المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إجماع أهل المدينة - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌إجماع أهل المدينة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كَالنُّجُومِ بِأَيِّهُمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ، وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ سَائِرَ الصَّحَابَةِ خَالَفُوا الشَّيْخَيْنِ فِي حُكْمٍ ; فَالْأَخْذُ بِالْقَوْلَيْنِ وَإِلْغَاؤُهُمَا بَاطِلٌ، وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِمَا مَعَ خِلَافِ الْأَكْثَرِ لَهُمَا بَعِيدٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: اتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهِ، فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ضَعْفُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اتِّفَاقَ الْأَرْبَعَةِ أَوِ الشَّيْخَيْنِ إِجْمَاعٌ، وَأَنَّ حَمْلَ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ; عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا قَاطِعَةٌ مُتَعَيِّنٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: «وَ‌

‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، خِلَافًا لِمَالِكٍ» وَحْدَهُ، فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: هُوَ حُجَّةٌ مُطْلَقًا فِي نَقْلٍ نَقَلُوهُ، أَوْ فِي عَمَلٍ عَمِلُوهُ.

«لَنَا:» أَيْ: عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ أَنَّ الْعِصْمَةَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ بَعْضُهَا لَا جَمِيعُهَا، فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ لِقَوْلِهِمْ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، بَلْ يَكُونُ حُجَّةً ظَنِّيَّةً يُعْمَلُ بِهِ إِذَا خَلَا عَنْ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ.

قَوْلُهُ: «وَلَا لِلْمَكَانِ» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ، فَرُبَّمَا ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَ أَهْلِهَا إِجْمَاعٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَيْسَتْ لِلْمَكَانِ، وَإِلَّا لَكَانَتْ مَكَّةُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا فِيهِ، لِأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ لِلْأُمَّةِ جَمِيعِهَا.

قَوْلُهُ: «قَالَ:» يَعْنِي مَالِكًا: احْتَجَّ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جَمٌّ غَفِيرٌ، شَاهَدُوا

ص: 103

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

التَّنْزِيلَ، وَعَلِمُوا التَّأْوِيلَ، وَتَنَاقَلَ ذَلِكَ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْآبَاءِ، وَالْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَ «اتِّفَاقُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْخَطَأِ» مُمْتَنِعٌ فِي الْعَادَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ صَوَابًا فِي الْعَادَةِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا: بَاقِي الْأُمَّةِ أَكْثَرُ، فَالتَّمَسُّكُ بِهَذَا فِي حَقِّهِمْ أَوْلَى» . أَيْ: إِنْ دَلَّتْ كَثْرَةُ مُجْتَهِدِي الْمَدِينَةِ عَلَى صَوَابِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَبَقِيَّةُ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَلْتَكُنْ أَكْثَرِيَّتُهُمْ أَدَلَّ عَلَى صَوَابِ قَوْلِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى صَوَابِ قَوْلِهِمْ.

وَيَتَقَرَّرُ هَذَا الْجَوَابُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، مُنَبَّهٍ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْتُهُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَاقِيَ الْأُمَّةِ خَالَفُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي حُكْمٍ، فَإِمَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ الْفَرِيقَيْنِ، أَوْ يُتْرَكَ قَوْلُهُمَا، وَهُمَا بَاطِلَانِ، لِمَا سَبَقَ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْعَامِّيِّ، أَوْ يُقَدَّمَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّ بَاقِيَ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، وَهُوَ بَعِيدٌ، مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ السَّوَادِ الْأَكْثَرِ.

وَقَوْلُهُ: «يَمْتَنِعُ اتِّفَاقُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْخَطَأِ عَادَةً» .

قُلْنَا: بَقِيَّةُ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ جَمٌّ غَفِيرٌ، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ عَادَةً، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَانُوا بِهَا، كَمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ «الْعِلْمِ» بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ:

ص: 104

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَدِمْتُ الْكُوفَةَ، فَوَجَدْتُ فِيهَا أَرْبَعَمِائَةِ فَقِيهٍ.

قُلْتُ: يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاتِّفَاقُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ عَلَى الْخَطَأِ يَمْتَنِعُ عَادَةً، وَبِهِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ أَظُنُّهُمْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ حُجَّةٌ، وَمَالِكٌ لَا يَقُولُ بِهِ.

وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَجْهَانِ آخَرَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ رِوَايَتَهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَكَذَا اتِّفَاقُهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ مُسْتَنَدُهُ الْعِصْمَةُ السَّمْعِيَّةُ، وَلَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِهِمْ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالْخَطَأُ خَبَثٌ، فَوَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ أَهْلِهَا.

وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَبَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَصَابَتْهُ فِيهَا حُمَّى، فَسَأَلَهُ إِقَالَةَ الْبَيْعَةِ لِيَخْرُجَ إِلَى الْبَادِيَةِ، فَلَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَتَضَيَّعُ طِيبُهَا.

