المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الترجيح في الأدلة - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌ الترجيح في الأدلة

وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ إِنْكَارُ‌

‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

كَالْبَيِّنَاتِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذِ الْعَمَلُ بِالْأَرْجَحِ مُتَعَيِّنٌ.

وَقَدْ عَمِلَ الصَّحَابَةُ بِالتَّرْجِيحِ، وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيِّنَاتِ مُتَّجِهٌ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ مَشُوبٌ بِالتَّعَبُّدِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْدَلَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ لَمْ تُقْبَلْ، وَلَا تُقْبَلْ شَهَادَةُ جَمْعٍ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَثُرْنَ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ بِدُونِ رَجُلٍ، بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ، وَمَوْرِدُ التَّرْجِيحِ إِنَّمَا هُوَ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَسْمُوعَةِ، وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ تَمَسُّكٍ بِدَلِيلٍ، خِلَافًا لِعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَلَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ، إِذْ لَا غَايَةَ وَرَاءَ الْيَقِينِ، وَالْأَلْفَاظُ الْمَسْمُوعَةُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ إِذَا جَهِلَ التَّارِيخُ، أَوْ عُلِمَ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا فَالثَّانِي نَاسِخٌ إِذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ، وَالتَّنَاقُضُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ، فَأَحَدُ الْمُتَنَاقِضِينَ بَاطِلٌ، إِمَّا لِكَذِبِ النَّاقِلِ أَوْ خَطَئِهِ بِوَجْهٍ مَا فِي النَّقْلِيَّاتِ ; أَوْ خَطَأِ النَّاظِرِ فِي النَّظَرِيَّاتِ، أَوْ لِبُطْلَانِ حُكْمِهِ بِالنَّسْخِ، وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَنَحْوِهَا.

ــ

قَوْلُهُ: «وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ إِنْكَارُ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ كَالْبَيِّنَاتِ» ، أَيْ: قَالَ: لَا يُرَجَّحُ بَعْضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يُرَجَّحُ بَعْضُ الْبَيِّنَاتِ.

قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ بِشَيْءٍ» . يَعْنِي قَوْلَ الْبَاقِلَّانِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ «الْعَمَلِ بِالْأَرْجَحِ مُتَعَيِّنٌ» عَقْلًا وَشَرْعًا، «وَقَدْ عَمِلَ الصَّحَابَةُ بِالتَّرْجِيحِ» مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ.

وَقَدْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل. . الْحَدِيثَ فَهَذَا تَقْدِيمٌ لِلْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَاةِ

ص: 679

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِالتَّرْجِيحِ. وَلَمَّا بَعَثَ بَعْضَ السَّرَايَا، اسْتَقْرَأَهُمْ الْقُرْآنَ، فَوَجَدَ فِيهِمْ رَجُلًا يَحْفَظُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَحْفَظُهَا غَيْرُهُ، فَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ تَرْجِيحًا لَهُ بِحِفْظِهَا. وَلَمَّا كَثُرَ الْقَتْلَى يَوْمَ أُحُدٍ، أَمَرَ بِدَفْنِ الْجَمَاعَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ: قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا وَبِالْجُمْلَةِ فَالتَّرْجِيحُ دَأْبُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ حَيْثُ احْتَاجَ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: «وَالْتِزَامُهُ» ، أَيْ: الْتِزَامُ التَّرْجِيحِ «فِي الْبَيِّنَاتِ مُتَّجِهٌ» ، لِأَنَّ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا اخْتَصَّتْ بِمَا يُفِيدُ زِيَادَةَ ظَنٍّ، صَارَتِ الْأُخْرَى كَالْمَعْدُومَةِ، إِذْ

ص: 680

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَرْجُوحُ مَعَ الرَّاجِحِ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَازَ اسْتِعْمَالُ التَّرْجِيحِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْعَامَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِقَوَاعِدِهِ الْكُلِّيَّةِ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي أَدِلَّتِهِ الْخَاصَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِفُرُوعِهِ الْجُزْئِيَّةِ أَوْلَى. لَا يُقَالُ: لَوِ اسْتَعْمَلْنَا الرُّجْحَانَ فِي الْبَيِّنَاتِ لَأَفْضَى إِلَى تَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ أَوْ إِبْطَالِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّمَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَمْكَنَ أَنْ يُؤْتَى بِأَرْجَحَ مِنْهَا، وَهُوَ خِلَافُ مَقْصُودِ الشَّرْعِ مِنْ نَصْبِ الْحُكَّامِ، وَهُوَ تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ، وَفَصْلُ الْخِصَامِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: نَحْنُ إِذَا اسْتَعْمَلْنَا التَّرْجِيحَ فِي الْبَيِّنَاتِ فَإِنَّمَا نَسْتَعْمِلُهُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ حُكْمٌ، فَإِذَا حُكِمَ بِهَا مَضَتْ شَهَادَتُهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ صِيَانَةً لِحُكْمِ الشَّرْعِ عَنِ النَّقْضِ ضَبْطًا لِلْأَحْكَامِ عَنِ الِاضْطِرَابِ، لَا احْتِرَامًا لِلْبَيِّنَةِ الْمَرْجُوحَةِ. وَهَذَا كَمَا قُلْنَا: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ، يُعْمَلُ بِاجْتِهَادِ الثَّانِي فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَلَا يُنْقَضُ مَا حُكِمَ بِهِ أَوَلًا، مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مَرْجُوحًا، فَنِسْبَةُ الِاجْتِهَادِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ فِي الرُّجْحَانِ كَنِسْبَةِ الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى فِيهِ، وَاتِّصَالُ الْحُكْمِ بِالْمَرْجُوحِ عَاصِمٌ لَهُ مِنَ النَّقْضِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي تَرْجِيحِ أَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَالشَّاهِدَيْنِ عَلَى شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَجْهَيْنِ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا» ، أَيْ: بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، هُوَ «أَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ مَشُوبٌ بِالتَّعَبُّدِ» بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّاهِدَ «لَوْ أَبْدَلَ لَفَظَ الشَّهَادَةِ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ» أَوِ الْعِلْمِ فَقَالَ: أَخْبَرَ أَوْ أَعْلَمَ مَكَانَ: أَشْهَدَ ; «لَمْ تُقْبَلْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ جَمْعٍ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَثُرْنَ» وَبَلَغْنَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً «عَلَى» يَسِيرٍ مِنَ الْمَالِ وَلَوْ «بَاقَةُ بَقْلٍ» حَتَّى

ص: 681

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَكُونَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، مَعَ أَنَّ شَهَادَةَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنَ النِّسَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ الْعِلْمُ التَّوَاتُرِيُّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِثُبُوتِ التَّعَبُّدِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ التَّرْجِيحِ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ «بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ» ، إِذْ لَا تَعَبُّدَ فِيهَا، وَالتَّرْجِيحُ أَمْرٌ مُفِيدٌ مَعْقُولٌ، فَلَا مَانِعَ لَهُ مِنْ لُحُوقِهَا، وَالْمُقْتَضِي مَوْجُودٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ بِمَا يُمْكِنُ مِنَ الظَّنِّ أَوِ الْعِلْمِ. فَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرَهُ الْبَاقِلَّانِيُّ بِوَجْهَيْنِ ; الْتِزَامُ الْحُكْمِ بِالتَّرْجِيحِ فِي الْبَيِّنَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ قَالَ بِهِ الْبَاقِلَّانِيُّ، ثُمَّ تَرَكَهُ، إِذْ لَا يُظَنُّ بِمِثْلِهِ الْإِصْرَارُ عَلَى مَثَلِ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ ظُهُورِ ضَعْفِهِ.

تَنْبِيهٌ: لَوْ عَلِمَ الْحَاكِمُ يَقِينًا خِلَافَ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا عَلِمَهُ، وَيَصِيرَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ مُنْكَرٍ اخْتَصَّ بِعِلْمِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِزَالَتِهِ، بَلْ هَذَا هُوَ عَيْنُ ذَاكَ وَصُورَةٌ مِنْ صُوَرِهِ.

