المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

. . . . . . . . . . - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَنَّ‌

‌ الْعِلَّةَ

لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ مَمْنُوعٌ، بَلْ هِيَ مُعَرِّفٌ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُعَرِّفُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا أَوْ غَيْرَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ الْعِلَّةَ بَاعِثٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الشَّارِعِ، مُعَرِّفٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا قِيلَ: إِنِ الْعِلَّةَ الْبَدَنِيَّةَ عَرَضٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَرِيضِ، دَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الطَّبِيبِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ مَا قَالَ ; وَامْتِنَاعُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ مَمْنُوعٌ، لَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ لَا جَوَابَ عَنْهُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قِيَاسُ الْوُضُوءِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ عَلَى التَّيَمُّمِ مَعَ تَأَخُّرِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ عَنِ الْوُضُوءِ.

قَوْلُهُ: «أَمَّا الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، فَهِيَ عَلَامَةٌ وَمُعَرِّفٌ» .

هَذَا الْكَلَامُ فِي الْعِلَّةِ، وَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، وَهِيَ عَلَامَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ وَمُعَرِّفٌ لَهُ.

قَالَ الْبَزْدَوِيُّ فِي «الْمُقْتَرَحِ» : وَلِلْعِلَّةِ أَسَامٍ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَهِيَ السَّبَبُ، وَالْأَمَارَةُ، وَالدَّاعِي، وَالْمُسْتَدْعِي، وَالْبَاعِثُ، وَالْحَامِلُ، وَالْمَنَاطُ، وَالدَّلِيلُ، وَالْمُقْتَضِي، وَالْمُوجِبُ، وَالْمُؤَثِّرُ.

قُلْتُ: أَمَّا تَسْمِيَتُهَا سَبَبًا، فَلِأَنَّهَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَهُوَ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِهَا؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا الْمُثْبِتُ لَهَا الشَّارِعُ.

وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا أَمَارَةً فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَارَةَ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ - الْعَلَامَةُ، وَالْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَامَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ فَإِنَّهَا

أَمَارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكِ فَسَلِّمِي

ص: 315

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَيْ: عَلَامَةُ تَسْلِيمِي.

وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا دَاعِيًا وَمُسْتَدْعِيًا، فَلِأَنَّهَا تَدْعُو الشَّارِعَ إِلَى وَضْعِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَتَسْتَدْعِي ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَكَذَلِكَ هِيَ الْبَاعِثُ لَهُ وَالْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ.

وَمَعْنَى كَوْنِهَا مَنَاطًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ يُنَاطُ بِهَا أَيْ: يُعَلَّقُ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا دَلِيلًا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهَا إِذَا وُجِدَتْ فِي مَحَلٍّ، دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا فِيهِ، كَالْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ، وَالْكَيْلِ فِي الْأَرُزِّ.

وَمَعْنَى كَوْنِهَا مُوجِبًا وَمُؤَثِّرًا هُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ مَعْرِفَةَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَتُؤَثِّرُ فِي مَعْرِفَتِهِ؛ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُ، وَالْمُؤَثِّرَ إِنَّمَا هُوَ الشَّارِعُ.

وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمَارَةً فِي الْفَرْعِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِيهِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْأَمَارَةِ سِوَى تَعْرِيفِهَا لِلْحُكْمِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مُعَرَّفٌ بِالنَّصِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِلَّةِ مَعْنَى الْبَاعِثِ، خَلَتْ عَنْ فَائِدَةٍ.

الثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَهِيَ فَرْعٌ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، فَلَوْ تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَتُهُ عَلَيْهَا، لَزِمَ الدَّوْرُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَاعِثِ وَالْأَمَارَةِ الْمَحْضَةِ: هُوَ أَنَّ الْبَاعِثَ يَكُونُ مُنَاسِبًا لِحُكْمِهِ، وَمُقْتَضِيًا لَهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ مِنِ اقْتِضَائِهِ إِيَّاهُ مَصْلَحَةٌ ; بِحَيْثُ يَصِحُّ فِي عُرْفِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا فُعِلَ كَذَا لِكَذَا، كَقَوْلِنَا: إِنَّمَا قُتِلَ الْمُرْتَدُّ لِتَبْدِيلِهِ الدِّينَ، أَوْ تَقْلِيلِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ إِعَانَةِ الْكَافِرِينَ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لِإِفْسَادِهِ الْعَقْلَ، بِخِلَافِ الْأَمَارَةِ الْمَحْضَةِ كَزَوَالِ الشَّمْسِ