ص: 105

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَعِنْدَ مَالِكٍ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْعُمُومِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَثَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ لَا يُفِيدُ الْخَطَأَ، مُطَابَقَةً، وَلَا تَضَمُّنًا، وَلَا الْتِزَامًا، فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ الْخَطَأِ، وَلَئِنْ جَازَ لِلْمَالِكِيَّةِ الِاحْتِجَاجُ بِنَفْيِ الْخَبَثِ عَنِ الْمَدِينَةِ ; عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَ أَهْلِهَا حُجَّةٌ، جَازَ لِلشِّيعَةِ الِاحْتِجَاجُ بِنَفْيِ الرِّجْسِ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ; عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ حُجَّةٌ، لِأَنَّ دِلَالَةَ الرِّجْسِ عَلَى الْخَطَأِ لَا تَتَقَاصَرُ عَنْ دِلَالَةِ الْخَبَثِ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْخَطَأِ مِنَ الْخَبَثِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قُلْتُ: وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ; فِي النَّفْسِ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طُمَأْنِينَةٌ، وَسُكُونٌ قَوِيٌّ جِدًّا، فَالتَّوَقُّفُ فِيهَا غَيْرُ مُلْزِمٍ.

ص: 106

وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ وَحْدَهُمْ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ.

لَنَا: مَا سَبَقَ.

قَالُوا: الْخَطَأُ رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ مَنْفِيٌّ عَنْهُمْ.

قُلْنَا: الْآيَةُ وَرَدَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; ثُمَّ الرِّجْسُ: الْكُفْرُ، أَوِ الْعَذَابُ، أَوِ النَّجَاسَةُ، وَالْخَطَأُ الِاجْتِهَادِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا ; ثُمَّ الرِّجْسُ مُفْرَدًا حُلِّيَ بِاللَّامِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ.

قَالُوا: «كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي» .

قُلْنَا: الْمُعَلَّقُ عَلَى شَيْئَيْنِ لَا يُوجَدُ بِأَحَدِهِمَا، وَالْكِتَابُ يَمْنَعُ مَا ذَكَرْتُمْ ; ثُمَّ الْعِتْرَةُ لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْبَيْتِ.

ــ

قَوْلُهُ: " وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ وَحْدَهُمْ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ. لَنَا: مَا سَبَقَ " يَعْنِي مِنْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ، وَالْعِصْمَةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ لِجَمِيعِهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ حُجَّةً مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ، لَا إِجْمَاعًا، كَمَا قُلْنَا فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: " قَالُوا: " يَعْنِي الشِّيعَةَ: " الْخَطَأُ رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ مَنْفِيٌّ " عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 33] .

قَوْلُهُ: " قُلْنَا: الْآيَةُ وَرَدَتْ ". هَذَا جَوَابٌ عَنِ اسْتِدْلَالِ الشِّيعَةِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِينَ تَعْنُونَهُمْ، بَلْ إِنَّمَا " وَرَدَتْ

ص: 107

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " بِدِلَالَةِ السِّيَاقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 32 - 34] .

فَخِطَابُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَكْشِفُ مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَكُنَّ مُرَادَاتٍ مِنْهُ وَلَا بُدَّ، فَأَمَّا عَلَى الْخُصُوصِ، فَلَا حُجَّةَ لَكُمْ فِي الْآيَةِ أَصْلًا، أَوْ مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِينَ هُمُ الْعِتْرَةُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِمُشَارَكَتِهِنَّ لَهُمْ فِي إِذْهَابِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَكُمْ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرِّجْسَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْعَذَابِ، وَالنَّجَاسَةِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ فِي الْآيَةِ أَحَدُهَا " وَالْخَطَأُ الِاجْتِهَادِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا " فَلَا يَلْزَمُ إِذَنْ مِنْ نَفْيِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ نَفْيُ الْخَطَأِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثِ: أَنَّ الرِّجْسَ اسْمٌ مُفْرَدٌ حُلِّيَ بِاللَّامِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَبِتَقْدِيرِ أَنَّ الرِّجْسَ هُوَ الْخَطَأُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ جَمِيعِهِ عَنْهُمْ، فَلَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ دِلَالَةٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ قَوِيَّةٌ فِي جَوَابِ دَلِيلِ الشِّيعَةِ، غَيْرَ أَنَّ جَوَابَهُمْ عَنْهَا قَوِيٌّ مُتَيَسِّرٌ أَيْضًا.