قَوْلُهُ: «وَمَوْرِدُ التَّرْجِيحِ» - أَيِ: الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ - «إِنَّمَا هُوَ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَسْمُوعَةِ» كَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَظَوَاهِرِهَا «وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ» كَأَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَالتَّنْبِيهَاتِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ النُّصُوصِ، أَمَّا الْقَوَاطِعُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ فِيهَا، إِذْ أَحَدُ الْقَاطِعَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ يَكُونُ كَذِبًا قَطْعًا.

قَوْلُهُ: «فَلَا مَدْخَلَ لَهُ» ، أَيْ: حَيْثُ اخْتَصَّ التَّرْجِيحُ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، «فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ تَمَسُّكٍ بِدَلِيلٍ خِلَافًا لِعَبْدِ الْجَبَّارِ» .

ص: 682

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ فِي «الرَّوْضَةِ» ، وَإِنَّمَا نَقَلْتُهَا وَالَّتِي قَبْلَهَا فِيمَا أَظُنُّ مِنْ جَدَلِ ابْنِ الْمَنِّيِّ الْمُسَمَّى «جَنَّةُ النَّاظِرِ وَجُنَّةُ الْمَنَاظِرِ» . وَقَوْلُهُ:«مِنْ غَيْرِ تَمَسُّكٍ بِدَلِيلٍ» أَحْسَبُ أَنِّي أَنَا زِدْتُهُ قَيْدًا فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْجَبَّارِ يَقُولُ: إِنَّ التَّرْجِيحَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْمَذَاهِبِ بِحَيْثُ يُقَالُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ.

حُجَّةُ عَبْدِ الْجَبَّارِ: أَنَّ الْمَذَاهِبَ آرَاءٌ وَاعْتِقَادَاتٌ مُسْنَدَةٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَاتِ، وَهِيَ تَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَجَازَ دُخُولُ التَّرْجِيحِ فِيهَا، كَالْأَدِلَّةِ.

حُجَّةُ الْمَانِعِينَ تَتَّجِهُ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَذَاهِبَ لِتَوَافُرِ انْهِرَاعِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَتَعْوِيلِهِمْ عَلَيْهَا صَارَتْ كَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا تَرْجِيحَ فِي الشَّرَائِعِ.

قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ انْهِرَاعَ النَّاسِ إِلَيْهَا لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا ظَنِّيَّةً تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تُشْبِهُ الشَّرَائِعَ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّرَائِعَ لَا تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَحَاسِنِ، وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ جَمِيعِهَا قَاطِعًا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ مَدْخَلٌ فِي الْمَذَاهِبِ لَاضْطَرَبَتِ النَّاسُ وَلَمْ يَسْتَقِرْ أَحَدٌ عَلَى مَذْهَبٍ، إِذْ كَانَ كُلَّمَا ظَهَرَ لَهُ رُجْحَانُ مَذْهَبٍ دَخَلَ فِيهِ وَتَرَكَ مَذْهَبَهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّرْجِيحِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَمَا سَبَقَ فِي تَرْجِيحِ الْبَيِّنَاتِ.

ص: 683

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَاللَّازِمُ مِنْهُ مُلْتَزِمٌ، وَكُلُّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ رُجْحَانُ مَذْهَبٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِيهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْأَخْذُ بِأَرْجَحِ الدَّلِيلَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا اتِّجَاهَ الرُّجْحَانِ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالْتِزَامَهُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ لَيْسَ مُتَمَحِضًا فِي الْخَطَأِ وَلَا فِي الصَّوَابِ، بَلْ هُوَ مُصِيبٌ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، مُخْطِئٌ فِي بَعْضِهَا. وَعَلَى هَذَا، فَالْمَذْهَبَانِ لَا يَقْبَلَانِ التَّرْجِيحَ لِإِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، أَوْ بَيْنَ خَطَأَيْنِ وَصَوَابَيْنِ، وَالْخَطَأُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّرْجِيحِ فِيهِ اتِّفَاقًا.

