الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّامِنُ:
الْقَلْبُ
، وَهُوَ تَعْلِيقُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى عِلَّتِهِ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ الْمُعْتَرِضُ تَارَةً يُصَحِّحُ مَذْهَبَهُ، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ: الِاعْتِكَافُ لُبْثٌ مَحْضٌ، فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لُبْثٌ مَحْضٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ الصَّوْمُ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَتَارَةً يُبْطِلُ مَذْهَبَ خَصْمِهِ، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ: الرَّأْسُ مَمْسُوحٌ، فَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُ بِالْمَسْحِ كَالْخُفِّ؛ فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَمْسُوحٌ، فَلَا يُقَدَّرُ بِالرُّبُعِ كَالْخُفِّ، وَكَقَوْلِهِ: بَيْعُ الْغَائِبِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَنْعَقِدُ مَعَ جَهْلِ الْمُعَوَّضِ كَالنِّكَاحِ، فَيَقُولُ خَصْمُهُ: فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ، فَيَبْطُلُ مَذْهَبُ الْمُسْتَدِلِّ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِتَعْلِيقِهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْقَلْبُ مُعَارَضَةٌ خَاصَّةٌ فَجَوَابُهُ جَوَابُهَا إِلَّا بِمَنْعِ وَصْفِ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ فِي اسْتِدْلَالِهِ فَكَيْفَ يَمْنَعُهُ.
ــ
السُّؤَالُ «الثَّامِنُ: الْقَلْبُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى عِلَّتِهِ بِعَيْنِهَا» .
مَعْنَى الْقَلْبِ: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَقْلِبُ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ وَقَدْ ذَكَرْتُ أَمْثِلَتَهُ بَعْدُ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَفْصِيلٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْمُعْتَرِضُ تَارَةً يُصَحِّحُ مَذْهَبَهُ» إِلَى آخِرِهِ.
أَيْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ تَارَةً يَكُونُ مَقْصُودُهُ بِقَلْبِ الدَّلِيلِ تَصْحِيحَ مَذْهَبِ نَفْسِهِ، وَإِبْطَالَ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، وَتَارَةً يَتَعَرَّضُ فِيهِ لِبُطْلَانِ مَذْهَبِ خَصْمِهِ دُونَ تَصْحِيحِ مَذْهَبِ نَفْسِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِثَالُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَصَدَ تَصْحِيحَ مَذْهَبِ نَفْسِهِ وَإِبْطَالَ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ: مَا إِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لِلِاعْتِكَافِ، لِأَنَّهُ «لُبْثٌ مَحْضٌ، فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ» فَإِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْإِحْرَامُ وَالنِّيَّةُ، فَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّوْمُ بِالْإِجْمَاعِ، إِذْ لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مُقَارَنَةَ غَيْرِ الصَّوْمِ لِلِاعْتِكَافِ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدَّمَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالِاعْتِكَافِ غَيْرُهُ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ هُوَ الصَّوْمُ، وَمَدْرَكُ الْأُولَى هَذَا الْقِيَاسُ، وَمَدْرَكُ الثَّانِيَةِ الْإِجْمَاعُ الْمَذْكُورُ، «فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ» الشَّافِعِيُّ أَوِ الْحَنْبَلِيُّ فِي قَلْبِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ: الِاعْتِكَافُ «لُبْثٌ مَحْضٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ الصَّوْمُ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً» ، أَيْ: لَا يُشْتَرَطُ لَهُ، «كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ» ، فَإِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الصَّوْمُ، فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِلِاعْتِكَافِ عَمَلًا بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ كَوْنُ الْوُقُوفِ وَالِاعْتِكَافِ لُبْثًا مَحْضًا، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ يُنَاسِبُ دَعْوَاهُ وَعَدَمَهَا، لَمْ يَكُنْ بِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِ الْآخَرِ، فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَهَهُنَا الْمُعْتَرِضُ قَصَدَ بِقَلْبِ الدَّلِيلِ تَصْحِيحَ مَذْهَبِهِ، وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لِلِاعْتِكَافِ وَإِبْطَالَ مَذْهَبِ خَصْمِهِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا إِذَا قَصَدَ إِبْطَالَ مَذْهَبِ خَصْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ نَفْسِهِ: قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي عَدَمِ وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ: «مَمْسُوحٌ فَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُ بِالْمَسْحِ كَالْخُفِّ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ» : هَذَا يَنْقَلِبُ عَلَيْكَ بِأَنْ يُقَالَ: «مَمْسُوحٌ فَلَا يُقَدَّرُ بِالرُّبُعِ كَالْخُفِّ» ، فَإِنَّ أَحْمَدَ وَمَالِكًا رضي الله عنهما يُوجِبَانِ اسْتِيعَابَ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ. وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْحَنَفِيُّ فِي قِيَاسِهِ، فَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ بِقَوْلِهِ: فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالرُّبُعِ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْحِ رُبُعِ الرَّأْسِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صِحَّةُ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ إِجْزَاءُ مَا يُسَمَّى مَسْحًا وَلَوْ عَلَى شَعْرَةٍ أَوْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْقَالِبَ إِذْ قَصَدَ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، فَتَارَةً يُبْطِلُهُ بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ كَمَا قِيلَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَتَارَةً يُبْطِلُهُ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، وَذَلِكَ كَالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ بَعْدُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي «بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَنْعَقِدُ مَعَ جَهْلِ» الْعِوَضِ، أَوْ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُعَوَّضِ «كَالنِّكَاحِ» ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ جَهْلِ الزَّوْجِ بِصُورَةِ الزَّوْجَةِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَرَهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: هَذَا الدَّلِيلُ يَنْقَلِبُ بِأَنْ يُقَالَ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ إِذَا رَأَى الزَّوْجَةَ لَمْ تُعْجِبْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ لَهُ خِيَارٌ إِذَا رَأَى الْمَبِيعَ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ بِمُقْتَضَى الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ، وَالْخَصْمُ لَمْ يُصَرِّحْ هَهُنَا بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، لَكِنَّهُ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بِبُطْلَانِ لَازِمِهِ عِنْدَ الْخَصْمِ وَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُجِيزُ بِيعَ الْغَائِبِ بِشَرْطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إِذَا رَآهُ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ بِمُوجِبِ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ، بَطَلَ مَشْرُوطُهُ وَهُوَ صِحَّةُ الْبَيْعِ، فَهُوَ إِبْطَالٌ لَهُ بِالْمُلَازَمَةِ لَا بِالتَّصْرِيحِ.
أَيْ: إِذَا تَوَجَّهَ سُؤَالُ الْقَلْبِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، بَطَلَ مَذْهَبُهُ، إِذْ لَيْسَ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِ مَذْهَبِ خَصْمِهِ عَلَيْهَا، إِذْ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ قَبْلُ.
يَعْنِي أَنَّ قَلْبَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ، فَهُوَ مُعَارَضَةٌ خَاصَّةٌ، لِأَنَّ النَّوْعَ أَخَصُّ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُعَارَضَةٌ خَاصَّةٌ، لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ هِيَ إِبْدَاءُ مَعْنًى فِي الْأَصْلِ أَوِ الْفَرْعِ، أَوْ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ يَقْتَضِي خِلَافَ مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ مِنَ الْحُكْمِ، وَهَذَا الْوَصْفُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِبْدَاءُ مُنَاسَبَةِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ بِخِلَافِ حُكْمِهِ، فَحَقِيقَةُ الْمُعَارَضَةِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ، لَكِنَّهُ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْهَا، وَاخْتَصَّ عَلَيْهَا بِخَصَائِصَ:
مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَصْلٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْوَصْفِ، فَكُلُّ قَلْبٍ مُعَارَضَةٌ وَلَيْسَ كُلُّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مُعَارَضَةٍ قَلْبًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ، فَجَوَابُهُ جَوَابُ الْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا بَعْدُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخُفَّ لَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبُعِ، فَيَمْنَعُ حُكْمَ الْأَصْلِ فِي قَلْبِ الْمُعْتَرِضِ، إِلَّا مَنْعَ الْوَصْفِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمُعَارَضَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْقَلْبِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ وَالْوُقُوفَ لُبْثٌ مَحْضٌ، أَوْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ وَالْخُفِّ مَسْحٌ، أَوْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَيْعَ أَوِ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَارَضَةِ وَالْقَلْبِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ فِي الْمُعَارَضَةِ لَمْ يُعَلِّلْ بِوَصْفِ الْمُعْتَرِضِ، وَلَا الْتَزَمَهُ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي قِيَاسِهِ، فَجَازَ لَهُ مَنْعُهُ بِخِلَافِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ الْتَزَمَ فِي قِيَاسِهِ صِحَّةَ مَا عَلَّلَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ وَهُوَ اللُّبْثُ وَالْمَسْحُ، وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَيْسَ لَهُ فِي جَوَابِ الْقَلْبِ مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ هَدْمٌ لِمَا بَنَى، وَرُجُوعٌ عَمَّا الْتَزَمَهُ وَاعْتَرَفَ بِصِحَّتِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ. هَذَا آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ فِي سُؤَالِ الْقَلْبِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ سُؤَالَ الْقَلْبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُصَحِّحًا لِمَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، كَمَا فِي مِثَالِ الِاعْتِكَافِ، أَوْ مُبْطِلًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، إِمَّا نَصًّا كَمَا فِي مِثَالِ مَسْحِ الرَّأْسِ، أَوِ التِزَامًا كَمَا فِي مِثَالِ بَيْعِ الْغَائِبِ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَقْسَامَهُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ. وَتَلْخِيصُ مَا ذَكَرَهُ فِيهَا: أَنَّ قَلْبَ الدَّلِيلِ هُوَ أَنْ يُبَيِّنَ الْقَالِبُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَهُ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ: قَلَّ مَا يَتَّفِقُ لَهُ مِثَالٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فِي غَيْرِ النُّصُوصِ، أَيْ: لَا يَتَّفِقُ لَهُ مِثَالٌ فِي الْأَقْيِسَةِ.
