المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

ثُمَّ هَهُنَا مَسَائِلٌ:

الْأُولَى: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِ‌

‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- لِلْغَائِبِ عَنْهُ، وَلِلْحَاضِرِ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ مُطْلَقًا.

وَقِيلَ: فِي الْحَاضِرِ دُونَ الْغَائِبِ.

لَنَا: حَدِيثُ مُعَاذٍ، وَحُكْمُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِاجْتِهَادٍ بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَذِنَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَلِرَجُلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مُحَالَ فِيهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ.

قَالُوا: كَيْفَ يَعْمَلُ بِالظَّنِّ مَعَ إِمْكَانِ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ.

قُلْنَا: لَعَلَّهُ لِمَصْلَحَةٍ، ثُمَّ قَدْ تُعُبِّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحُكْمِ بِالشُّهُودِ وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَعَ إِمْكَانِ الْوَحْيِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ بِالْحَقِّ الْجَازِمِ فِيهَا.

ــ

«ثُمَّ هَهُنَا مَسَائِلُ» ، يَعْنِي مَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ فِي الِاجْتِهَادِ، هُوَ كَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ لَهُ، ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ كَالْجُزْئِيَّاتِ:

الْمَسْأَلَةُ «الْأُولَى: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالِاجْتِهَادِ» مِنْ قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ، «فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْغَائِبِ عَنْهُ» . أَمَّا «الْحَاضِرُ» ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ «بِإِذْنِهِ» عليه الصلاة والسلام، وَأَمَّا بِدُونِ إِذْنِهِ، فَأَجَازَهُ «أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَهُ» ، أَيْ: وَمَنَعَ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «قَوْمٌ مُطْلَقًا» ، يَعْنِي لِلْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ، بِإِذْنِهِ أَوْ بِدُونِهِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: يَمْتَنِعُ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ الْغَائِبِ عَنْهُ، فَالْمَذَاهِبُ إِذَنْ ثَالِثُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَرَابِعُهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» الْوَقْفُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ.

ص: 589

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ وَالْجَوَازَ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فِي غَيْبَتِهِ، لَا فِي حُضُورِهِ، دُونَ غَيْرِهِمْ، وَالْمُجَوِّزُونَ مِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ الْإِذْنَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى بِالسُّكُوتِ، وَاخْتَارَ هُوَ الْجَوَازَ فِي غَيْبَتِهِ وَحَضْرَتِهِ، مَعَ إِذْنِهِ أَوْ سُكُوتِهِ.

قُلْتُ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ أَظُنُّهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَالنِّزَاعُ إِمَّا فِي الْجَوَازِ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، أَوْ فِي الْوُقُوعِ، وَالظَّاهِرُ إِثْبَاتُ الْجَمِيعِ.

قَوْلُهُ: «لَنَا» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: لَنَا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: «حَدِيثُ مُعَاذٍ» حَيْثُ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حُكْمٌ بِالِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِهِ.

قُلْتُ: لَكِنْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ، أَوْ بَيْنَ الْغَائِبِ وَغَيْرِهِ، لَا يَلْزَمُهُ هَذَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، حَكَمَ فِي قُرَيْظَةَ، لَمَّا حَصَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ: أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ عليه السلام فَصَوَّبَ حُكْمَهُ وَقَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ. أَوْ: سَمَاوَاتٍ.

ص: 590

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَمَنْ يَجْعَلُ سَعْدًا وَالِيًا، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَالِي وَغَيْرِهِ، لَا يَلْزَمُهُ هَذَا أَيْضًا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عليه السلام أَذِنَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَلِرَجُلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، أَيْ: فِي الِاجْتِهَادِ، فَقَالَ لِعَمْرٍو فِي بَعْضِ الْقَضَايَا:«احْكُمْ» ، فَقَالَ: أَجْتَهِدُ وَأَنْتَ حَاضِرٌ؟ ! قَالَ: نَعَمْ إِنْ أَصَبْتَ فَلَكَ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ أَجْرٌ وَقَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَصَاحِبَيْهِ: اجْتَهِدُوا فَإِنْ أَصَبْتُمْ، فَلَكُمْ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتُمْ فَلَكُمْ حَسَنَةٌ فَهَذَا مِنْ غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ.

قُلْتُ: وَمَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِذْنِ وَغَيْرِهِ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا، لِأَنَّهُ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّارِعِ.

قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآثَارُ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَلَمْ أَقِفْ مِنْهَا إِلَّا عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى سَائِرِ التَّفَاصِيلِ فِيهِ، لَا هُوَ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ، فَالِاجْتِهَادُ فِي زَمَنِهِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ بَيِّنٌ غَنِيٌّ عَنْ تَقْرِيرِ مُقَدَّمَاتِهِ.

قَوْلُهُ: «قَالُوا» يَعْنِي الْمَانِعِينَ، قَالُوا: الِاجْتِهَادُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَمَلٌ بِالظَّنِّ، مَعَ إِمْكَانِ عِلْمِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ بِالْوَحْيِ، مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ

ص: 591

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عليه السلام، وَالْعُدُولُ عَنِ الْعِلْمِ إِلَى الظَّنِّ غَيْرُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ تَهَاوُنٌ بِالْأَحْكَامِ، وَتَرْكٌ لِلْأَقْوَى مِنْهَا إِلَى الْأَضْعَفِ، فَلَا يَجُوزُ، كَتَرْكِ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ إِلَى الْقِيَاسِ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا» : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ مَعَ إِمْكَانِ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ «لَعَلَّهُ لِمَصْلَحَةٍ» ، أَيْ: لَعَلَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ، وَالشَّرْعُ مَوْضُوعٌ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَ مَصْلَحَةً، وَقَدْ وَقَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَدْ تُعُبِّدَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا نَقْضٌ لِدَلِيلِهِمُ الْمَذْكُورِ، أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ جَوَابِنَا عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ، هُوَ مَنْقُوضٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ تُعُبِّدَ بِالْحُكْمِ فِي الْحُقُوقِ «بِالشُّهُودِ وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ» ، وَهُوَ إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ «مَعَ إِمْكَانِ الْوَحْيِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ» مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ «بِالْحَقِّ الْجَازِمِ» ، وَالْعِلْمِ الْقَاطِعِ «فِيهَا» .

وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الْجَوَازِ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَا، وَالْجَوَابُ بِمَنْعِ كَوْنِهَا قَطْعِيَّةً.

ص: 592

الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ.

لَنَا: لَا مُحَالَ ذَاتِيَّ، وَلَا خَارِجِيَّ.

قَالُوا: يُمْكِنُهُ التَّحْقِيقُ بِالْوَحْيِ، وَالِاجْتِهَادُ عُرْضَةُ الْخَطَأِ.

قُلْنَا: الظَّنُّ مُتَّبَعٌ شَرْعًا وَلَا يُخْطِئُ لِعِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ، أَوْ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ فَيَسْتَدْرِكُ، أَمَّا وُقُوعُهُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيَّةُ، وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ.

لَنَا: (اعْتَبِرُوا) وَهُوَ عَامٌّ، فَيَجِبُ الِامْتِثَالُ، وَعُوتِبَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَالْإِذْنِ لِلْمُخَلَّفِينَ، وَلَوْ كَانَ نَصًّا لَمَا عُوتِبَ، وَقَالَ:«إِلَّا الْإِذْخِرَ» وَ «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ. لَوَجَبَتْ» وَلَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا لَمَا قَتَلْتُهُ، وَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ وَالْحُبَابُ: إِنْ كَانَ هَذَا بِوَحْيٍ فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الرَّأْيَ، فَقَالَ: بَلْ بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ رَأَيْتُهُ وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ.

وَقَدْ حَكَمَ دَاوُدُ عليه السلام بِاجْتِهَادِهِ وَإِلَّا لَمَا خَالَفَهُ سُلَيْمَانُ، وَإِلَّا لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ» .

اعْلَمْ أَنَّ مَا فِيهِ نَصٌّ إِلَهِيٌّ؛ لَا يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ بِخِلَافِ النَّصِّ شَرْعًا، لِقَوْلِهِ عز وجل:{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الْأَنْعَامُ: 106] . أَمَّا مَا

ص: 593

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَا نَصَّ فِيهِ، فَهَلْ هُوَ مُتَعَبَّدٌ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَالْمَذَاهِبُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ:

أَحَدُهَا: الْإِثْبَاتُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ.

وَالثَّانِي: النَّفْيُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَائِيِّ، وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ.

وَالثَّالِثُ: الْإِثْبَاتُ فِي الْحُرُوبِ وَالْآرَاءِ، دُونَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالرَّابِعُ: تَجْوِيزُهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِهِ. حَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي رِسَالَتِهِ.

قَالَ: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَوُقُوعِهِ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ، وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يُنَازِعُ فِي الْجَوَازِ عَقْلًا، إِنَّمَا يُنَازِعُ مَنْ يُنَازِعُ فِيهِ شَرْعًا.

وَأَمَّا الْوُقُوعُ، فَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِيهِ أَقْوَالًا، ثَالِثُهَا الْوَقْفُ وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: تَوَقَّفَ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْكُلِّ، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ الْجَوَازَ وَالْوُقُوعَ.

وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا يُوسُفَ قَالَا بِالْوُقُوعِ.

قَوْلُهُ: «لَنَا» ، أَيْ: الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ أَنَّهُ «لَا مُحَالَ» فِيهِ «ذَاتِيٌّ وَلَا خَارِجِيٌّ» ، أَيْ: لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ.

قَوْلُهُ: «قَالُوا:» . هَذِهِ حُجَّةُ الْخَصْمِ.

وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُ عليه السلام يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُ الْأَحْكَامِ، وَتَحْقِيقُهَا بِالْوَحْيِ، «وَالِاجْتِهَادُ عُرْضَةُ الْخَطَأِ» فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصَّوَابِ قَطْعًا. وَهَذَا نَحْوٌ مِمَّا سَبَقَ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ «الظَّنَّ مُتَّبَعٌ» فِي الشَّرْعِ، وَاجْتِهَادُهُ عليه السلام أَقَلُّ أَحْوَالِهِ

ص: 594

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَنْ يُفِيدَ الظَّنَّ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ كَغَيْرِهِ، وَأَوْلَى.

الثَّانِي: أَنَّ الِاجْتِهَادَ يُفِيدُ الظَّنَّ، وَظَنُّهُ عليه السلام لَا يُخْطِئُ لِعِصْمَةِ اللَّهِ عز وجل لَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ يُخْطِئُ لَكِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، بَلْ يُنَبَّهُ عَلَى الْخَطَأِ، فَيَسْتَدْرِكُهُ، وَالْكَلَامُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» إِلَى هَهُنَا فِي الْجَوَازُ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ: مَسْأَلَةُ التَّفْوِيضِ، وَهِيَ مَا إِذَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: احْكُمْ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ. وَهُوَ اجْتِهَادٌ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَوْلُهُ: «أَمَّا وُقُوعُهُ» ، أَيْ: وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، «فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيَّةُ، وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ» . وَقَدْ سَبَقَتْ حِكَايَةُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: لَنَا «اعْتَبِرُوا» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: لَنَا عَلَى وُقُوعِهِ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عز وجل: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الْحَشْرِ: 2] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ، فَيَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ، وَإِلَّا كَانَ عَاصِيًا، وَهُوَ مَعَ عِصْمَةِ النُّبُوَّةِ مُحَالٌ.

قُلْتُ: هَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ عليه السلام «عُوتِبَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ» ، حَيْثُ قَبِلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ عز وجل: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: 67، 68] ، وَعُوتِبَ فِي إِذْنِهِ لِلْمُخَلَّفِينَ عَنِ الْقِتَالِ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ، بِقَوْلِهِ عز وجل:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التَّوْبَةِ:

ص: 595

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

43] ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَمَلًا مِنْهُ بِالنَّصِّ، لَمَا عُوتِبَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا قَالَ فِي شَأْنِ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا قَالَ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لِبُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا - أَوْ: لِقُبُورِنَا - فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ بِاجْتِهَادِهِ، إِجَابَةً لِلْعَبَّاسِ رضي الله عنه إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، إِذْ لَوْ دَخَلَ الْإِذْخِرُ فِي عُمُومِ الْمَنْعِ مِنْهُ؛ لَمَا جَازَ أَنْ يُجِيبَ الْعَبَّاسَ إِلَيْهِ.