فَيُقَالُ: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ خَاصٌّ بِمَنْ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل، وَلَيْسَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرَادَاتٍ مِنْهُ عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سبحانه وتعالى خَاطَبَ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ،

ص: 108

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

نَحْوَ: قَرْنَ وَلَا تَبَرَّجْنَ وَاذْكُرْنَ حَتَّى جَاءَ إِلَى ذِكْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ، خَاطَبَهُمْ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ الْكَافِ وَالْمِيمِ حَيْثُ قَالَ سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ} ، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْكُنَّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الزَّوْجَاتِ، وَهُمْ مَنْ نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قُلْتُ: وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ، إِذْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْمُذَكَّرِ، أَعْنِي: لَفْظَ (أَهْلَ) ، فَغَلَبَ جَانِبُ التَّذْكِيرِ، فَجِيءَ بِضَمِيرِهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، نَزَلَتْ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَعَا فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ، قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الْأَحْزَابِ: 33] الْآيَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ص: 109

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ مُبَاهَلَةَ نَصَارَى نَجْرَانَ، شَمَلَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِكِسَاءٍ، وَجَاءَ بِهِمْ لِيُبَاهِلَ بِهِمْ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ قَوْلُهُ عز وجل: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 61] الْآيَةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ هُمْ هَؤُلَاءِ لَا غَيْرُ، وَلَيْسَ النِّسَاءُ مُرَادَاتٍ مِنْهُ، وَإِلَّا لَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: أَنْتِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَقُلْ لَهَا ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ نَفْيُ كَوْنِهَا مِنْهُمْ.

أَمَّا دِلَالَةُ السِّيَاقِ عَلَى أَنَّهُنَّ مُرَادَاتٌ مِنَ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا بَعْضُ التَّمَسُّكِ ; لَكِنَّ ذَلِكَ مَعَ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ خَاصٌّ بِهَؤُلَاءِ، فَلَا يُفِيدُ، وَالْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ يَقَعُ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ بِالْأَجْنَبِيِّ كَقَوْلِهِ عز وجل:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} إِلَى قَوْلِهِ عز وجل " أَذِلَّةً [النَّمْلِ: 34] هَذَا حِكَايَةُ قَوْلِ بِلْقِيسَ، {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النَّمْلِ: 34] كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَوْلُهُ عز وجل: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} إِلَى قَوْلِهِ: الصَّادِقِينَ [يُوسُفَ: 51] هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ الْمَرْأَةِ، {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ [يُوسُفَ: 52 - 53] كَلَامُ يُوسُفَ عليه السلام. وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى:

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ} [آلِ عِمْرَانَ: 121] إِلَى قَرِيبِ آخِرِ السُّورَةِ يَوْمَ أُحُدٍ فِي مَعْنَى غَزَاتِهَا، وَتَذْكِيرِ يَوْمِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِ، وَوَقَعَ الِاعْتِرَاضُ بَيْنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} إِلَى قَوْلِهِ عز وجل: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 130 - 139] .

ص: 110

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَبِالْجُمْلَةِ فَاعْتِرَاضَاتُ الْعَرَبِيَّةِ، وَالتَّخَلُّصَاتُ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَبْدَعِ مَا يَكُونُ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَوَالِيَتَيْنِ مِنْهُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ فِي مَعْنًى، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ، وَنَظَرَ فِيهِ، عَرَفَهُ، وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ عز وجل:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وَقَعَ اعْتِرَاضًا وَفَصْلًا بَيْنَ أَجْزَاءِ خِطَابِ النِّسْوَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الرِّجْسَ يَتَنَاوَلُ الْخَطَأَ لُغَةً وَاسْتِدْلَالًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَوْهَرِيَّ قَالَ: الرِّجْسُ: الْقَذَرُ، قُلْنَا: وَالْقَذَرُ أَعَمُّ مِمَّا يَسْتَقْبِحُهُ الطَّبْعُ كَالنَّجَاسَاتِ الْمُتَجَسِّدَةِ، أَوِ الْعَقْلُ كَالنَّقَائِصِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ تَتَنَاوَلُ الْخَطَأَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يُونُسَ: 100] : إِنَّهُ الْعِقَابُ وَالْغَضَبُ.

قُلْنَا: فَإِنْ كَانَ الرِّجْسُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ، فَقَدْ نَفَى اللَّهُ عز وجل عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْعِقَابَ وَالْغَضَبَ، وَالْخَطَأُ مِنْ أَسْبَابِهِمَا، فَيَلْزَمُ نَفْيُهُ عَنْهُمْ، وَإِلَّا انْتَفَى الْمُسَبَّبُ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُسَبَّبِ، فَلَوْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ الْمُسَبَّبِ مَعَ ثُبُوتِ مَا يَقْتَضِي وُجُودَهُ، لَزِمَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ.

