَاضِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
مِنْهَا: أَنْ يَقُولَ فِي جَمَاعَةٍ اشْتَرَوْا عَيْنًا، فَظَهَرَتْ مَعِيبَةً: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِالرَّدِّ، لِأَنَّهُ بَانٍ بِالْمَبِيعِ مَا بَانَ بِهِ جَوَازَ الِانْفِرَادِ بِالرَّدِّ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَا تَعْنِي بِقَوْلِكَ: بَانَ؟ فَإِنَّهَا مُجْمَلَةٌ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: ظَهَرَ، وَبِمَعْنَى: خَفِيَ، يُقَالُ: بَانَ لِي الشَّيْءُ، أَيْ: ظَهَرَ، وَبَانَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، أَيْ: غَابَ، وَزَالَ، وَخَفِيَ، وَمِنْهُ: الْبَيْنُ، وَالْفِرَاقُ، وَغُرَابُ الْبَيْنِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَقُولَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَارٍ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ أَشْبَهَ غَيْرَ الْمُكْرَهِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَعْنِي بِالْمُخْتَارِ؟ فَإِنَّ لَفْظَهُ مُجْمَلٌ، لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى ضِدِّ الْمُكْرَهِ، وَهُوَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا بِحَسَبِ مَيْلِهِ إِلَيْهِ، وَشَهْوَتِهِ لَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بِقُدْرَتِهِ، مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ لَهُ مِنْهُ فِي بَدَنِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ، وَهُوَ الْمُكْرَهُ، فَالْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ يُقَالُ لَهُ: مُخْتَارٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ ضِدَّ الِاخْتِيَارِ: الِاضْطِرَارُ، لَكِنَّ الِاضْطِرَارَ تَارَةً يَكُونُ خَارِجِيًّا، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، وَتَارَةً غَيْرَ خَارِجِيٍّ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهَا بِعَارِضٍ بَدَنِيٍّ، لَا خَارِجِيٍّ، وَالِاخْتِيَارُ أَيْضًا يَنْقَسِمُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ تُرِيدُ بِالْمُخْتَارِ؟
وَمِنْهَا: أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ، لِأَنَّهُ بِيعٌ صَادَفَ مَحَلَّهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُعْتَرِضُ: مَا تَعْنِي بِالْبَيْعِ، اللُّغَوِيِّ، أَوِ الشَّرْعِيِّ؟ وَكَذَلِكَ كُلُّ لَفْظٍ لَهُ مُسَمًّى لُغَوِيٍّ وَشَرْعِيٍّ، نَحْوَ: الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْوُضُوءِ، نَحْوَ: تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَيُقَالُ: مَا تَعْنِي بِالْوُضُوءِ; الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ؟
قَوْلُهُ: «وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ التَّعَدُّدِ، أَوْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا بِأَمْرٍ مَا» . أَيْ: وَجَوَابُ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ، أَوْ جَوَابُ الْمُسْتَدِلِّ، أَوِ الْمُعْتَرِضِ عَنْ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْعُ تَعَدُّدِ احْتِمَالَاتِ اللَّفْظِ إِنْ أَمْكَنَ; بِأَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مَحْمَلٌ وَاحِدٌ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، أَوْ بِأَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ جَوَازِ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ، نَفْيًا لِلْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، فَمَنِ ادَّعَى إِطْلَاقَهُ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ رُجْحَانَ اللَّفْظِ فِي أَحَدِ الْمُجْمَلَيْنِ، بِأَمْرٍ مَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُرَجَّحَةِ، إِمَّا بِالنَّقْلِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَوْ بِاشْتِهَارِهِ فِي عُرْفِهِمْ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَفْظُ الْمُخْتَارِ ظَاهِرٌ فِيمَنْ لَا حَامِلَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ خَارِجٍ. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُجْمَلًا، وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ صِدْقَ اللَّفْظِ عَلَى الْمُجْمَلَيْنِ بِالتَّوَاطُؤِ، وَالْمُرَادُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا، نَفْيًا لِلْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، كَفَاهُ أَيْضًا، وَمَتَى أَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ بِأَحَدِ الْأَجْوِبَةِ الْمَذْكُورَةِ، انْقَطَعَ الْمُعْتَرِضُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ، وَلَهُ إِيرَادُ غَيْرِهِ، وَإِنْ عَجِزَ عَنِ الْجَوَابِ، لَزِمَهُ تَفْسِيرُ مُرَادِهِ بِلَفْظِهِ، بِأَنْ يَقُولَ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: بَانَ بِالْمَبِيعِ مَا بَانَ بِهِ جَوَازُ الرَّدِّ; ظَهَرَ بِهِ مَا انْتَفَى بِهِ جَوَازُ الرَّدِّ، فَبَانَ الْأُولَى بِمَعْنَى: ظَهَرَ، وَبَانَ الثَّانِيَةِ بِمَعْنَى: انْتَفَى.