وَلَمَّا سَأَلَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ عَنِ الْحَجِّ: أَلِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِلْأَبَدِ؟ قَالَ: لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ: لِعَامِنَا، لَوَجَبَتْ الْكَلِمَةُ أَوِ الْحَجَّةُ مُكَرَّرَةٌ كُلَّ عَامٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ بِاجْتِهَادِهِ.

قُلْتُ: إِنَّمَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ إِنْ دَلَّ، وَالْكَلَامُ فِي الْوُقُوعِ. وَلَمَّا قَتَلَ النَّضْرُ بْنَ الْحَارِثِ بِبَدْرٍ، جَاءَتْ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، فَأَنْشَدَتْهُ أَبْيَاتًا مِنْهَا:

ص: 596

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَمُحَمَّدٌ وَلَأَنْتَ نَجْلُ كَرِيمَةٍ

مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ

مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا

مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ

فَقَالَ عليه السلام: لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا قَبْلَ قَتْلِهِ، مَا قَتَلْتُهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ بِالنَّصِّ، لَمَا قَالَ ذَلِكَ.

«وَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ» : يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنهما لَمَّا أَرَادَ صُلْحَ الْأَحْزَابِ عَلَى شَطْرِ نَخْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَتَبَ بَعْضَ الْكِتَابِ بِذَلِكَ: إِنْ كَانَ بِوَحْيٍ، فَسَمْعًا وَطَاعَةً، «وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ، فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الرَّأْيَ» ، وَكَذَلِكَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ؛ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْزِلَ بِبَدْرٍ دُونَ الْمَاءِ؛ قَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ هَذَا بِوَحْيٍ، فَنَعَمْ، وَإِنْ كَانَ الرَّأْيَ وَالْمَكِيدَةَ، فَانْزِلْ بِالنَّاسِ عَلَى الْمَاءِ، لِتَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، فَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ بِوَحْيٍ إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ وَاجْتِهَادٌ رَأَيْتُهُ «وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِالِاجْتِهَادِ.

ص: 597

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَمَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحُرُوبِ وَالْآرَاءِ، وَالْأَحْكَامِ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا، وَلَا قِصَّةُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَفِدَاءِ الْأُسَارَى، وَالْإِذْنِ لِلْمُخَلَّفِينَ، لِأَنَّهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْحُرُوبِ.

وَيَرِدُ عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ جَمِيعِهَا جَوَازُ اقْتِرَانِ الْوَحْيِ بِهَا، أَوْ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ: إِذَا كَانَ كَذَا فَافْعَلْ كَذَا، وَتَخْصِيصُ قَضِيَّةِ الْحَجِّ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِهِ: لَوْ قُلْتُ: لِعَامِنَا، لَمَا قُلْتُ إِلَّا عَنْ وَحْيٍ، وَلَوَجَبَ - لَا مَحَالَةَ - تَكْرَارُهُ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عليهما السلام حَكَمَا فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ بِاجْتِهَادِهِمَا، أَمَّا دَاوُدُ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ، لَمَا جَازَ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام أَنْ يُخَالِفَهُ، وَلَا لِدَاوُدَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ، لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] عَلَى طَرِيقِ الْمَدْحِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ دَاوُدَ حَكَمَ بِالْوَحْيِ، فَلِذَلِكَ خَالَفَهُ، وَأَنَّ تَفْهِيمَ سُلَيْمَانَ كَانَ بِالنَّصِّ كَقَوْلِهِ عز وجل:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النِّسَاءِ: 113] وَهُوَ بِالْوَحْيِ.

وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ دَاوُدَ لَوْ حَكَمَ بِالْوَحْيِ، لَمَا رَجَعَ إِلَى قَوْلِ سُلَيْمَانَ، وَلَرَجَعَ سُلَيْمَانُ عَنْ رَأْيِهِ لَمَّا عَلِمَ بِالْوَحْيِ، وَسُلَيْمَانُ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ وَهُوَ صَبِيٌّ بَعْدُ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَبُّدِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم بِاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ نَبِيَّانِ قَدْ حَكَمَا بِاجْتِهَادِهِمَا. وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمَا وَبِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِقَوْلِهِ عز وجل:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الْأَنْعَامِ: 90] . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْأَمْرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ.

ص: 598

قَالُوا: مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَلَوِ اجْتَهَدَ لَنُقِلَ وَاسْتَفَاضَ، وَلَمَا انْتَظَرَ الْوَحْيَ، وَلَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ يُتَّهَمُ.

قُلْنَا: الْحُكْمُ عَنْ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ عَنِ الْهَوَى، لِاعْتِمَادِهِ عَلَى إِذْنٍ وَدَلِيلٍ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُقُوعِ النَّقْلُ، فَضْلًا عَنِ الِاسْتِفَاضَةِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مُشْتَهِرٌ، وَانْتِظَارُ الْوَحْيِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَاسْتِبْهَامِ وَجْهِ الْحَقِّ وَالتُّهْمَةِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، إِذْ قَدِ اتُّهِمَ فِي النَّسْخِ وَلَمْ يُبْطِلْهُ، وَلَا يَتْرُكُ حَقًّا لِبَاطِلٍ، ثُمَّ الِاجْتِهَادُ مَنْصِبُ كَمَالٍ لِشَحْذِهِ الْقَرِيحَةَ، وَحُصُولِ ثَوَابِهِ، فَهُوَ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى النَّاسِ بِهِ.

ــ

قَوْلُهُ: «قَالُوا» : يَعْنِي الْمَانِعِينَ احْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمٌ بِالْهَوَى، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ عز وجل:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النَّجْمِ: 3]، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] ، أَوْ نَقُولُ: هُوَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى عَمَلًا بِالْوَحْيِ الصَّادِقِ، وَالْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمٌ بِالْهَوَى، فَهُوَ لَا يَنْطِقُ بِهِ، فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: «لَوِ اجْتَهَدَ، لَنُقِلَ وَاسْتَفَاضَ» ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ مُسْتَفِيضًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ، وَالْقَضَايَا الَّتِي ذُكِرَتْ فِي ذَلِكَ مُحْتَمَلَةٌ، ثُمَّ هِيَ آحَادٌ لَا تُفِيدُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْأَحْكَامِ «لَمَا انْتَظَرَ الْوَحْيَ» فِي بَعْضِ

ص: 599

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْوَقَائِعِ، كَقِصَّةِ بَنَاتِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فِي تَرِكَةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ؛ حَتَّى نَزَلَتْ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّسَاءِ: 11] ؛ لَكِنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الْأَحْكَامِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَوِ اجْتَهَدَ فِي الْأَحْكَامِ، «لَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ» فِيهَا، كَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ، «فَكَانَ يُتَّهَمُ» بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الرَّأْيِ، وَكَانَ يَلْزَمُ مِنِ اجْتِهَادِهِ مَفْسَدَةٌ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَهِيَ مَفْسَدَةُ تَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ:

أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ، فَبِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ نُطْقٌ عَنِ الْهَوَى، لِاعْتِمَادِهِ عَلَى الْإِذْنِ وَالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، إِنَّمَا الْحُكْمُ بِالْهَوَى وَالنُّطْقُ عَنْهُ مَا لَا يَسْتَنِدُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ نَقْلُهُ، فَضْلًا عَنِ اسْتِفَاضَتِهِ، بَلْ كَمْ مِنْ قَضِيَّةٍ وَقَعَتْ وَلَمْ تُنْقَلْ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَايَاهُ الِاجْتِهَادِيَّةَ لَمْ تَشْتَهِرْ، بَلْ هِيَ مُسْتَفِيضَةٌ مُشْتَهِرَةٌ.

قَوْلُهُمْ: هِيَ مُحْتَمَلَةٌ.

قُلْنَا: احْتِمَالًا بَعِيدًا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُمْ: هِيَ آحَادٌ لَا تُفِيدُ.

ص: 600

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْنَا: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا آحَادٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الِاسْتِفَاضَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ تَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ.

وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ انْتِظَارَ الْوَحْيِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ عِنْدَ تَعَارُضِ مَدَارِكِ الْحُكْمِ، وَمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِ، «وَاسْتِبْهَامِ وَجْهِ الْحَقِّ» أَمَّا حَيْثُ ظَهَرَ لَهُ الْحُكْمُ، فَكَانَ يَجْتَهِدُ وَلَا يَنْتَظِرُ.

وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ، لَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ، وَالْفَرْقُ عِصْمَتُهُ، وَتَأْيِيدُهُ الْإِلَهِيُّ دُونَهُمْ. سَلَّمْنَاهُ؛ لَكِنْ غَايَةُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ «التُّهْمَةِ» ، لَكِنْ «لَا تَأْثِيرَ لَهَا، إِذْ قَدِ اتُّهِمَ فِي النَّسْخِ» حَتَّى قَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [الْبَقَرَةِ: 142]، وَحَتَّى قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَعْمَلُ بِرَأْيِهِ، فَيَعْمَلُ الْيَوْمَ شَيْئًا، وَيُخَالِفُهُ غَدًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَضِ تَطَرُّقُ التُّهْمَةِ بُطْلَانَ النَّسْخِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَرْكُ حَقٍ لِبَاطِلٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ الِاجْتِهَادُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَوْجِيهٌ آخَرُ لِوُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ، مُؤَكِّدٌ لِمَا سَبَقَ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ «الِاجْتِهَادَ مَنْصِبُ كَمَالٍ لِشَحْذِهِ الْقَرِيحَةَ» بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَمُقَدَّمَاتِهَا، «وَحُصُولِ ثَوَابِهِ» ، أَيْ: ثَوَابِ الِاجْتِهَادِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْعَابِ النَّفْسِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ، فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «أَوْلَى النَّاسِ بِهِ» ، ضَمًّا لِكَمَالِ الِاجْتِهَادِ الْكَسْبِيِّ السَّلْبِيِّ إِلَى الْكَمَالِ الْمُنْتِجِيِّ الْإِلَهِيِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 601

الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَقُّ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَيْنًا فِي فُرُوعِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ، وَمَنْ عَدَاهُ مُخْطِئٌ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي فُرُوعٍ وَلَا قَاطِعَ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ، مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ وَالْجَاحِظُ: لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ مَعَ الْجِدِّ فِي طَلَبِهِ مُطْلَقًا، حَتَّى مُخَالِفِ الْمِلَّةِ. وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْإِثْمُ لَاحِقٌ لِلْمُخْطِئِ مُطْلَقًا، إِذْ فِي الْفُرُوعِ حَقٌّ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالْعَقْلُ قَاطِعٌ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ لِغَيْرِهِ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قَاطِعٌ، بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ، وَرُبَّمَا أَنْكَرُوا الْحُكْمَ بِالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ " الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَقُّ " فِي " قَوْلِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَيْنًا "، أَيْ: الْمُصِيبُ مُعَيَّنٌ " فِي فُرُوعِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ، وَمَنْ عَدَاهُ مُخْطِئٌ، ثُمَّ إِنْ كَانَ " يَعْنِي خَطَأَ الْمُخْطِئِ " فِي فُرُوعِ " الدِّينِ، " وَلَا قَاطِعَ "، أَيْ: وَلَيْسَ هُنَاكَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَيْهِ، " فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ، مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ وَالْجَاحِظُ: لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ، مَعَ الْجِدِّ فِي طَلَبِهِ مُطْلَقًا " يَعْنِي فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، " حَتَّى مُخَالِفِ الْمِلَّةِ " كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالدَّهْرِيَّةِ؛ لَوْ جَدُّوا فِي

ص: 602

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

طَلَبِ الْحَقِّ وَلَمْ يُعَانِدُوا. " وَالظَّاهِرِيَّةُ "، أَيْ: وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ " وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ " الْإِثْمُ لَاحِقٌّ لِلْمُخْطِئِ مُطْلَقًا، إِذْ فِي الْفُرُوعِ حَقٌّ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالْعَقْلُ قَاطِعٌ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ لِغَيْرِهِ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قَاطِعٌ "، يَعْنِي أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ وَبَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ، مِنْهُمْ بِشْرُ الْمَرِيسِيُّ، وَابْنُ عَلِيَّةَ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ، وَالْإِمَامِيَّةُ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، قَالُوا: إِنَّ " الْإِثْمَ لَاحِقٌّ لِلْمُخْطِئِ مُطْلَقًا " فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَعِبَارَةُ " الرَّوْضَةِ " وَ " الْمُسْتَصْفَى ": إِنَّ الْإِثْمَ غَيْرُ مَحْطُوطٍ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ. فَفَهِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ أَوْلَى، لِأَنَّ فِي الْفُرُوعِ حَقًّا مُتَعِيِّنًا، عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَمَا ثَبَتَ مِنْهَا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ، فَهُوَ ثَابِتٌ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قَطْعًا، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍ، إِذْ لَا مَجَالَ لِلظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ.