قُلْتُ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يَنْهَضُ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمُسَبَّبِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَوُجُودُ السَّبَبِ وَتَخَلُّفُ الْمُسَبَّبِ لِمَانِعٍ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَيْضًا، وَاسْتِدْلَالُهُمْ

ص: 111

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إِنَّمَا هُوَ بِنَفْيِ الْمَلْزُومِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَلَا عَدَمِهِ، وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يُخْطِئُوا فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَيَتَخَلَّفَ الْعِقَابُ عَنْهُمْ، لِقَوْلِهِ عز وجل، أَوْ لِلرُّخْصَةِ بِكَوْنِهِ خَطَأً اجْتِهَادِيًّا فِيهِ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَمَعَ الْإِصَابَةِ أَجْرَانِ.

قَالُوا: وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي " تَفْسِيرِهِ ": أَنَّ الرِّجْسَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْإِثْمِ، وَعَلَى الْعَذَابِ، وَعَلَى النَّجَاسَاتِ وَالنَّقَائِصِ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ جَمِيعَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْجُمْهُورَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرِّجْسَ يَقَعُ عَلَى النَّقَائِصِ، فَالْخَطَأُ مِنْ أَقْبَحِهَا، لَا سِيَّمَا فِي الِاجْتِهَادِ الشَّرْعِيِّ، فَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِصَابَتُهُمْ فِي الِاجْتِهَادِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ حُجَّةً قَاطِعَةً بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَهِيَ أَدَلُّ فِي حَقِّهِمْ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ لَا يَسْتَغْرِقُ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، كَمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمَعَالِمِ ".

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الرِّجْسِ إِنْ أَفَادَ الْعُمُومَ، اسْتَدْلَلْنَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْدِهُ، اسْتَدْلَلْنَا بِقَوْلِهِ عز وجل:{وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 33] وَدِلَالَتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

ص: 112

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اقْتِرَانَ لَفْظِ التَّطْهِيرِ بِذِكْرِ الرِّجْسِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنْ ذَلِكَ الرِّجْسِ، وَهُوَ يَقْتَضِي عُمُومَ التَّطْهِيرِ، بِدَلِيلِ تَأْكِيدِهِ بِالْمَصْدَرِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِذِكْرِ الرِّجْسِ، لَأَفَادَ عُمُومَ التَّطْهِيرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ اسْتِدْلَالٌ بِمَجْمُوعِ لَفْظِ الرِّجْسِ وَالتَّطْهِيرِ، وَالثَّانِي اسْتِدْلَالٌ بِلَفْظِ التَّطْهِيرِ الْمُؤَكِّدِ وَحْدَهُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ لَفْظَ الرِّجْسِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، لَكِنَّ وُقُوعَ النَّفْيِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَاهِيَّتِهِ، وَهِيَ لَا تَنْتَفِي إِلَّا بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا، فَيَلْزَمُ عُمُومُ النَّفْيِ بِهَذَا الطَّرِيقِ.

قَالَتِ الشِّيعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ لَا تَقْبَلُونَ رِوَايَةَ الصَّحَابَةِ، فَكَيْفَ قَبِلْتُمُوهَا فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الْبَيْتِ بِمَنْ ذَكَرْتُمْ.

قُلْنَا: نَحْنُ إِنَّمَا أَوْرَدْنَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ إِلْزَامًا لَكُمْ بِرِوَايَةِ مَنْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى اطِّرَاحِ رِوَايَتِهِ، لَا اعْتِمَادًا مِنَّا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اعْتَمَدْنَا عَلَى تَوَاتُرِ ذَلِكَ عِنْدَنَا مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَمَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، لَكِنَّا لَوِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، رُبَّمَا مَنَعْتُمُونَاهُ، فَاحْتَجَجْنَا عَلَيْكُمْ بِمَا تَقْبَلُونَ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَا عِنْدَنَا، لَا مُسْتَقِلًّا بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: " قَالُوا: كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي ". هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ لِلشِّيعَةِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ

ص: 113

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَبِي سَعِيدٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللَّهِ، حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي، أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا النَّصِّ: أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّمَسُّكِ بِالْعِتْرَةِ، وَأَخْبَرَ بِعَدَمِ ضَلَالِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ حُجَّةً قَاطِعَةً لَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

ص: 114

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: " قُلْنَا: " إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّهُ عليه السلام عَلَّقَ نَفْيَ الضَّلَالِ عَلَى شَيْئَيْنِ: الْكِتَابِ وَالْعِتْرَةِ، و" الْمُعَلَّقُ عَلَى شَيْئَيْنِ لَا يُوجَدُ بِأَحَدِهِمَا " فَنَفْيُ الضَّلَالِ لَا يُوجَدُ بِالتَّمَسُّكِ بِالْعِتْرَةِ وَحْدَهَا، دُونَ الْكِتَابِ " وَالْكِتَابُ يَمْنَعُ مَا ذَكَرْتُمْ " مِنْ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ لِقَوْلِهِ عز وجل:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 115] وَنَحْوِهِ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْعِصْمَةَ لِلْأُمَّةِ لَا لِبَعْضِهَا.