وَمَثَّلَهُ مِنَ النُّصُوصِ بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ فِي تَوْرِيثِ الْخَالِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
السَّلَامُ: الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَأَثْبَتَ إِرْثَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَيْكَ لَا لَكَ، إِذْ مَعْنَاهُ نَفِيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، أَيِ: الْخَالُ لَا يَرِثُ، كَمَا يُقَالُ: الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ، وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ، أَيْ: لَيْسَ الْجُوعُ زَادًا، وَلَا الصَّبْرُ حِيلَةً.
وَالثَّانِي، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ وَلَهُ: إِمَّا أَنْ يَتَعَرَّضَ الْقَالِبُ فِيهِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ نَفْسِهِ كَمَسْأَلَةِ الِاعْتِكَافِ، أَوْ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ صَرِيحًا، كَمَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ، أَوِ التِزَامًا كَمَسْأَلَةِ بَيْعِ الْخِيَارِ.
قَالَ: وَيَلْحَقُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْقَلْبِ: قَلْبُ التَّسْوِيَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي الْخَلِّ: مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ، فَتَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ كَالْمَاءِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنَ التَّسْوِيَةِ فِي الْخَلِّ بَيْنَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخُبْثِ أَنَّهُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا فِيهِ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ مُسْتَفَادٍ مِمَّا قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ: أَنَّ الْقَلْبَ إِمَّا قَلْبُ تَسْوِيَةٍ كَمَسْأَلَةِ الْخَلِّ، أَوْ قَلْبُ مُخَالَفَةٍ. ثُمَّ هُوَ إِمَّا أَنْ يُصَحِّحَ مَذْهَبَ الْمُعْتَرِضِ كَمَسْأَلَةِ الِاعْتِكَافِ، أَوْ يُبْطِلَ مَذْهَبَ الْمُسْتَدِلِّ صَرِيحًا، كَمَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ، أَوْ إِلْزَامًا، كَمَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَالَ النِّيلِيُّ وَغَيْرُهُ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْقَلْبِ وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَلَا يَتَّجِهُ فِي قَبُولِهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، كَمِثَالِ الِاعْتِكَافِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَبَيْعِ الْغَائِبِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: هَلْ هُوَ اعْتِرَاضٌ أَوْ مُعَارَضَةٌ؟ فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ، لِأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى ضَعْفٍ فِي الْعِلَّةِ، حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نَقِيضِ الْحُكْمِ فَصَارَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ، لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُعَارِضُ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى. فَحَقِيقَةُ الْمُعَارَضَةِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَذَكَرَ النِّيلِيُّ لِهَذَا الْخِلَافِ فَوَائِدَ، مِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ قِيلَ: هُوَ مُعَارَضَةٌ، جَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ، فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، كَالنِّكَاحِ، وَإِنْ قِيلَ: هُوَ اعْتِرَاضٌ؛ لَمْ يَجُزْ مِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ.
قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ وَالِاعْتِرَاضِ: أَنَّ الْمُعَارَضَةَ، كَدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، بِخِلَافِ الِاعْتِرَاضِ، فَإِنَّهُ مَنْعٌ لِلدَّلِيلِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، إِذْ يَكُونُ كَالْكَذِبِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ حَيْثُ يُقَوِّلُهُ مَا لَمْ يَقُلْ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقَلْبَ مُعَارَضَةٌ؛ جَازَ قَلْبُهُ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ كَمَا يُعَارِضُ الْمُعَارَضَةَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ، وَلَا نِيَابَةٍ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الشِّرَاءِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: أَنَا أَقْلِبُ هَذَا الدَّلِيلَ، فَأَقُولُ: تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ، فَلَا يَقَعُ لِمَنْ أَضَافَهُ إِلَيْهِ كَالشِّرَاءِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ لَمْ يَصِحَّ لِمَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي لَهُ، بَلْ يَصِحُّ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْفُضُولِيُّ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ اعْتِرَاضٌ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَنْعٌ، وَالْمَنْعُ لَا يَمْنَعُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُعَارَضَةً، جَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ اعْتِرَاضًا، لَمْ يَجُزْ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُعَارَضَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ مُعَارَضَةً قَبِلَ فِيهِ الْمُرَجِّحَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ اعْتِرَاضٌ، مَنَعَ ذَلِكَ. قَالَ: وَمِثَالُهُ ظَاهِرٌ فِي سَائِرِ الِاعْتِرَاضَاتِ.
قُلْتُ: أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، كَالدَّلِيلِ الْمُبْتَدَأِ، وَالْمَنْعُ لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.