قُلْتُ: وَهَذَا الْوَجْهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ مَنْ نَفَى التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ: لَا يَصِحُّ تَرْجِيحَ مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ عَلَى مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ آخَرَ لِمَا ذَكَرَ، وَمَنْ أَثْبَتَ التَّرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، أَثْبَتَهُ بِاعْتِبَارِ مَسَائِلِهَا الْجُزْئِيَّةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْحَدَثِ طَهُورٌ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ طَهُورٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي إِجْزَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَنَحْوُهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أَرْجَحُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي طَهَارَةِ الْأَعْيَانِ بِالِاسْتِحَالَةِ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الْقَابِلَةِ لِلرُّجْحَانِ وَالْمَرْجُوحِيَّةِ. وَحِينَئِذٍ يَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِنَا: يَجُوزُ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذَاهِبِ، وَلَا يَجُوزُ، لِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْحُكْمِ بِالْكُلِّ وَالْجُزْءِ، كَمَا يُقَالُ: الزِّنْجِيُّ أَسْوَدُ، الزِّنْجِيُّ لَيْسَ بِأَسْوَدَ حَيْثُ أَثْبَتْنَا السَّوَادَ لِجِلْدِهِ، وَنَفَيْنَاهُ عَنْ أَسْنَانِهِ.

ص: 684

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ بِمَا ذَكَرْتُهُ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَكَانَ النِّزَاعُ مَعْنَوِيًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُهُ النِّزَاعَ فِي التَّصْوِيبِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ امْتَنَعَ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذَاهِبِ عِنْدَهُ، إِذْ مَاهِيَّةُ الصَّوَابِ أَوِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ لَا تَرْجِيحَ فِيهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا اتَّجَهَ التَّرْجِيحُ عِنْدَهُ فِي الْمَذَاهِبِ لِتَتَمَيَّزَ بِالنَّظَرِ الْحُجَّةُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَالصَّوَابُ مِنَ الْخَطَأِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ هَهُنَا مَبْنِيًا عَلَى تَعَادُلِ الْأَمَارَاتِ، فَمَنْ يَمْنَعْهُ يَمْنَعِ التَّرْجِيحَ فِي الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّ الرُّجْحَانَ فِيهَا بَيِّنٌ مِنْ تَفَاوُتِ أَمَارَاتِهَا، وَمَنْ يُجِيزُهُ يُجِيزُ التَّرْجِيحَ فِي الْمَذَاهِبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، إِذْ مَعَ تَعَادُلِ الْأَمَارَاتِ يَشْتَبِهُ الصَّوَابُ بِالْخَطَأِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَمَارَتَيْنِ لِتَمْيِيزِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، وَاحْتِمَالُ التَّعَادُلِ قَائِمٌ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ.

وَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ: أَنَّ لِلتَّرْجِيحِ مَدْخَلًا فِي الْمَذَاهِبِ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالِ، فَبِأَنْ نَقُولَ: مَذْهَبُ فُلَانٍ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ فُلَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ يَصِحُّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلْيَصِحَّ مُطْلَقًا:

أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ الْمَذَاهِبِ مِنْ جِهَةِ صِحَّةِ مَقَايِيسِهِ، وَاعْتِبَارِهِ الْمُنَاسَبَاتِ الْمُؤَثِّرَةَ، وَمَذْهَبُ الْبَاقِينَ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ، وَمَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ

ص: 685

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَسْلَمُ لِجُمُودِهِ عَلَى الْأَثَرِ، وَمَذْهَبُ الْقَيَّاسِينَ مَرْجُوحٌ لِمُخَاطَرَتِهِمْ بِالتَّصَرُّفِ بِالرَّأْيِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا فَاسِدًا.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ مُطْلَقًا مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَمَا جَازَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْجُمْلَةِ جَازَ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَلَمَّا جَازَ رُجْحَانُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، جَازَ رُجْحَانُهُ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الْجَوَازِ لَا فِي الْوُقُوعِ.

وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلِ، فَبِأَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْ هَذَا الْحُكْمُ فِي مَذْهَبِ فُلَانٍ أَرْجَحُ مِنْهَا - أَوْ مِنْهُ - فِي مَذْهَبِ فُلَانٍ، لِأَنَّ هَذَا - أَعْنِي التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا - لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَمَنِ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.