" ثُمَّ " إِنَّ " الْعِتْرَةَ لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْبَيْتِ " بَلْ هِيَ فِي اللُّغَةِ: نَسْلُ الرَّجُلِ وَرَهْطُهُ الْأَدْنَوْنَ. كَذَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: نَحْنُ عِتْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قُلْتُ: وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتَهُ لَنْ يَتَفَرَّقَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْبَيْتِ حَجَّةٌ بِنَفْيِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافَقَةُ الْكِتَابِ لِإِجْمَاعِهِمْ، وَعَدَمُ مُنَافَاتِهِ لَهُ، وَأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ.

وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ: وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي. وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ مَنْ هُمْ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

قُلْتُ: وَأَوْرَدَ الْقَرَافِيُّ عَلَى احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الْأَحْزَابِ: 33] الْآيَةَ، أَنَّ الْحَصْرَ مُتَعَذِّرٌ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ سبحانه وتعالى شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ، فَيَتَعَيَّنُ إِبْطَالُ الْحَقِيقَةِ، وَوُجُوهُ الْمَجَازِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، فَيَبْقَى مُجْمَلًا، فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.

ص: 115

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: يُشِيرُ إِلَى أَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَهِيَ هَاهُنَا تَقْتَضِي حَصْرَ إِرَادَةِ اللَّهِ عز وجل فِي إِذْهَابِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ، وَلَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي ذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ ظَاهِرٌ.

قُلْتُ: وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْعُ أَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، بَلْ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا سَبَقَ.

الثَّانِي: بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ لَكِنْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَصْرَ تَارَةً يَعُمُّ، وَتَارَةً يَخُصُّ، نَحْوَ:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النِّسَاءِ: 171]، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرَّعْدِ: 7] ، أَيْ: بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْآيَةِ خَاصٌّ بِاعْتِبَارِ أَهْلِ الْبَيْتِ، أَوْ جِهَةٍ مَا مِنَ الْجِهَاتِ.

قُلْتُ: أَقْرَبُ مَا يُسْلَكُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا سَلَكْنَاهُ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي اعْتِبَارِ الْعَامِّيِّ ; وَعَلَى مَالِكٍ فِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا خَالَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ بَاقِيَ الْأُمَّةِ فِي حُكْمٍ، فَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ الْقَوْلَانِ، أَوْ يُلْغَيَا جَمِيعًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، أَوْ يُقَدَّمَ قَوْلُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ عليه السلام: اتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ، شَذَّ فِي النَّارِ.

الثَّانِي: أَنَّ إِصَابَةَ آحَادٍ يَسِيرَةٍ، وَخَطَأَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ بَعِيدٌ جِدًّا.

قُلْتُ: وَلَهُمْ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ اعْتِرَاضَاتٌ، لَا أُطِيلُ بِذِكْرِهَا.

ص: 116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَذَكَرَ ابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " ; قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: ذَهَبَتِ الشِّيعَةُ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَخَ فِي آدَمَ مِنْ رُوحِ ذَاتِهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ الرُّوحُ فِي الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَلَدِهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عَلِيٍّ، ثُمَّ إِلَى وَلَدِهِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهُمْ بِذَلِكَ الرُّوحِ مَعْصُومُونَ، يَعْلَمُونَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَيَسْتَغْنُونَ عَنْ مُعَلِّمٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، حَتَّى أَفْضَى الْأَمْرُ بِبَعْضِ الشِّيعَةِ إِلَى أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا إِلَهِيَّةَ عَلِيٍّ، وَالْأَئِمَّةِ مِنْ وَلَدِهِ.

هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، وَقَدْ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 117

الْعَاشِرَةُ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: لَا يُتَصَوَّرُ عَنْ قِيَاسٍ، وَقِيلَ: يُتَصَوَّرُ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ.

لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ مَعَ مَدَارِكِ الظَّنِّ كَإِلْحَاقِ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ.

قَالُوا: الْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَا إِجْمَاعَ مَعَ الْخِلَافِ.

قُلْنَا: نَفْرِضُهُ قَبْلَ الْخِلَافِ فِيهِ، أَوْ يَسْتَنِدُ الْمُخَالِفُ فِيهِ إِلَى مَدْرَكٍ لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، أَوْ يَظُنُّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ كَالْعَكْسِ.

قَالُوا: ظَنِّيٌّ، فَلَا يُثْبِتُ أَصْلًا أَقْوَى مِنْهُ.