قَوْلُهُ: " بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمْ ". أَيْ: وَإِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، " بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ، وَرُبَّمَا أَنْكَرُوا الْحُكْمَ بِالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ "، لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَدَارِكُ الظُّنُونِ فِي الشَّرْعِ، فَإِذَا أَنْكَرُوهَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ مَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، كَالنَّصِّ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّهَا تُفِيدُ الْعِلْمَ عِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ.

قَالَ الْآمِدِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ الْفِقْهِيَّةُ ظَنِّيَّةً؛ فَإِنْ كَانَ فِيهَا نَصٌّ، وَقَصَّرَ الْمُجْتَهِدُ فِي طَلَبِهِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ، أَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌّ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِهِ، فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو الْهُذَيْلِ، وَالْجُبَائِيُّ وَابْنُهُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ، وَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا مَا أَدَّى إِلَيْهِ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ.

ص: 603

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: إِنَّ الْمُصِيبَ فِيهَا وَاحِدٌ، وَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.

وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَالْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ: التَّخْطِئَةُ وَالتَّصْوِيبُ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ تَصْوِيبُ الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.

قُلْتُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَثِيرٌ، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا مَا نَرْجُو أَنْ تَتَحَقَّقَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 604

الْأَوَّلُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وَلَوْلَا تَعَيُّنُ الْحَقِّ فِي جِهَةٍ لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ، وَلَوْلَا سُقُوطُ الْإِثْمِ عَنِ الْمُخْطِئِ لَمَا مُدِحَ دَاوُدُ بِـ كُلًّا آتَيْنَا.

الثَّانِي: لَا غَرَضَ لِلشَّارِعِ فِي تَعْيِينِ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ تَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ الظَّنِّيِّ، وَطَلَبُ الْأَشْبَهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ أُجِرَ أَجْرَيْنِ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ أُجِرَ لِلِاجْتِهَادِ، وَفَاتَهُ أَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَتَخْصِيصُ سُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ لِإِصَابَتِهِ الْأَشْبَهَ، لَا لِأَنَّ ثَمَّ حُكْمًا مُعَيَّنًا هُوَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ.

ــ

قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْقَائِلُ: إِنَّ الْحَقَّ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 78 - 79] وَلَوْلَا أَنَّ الْحَقَّ فِي جِهَةٍ بِعَيْنِهَا، «لَمَا خُصَّ» سُلَيْمَانُ «بِالتَّفْهِيمِ» ، إِذْ كَانَ يَكُونُ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ، «وَلَوْلَا سُقُوطُ الْإِثْمِ عَنِ الْمُخْطِئِ، لَمَا مُدِحَ دَاوُدُ» عليه السلام بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] ، لِأَنَّ الْمُخْطِئَ لَا يُمْدَحُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي قَوْلِ مُجْتَهِدٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنَّ الْمُخْطِئَ فِي الْفُرُوعِ غَيْرُ آثِمٍ.

قَوْلُهُ: «الثَّانِي» ، أَيْ: احْتَجَّ الثَّانِي وَهُوَ الْقَائِلُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ حُكْمٌ مَقْصُودٌ، بَلِ الْمَقْصُودُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ؛ بِأَنْ قَالَ:«لَا غَرَضَ لِلشَّارِعِ فِي تَعْيِينِ حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ» لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي

ص: 605

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ أَوْلَى بِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَالشَّارِعُ لَيْسَ كَذَلِكَ. إِذْ هَذَا شَأْنُ مَنْ يَلْحَقُهُ النَّفْعُ بِفِعْلِ الْأَوْلَى بِهِ، وَالضَّرَرُ بِتَرْكِهِ، وَالشَّارِعُ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، «وَإِنَّمَا قَصْدُهُ تَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ الظَّنِّيِّ، وَطَلَبُ الْأَشْبَهِ» بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ لَوْ كَانَ لَهُ مَقْصُودٌ مُعَيَّنٌ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِ الْأَشْبَهِ، «فَإِنْ أَصَابَهُ أُجِرَ أَجْرَيْنِ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ أُجِرَ لِلِاجْتِهَادِ، وَفَاتَهُ أَجْرُ الْإِصَابَةِ» .

قَوْلُهُ: «وَتَخْصِيصُ سُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ» هَذَا جَوَابٌ عَنْ حُجَّةِ الْأَوَّلِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّ الْحَقَّ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ أَنَّ تَخْصِيصَ سُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ، أَيْ: بِالْإِخْبَارِ، أَنَّهُ فَهِمَ الْحُكْمَ «لِإِصَابَتِهِ الْأَشْبَهَ، لَا لِأَنَّ ثَمَّ حُكْمًا مُعَيَّنًا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلْمُجْتَهِدِ» ، وَقَدْ فَسَّرْنَا الْأَشْبَهَ مَا هُوَ.

ص: 606

فَإِنْ قِيلَ: إِنْ عَنَيْتُمُ الْأَشْبَهَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، دَلَّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ حُكْمًا مُعَيَّنًا، وَالَّذِي يُصِيبُهُ الْمُجْتَهِدُ أَشْبَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَبَيِّنُوا الْمُرَادَ بِهِ.

قُلْنَا: الْمُرَادُ الْأَشْبَهُ بِمَا عُهِدَ مِنْ حِكْمَةِ الشَّرْعِ، وَلَا يَلْزَمُ التَّعْيِينُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، هُوَ الْمُعَيَّنُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قُلْنَا: لِلْقَطْعِ بِأَنَّ لَا غَرَضَ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّ تَعْيِينَهُ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً.

قُلْنَا: وَلَعَلَّ عَدَمَهُ كَذَلِكَ، فَمَا الْمُرَجِّحُ؟

قَالُوا: الدَّلِيلُ يَسْتَدْعِي مَدْلُولًا قَطْعِيًّا.

قُلْنَا: الْمَدْلُولُ أَعَمُّ مِنَ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا.

فَإِنْ قِيلَ: الْأَحْكَامُ الْقِيَاسِيَّةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّصِّيَّةِ، وَالنَّصِّيَّةُ مُعَيَّنَةٌ، فَكَذَا الْقِيَاسِيَّةُ.

قُلْنَا: قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَظْهَرُ.

ــ

قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَشْكِيكٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَشْبَهِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنْ يُقَالَ: " إِنْ عَنَيْتُمْ " بِالْأَشْبَهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ " عِنْدَ اللَّهِ سبحانه وتعالى دَلَّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ حُكْمًا مُعَيَّنًا، وَالَّذِي يُصِيبُهُ الْمُجْتَهِدُ أَشْبَهُ " بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ " مِنْ غَيْرِهِ "، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ، وَإِنْ لَمْ تَعْنُوا بِهِ هَذَا فَبَيِّنُوا مُرَادَكُمْ بِهِ، حَتَّى نَعْلَمَهُ، وَنَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ بِمَا عِنْدَنَا.

ص: 607

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ " الْمُرَادَ " بِالْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ لِلْمُجْتَهِدِ هُوَ " الْأَشْبَهُ بِمَا عُهِدَ مِنْ حِكْمَةِ الشَّرْعِ "، بِحَيْثُ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الشَّرْعَ لَوْ عَيَّنَ حُكْمًا مُلَائِمًا لِحِكْمَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، الْمَفْهُومَةِ مِنْ نُصُوصِهِ وَإِشَارَتِهِ وَإِيمَائِهِ، لَكَانَ مَطْلُوبَ الْمُجْتَهِدِ، وَمَا أَصَابَهُ بِاجْتِهَادِهِ أَشْبَهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُقَدَّرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِينُ الْحُكْمِ فِي جِهَةٍ.

قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ: "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا سُؤَالٌ آخَرُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَشْبَهِ.

وَتَقْرِيرُهُ " أَنْ يُقَالَ: " لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ " الَّذِي فَسَّرْتُمُوهُ هُوَ " فِي نَفْسِ الْأَمْرِ " الْحُكْمَ " الْمُعَيَّنَ عِنْدَ اللَّهِ " عز وجل لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يَخْتَارُ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا نَاسَبَ الْحِكْمَةَ وَاقْتَضَتْهُ، فَيَكُونُ الْمُعَيَّنُ هُوَ الْأَشْبَهَ، وَيَلْزَمُ تَعْيِينُ الْحُكْمِ.

قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّا إِنَّمَا قُلْنَا بِأَنَّ الْأَشْبَهَ لَيْسَ مُعَيَّنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل " لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ " بِمَا سَبَقَ آنِفًا، فَلَوْ عَيَّنَهُ مَعَ ذَلِكَ، لَكَانَ تَعْيِينُهُ عَبَثًا.

قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا سُؤَالٌ آخَرُ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ تَعْيِينَ الْحُكْمِ يَجُوزُ قَطْعًا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ، فَلَعَلَّ تَعْيِينَ الْحُكْمِ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً لَهُمْ، فَتَعَيَّنَ لِتَحْصِيلِهَا.

قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ

ص: 608

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تَعْيِينِ الْحُكْمِ يَجُوزُ قَطْعًا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَصْلَحَةً لَهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ تَحْصِيلًا لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، " فَمَا الْمُرَجِّحُ " لِتَعْيِينِهِ عَلَى عَدَمِهِ، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي جَوَازِ تَضَمُّنِهِمَا لِلْمَصْلَحَةِ؟

" قَالُوا " يَعْنِي الْقَائِلَ بِتَعْيِينِ الْحُكْمِ: " الدَّلِيلُ يَسْتَدْعِي مَدْلُولًا قَطْعِيًّا " وَالشَّرْعُ قَدْ أَمَرَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالِاسْتِدْلَالِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَدْلُولٌ، لَتَجَرَّدَ الدَّلِيلُ عَنِ الْمَدْلُولِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ وَالْمَدْلُولَ مِنَ الْإِضَافِيَّاتِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَالْأَبِ وَابْنِهِ، وَالْأَخِ وَأَخِيهِ.

" قُلْنَا ": أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمْ أَنَّ كَوْنَ الدَّلِيلِ يَسْتَدْعِي مَدْلُولًا مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْمَدْلُولَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ يَسْتَدْعِي مَدْلُولًا مُعَيَّنًا، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَسْتَدْعِيَ مَدْلُولًا مُطْلَقًا، فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَشْبَهِ، وَلَا يَلْزَمُ التَّعْيِينُ.

قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا سُؤَالٌ آخَرُ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ " الْأَحْكَامَ الْقِيَاسِيَّةَ " أَيِ: الثَّابِتَةَ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ " مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّصِّيَّةِ "، أَيِ الثَّابِتَةِ بِالنُّصُوصِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَحْكَامَ " النَّصِّيَّةَ مُعَيَّنَةٌ "، إِذْ لَا مَعْنَى لِلنَّصِّ عَلَى الْحُكْمِ إِلَّا الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، لِيَتَّجِهَ التَّكْلِيفُ بِهِ، " فَكَذَا الْقِيَاسِيَّةُ " يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً.

قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ " قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ "، لِأَنَّكُمْ قِسْتُمُ الْأَحْكَامَ الْقِيَاسِيَّةَ فِي التَّعْيِينِ، عَلَى الْأَحْكَامِ النَّصِّيَّةِ فِيهِ، " وَمَا ذَكَرْنَاهُ " مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ التَّعْيِينِ " أَظْهَرُ "، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَالْعَمَلُ بِأَظْهَرِ الدَّلِيلَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا مُتَعَيِّنٌ.

ص: 609

الْجَاحِظُ: الْإِثْمُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ قَبِيحٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ الْآرَاءِ، وَاعْتِوَارِ الشُّبَهِ وَعَدَمِ الْقَوَاطِعِ الْجَوَازِمِ. وَيَلْزَمُهُ رَفْعُ الْإِثْمِ عَنْ مُنْكِرِي الصَّانِعِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّاتِ، وَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ قَالُوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} إِذِ اجْتِهَادُهُمْ أَدَّاهُمْ إِلَى ذَلِكَ.

وَلَهُ مَنْعُ أَنَّهُمُ اسْتَفْرَغُوا الْوُسْعَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَأَثَّمَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْجِدِّ، لَا عَلَى الْخَطَأِ، وَقَوْلُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ حُجَّةً كَالنَّظَّامِ، أَوْ قَطْعِيَّتُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ، وَقَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ مَبْنَاهُ.

ــ

قَوْلُهُ: «الْجَاحِظُ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْجَاحِظُ عَلَى التَّصْوِيبِ مُطْلَقًا، بِأَنَّ، تَأْثِيمَ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ فِي الِاجْتِهَادِ قَبِيحٌ، إِذْ هُوَ مُفْضٍ إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، «لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ الْآرَاءِ» وَالْمَذَاهِبِ، وَالْمَقَالَاتِ فِي الْعَالَمِ «وَاعْتِوَارِ الشُّبَهِ» ، أَيْ: تَوَارُدِهَا عَلَى الْقُلُوبِ، وَ «عَدَمِ» الْأَدِلَّةِ «الْقَوَاطِعِ، الْجَوَازِمِ» عَلَى الْمَطَالِبِ، فَإِنَّ التَّأْثِيمَ يَزْدَادُ قُبْحًا مَعَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «وَيَلْزَمُهُ» هَذَا إِلْزَامٌ أَلْزَمَ النَّاسَ الْجَاحِظُ بِهِ عَلَى مَقَالَتِهِ، وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَهُ «رَفْعُ الْإِثْمِ» وَالْوَعِيدِ «عَنْ» كُلِّ كَافِرٍ؛ مِنْ «مُنْكِرِي الصَّانِعِ، وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّاتِ، وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ قَالُوا» : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَرِ: 3] ، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُمْ هُوَ الَّذِي «أَدَّاهُمْ إِلَى ذَلِكَ» .

قَوْلُهُ: «وَلَهُ مَنْعُ أَنَّهُمُ اسْتَفْرَغُوا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا الِاعْتِذَارُ لِلْجَاحِظِ عَنْ

ص: 610

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هَذَا الْإِلْزَامِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ لِلْجَاحِظِ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ «اسْتَفْرَغُوا الْوُسْعَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ» ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ بَذَلُوا الْمَجْهُودَ الْمُعْتَبَرَ لِمِثْلِهِمْ فِي مِثْلِ مَطْلُوبِهِمْ، فَكَانُوا مُفَرِّطِينَ مُقَصِّرِينَ، فَكَانَ «إِثْمُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْجِدِّ» وَالِاجْتِهَادِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَطَأِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ عَانَدَ مَعَ اتِّضَاحِ الْحَقِّ لَهُ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 144] وَقَوْلُهُ عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 146]، فَالْكُفَّارُ إِذَنْ طَائِفَتَانِ: مُعَانِدٌ وَمُقَصِّرٌ فِي الِاجْتِهَادِ، فَعُوقِبُوا لِعِنَادِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَعْذُرُ مَنِ اجْتَهَدَ غَايَةَ وُسْعِهِ فَلَمْ يُدْرِكْ وَخَلَا عَنِ الْعِنَادِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ.

قُلْتُ: وَمُنْذُ خَطَرَ لِي هَذَا الِاعْتِذَارُ عَنِ الْجَاحِظِ، كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي قُوَّتُهُ، وَإِلَى الْآنِ وَالْجُمْهُورُ مُصِرُّونَ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَا يَتَمَشَّى لَهُمْ حَالٌ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ الْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، وَتُسَاعِدُهُمْ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ، نَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] ، فَتَوَعَّدَهُمْ بِالنَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ بِالْخَطَأِ، وَعَلَى الْآيَةِ اعْتِرَاضَاتٌ لَا تَخْفَى.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ الْجَاحِظِ، وَالْعَقْلُ مَائِلٌ إِلَى مَذْهَبِهِ، «وَقَوْلُهُ - عَلَى كُلِّ حَالٍ - مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ حُجَّةً» كَمَا هُوَ مَذْهَبُ النَّظَّامِ، أَوْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ قَاطِعًا مُطْلَقًا، أَوْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ، «فَلَا يَلْزَمُهُ» حُكْمُ إِجْمَاعِهِمْ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ

ص: 611

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْوَاحِدِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ وَصَاحِبُهُ الْعَنْبَرِيُّ اثْنَانِ مِنْ مَشَاهِيرِهِمْ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمَا.

قَوْلُهُ: «وَقَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ بَاطِلٌ، لِبُطْلَانِ مَبْنَاهُ» وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ فِي الْفُرُوعِ مَبْنِيٌّ عَلَى إِنْكَارِ الِاحْتِجَاجِ بِمَدَارِكِ الظُّنُونِ، مِنَ الظَّاهِرِ وَالْعُمُومِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ فِي مَوَاضِعِهِ، فَيَبْطُلُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:

إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؛ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَقَائِعَ الشَّرْعِيَّةَ، هَلْ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ أَمْ لَا؟ وَلْنَذْكُرْ تَفَاصِيلَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، ثُمَّ نَذْكُرْ فُرُوعَهُمَا الْمَذْكُورَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ فِي الْحَوَادِثِ حُكْمًا مُعَيَّنًا، فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَدَفِينٍ يُعْثَرُ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ؟ قَالَ الْأَصَمُّ وَبِشْرُ الْمَرِيسِيُّ فِي آخَرِينَ: هُوَ قَطْعِيٌّ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ إِنْ أَخْطَأَهُ؟ قَالَ بِهِ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ.

وَهَلْ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إِذَا خَالَفَهُ؟ قَالَ بِهِ الْأَصَمُّ، وَخَالَفَهُ الْبَاقُونَ.

وَقَالَ آخَرُونَ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ظَنِّيٌّ.

وَهَلْ يُكَلَّفُ الْمُجْتَهِدُ بِطَلَبِهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إِلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ.

ص: 612

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالثَّانِي: لَا يُكَلَّفُ بِطَلَبِهِ لِخَفَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنهم.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ فِي الْوَقَائِعِ مُعَيَّنٌ، فَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، مِنْهُمُ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْجُبَائِيُّ وَابْنُهُ.

ثُمَّ عَلَى هَذَا هَلْ يُقَالُ: إِنَّ فِي الْوَاقِعَةِ لَوْ كَانَ لِلَّهِ عز وجل فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لَكَانَ هُوَ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، أَمْ لَا؟ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ نَوْعُ تَكْرَارٍ وَتَدَاخُلٍ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ غَرَضِي الْبَيَانُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِتَغَايُرِ الْعِبَارَاتِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ إِنْ كَانَ نَفْيًا، فَقَدْ أَخْطَأَهُ الْمُثْبِتُ، وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتًا، فَقَدْ أَخْطَأَهُ النَّافِي.

وَمِمَّا قَرَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ؛ أَنْ قَالَ: الْقَائِلُ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا، أَوْ مُصِيبًا، فَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، فَهُوَ مُجْتَهِدٌ قَدْ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا، فَقَدْ ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، فَهُوَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَازِمٌ.

وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ قَالَ: الْحُكْمُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ. وَحِينَئِذٍ كَلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، لِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَمُصِيبٌ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ يُسَبِّبُهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهُ، وَذَلِكَ

ص: 613

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لِأَنَّهُمْ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ ثَمَّ حُكْمًا مُعَيَّنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا، فَهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الِاجْتِهَادِ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَأَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَالنِّزَاعُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَفْظِيٌّ.

الثَّانِيَةُ: الْمُخْتَارُ: الْقَوْلُ بِالتَّصْوِيبِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَخْبَارِ الْآحَادِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، كَقَوْلِهِ عليه السلام:«لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ» وَنَحْوِهِ، لَكِنْ قَدْ يَمْنَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهَا فِي هَذَا الْبَابِ أَوْ يَتَأَوَّلُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى التَّصْوِيبِ أَنَّ الْمُصَلِّينَ إِلَى جِهَاتٍ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ لَا يُعِيدُونَ عِنْدَنَا، وَهِيَ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، وَسَاعَدَهَا النَّصُّ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ بِالتَّصْوِيبِ يَنْبَنِي عَلَى أُصُولٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَدِلَّةَ الظَّنِّيَّةَ إِضَافِيَّةٌ، لَا حَقِيقَةٌ قَطْعِيَّةٌ، أَيْ: يَكُونُ الْحَدِيثُ مَثَلًا أَوْ غَيْرُهُ دَلِيلًا عِنْدَ شَخْصٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ حَقِيقِيًّا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَطْلُوبٌ مُتَعَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ.

الثَّانِي: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ إِضَافِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، كَالْكَيْلِ عِلَّةٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالطَّعْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْكَلَامُ كَمَا سَبَقَ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ قَبْلَ ظُهُورِهِ لِلْمُجْتَهِدِ هُوَ حُكْمٌ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حُكْمًا بِالْفِعْلِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ حُكْمٌ بِالْفِعْلِ غَلِطَ، وَقَالَ بِالتَّعْيِينِ وَعَدَمِ التَّصْوِيبِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَحْكَامَ - كَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ - لَيْسَتْ مِنْ أَوْصَافِ الذَّوَاتِ، حَتَّى يَسْتَحِيلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَلَالًا حَرَامًا، بَلْ هِيَ إِضَافِيَّةٌ، فَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ.

ص: 614

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْخَامِسُ: أَنَّ الْأَحْكَامَ أُمُورٌ وَضْعِيَّةٌ لَا ذَاتِيَّةٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِلظُّنُونِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَالِ الرُّخَصِ، يَنْقَلِبُ الْحَرَامُ مُبَاحًا، وَلَوْ كَانَ الْحَرَامُ مَعْنًى ذَاتِيًّا لَمَا تَغَيَّرَ.

السَّادِسُ: أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لَا قَاطِعَ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ الْأَمْرُ بِإِصَابَةِ مَا لَا قَاطِعَ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ وَإِنْ جَازَ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ.

السَّابِعُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْحُكْمُ هُوَ التَّكْلِيفُ بِشَرْطِ بُلُوغِ الْمُكَلَّفِ، وَلَا تَكْلِيفَ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا حُكْمَ.

قُلْتُ: بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِمَا ذُكِرَ، لَا يَمْنَعُ تَعْيِينَ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل بَعْدَ الْبُلُوغِ.

الثَّامِنُ: قَالَ: الْخَطَأُ اسْمٌ قَدْ يُقَالُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا وَجَبَ، وَهُوَ الْخَطَأُ الْحَقِيقِيُّ، وَقَدْ يُقَالُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا طُلِبَ، وَهُوَ مَجَازٌ.