ثُمَّ إِنَّ التَّرْجِيحَ فِي الْمَذَاهِبِ وَاقِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ قَطْعًا، وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اقْتَسَمُوا الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ وَغَيْرَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، كَمَذْهَبِ سُفْيَانَ، وَدَاوُدَ، وَغَيْرِهِمَا. فَكُلُّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ بِمَذْهَبٍ تَعَبَّدَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ دِينًا، حَتَّى غَلَبَ مَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى غَالِبِ الْبِلَادِ بَيْنَهُمَا، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ عَلَى أَهْلِ جِيلَانَ، فَكُلُّ مَنِ الْتَزَمَ مَذْهَبًا، فَإِنَّمَا هُوَ لِرُجْحَانِهِ عِنْدَهُ بِتَرْجِيحِهِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنِ الْتَزَمَ أَيَّ مَذْهَبٍ شَاءَ بِذَلِكَ التَّرْجِيحِ، فَكَانَ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذَاهِبِ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ: «وَلَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ» ، أَيْ: وَلَا مَدْخَلَ لِلتَّرْجِيحِ فِي الْقَطْعِيَّاتِ، «إِذْ لَا غَايَةَ وَرَاءَ الْيَقِينِ» .

ص: 686

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَعْنِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ التَّرْجِيحِ تَزَايُدُ الظَّنَّ بِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَفِي الْقَطْعِيَّاتِ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ مَعْلُومًا يَقِينًا، وَلَا غَايَةَ وَرَاءَ الْيَقِينِ تُطْلَبُ، فَيَسْتَحِيلُ التَّرْجِيحُ لِعَدَمِ الْقَابِلِ لَهُ. وَهَذَا كَمَنْ يَمْشِي عَلَى جَبَلٍ، أَوْ سَطْحٍ، فَلَا يَزَالُ الْمَشْيُ مُمْكِنًا مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَافَّتِهِ، فَيَسْتَحِيلُ مِنْهُ لِانْتِهَاءِ غَايَةِ الْمَشْيِ، فَلَوْ زَادَ بَعْدَ انْتِهَائِهِ إِلَى الطَّرَفِ خُطْوَةً، لَصَارَ مَشْيُهُ فِي الْهَوَاءِ، وَهُوَ مُحَالٌ، بَلْ يَقَعُ الْمَاشِي فَيَهْلِكُ، أَوْ يَتَأَذَّى.

قَوْلُهُ: «وَالْأَلْفَاظُ الْمَسْمُوعَةُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ، أَوْ عُلِمَ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا فَالثَّانِي نَاسِخٌ» .

اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَوْرِدَ التَّرْجِيحِ هُوَ الْأَلْفَاظُ الْمَسْمُوعَةُ وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةُ، شَرَعَ الْآنَ يُبَيِّنُ مَا هِيَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَعَارُضِهَا وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا، فَالْأَلْفَاظُ الْمَسْمُوعَةُ هِيَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ، فَإِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ، فَإِمَّا،أَنْ يُجْهَلَ تَارِيخُهُمَا، أَوْ يُعْلَمُ، فَإِنْ جُهِلَ، قَدَّمْنَا الْأَرْجَحَ مِنْهُمَا بِبَعْضِ وُجُودِ التَّرْجِيحِ، وَإِنْ عُلِمَ تَارِيخُهُمَا، فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ، أَوْ لَا، فَإِنْ أَمْكَنَ، جُمِعَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ الْجَمْعُ، إِذِ الْوَاجِبُ اعْتِبَارُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ جَمِيعِهَا مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَالثَّانِي نَاسِخٌ إِنْ صَحَّ سَنَدُهُمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا كَذِبٌ إِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، «إِذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ، وَالتَّنَاقُضُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ، فَأَحَدُ الْمُتَنَاقِضَيْنِ» يَكُونُ بَاطِلًا، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا، أَوْ لِكَذِبِ نَاقِلِهِ، أَوْ لِخَطَئِهِ «بِوَجْهٍ