قُلْنَا: بَاطِلٌ بِالْعُمُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِذَا تُصُوِّرَ كَانَ حُجَّةً بِأَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ " الْعَاشِرَةُ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ دَلِيلٍ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ بِمُجَرَّدِ الِاتِّفَاقِ وَالتَّبْحِيثِ، أَيْ: لَا يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إِلَى حُجَّةٍ، بَلْ مَتَى اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلٍ، لَزِمَ أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ الصَّوَابَ، لِمَا ثَبَتَ لَهَا مِنَ الْعِصْمَةِ.

حُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى بَاطِلٌ، فَالْقَوْلُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ بَاطِلٌ.

أَمَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى ; فَلِأَنَّ بِدُونِ الْحُجَّةِ يَسْتَوِي الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ، فَالْقَوْلُ بِأَحَدِهِمَا بِلَا دَلِيلٍ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا بِالْهَوَى وَالتَّشَهِّي.

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَمَّا أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى بَاطِلٌ ; فَظَاهِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ بَاطِلٌ.

حُجَّةُ الْمُجَوِّزِينَ: أَنَّ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي الدِّينِ، وَالْمَعْصُومُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا الصَّوَابُ، لِأَجْلِ أَنَّهُ مَعْصُومٌ لَا لِاسْتِنَادٍ إِلَى حُجَّةٍ وَشُبْهَةٍ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ ظَاهِرَتَانِ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُمَا.

وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: إِنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، بِأَنْ قَالُوا: اتِّبَاعُ الْهَوَى مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ جَمِيعِهَا؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.

قَوْلُهُمْ " لِأَنَّهُ بِدُونِ الْحُجَّةِ يَسْتَوِي النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ.

قُلْنَا: نَعَمْ.

قَوْلُهُمْ: فَالْقَوْلُ بِأَحَدِهِمَا بِلَا دَلِيلٍ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلِ الْمُرَجِّحُ هَاهُنَا الْعِصْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ، الثَّابِتَةُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِقَوْلِهِ عليه السلام: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَسَائِرُ أَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ. وَحِينَئِذٍ مَتَى اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ، كَانَ حَقًّا وَصَوَابًا، لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَا يُلْهِمُهُمْ سِوَاهُ، وَلَا يُجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ إِلَّا إِيَّاهُ.

قُلْتُ: هَذَا الْمَذْهَبُ سَهْلٌ مُتَّجِهٌ، أَمَّا سُهُولَتُهُ، فَظَاهِرَةٌ مِنْ جِهَةِ اسْتِرَاحَةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ النَّظَرِ، وَالنِّزَاعِ فِيهِ قَبْلَ الِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا اتِّجَاهُهُ، فَبِمَا ذُكِرَ، وَيُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنْهُ، وَيُجْعَلُ نَظِيرًا لَهُ، صَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ، فَإِنَّ فِي

ص: 119

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْحَدِيثِ: مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ وَفِيهِ: مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ عز وجل، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ عز وجل رَوَى مَعْنَاهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ قَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ النَّاسِ عَوَّدَهُ اللَّهُ مِنْهُ عَادَةً جَمِيلَةً ; وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى اسْتَخَارَهُ فِي أَمْرٍ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ فِيهِ، لَا يَخْتَارُ لَهُ إِلَّا الْأَصْلَحَ فِيهِ، وَلَا يُوَفِّقُهُ وَيُيَسِّرُهُ إِلَّا لَهُ. بِمُقْتَضَى دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ الْمَشْهُورِ، وَتَظْهَرُ الْمَصْلَحَةُ لِذَلِكَ الشَّخْصِ فِيمَا يَخْتَارُ لَهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ وَفَاءً بِقَوْلِهِ عز وجل:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطَّلَاقِ: 3] ، فَكَذَا الْأُمَّةُ لَا يُوَفِّقُهَا، وَيُجْرِي عَلَى أَذْهَانِهَا وَأَلْسِنَتِهَا فِيمَا تَتَّفِقُ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوَابُ وَفَاءً بِعِصْمَتِهِ لَهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ اعْتَبَرُوا الدَّلِيلَ فِي الْإِجْمَاعِ، لَكِنِ الْأَوَّلُونَ اعْتَبَرُوا الدَّلِيلَ الْخَاصَّ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِجْمَاعِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ، وَالْآخَرُونَ اكْتَفَوْا بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.

وَيُشْبِهُ أَنْ يَتَفَرَّعَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَصْلٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّعْ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُشْبِهٌ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِي التَّفْوِيضِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: احْكُمْ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِحَقٍّ ; هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ فَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ

ص: 120

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِنَاءً عَلَى عِصْمَتِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا تَحْكُمُ الْأُمَّةُ بِرَأْيِهَا بِدَلِيلٍ وَغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا تَحْكُمُ إِلَّا بِحَقٍّ بِنَاءٍ عَلَى عِصْمَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَجُزْ فِي الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُمْ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَعِصْمَتُهُمْ فَرْعٌ عَلَى عِصْمَتِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْقَائِلُونَ: لَا إِجْمَاعَ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ فِي مُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ قِيَاسًا وَغَيْرَهُ مِنْ دَلِيلٍ، أَوْ أَمَارَةٍ، أَوْ حُجَّةٍ، أَوْ شُبْهَةٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " لَا يُتَصَوَّرُ " الْإِجْمَاعُ " عَنْ قِيَاسٍ ".