قُلْتُ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْخَطَأَ حَقِيقَةٌ، إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إِذَا أَخْطَأَ الشَّخْصُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، أَمَّا إِذَا أَخْطَأَ مَا طَلَبَهُ وَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ، فَذَلِكَ خَطَأٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَخَطَأُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ، فَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ طَالِبُونَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ.

قُلْتُ: إِنْ كَانَ هَذَا مَجَازًا شَرْعِيًّا، أَوِ اصْطِلَاحِيًّا بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَإِلَّا فَالْخَطَأُ فِي اللُّغَةِ أَعَمُّ مِمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ نَقِيضُ الصَّوَابِ، وَالصَّوَابُ يَتَعَلَّقُ بِمَا طُلِبَ وَبِمَا وَجَبَ جَمِيعًا.

الثَّالِثَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ مُبْهَمٌ، وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ سَبَقَتْ فِي أَوَائِلِ

ص: 615

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هَذَا الشَّرْحِ، فَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ التَّأْكِيدُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ هَهُنَا. فَأَقُولُ: الْقَطْعِيَّةُ مَا وَجَبَ اعْتِقَادُ الْحُكْمِ فِيهَا قَطْعًا، وَلَمْ يَجُزِ اعْتِقَادُ نَقِيضِهِ وَلَا جَوَازُهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا. وَالِاجْتِهَادِيَّةُ بِخِلَافِهِ، وَذَلِكَ تَابِعٌ لِلدَّلِيلِ، فَمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، أَوِ احْتَمَلَهُ احْتِمَالًا ضَعِيفًا، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ، فَهُوَ قَطْعِيٌّ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ احْتِمَالًا قَوِيًّا، يُعْذَرُ فِيهِ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ عَقْلًا وَعُرْفًا؛ فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ.

وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ بِمُوجِبِ هَذَا التَّقْرِيرِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: لِأَنَّ الْحُكْمَ، إِمَّا أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى قَاطِعٍ، أَوْ مُحْتَمِلًا احْتِمَالًا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ لِبُعْدِهِ، فَهُوَ قَاطِعٌ، كَمَسْأَلَةِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَقِدَمِهِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَمَا عُرِفَ مِنْ جِهَتِهِمْ مِنَ الْقَوَاطِعِ، كَالْبَعْثِ وَأَحْكَامِ الْمَعَادِ.

وَإِمَّا أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ احْتِمَالًا قَوِيًّا، فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ، كَأَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ، وَأَكْثَرِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَإِمَّا أَنْ يَتَرَدَّدَ الدَّلِيلُ بَيْنَ الْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ، فَيَكُونُ دُونَ الْقَاطِعِ، وَفَوْقَ الظَّنِّيِّ فِي الْقُوَّةِ، كَبَقِيَّةِ أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ، مِمَّا اعْتَوَرَتْهَا الْأَدِلَّةُ وَالشُّبَهُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَهَذِهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالِاجْتِهَادِيِّ، تَبَعًا لِدَلِيلِهَا فِي ذَلِكَ، وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّ إِلْحَاقَهَا بِالِاجْتِهَادِيَّاتِ أَوْلَى، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْقَطْعِ - مَعَ عَدَمِ دَلِيلٍ يُفِيدُهُ - تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ وَإِنْ جَازَ، لَكِنَّ وُقُوعَهُ مُمْتَنِعٌ أَوْ نَادِرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 616

الرَّابِعَةُ: إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا لَزِمَهُ التَّوَقُّفُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفِئَتَيْنِ: يُخَيَّرُ بِالْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ.

لَنَا: إِعْمَالُهُمَا جَمْعًا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَإِعْمَالُ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ تَحَكُّمٌ، فَتَعَيَّنَ التَّوَقُّفُ عَلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ.

قَالُوا: التَّوَقُّفُ لَا إِلَى غَايَةٍ تَعْطِيلٌ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقْبَلِ الْحُكْمُ التَّأْخِيرَ، وَإِلَى غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ مُمْتَنِعٌ، وَمَعْلُومَةٍ لَا يُمْكِنُ؛ إِذْ ظُهُورُ الْمُرَجِّحِ لَيْسَ إِلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ التَّخْيِيرُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، كَتَخْيِيرِ الْمُزَكِّي بَيْنَ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسِ بَنَاتٍ لَبُونٍ عَنْ مِائَتَيْنِ، وَتَخَيُّرِ الْعَامِّيِّ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ، أَوْ أَحَدَ جُدْرَانِ الْكَعْبَةِ، وَفِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَنَحْوِهَا.

قُلْنَا: يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُرَجِّحُ، وَلَا اسْتِحَالَةَ، كَمَا يَتَوَقَّفُ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا ابْتِدَاءً، أَوْ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ.

وَالتَّخْيِيرُ رَافِعٌ لِحُكْمِ كُلٍّ مِنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَالتَّخْيِيرُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ قَامَ دَلِيلُهُ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «الرَّابِعَةُ: إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا، لَزِمَهُ التَّوَقُّفُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفِئَتَيْنِ» - يَعْنِي الطَّائِفَتَيْنِ، الْوَاحِدَةُ فِئَةٌ -:«يُخَيَّرُ بِالْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ» .

قُلْتُ: ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ بِنَاءَ ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ وَالتَّصْوِيبِ، فَمَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ؛ قَالَ: لَا تَعَارُضَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَإِنَّمَا هَذَا لِعَجْزِ الْمُجْتَهِدِ، فَيَلْزَمُهُ التَّوَقُّفُ، أَوِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، أَوْ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ آخَرَ عَثَرَ عَلَى التَّرْجِيحِ.

ص: 617

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَمَّا الْمُصَوِّبَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَوَقَّفُ، وَقَالَ الْقَاضِي مِنْهُمْ: يَتَخَيَّرُ.

قَوْلُهُ: «لَنَا:» إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ التَّوَقُّفِ. وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، فَإِمَّا أَنْ يُعْمِلَهُمَا، أَيْ: يَعْمَلَ بِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يُعْمِلَ أَحَدَهُمَا. وَالْأَوَّلُ يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهُوَ تَحَكُّمٌ، «فَتَعَيَّنَ التَّوَقُّفُ عَلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ» .

وَيَرِدُ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ غَيْرُ حَاصِرَةٍ، إِذْ بَقِيَ قِسْمَانِ آخَرَانِ:

أَحَدُهُمَا: إِهْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى مَا قَبْلَ الشَّرْعِ.

وَالثَّانِي: التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مُدَّعَى الْخَصْمِ، وَالْقِسْمَانِ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لَهُمَا.

قَوْلُهُ: «قَالُوا:» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ أَصْحَابِ التَّخْيِيرِ، وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوَقُّفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا إِلَى غَايَةٍ، أَوْ إِلَى غَايَةٍ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ «التَّوَقُّفَ لَا إِلَى غَايَةٍ تَعْطِيلٌ» لِلْوَاقِعَةِ عَنْ حُكْمٍ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ قَابِلًا لِلتَّأْخِيرِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ غَايَةَ التَّوَقُّفِ إِمَّا مَجْهُولَةٌ أَوْ مَعْلُومَةٌ، وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْجَهَالَةَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ شَأْنُهَا ذَلِكَ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ ظُهُورَ الْمُرَجِّحِ لَيْسَ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ غَايَةُ التَّوَقُّفِ مَعْلُومَةً، وَإِذَا انْتَفَى التَّوَقُّفُ إِلَى غَايَةٍ أَوْ إِلَى غَيْرِ

ص: 618

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

غَايَةٍ؛ تَعَيَّنَ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّ الدَّلِيلَيْنِ شَاءَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِالتَّخْيِيرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مُمْتَنِعًا هَهُنَا.

أَمَّا وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ، فَفِي صُوَرٍ:

مِنْهَا: أَنَّ الْمُزَكِّيَ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ، خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا أَرْبَعَ حِقَاقٍ، أَوْ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ؛ عَلَى حِسَابِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حَقَّةٌ. فَقَدْ وُجِدَ مُقْتَضَى إِخْرَاجِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا أَفْتَاهُ مُجْتَهِدَانِ، يُخَيَّرُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا، أَوْ إِذَا وَجَدَ مُجْتَهِدَيْنِ يُخَيَّرُ بَيْنَ اسْتِفْتَاءِ أَيِّهِمَا شَاءَ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُصَلِّيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَتَخَيَّرُ فِي اسْتِقْبَالِ أَيِّ جُدْرَانِهَا شَاءَ.

وَمِنْهَا: فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ. وَنَحْوَ هَذِهِ الصُّوَرِ مِنْ صُوَرِ التَّخْيِيرِ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِ.

وَأَمَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْتَنِعَ التَّخْيِيرُ هَهُنَا، فَلِأَنَّهَا صُوَرٌ شَرْعِيَّةٌ، فَجَازَ التَّخْيِيرُ فِيهَا كَسَائِرِ صُوَرِ الشَّرْعِ التَّخْيِيرِيَّةِ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ التَّوَقُّفُ تَعَيَّنَ التَّخْيِيرُ، بَلْ «يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَظْهَرَ» لَهُ «الْمُرَجِّحُ، وَلَا اسْتِحَالَةَ» فِي ذَلِكَ، «كَمَا يَتَوَقَّفُ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا ابْتِدَاءً» حَتَّى يَجِدَ دَلِيلًا، كَمَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْمُرَجِّحِ.

أَمَّا «التَّخْيِيرُ» فَإِنَّهُ «رَافِعٌ لِحُكْمِ كُلِّ» وَاحِدٍ مِنَ «الدَّلِيلَيْنِ» ، فَلَا يَجُوزُ، إِذْ

ص: 619

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

حُكْمُ أَحَدِهِمَا الْإِثْبَاتُ الْمُعَيَّنُ، وَحُكْمُ الْآخَرِ النَّفْيُ الْمُعَيَّنُ، وَالتَّخْيِيرُ رَافِعٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَوْ تُصُوِّرَ، وَحَيْثُ يُتَصَوَّرُ.

قُلْتُ: وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ الْتِزَامُ التَّوَقُّفِ إِلَى غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ، لِأَنَّهُ مَعْنَى التَّوَقُّفِ إِلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ.

قَوْلُهُ: «وَالتَّخْيِيرُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ» . هَذَا جَوَابُ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ «التَّخْيِيرَ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ قَامَ دَلِيلُهُ» شَرْعًا، وَالتَّخْيِيرُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لَمْ يَقُمْ دَلِيلُهُ شَرْعًا، فَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُهُ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 620

الْخَامِسَةُ: لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ.

مِنْهَا: قَوْلُهُ فِي الْمُسْتَرْسِلِ مِنَ اللِّحْيَةِ قَوْلَانِ: وُجُوبُ الْغَسْلِ، وَعَدَمُهُ.

لَنَا: إِنْ كَانَا فَاسِدَيْنِ وَعَلِمَ، فَالْقَوْلُ بِهِمَا حَرَامٌ، فَلَا قَوْلَ أَصْلًا؛ أَوْ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ فَلَا قَوْلَيْنِ، أَوْ صَحِيحَيْنِ فَالْقَوْلُ بِهِمَا مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِمَا تَضَادَّ الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْفَاسِدَ فَلَيْسَ عَالِمًا بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا قَوْلَ لَهُ فِيهَا، فَيَلْزَمُهُ التَّوَقُّفُ، أَوِ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا قَوْلَيْنِ.

وَأَحْسَنُ مَا يُعْتَذَرُ بِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ، فَقَالَ بِمُقْتَضَاهُمَا عَلَى شَرِيطَةِ التَّرْجِيحِ، وَمَا حُكِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَالرِّوَايَتَيْنِ فَفِي وَقْتَيْنِ، ثُمَّ إِنْ عُلِمَ آخِرُهُمَا فَهُوَ مَذْهَبُهُ كَالنَّاسِخِ، وَإِلَّا فَكَدَلِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، وَلَا تَأْرِيخَ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ " الْخَامِسَةُ: لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ: فِي الْمُسْتَرْسِلِ مِنَ اللِّحْيَةِ قَوْلَانِ: وُجُوبُ الْغَسْلِ وَعَدَمُهُ ". وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً.