ص: 687

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَا» مِنْ وُجُوهِ تَصْحِيفٍ أَوْ وَهُمٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ «فِي النَّقْلِيَّاتِ» ، أَوْ لِخَطَأِ «النَّاظِرِ فِي النَّظَرِيَّاتِ» كَالْإِخْلَالِ بِشَكْلِ الْقِيَاسِ أَوْ شَرْطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. هَذَا عَلَى تَرْتِيبِ «الْمُخْتَصَرِ» فِي تَقْسِيمِهِ، وَفِيهِ تَنْبِيهَانِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: «فَيَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ، أَوْ عُلِمَ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ» ، فَإِنَّ هَذَا مُوهِمٌ بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّرْجِيحَ يَدْخُلُهَا فِي الْحَالَيْنِ، أَيْ: فِيمَا إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ وَفِيمَا إِذَا عُلِمَ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ.

وَلَسْتُ أَدْرِي الْآنَ مَا أَرَدْتُ وَقْتَ الِاخْتِصَارِ، وَالَّذِي يَتَّجِهُ الْآنَ مِنْهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّصَّيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ، جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا.

وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: «فِي الْجُمْلَةِ» . يَعْنِي وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالتَّنْزِيلِ عَلَى زَمَانَيْنِ أَوْ حَالَيْنِ، وَالْأَحْوَالُ كَثِيرَةٌ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا قَوِيًّا ظَاهِرًا، أَوْ ضَعِيفًا خَفِيًّا، لِأَنَّ حَمْلَ النَّصِّ عَلَى مَعْنًى خَفِيٍ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِهِ بِكُلِّ حَالٍ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَالنَّصَّانِ، إِمَّا أَنْ لَا يَصِحَّ سَنَدُهُمَا. فَلَا اعْتِبَارَ بِهِمَا، أَوْ يَصِحَّ سَنَدُ أَحَدِهِمَا فَقَطْ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالْآخَرِ، فَلَا تَعَارُضَ، أَوْ يَصِحَّ سَنَدُهُمَا، فَإِمَّا أَنْ لَا يَتَعَارَضَا، فَلَا إِشْكَالَ، أَوْ يَتَعَارَضَا، فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ لَا ; فَإِنْ أَمْكَنَ تَعَيَّنَ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا، فَالثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، أَوْ لَا يُعْلَمَ، فَيُرَجَّحُ بَيْنَهُمَا بِبَعْضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا كَانَ أَحَدُهُمَا مَنْسُوخًا أَوْ كَذِبًا. فَهَذِهِ الْقِسْمَةُ أَضْبَطُ وَأَوْلَى مِنْ قِسْمَةِ «الْمُخْتَصَرِ» ، فَلْتَكُنِ الْعُمْدَةُ عَلَيْهَا.

وَقَدْ يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي النُّصُوصِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ الْجَمْعِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ

ص: 688

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بْنُ رُشْدٍ فِي «قَوَاعِدِهِ» كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ تَقْدِيمُ الْجَمْعِ عَلَى التَّرْجِيحِ مَا أَمْكَنَ، إِلَّا أَنْ يُفْضِيَ الْجَمْعُ إِلَى تَكَلُّفٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَرَاءَةُ الشَّرْعِ مِنْهُ، وَيَبْعُدُ أَنَّهُ قَصَدَهُ، فَيَتَعَيَّنُ التَّرْجِيحُ ابْتِدَاءً.

قَوْلُهُ: «وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ وَالْأَقْيِسَةِ وَنَحْوِهَا» مِنَ التَّنْبِيهَاتِ وَاسْتِصْحَابِ الْأَحْوَالِ، كَمَا إِذَا تَعَارَضَ أَصْلَانِ، فَرَجَّحْنَا أَحَدَهُمَا، كَمَنْ قَدَّ مَلْفُوفًا نِصْفَيْنِ، وَادَّعَى وَلِيُّهُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا، فَالْأَصْلُ حَيَاتُهُ وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْجَانِي، فَلِلْمُجْتَهِدِ تَرْجِيحُ مَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى تَرْجِيحِهِ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 689