وَفِي الْمِثَالِ الثَّانِي: أَرَدْتُ بِالْمُخْتَارِ: مَنْ وَقَعَ الْفِعْلُ بِكَسْبِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا مَانِعَ لَهُ فِي بَدَنِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ مِنَ الْخَارِجِ.
وَفِي الْمِثَالِ الثَّالِثِ: أَرَدْتُ الْبَيْعَ أَوِ الصَّوْمَ أَوِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا سَبَقَ.
تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَالَ فِي لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الِاصْطِلَاحُ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ، فَالْأَوَّلُ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْفَنِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَلْفَاظًا لَيْسَتْ مِنَ اصْطِلَاحِ أَهْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ بِلَفْظِ الدَّوْرِ وَالتَّسَلْسُلِ وَالْبَسِيطِ وَالْهَيُولَى وَالْمَادَّةِ وَالْمَبْدَأِ وَالْغَايَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
اصْطِلَاحَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ، فَيَقُولُ مَثَلًا فِي شُهُودِ الْقَتْلِ إِذَا رَجَعُوا: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ تَجَرَّدَ مَبْدَؤُهُ عَنْ غَايَةٍ مَقْصُودَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَبْدَأِ وَالْغَايَةِ بِاصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ; أَشْبَهَ مِنْهُمَا بِاصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ خِصْمِهِ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ، إِذْ لَا غَرَابَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ الْإِشْكَالُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ -، فَهُوَ إِمَّا مِنْ حَيْثُ التَّرَدُّدُ كَالْمُجْمِلَاتِ، وَقَدْ مَرَّ مِثَالُهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْغَرَابَةُ، بِذَكَرِ وَحْشِيِّ الْأَلْفَاظِ، كَقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ أَكْلُ الرِّئْبَالِ أَوِ السِّيدِ، أَوِ السَّبَنْتَى - يَعْنِي الْأَسَدَ - وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ، لِأَنَّهُ ذُو نَابٍ، أَوْ يَجُوزُ أَكْلُ الدَّغْفَلِ - وَهُوَ وَلَدُ الْفِيلِ - أَوِ الْهِجْرِسِ - وَهُوَ وَلَدُ الثَّعْلَبِ - فَيُقَالُ لَهُ: مَا تَعْنِي بِذَلِكَ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَةِ الْغَامِضَةِ، إِلَّا عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِغَرِيبِ اللُّغَةِ، فَصَارَ كَالْمُجْمَلِ التَّرَدُّدِيِّ، بِجَامِعِ عَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ. وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ: إِذَا أَكَلَ مِنْ صَيْدِهِ، لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهُ صَيْدُ جَارِحَةٍ لَمْ تُرَضْ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمُعَلَّمِ: فَإِنَّ قَوْلَهُ: تُرَضْ، مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّيَاضَةِ، وَقَدْ يَسْتَغْرِبُهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَلَهُ الِاسْتِفْسَارُ عَنْهُ.
وَشَرْطُ تَوَجُّهِ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِي مَظِنَّةِ الْغُمُوضِ كَمَا ذَكَرْنَا.
أَمَّا إِنْ كَانَ ظَاهِرًا مَشْهُورًا، مُسْتَطْرِقًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، بِحَيْثُ لَا يَغْمُضُ مِثْلُهُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ، كَقَوْلِهِ: فُقِدَ الشَّرْطُ، وَوُجِدَ الْمَانِعُ أَوِ السَّبَبُ، أَوْ هُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ الطَّهُورِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَهُ، فَيُقَالُ: مَا تَعْنِي بِهَذَا اللَّفْظِ؟ فَإِنِّي لَا أَفْهَمُ مَعْنَاهُ، كَانَ مُعَانِدًا خَارِجًا عَنِ الْإِنْصَافِ، أَوْ جَاهِلًا فَدْمًا، لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يُؤَهَّلَ لِلْكَلَامِ مَعَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ الْحَوَارِيُّ: حَقُّ الْمُسْتَفْسِرِ أَنْ يَقُولَ: أَيُّ شَيْءٍ تَعْنِي بِهَذَا الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ طَلَبَ الْمُرَادَ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا يَقُولُ مَثَلًا: مَا الْقَتْلُ، لِأَنَّ هَذَا صِيغَةُ اسْتِفْهَامٍ، وَالْمُسْتَدِلُّ إِنَّمَا تَصَدَّى لِلْإِفْحَامِ، لَا لِلتَّعْلِيمِ وَالْإِفْهَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.