قُلْتُ: وَوَقَعَ ذَلِكَ مِنْ أَحْمَدَ رضي الله عنه، قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي " زَادِ الْمُسَافِرِ ": قَالَ - يَعْنِي أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ -: إِذَا أَخَّرَتِ الْمَرْأَةُ الصَّلَاةَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، فَحَاضَتْ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: إِنِ الصَّلَاةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِدُخُولِ الْوَقْتِ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَهُوَ أَعْجَبُ الْقَوْلَيْنِ إِلَيَّ.

ص: 621

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

انْتَهَى. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَبِهَذَا أَقُولُ.

قَوْلُهُ: " لَنَا: إِلَى آخِرِهِ ". هَذَا تَوْجِيهٌ لِبُطْلَانِ إِطْلَاقِ الْقَوْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ رُبَّمَا يُجِيزُهُ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا فَاسِدَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوْ صَحِيحَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فَاسِدَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا؛ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ بِالْفَسَادِ أَوْ لَا، فَإِنْ عَلِمَ بِفَسَادِهِمَا، فَالْقَوْلُ بِهِمَا حَرَامٌ، إِذْ لَا قَوْلَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا، إِذْ لَا يُسْمَعُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِ إِلَّا الصَّحِيحُ، دُونَ الْفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْفَاسِدُ أَحَدَهُمَا، وَعَلِمَ بِهِ، " فَلَا قَوْلَيْنِ "، بَلْ هُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْفَاسِدَ مِنْ قَوْلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْفَاسِدُ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا " فَلَيْسَ عَالِمًا بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا قَوْلَ لَهُ فِيهَا، فَيَلْزَمُهُ التَّوَقُّفُ أَوِ التَّخْيِيرُ "، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التَّوَقُّفِ أَوِ التَّخْيِيرِ " قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا قَوْلَيْنِ "، وَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ، فَالْقَوْلُ بِهِمَا مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِمَا التَّضَادَّ الْكُلِّيَّ أَوِ الْجُزْئِيَّ.

الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْأَقْوَالِ الْمُتَقَابِلَةِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْوَسَائِطِ التَّفْصِيلِيَّةِ بَيْنَهُمَا، فَفِي الْأَقْوَالِ الْمُتَقَابِلَةِ يَلْزَمُ التَّضَادُّ الْكُلِّيُّ، وَفِي بَعْضِهَا مَعَ الْوَسَائِطِ التَّفْصِيلِيَّةِ يَلْزَمُ التَّضَادُّ الْجُزْئِيُّ.

مِثَالُهُ: أَنَّ عَنْ أَحْمَدَ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْ بَلَدِهَا إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: النَّفْيُ، وَالْإِثْبَاتُ، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ إِلَى الثُّغُورِ دُونَ غَيْرِهَا، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ لَكَانَ هَذَا تَضَادًّا كُلِّيًّا، بِمَعْنَى أَنَّ الْجَوَازَ الْكُلِّيَّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ الزَّكَاةِ وَأَمَاكِنِ إِخْرَاجِهَا

ص: 622

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَابَلَ الْمَنْعَ الْكُلِّيَّ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ إِلَى الثُّغُورِ خَاصَّةً؛ لَكَانَ هَذَا تَضَادًّا جُزْئِيًّا؛ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَنْعَ الْكُلِّيَّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ الزَّكَاةِ قَابَلَ الْجَوَازَ الْجُزْئِيَّ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الزَّكَاةِ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى بَعْضِ أَمَاكِنِ إِخْرَاجِهَا وَهِيَ الثُّغُورُ. وَهَذَا اصْطِلَاحٌ لِي ذَكَرْتُهُ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ مَعْرُوفًا، وَإِلَّا فَهَا قَدْ بَيَّنْتُهُ، وَالْأَحْكَامُ الْمُتَقَابِلَةُ وَوَسَائِطُهَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، وَتِلْكَ الْوَسَائِطُ رَاجِعَةٌ فِي الْأَكْثَرِ إِلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ كَمَا سَبَقَ.

وَقَدْ وَقَعَ تَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ تَرْتِيبِهِ فِي " الْمُخْتَصَرِ "، إِذْ هُوَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ: إِنْ كَانَ الْقَوْلَانِ فَاسِدَيْنِ، وَعَلِمَ الْمُجْتَهِدُ فَسَادَهُمَا، فَالْقَوْلُ بِهِمَا حَرَامٌ، فَلَا قَوْلَ لَهُ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ الْفَاسِدُ أَحَدَهُمَا فَكَذَلِكَ، أَيْ: فَالْقَوْلُ بِهِ حَرَامٌ فَلَا قَوْلَيْنِ، بَلْ هُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ، فَالْقَوْلُ بِهِمَا مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِمَا التَّضَادَّ الْمَذْكُورَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْفَاسِدَ، أَيْ: إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِفَسَادِهِمَا أَوْ فَسَادِ أَحَدِهِمَا، فَلَيْسَ عَالِمًا بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا قَوْلَ لَهُ فِيهَا، فَيَلْزَمُهُ التَّوَقُّفُ أَوِ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا قَوْلَيْنِ.

قَوْلُهُ: " وَأَحْسَنُ مَا يُعْتَذَرُ بِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ "، يَعْنِي دَلِيلَا الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ، " فَقَالَ بِمُقْتَضَاهُمَا "، أَيْ: أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِذَلِكَ " عَلَى شَرِيطَةِ التَّرْجِيحِ "، أَيْ: بِشَرْطِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِمَا بَعْدُ، فَيُرَجِّحَ مَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ. وَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَاتَ رضي الله عنه قَبْلَ أَنْ يُرَجِّحَ الْمَسَائِلَ السَبْعَ عَشْرَةَ الْمَذْكُورَةَ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ الْمُجْتَهِدُ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ الرُّجْحَانُ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمَا احْتِمَالَانِ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَالِمٌ، لِتَقَارُبِهِمَا مِنَ الْحَقِّ، أَوْ

ص: 623

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إِلَى أَنَّهُمَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.

قَالَ الْآمِدِيُّ: إِنْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ قَوْلًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الِاعْتِقَادِ لَهُمَا مَعًا؛ فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ فَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا أَقْوَالَ. وَهَذَا مَوْضِعُهُ عِنْدَ ذِكْرِ دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ، لَكِنِّي اسْتَدْرَكْتُهُ هَهُنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ مَعْنَاهُ.

قُلْتُ: وَالْقَوْلَانِ اللَّذَانِ حَكَيْنَاهُمَا عَنْ أَحْمَدَ، الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَوْلَانِ لَهُ، أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِهِمَا عَلَى شَرِيطَةِ التَّرْجِيحِ، وَقَدْ عَقَّبَهُمَا بِهِ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا أَعْجَبُ الْقَوْلَيْنِ إِلَيَّ، وَحِكَايَتُهُ لَهُمَا عَنِ الْعُلَمَاءِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ إِضَافَةُ الْكَلَامِ إِلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ.

الثَّانِي: لَوْ حَكَاهُمَا عَنْ غَيْرِهِ، لَبَيَّنَ ذَلِكَ، حَذَرًا مِنَ التَّلْبِيسِ عَلَى السَّامِعِ، وَتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ أَوْ غَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: " وَمَا حُكِيَ عَنْهُ "، أَيْ: عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ رضي الله عنهم " مِنَ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ " وَالرِّوَايَتَيْنِ " عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ، لَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا تَنَاقُضَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ تَابِعٌ لِظُهُورِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ، فَتَارَةً يَظْهَرُ وَتَارَةً لَا يَظْهَرُ، فَتَخْتَلِفُ أَقْوَالُهُ فِي الْأَوْقَاتِ لِذَلِكَ، كَمَا تَخْتَلِفُ نُصُوصُ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ أَوِ الْوَحْيِ أَوِ الِاجْتِهَادِ، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ أَحْمَدُ رضي الله عنه كُنْتُ أَقُولُ كَذَا ثُمَّ تَرَكْتُهُ، أَوْ جَبُنْتُ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ فِي الْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ: كُنْتُ أَقُولُ: يَمْضِي فِي صِلَاتِهِ، ثُمَّ تَدَبَّرْتُ فَإِذَا أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ. وَقَوْلُهُ: كُنْتُ أَقُولُ: إِنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَا يَكْفُرُ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ،

ص: 624

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هَذَا، فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ، غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ رُجُوعِ الشَّارِعِ عَنْ قَوْلِهِ، وَالْأَئِمَّةِ عَنْ أَقْوَالِهِمْ: أَنَّ رُجُوعَ الْأَئِمَّةِ لِظُهُورِ الْخَطَأِ لَهُمْ، بِخِلَافِ الشَّارِعِ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ، فَرُجُوعُهُ لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ لَا لِلْخَطَأِ، إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُهُ فِي اجْتِهَادِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَيُجِيزُ وُقُوعَهُ مِنْهُ، فَيَكُونُ رُجُوعُهُ عَنْهُ كَرُجُوعِ الْأَئِمَّةِ عَنْ أَقْوَالِهِمْ. وَلَعَلَّ قَوْلَهُ عليه السلام لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَحَرِّقُوهُمَا ثُمَّ دَعَا بِهِمْ فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا وَلَا تُحَرِّقُوهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى.

قَوْلُهُ: " ثُمَّ إِنْ عَلِمَ آخِرَهُمَا، فَهُوَ مَذْهَبُهُ كَالنَّاسِخِ ". أَيْ: إِذَا أَطْلَقَ الْمُجْتَهِدُ قَوْلَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ؛ فَإِنْ عَلِمَ آخِرَ الْقَوْلَيْنِ، فَهُوَ مَذْهَبُهُ دُونَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ رُجُوعِهِ عَنْهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، وَلَا يُقَلَّدَ فِيهِ، وَلَا يُعَدَّ مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَيَبْقَى الْعَمَلُ عَلَى النَّاسِخِ الْمُتَأَخِّرِ وَيُتْرَكُ الْمَنْسُوخُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ بِهِ، لِأَنَّ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى

ص: 625

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مُقَلِّدِيهِمْ؛ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَئِمَّةِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ الْمَرْجُوعُ عَنْهُ لَا يُعَدُّ مِنَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَدْوِينِ الْفُقَهَاءِ لِلْأَقْوَالِ الْقَدِيمَةِ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ؟ حَتَّى رُبَّمَا نُقِلَ عَنْ أَحَدِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ الْقَوْلَانِ وَالثَّلَاثَةُ كَثِيرًا وَالْأَرْبَعَةُ؛ كَمَا فِي بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالسِّتَّةُ؛ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَنْهُ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.