وَقَالَ آخَرُونَ: " يُتَصَوَّرُ " عَنِ الْقِيَاسِ، لَكِنْ لَا يَكُونُ حُجَّةً.

وَقَالَ آخَرُونَ: يَصِحُّ عَنِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ.

قَوْلُهُ: " لَنَا: " أَيْ: عَلَى انْعِقَادِهِ عَنْ قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ: هُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حُصُولِ ظَنِّ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُحَصِّلٌ لِلظَّنِّ، وَإِذَا حَصَلَ الظَّنُّ، جَازَ الِاتِّفَاقُ عَلَى مُوجِبِهِ حِسًّا وَشَرْعًا.

أَمَّا حِسًّا، فَكَمَا أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ إِذَا شَاهَدُوا الْغَيْمَ الرَّطْبَ، اشْتَرَكُوا فِي ظَنِّ وُقُوعِ الْمَطَرِ.

وَأَمَّا شَرْعًا، فَكَمَا إِذَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ النَّبِيذَ مُسْكِرٌ كَالْخَمْرِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ حَرَامٌ كَالْخَمْرِ، بِجَامِعِ الْإِسْكَارِ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى مُوجِبِ هَذَا الظَّنِّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.

قَوْلُهُ: " قَالُوا: " يَعْنِي الْمَانِعِينَ بِانْعِقَادِهِ عَنِ الْقِيَاسِ احْتَجُّوا بِأَنَّ " الْقِيَاسَ

ص: 121

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَا إِجْمَاعَ مَعَ الْخِلَافِ " أَيِ: الْإِجْمَاعُ فَرْعُ مُسْتَنَدِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَنَدُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُسْتَنَدُ إِلَيْهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ؟ وَكَيْفَ يُخْتَلَفُ فِي الْأَصْلِ، وَيُتَّفَقُ عَلَى الْفَرْعِ، وَالْفُرُوعُ تَابِعَةٌ لِأُصُولِهَا؟

قَوْلُهُ: " قُلْنَا: " أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّا إِذَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ قَبْلَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ، لَمْ يَرِدْ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلْ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ.

وَإِنْ فَرَضْنَاهُ بَعْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ فِي الْقِيَاسِ، قُلْنَا: يَسْتَنِدُ أَهْلُ الْقِيَاسِ إِلَيْهِ، و" يَسْتَنِدُ الْمُخَالِفُ فِيهِ إِلَى مَدْرَكٍ " مِنْ مَدَارِكِ الِاجْتِهَادِ " لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا " وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ، وَذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ وَاقِعٌ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ اسْتَنَدُوا إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَسَمَّوْهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، كَالتَّنْبِيهِ، وَتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ جَائِعٌ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ عَلَى الْغَضَبِ بِالْجَامِعِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقُولُونَ: نَبَّهَ بِحَالَةِ الْغَضَبِ عَلَى حَالَةِ الْجُوعِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ، وَالْحَنَفِيَّةُ مَعَ قَوْلِهِمْ: لَا قِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، أَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ عَلَى الصَّائِمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ عَلَى الْوَطْءِ، بِجَامِعِ الْإِفْسَادِ، وَقَالُوا: هَذَا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ اعْتِبَارًا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، لِعُمُومِ الْإِفْسَادِ، لَا لِخُصُوصِ الْجِمَاعِ، فَهَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ الْمُخَالِفُ فِي الْقِيَاسِ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، وَهُوَ قِيَاسٌ، فَيَتَّحِدُ الْمُسْتَنَدُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، أَوْ نَفْرِضُ أَنَّ الْمُخَالِفَ " يَظُنُّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ

ص: 122

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كَالْعَكْسِ " أَيْ: كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ غَيْرَ الْقِيَاسِ قِيَاسًا كَالتَّنْقِيحِ، وَالتَّنْبِيهِ، وَمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ، فَيَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فِي الْإِجْمَاعِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ هَكَذَا وَقَعَ فِي " الْمُخْتَصَرِ ": " أَوْ يَظُنُّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ " بَأَوْ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ ظَنَّ الْقِيَاسِ غَيْرَ قِيَاسٍ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِنَادِ إِلَى مَدْرَكٍ لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَا مُتَغَايِرَيْنِ، بَلْ هُمَا وَاحِدٌ، فَإِنْ أُرِيدَ تَصْحِيحُهُ عَلَى مَا فِي " الرَّوْضَةِ " قِيلَ: بِالْوَاوِ، هَكَذَا:" إِلَى مَدْرَكٍ لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، وَيَظُنُّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ كَالْعَكْسِ " لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنِّي وَقْتَ الِاخْتِصَارِ قَصَدْتُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا فِي " الرَّوْضَةِ " بِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى الْقِيَاسِ، وَلَا يَظُنَّهُ قِيَاسًا، أَوْ يَسْتَنِدَ إِلَى مَدْرَكٍ لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، وَلَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ مَدْرَكِ الْإِجْمَاعِ فِي نَوْعِهِ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ كَأَنَّهُ حَافَظَ عَلَى اتِّحَادِ نَوْعِ الْمُسْتَنَدِ، فَلَمْ يَفْرِضْ إِلَّا أَنَّ الْمُخَالِفَ اسْتَنَدَ إِلَى قِيَاسٍ، وَاعْتَقَدَهُ غَيْرَ قِيَاسٍ كَالْعَكْسِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: " قَالُوا: ظَنِّيٌّ " أَيِ: احْتَجَّ الْمَانِعُونَ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الْقِيَاسِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ " ظَنِّيٌّ " وَالْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، فَلَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُثْبِتُ أَقْوَى مِنْهُ.

قَوْلُهُ: " قُلْنَا: " أَيْ: فِي الْجَوَابِ: إِنَّ هَذَا " بَاطِلٌ بِالْعُمُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ " وَهُمَا ظَنِّيَّانِ، وَيَثْبُتُ بِهِمَا الْإِجْمَاعُ، ثُمَّ يُقَالُ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِكُمُ: الْقِيَاسُ ظَنِّيٌّ؟ إِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَالْإِجْمَاعُ كَذَلِكَ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ

ص: 123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِالْقَطْعِ فِيهِ لَيْسَ الْمَانِعَ مِنَ النَّقِيضِ عَقْلًا، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْقِيَاسِ ظَنِّيٌّ، وَهُوَ النَّظَرُ فِي أَرْكَانِهِ: الْأَصْلِ، وَالْفَرْعِ، وَالْعِلَّةِ، وَالْحُكْمِ، فَمُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ كَذَلِكَ، وَهُوَ ظَوَاهِرُ الْكِتَابِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَرْقَ مَمْنُوعٌ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ.

الثَّانِي: أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْخِلَافِ إِنَّمَا حَصَلَ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ قِبَلِ ثُبُوتِ الْعِصْمَةِ لِلْأُمَّةِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ دَلِيلًا، وَذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: " وَإِذَا تُصُوِّرَ، كَانَ حُجَّةً بِأَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ ". هَذَا جَوَابُ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ يُتَصَوَّرُ عَنِ الْقِيَاسِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ إِذَا تُصُوِّرَ الِاتِّفَاقُ عَنِ الْقِيَاسِ، كَانَ حُجَّةً بِأَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَحْرُمُ خِلَافُهُ، وَبِقَوْلِهِ عليه السلام: أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَنَحْوِهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ جَيِّدٌ مُنَاسِبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

تَنْبِيهٌ: الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ، فَالْمُثْبِتُونَ لِوُقُوعِهِ زَعَمُوا أَنَّ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَقِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَتَحْرِيمَ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَحَدَّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، وَجَزَاءَ الصَّيْدِ، وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ، وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ ثَبَتَتْ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ.

ص: 124

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْمَانِعُونَ لِلْوُقُوعِ احْتَجُّوا بِمَا سَبَقَ، مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِنَادُهُ إِلَى الِاجْتِهَادِ الظَّنِّيِّ، وَانْتِفَاءُ الْجَوَازِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُقُوعِ دِلَالَةَ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ، وَأَمَّا الصُّوَرُ الْمَذْكُورَةُ، فَهِيَ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ النُّصُوصِ، فَإِمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ بِقَوْلِهِ عليه السلام: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي، وَقَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي، فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ حُرِّمُ بِقَوْلِهِ عز وجل: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الْأَنْعَامِ: 145]، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الضَّمِيرِ.

قُلْتُ: وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، فَبِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ: وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَعِلَّتُهُ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ. وَكَذَلِكَ تَكَلَّفُوا لِبَقِيَّةِ الصُّوَرِ، وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْوُقُوعُ.

ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِوُقُوعِهِ عَنِ اجْتِهَادٍ، اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ مُخَالَفَتِهِ، وَالْأَشْبَهُ عَدَمُ جَوَازِهَا، لِأَنَّهُ سَبِيلُ الْأُمَّةِ، فَأَشْبَهَ الْمُنْعَقِدَ عَنْ قَاطِعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 125