قِيلَ: قَدْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُدَوَّنَ تِلْكَ الْأَقْوَالُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى ضَبْطِ الشَّرْعِ، إِذْ مَا لَا عَمَلَ عَلَيْهِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَتَدْوِينُهُ تَعَبٌ مَحْضٌ، لَكِنَّهَا دُوِّنَتْ لِفَائِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْآرَاءِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَقْوَالَ قَدْ أَدَّى إِلَيْهَا اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ مُؤَثِّرٌ فِي تَقْرِيبِ التَّرَقِّي إِلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ أَوِ الْمُقَيَّدِ، فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَآخِذِ الْمُتَقَدِّمِينَ نَظَرَ فِيهَا، وَقَابَلَ بَيْنَهَا، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا فَوَائِدَ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَجْمُوعِهَا تَرْجِيحُ بَعْضِهَا، وَذَلِكَ مِنَ الْمَطَالِبِ الْمُهِمَّةِ، فَهَذِهِ فَائِدَةُ تَدْوِينِ الْأَقْوَالِ الْقَدِيمَةِ عَنِ الْأَئِمَّةِ، وَهِيَ عَامَّةٌ. وَثَمَّ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ، كَالشَّافِعِيِّ وَنَحْوِهِ نَصُّوا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، إِذِ الْعَمَلُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ بِمِصْرَ، وَصَنَّفَ فِيهِ الْكُتُبَ كَالْأُمِّ وَنَحْوِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مَذْهَبِهِ شَيْءٌ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ إِلَّا سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، تَعَارَضَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ، وَاخْتُرِمَ قَبْلَ أَنْ يُحَقِّقَ النَّظَرَ فِيهَا، بِخِلَافِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَدْوِينَ الرَّأْيِ، بَلْ هَمُّهُ الْحَدِيثُ وَجَمْعُهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَ

ص: 626

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَنْصُوصَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ تَلَقِّيًا مِنْ فِيهِ، مِنْ أَجْوِبَتِهِ فِي سُؤَالَاتِهِ وَفَتَاوِيهِ، فَكُلُّ مَنْ رَوَى مِنْهُمْ عَنْهُ شَيْئًا دَوَّنَهُ، وَعُرِفَ بِهِ كَمَسَائِلِ أَبِي دَاوُدَ، وَحَرْبٍ الْكِرْمَانِيِّ، وَمَسَائِلِ حَنْبَلٍ، وَابْنَيْهِ صَالِحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَإِسْحَاقِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَالْمَرُّوذِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ذَكَرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ فِي أَوَّلِ " زَادِ الْمُسَافِرِ " وَهُمْ كَثِيرٌ، وَرَوَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، ثُمَّ انْتُدِبَ لِجَمْعِ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ "، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ أَبُو بَكْرٍ فِي " زَادِ الْمُسَافِرِ "، فَحَوَى الْكِتَابَانِ عِلْمًا جَمًّا مِنْ عِلْمِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مِنْهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ الْإِخْبَارُ بِصَحِيحِ مَذْهَبِهِ فِي تِلْكَ الْفُرُوعِ، غَيْرَ أَنَّ الْخَلَّالَ يَقُولُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ لِأَحْمَدَ رَجَعَ عَنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسِيرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ مِنْهَا، وَنَحْنُ لَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَجْزِمَ بِمَذْهَبِ إِمَامٍ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ آخِرُ مَا دَوَّنَهُ مِنْ تَصَانِيفِهِ وَمَاتَ عَنْهُ، أَوْ أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ سَاعَةَ مَوْتِهِ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالتَّصْحِيحُ الَّذِي فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ مِنِ اجْتِهَادِ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ، كَابْنِ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَمِنِ الْمُتَأَخِّرِينَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ بَالِغِينَ مَا بَلَغُوا، لَا يَحْصُلُ الْوُثُوقُ مِنْ تَصْحِيحِهِمْ لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، كَمَا يَحْصُلُ مِنْ تَصْحِيحِهِ هُوَ لِمَذْهَبِهِ قَطْعًا، فَمَنْ فَرَضْنَاهُ جَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ، وَبَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ دَرَجَتَهُمْ أَوْ قَارَبَهُمْ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ كَتَصَرُّفِهِمْ، وَيُصَحِّحَ مِنْهَا مَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، وَافَقَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، وَعَمِلَ بِذَلِكَ وَأَفْتَى. وَفِي عَصْرِنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ

ص: 627

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِيُّ حَرَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ فِي الْفُتْيَا عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْأَصْحَابُ مِنَ الْمَذْهَبِ، بَلْ يَعْمَلُ وَيُفْتِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ فَائِدَةً خَاصَّةً بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ لِتَدْوِينِ نُصُوصِهِ وَنَقْلِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 628

السَّادِسَةُ: يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمُجْتَهِدٍ اجْتَهَدَ وَظَنَّ الْحُكْمَ، اتِّفَاقًا فِيهِمَا، أَمَّا مَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ وَيُمْكِنْهُ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ لِأَهْلِيَّتِهِ لِلِاجْتِهَادِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا مُطْلَقًا؛ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ.

وَقِيلَ: يَجُوزُ مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: لِيَعْمَلَ لَا لِيُفْتِيَ، وَقِيلَ: لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَقِيلَ: مِنَ الصَّحَابَةِ.

لَنَا: مُجْتَهِدٌ فَلَا يُقَلِّدُ، كَمَا لَوِ اجْتَهَدَ فَظَنَّ الْحُكْمَ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ خَطَأَ غَيْرِهِ لَوِ اجْتَهَدَ، فَكَيْفَ يَعْمَلُ بِمَا يَعْتَقِدُ خَطَأَهُ؟ نَعَمْ، لَهُ أَنْ يَنْقِلَ مَذْهَبَ غَيْرِهِ لِلْمُسْتَفْتِي، وَلَا يُفْتِي هُوَ بِتَقْلِيدِ أَحَدٍ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «السَّادِسَةُ: يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمُجْتَهِدٍ اجْتَهَدَ، وَظَنَّ الْحُكْمَ، اتِّفَاقًا فِيهِمَا» ، أَيْ: فِي الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. أَيْ: أَنَّ الْعَامِّيَّ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا، أَيْ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. «أَمَّا مَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ» فِي الْحُكْمِ بَعْدُ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ «بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ» ، لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ، «فَلَا يَجُوزُ لَهُ» تَقْلِيدُ غَيْرِهِ «أَيْضًا مُطْلَقًا» ؛ لَا لِأَعْلَمَ مِنْهُ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لَا مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَا غَيْرِهِمْ؛ لَا لِلْعَمَلِ وَلَا لِلْفُتْيَا؛ لَا مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَلَا سَعَتِهِ. هَذَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ:«مُطْلَقًا، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ» .

ص: 629

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: هَذَا عَنِ الظَّاهِرِيَّةِ، لَا أَعْلَمُ الْآنَ مِنْ أَيْنَ نَقَلْتُهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَلَمْ أَرَهُ فِي «الرَّوْضَةِ» ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا وَهْمًا مِمَّنْ نَقَلْتُهُ عَنْهُ، أَوْ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا الِاخْتِصَارُ، فَإِنَّ الظَّاهِرِيَّةَ أَشَدُّ النَّاسِ فِي مَنْعِ التَّقْلِيدِ لِغَيْرِ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ.

«وَقِيلَ: يَجُوزُ» - يَعْنِي التَّقْلِيدَ - لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ الْمَذْكُورِ «مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ» عَنْ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ، مِثْلَ أَنْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ بَعْضُ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا، بِحَيْثُ لَوْ أَخَّرَهَا لِيَسْتَوْفِيَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ فَاتَ وَقْتُهَا؛ جَازَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ.

«وَقِيلَ» : يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ «لِيَعْمَلَ» بِهِ «لَا لِيُفْتِيَ» بِهِ - يَعْنِي فِيمَا يَخُصُّهُ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ غَيْرِهِ - وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ.

«وَقِيلَ» : يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ «لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ» مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ، دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.

«وَقِيلَ» : يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ «مِنَ الصَّحَابَةِ» دُونَ غَيْرِهِمْ.

وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَقْوَالًا وَتَفَاصِيلَ أَذْكُرُهَا تَكْمِلَةً، فَقَالَ:

الْمُجْتَهِدُ إِذَا اجْتَهَدَ فِي مَسْأَلَةٍ، وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اجْتَهَدَ فِيهَا، قَالَ الْجُبَائِيُّ: الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، مَعَ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِيهَا لِوَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذَا تَرَجَّحَ فِي نَظَرِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَلَهُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَلَا يُقَلِّدُ غَيْرَ الصَّحَابِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ تَقْلِيدَهُ لِلتَّابِعِيِّ أَيْضًا دُونَ مَنْ بَعْدَهُ.

ص: 630

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاجْتِهَادِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ مُطْلَقًا.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ فِيمَا يُفْتِي بِهِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ خَصَّصَ ذَلِكَ بِمَا يَفُوتُ وَقْتُهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ.

وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَنْعِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ مُطْلَقًا، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

قُلْتُ: مَا حَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ، مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ مُطْلَقًا غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَا تَقْلِيدًا لَهُ بَلْ بِنَوْعِ اسْتِدْلَالٍ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ. هَذَا مَا أَرَدْنَا حِكَايَتَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

عُدْنَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى أَدِلَّتِهَا:

قَوْلُهُ: «لَنَا: مُجْتَهِدٌ فَلَا يُقَلِّدُ» . أَيْ: لَنَا عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْقِيَاسُ عَلَى مَا لَوِ اجْتَهَدَ، وَظَنَّ الْحُكْمَ، لَأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُجْتَهِدٍ لَمْ يَجْتَهِدْ بِالْفِعْلِ، فَنَقُولُ: هَذَا مُجْتَهِدٌ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، «كَمَا لَوِ اجْتَهَدَ وَظَنَّ الْحُكْمَ» ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا، كَذَلِكَ هَهُنَا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ ذَلِكَ قَدِ اجْتَهَدَ

ص: 631

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِالْفِعْلِ، وَظَنَّ الْحُكْمَ، بِخِلَافِ هَذَا، لِأَنَّ ذَلِكَ تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ ظَنِّ الْحُكْمِ عَلَى هَذَا يَسِيرٌ، بِأَنْ يَجْتَهِدَ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا اجْتَهَدَ، فَتَبَيَّنَ لَهُ خَطَأُ مَنْ قَلَّدَهُ. وَحِينَئِذٍ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ «يَعْمَلَ بِمَا يَعْتَقِدُ خَطَأَهُ؟» وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا إِذَا جَوَّزْنَا لَهُ تَقْلِيدَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ اجْتِهَادٌ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ اجْتِهَادٌ تَعَيَّنَ مَا صَارَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَسَقَطَ التَّقْلِيدُ، كَوَاجِدِ الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَسَائِرِ الْمُبْدَلَاتِ بَعْدَ إِبْدَالِهَا.

قَوْلُهُ: «نَعَمْ» أَيْ: لَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ. «نَعَمْ لَهُ أَنْ يَنْقِلَ مَذْهَبَ غَيْرِهِ لِلْمُسْتَفْتِي» ، إِرْشَادًا لَهُ إِلَيْهِ، «وَلَا يُفْتِي هُوَ بِتَقْلِيدِ أَحَدٍ» .

ص: 632

قَالُوا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَهَذَا لَا يَعْلَمُ {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ، تُرِكَ فِي مَنِ اجْتَهَدَ لِظُهُورِ الْحَقِّ لَهُ بِالْفِعْلِ؛ فَمَنْ عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ.

قُلْنَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْأَلُوا: الْعَامَّةُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بَلْ يَعْلَمُ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ بِخِلَافِ الْعَامِّيِّ، وَأُولُو الْأَمْرِ: الْوُلَاةُ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ فَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِعُمُومِ:{فَاعْتَبِرُوا} {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وَقَوْلِهِ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} وَهَذَا حَثٌّ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ.

وَالتَّدَبُّرُ تُرِكَ فِي الْعَامِّيِّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ، فَبَقِيَ غَيْرُهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَوَجْهُ بَقِيَّةِ التَّفَاصِيلِ ظَاهِرٌ، وَدَلِيلُ ضَعْفِهَا عُمُومُ الدَّلِيلِ.

ــ

قَوْلُهُ: «قَالُوا:» يَعْنِي مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 43] . «وَهَذَا» وَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ، لَكِنَّهُ «لَا يَعْلَمُ» هَذَا الْحُكْمَ الْخَاصَّ، فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ هَذَا النَّصِّ، فَجَازَ لَهُ التَّقْلِيدُ كَالْعَامِّيِّ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 59] ، «وَهُمُ الْعُلَمَاءُ» ، أَمَرَ بِطَاعَتِهِمْ، وَذَلِكَ بِتَقْلِيدِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ الشَّرْعِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ هَذَا الْمُجْتَهِدَ وَغَيْرَهُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: «أَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ» لِامْتِنَاعِ حُصُولِ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ أَحَدٍ عَادَةً «تُرِكَ» ذَلِكَ «فِي مَنِ اجْتَهَدَ» وَظَنَّ الْحُكْمَ، «لِظُهُورِ الْحَقِّ لَهُ بِالْفِعْلِ، فَمَنْ عَدَاهُ» يَبْقَى «عَلَى الْأَصْلِ» وَهُوَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ، فَثَبَتَ

ص: 633

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْمُجْتَهِدَ الْمَذْكُورَ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» إِلَى آخِرِهِ هَذَا جَوَابُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} ، فَالْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ هُمُ «الْعَامَّةُ» بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عز وجل:{إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا لَا يَعْلَمُ بَلْ هُوَ يَعْلَمُ الْحُكْمَ «بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ» مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ، «بِخِلَافِ الْعَامِّيِّ» ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 59] فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، بَلْ هُمُ «الْوُلَاةُ» ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ:{وَأُولِي الْأَمْرِ} بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النِّسَاءِ: 83] ، وَلَوْ كَانَ أُولُو الْأَمْرِ هَهُنَا الْعُلَمَاءَ لَمْ يَسْتَقِمْ، إِذْ لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْفَرْضُ أَنَّهُ عز وجل لَامَهُمْ عَلَى تَرْكِ الرَّدِّ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وَهُمْ أُمَرَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ الْتَزَمُوا طَاعَتَهُمْ.

وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ «فَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ» يَعْنِي فِي الْجَوَابِ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ هُمُ الْعَامَّةُ لَا الْمُجْتَهِدُونَ، «ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِعُمُومِ» قَوْلِهِ عز وجل:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الْحَشْرِ: 2] وَقَوْلِهِ عز وجل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [مُحَمَّدٍ: 24] وَقَوْلِهِ عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}

ص: 634

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ وَهُوَ الِاجْتِهَادُ، وَحَضٌّ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْعُمُومِ، «تُرِكَ فِي الْعَامِّيِّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ» فَفِي غَيْرِهِ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ وَذَلِكَ يُعَارِضُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ دَلَالَةِ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى التَّقْلِيدِ.

قَوْلُهُ: «الْأَصْلُ جَوَازُ التَّقْلِيدِ» .

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلِ الْأَصْلُ مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.

قَوْلُهُ: لِامْتِنَاعِ حُصُولِ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ أَحَدٍ عَادَةً.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا يُجِيزُ التَّقْلِيدَ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِيمَنْ حَصَّلَ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ.

قُلْتُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، فَتَجَاذَبَاهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يُقَلِّدُ بِاتِّفَاقٍ، وَالْمُجْتَهِدَ إِذَا ظَنَّ الْحُكْمَ بِاجْتِهَادٍ لَا يُقَلِّدُ بِاتِّفَاقٍ.

أَمَّا الْمُجْتَهِدُ الَّذِي لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الْحُكْمِ، وَيَظْهَرُ لَهُ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ظَنُّ الْحُكْمِ يَلْحَقُ بِالْعَامِّيِّ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ فِيهِ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِقُوَّتِهِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ يَلْحَقُ بِالْمُجْتَهِدِ الَّذِي ظَنَّ الْحُكْمَ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بِهِ أَشْبَهُ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ دُونَ بَعْضٍ، كَالنَّحْوِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ نَحْوِيَّةٍ، وَالْمُحَدِّثِ فِي مَسْأَلَةٍ خَبَرِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ هُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَإِلْحَاقُهُ بِالْعَامِّيِّ أَشْبَهُ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ إِذَا اجْتَهَدَ.

فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعٌ:

ص: 635

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَامِّيٌّ مَحْضٌ.

مُتَمَكِّنٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.

مُجْتَهِدٌ كَامِلٌ لَمْ يَجْتَهِدْ.

مُجْتَهِدٌ كَامِلٌ اجْتَهَدَ وَظَنَّ الْحُكْمَ.

فَالطَّرَفَانِ قَدْ عُرِفَ حُكْمُهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْعَامِّيَّ يُقَلِّدُ، وَالْمُجْتَهِدَ بِالْفِعْلِ الظَّانِّ لِلْحُكْمِ لَا يُقَلِّدُ، وَالْمُجْتَهِدُ الْكَامِلُ الَّذِي لَمْ يَجْتَهِدْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَنِ اجْتَهَدَ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَظُنَّ الْحُكْمَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَوْ غَيْرِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَالْمُتَمَكِّنُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الْأَشْبَهُ أَنْ يُقَلِّدَ؛ لِأَنَّهُ عَامِّيٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقَلِّدَ، لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مِنْ وَجْهٍ، فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَلَهُ مَرَاتِبُ مُتَعَدِّدَةٌ بِحَسَبِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِلِ.

قَوْلُهُ: «وَوَجْهُ بَقِيَّةِ التَّفَاصِيلِ ظَاهِرٌ» يَعْنِي التَّفَاصِيلَ الْمَذْكُورَةَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَكَذَا فِي غَيْرِهِ.

أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ، فَلِأَنَّ فِي تَقْلِيدِهِ مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ تَحْصِيلًا لِلْعَمَلِ فِي وَقْتِهِ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ مَا، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِخْلَاءِ الْوَقْتِ عَنْ وَظِيفَتِهِ لِتَوَقُّعِ ظُهُورِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ، فَلِأَنَّ فِي تَقْلِيدِهِ مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ تَحْصِيلًا لِلْعَمَلِ فِي وَقْتِهِ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ مَا، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِخْلَاءِ الْوَقْتِ عَنْ وَظِيفَتِهِ لِتَوَقُّعِ ظُهُورِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ تَقْلِيدِهِ لِلْعَمَلِ وَالْفُتْيَا؛ فَلِأَنَّ تَقْلِيدَهُ لِيَعْمَلَ بِهِ هُوَ تَصَرُّفٌ فِيمَا يَخُصُّ نَفْسَهُ مِنَ الْعَمَلِ، فَجَازَ. كَتَوْكِيلِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ تَقْلِيدِهِ لِفُتْيَا الْغَيْرِ، لِأَنَّهُ كَتَوْكِيلِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ تَقْلِيدِهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَلِأَنَّ تَقْلِيدَهُ أَعْلَمَ مِنْهُ يُفِيدُهُ ظَنًّا غَالِبًا أَعْلَى مِنْ ظُهُورِ ظَنِّهِ وَرُتْبَتِهِ، إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ الْأَعْلَمَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ، وَالْإِصَابَةَ عَلَيْهِ أَغْلَبُ، فَصَارَ كَاجْتِهَادِهِ هُوَ فِي الْحُكْمِ بِخِلَافِ تَقْلِيدِهِ

ص: 636

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

دُونَهُ، إِذْ لَا يُفِيدُهُ الظَّنَّ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ، إِذْ لَا مُرَجِّحَ لَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ.

وَيُشْبِهُ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ أَنَّ مَنْ أَوْدَعَ شَيْئًا وَعَيَّنَ لَهُ مَوْضِعًا، فَنَقَلَهُ الْمُودَعُ إِلَى أَحْرَزَ مِنْهُ، لَمْ يَضْمَنْ إِنْ تَلَفَ، وَإِنْ نَقَلَهُ إِلَى مِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ ضَمِنَ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَقْلِيدِهِ الصَّحَابِيَّ دُونَ غَيْرِهِ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ أَقْرَبُ إِلَى الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.

قَوْلُهُ: «وَدَلِيلُ ضَعْفِهَا عُمُومُ الدَّلِيلِ» أَيْ: دَلِيلُ ضَعْفِ التَّفَاصِيلِ الْمَذْكُورَةِ عُمُومُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ.

ص: 637

السَّابِعَةُ: إِذَا نَصَّ الْمُجْتَهِدُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ لِعِلَّةٍ بَيَّنَهَا، فَمَذْهَبُهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وُجِدَتْ فِيهَا تِلْكَ الْعِلَّةُ كَمَذْهَبِهِ فِيهَا، إِذِ الْحُكْمُ يَتْبَعُ الْعِلَّةَ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الْعِلَّةَ فَلَا، وَإِنْ أَشْبَهَتْهَا، إِذْ هُوَ إِثْبَاتُ مَذْهَبٍ بِالْقِيَاسِ، وَلِجَوَازِ ظُهُورِ الْفَرْقِ لَهُ لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُشْتَبِهَتَيْنِ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، كَمَا لَوْ سَكَتَ عَنْ إِحْدَاهُمَا وَأَوْلَى، وَالْأَوْلَى جَوَازُ ذَلِكَ بَعْدَ الْجِدِّ وَالْبَحْثِ مِنْ أَهْلِهِ، إِذْ خَفَاءُ الْفَرْقِ مَعَ ذَلِكَ وَإِنْ دَقَّ مُمْتَنِعٌ عَادَةً.

وَقَدْ وَقَعَ فِي مَذْهَبِنَا، فَقَالَ فِي «الْمُحَرَّرِ» : وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا نَجِسًا صَلَّى فِيهِ، وَأَعَادَ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَنَصَّ فِيمَنْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ فَصَلَّى فِيهِ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ، فَيَتَخَرَّجُ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوَصَايَا وَالْقَذْفِ، وَمِثْلُهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كَثِيرٌ.

ثُمَّ التَّخْرِيجُ قَدْ يَقْبَلُ تَقْرِيرَ النَّصَّيْنِ وَقَدْ لَا يَقْبَلُ.

ــ

الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: إِذَا نَصَّ الْمُجْتَهِدُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ لِعِلَّةٍ بَيَّنَهَا، فَمَذْهَبُهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وُجِدَتْ فِيهَا تِلْكَ الْعِلَّةُ كَمَذْهَبِهِ فِيهَا» ، أَيْ: إِذَا نَصَّ الْمُجْتَهِدُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَبَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ الْحُكْمِ مَا هِيَ، ثُمَّ وُجِدَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ فِي مَسَائِلَ أُخَرَ؛ فَمَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ كَمَذْهَبِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ «الْحُكْمَ يَتْبَعُ الْعِلَّةَ» فَيُوجَدُ حَيْثُ وُجِدَتْ، وَلِأَنَّ هَذَا قَدْ

ص: 638

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وُجِدَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَفِي كَلَامِ الْمُجْتَهِدِينَ كَذَلِكَ وَأَوْلَى، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي سِيَاقِ ذَمِّهِمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ:{مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [الْمُجَادَلَةِ: 2] ، فَفَهِمْنَا مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيلَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ، فَقُلْنَا: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي؛ لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهَا قَدْ أَتَتْ بِالْمُنْكَرِ مِنَ الْقَوْلِ وَالزُّورِ كَمَا عَلَّلَ بِهِ الْخِرَقِيُّ. وَقَدْ يَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَقْتَضِي جَعْلَ الْمَرْأَةِ مُظَاهِرَةً وَقَدْ نَفَاهُ الْخِرَقِيُّ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهَا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ.

قُلْتُ: وَالْتِزَامُ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ. وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِرَّةِ: إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ وَوُجِدَتْ عِلَّةُ الطَّوَافِ فِي غَيْرِهَا؛ جَعَلْنَا حُكْمَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ وَاحِدًا. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، أَوْ رُوِيَ لَهُ: أَنَّ قَوْمًا عَلَى مَاءٍ لَهُمْ مَرَّ بِهِمْ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَاسْتَسْقُوهُمْ فَلَمْ يَسْقُوهُمْ حَتَّى مَاتُوا عَطَشًا، فَضَمَّنَ عُمَرُ أَصْحَابَ الْمَاءِ دِيَاتِهِمْ. فَقِيلَ لِأَحْمَدَ: أَتَقُولُ بِهَذَا؟ قَالَ: إِيْ وَاللَّهِ؛ يَقُولُ عُمَرُ رضي الله عنه وَلَا آخُذُ بِهِ! فَلَمَّا عَلَّلَ بِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَهُ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي كُلِّ حُكْمٍ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مَانِعٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: «وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الْعِلَّةَ» يَعْنِي الْمُجْتَهِدَ إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ عِلَّتَهُ «فَلَا» أَيْ: فَلَا يُحْكَمُ بِحُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِهَا

ص: 639