ص: 316

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَطُلُوعِ الْهِلَالِ؛ إِذْ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: وَجَبَتِ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الشَّمْسَ زَالَتْ، وَالصَّوْمُ لِأَنَّ الْهِلَالَ ظَهَرَ، وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فِي التَّخَاطُبِ الْعُرْفِيِّ، لَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ، لَا مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيلُ، أَيْ: زَوَالُ الشَّمْسِ وَطُلُوعُ الْهِلَالِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، لَا عِلَّةٌ لَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّعَبُّدَاتِ كَأَسْبَابِ الْحَدَثِ لِلْوُضُوءِ، هِيَ أَمَارَاتٌ، لَا بَوَاعِثُ لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ، وَرُبَّمَا جَاءَ فِي هَذَا كَلَامٌ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: «وَمِنْ شَرْطِهَا» ، أَيْ: وَمِنْ شَرْطِ الْعِلَّةِ «أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً» يَعْنِي لِمَحَلِّ النَّصِّ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْإِسْكَارِ وَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالطُّعْمِ، «فَلَا عِبْرَةَ بِالْقَاصِرَةِ، وَهِيَ مَا لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ، كَالثَّمَنِيَّةِ فِي النَّقْدَيْنِ» ، أَيْ: كَوْنُهُمَا أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِهِمَا، قَاصِرٌ عَلَيْهِمَا «وَهُوَ» أَيْ: عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ «قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ» .

قَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْكَرْخِيُّ، وَأَبُو عَبْدُ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ إِلَى إِبْطَالِهَا.

قُلْتُ: وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَاصِرَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ. أَمَّا المَنْصُوصَةُ أَوِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا حُكْمُ الْمَعْصُومِ وَاجْتِهَادُهُ.

ص: 317

الْأَوَّلُ: الْعِلَّةُ أَمَارَةٌ، وَالْقَاصِرَةُ لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ، تُرِكَ فِي الْمُتَعَدِّيَةِ لِفَائِدَتِهَا، فَفِي الْقَاصِرَةِ عَلَى الْأَصْلِ لِعَدَمِهَا.

الثَّانِي: التَّعْدِيَةُ فَرْعُ صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ، فَلَوْ عَلَّلْنَا الْعِلِّيَّةَ بِالتَّعْدِيَةِ لَزِمَ الدَّوْرُ؛ وَلِأَنَّ التَّعْدِيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْعَقْلِيَّةِ والمَنْصُوصَةِ فَفِي الْمُسْتَنْبَطَةِ أَوْلَى، وَكَوْنُهَا لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ مَمْنُوعٌ ; بَلْ هِيَ أَمَارَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهَا فِي مَحَلِّ النَّصِّ، أَوْ كَوْنِهِ مُعَلَّلًا لَا تَعَبُّدًا، وَعَدَمُ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ مَمْنُوعٌ؛ إِذْ مَبْنَى الشَّرْعِ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ أَدِلَّتِهِ ظَنِّيَّةٌ، وَعَدَمُ فَائِدَتِهَا مَمْنُوعَةٌ؛ إِذْ فَائِدَتُهَا مَعْرِفَةُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ، وَالنَّفْسُ إِلَى قَبُولِهِ أَمْيَلُ.

ــ

قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» أَيِ: احْتَجَّ الْأَوَّلُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَهُوَ الْقَائِلُ بِإِبْطَالِهَا بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ «الْعِلَّةَ» الشَّرْعِيَّةَ «أَمَارَةٌ» أَيْ: عَلَامَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَالْعِلَّةُ «الْقَاصِرَةُ لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ» ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، فَيَبْقَى التَّعْلِيلُ بِهَا عَرِّيًا عَنْ فَائِدَةٍ؛ إِذْ فَائِدَتُهَا إِمَّا إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا قُلْنَا، أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ لِقُصُورِهَا؛ إِذِ الثَّمَنِيَّةُ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ لِتَتَعَدَّى إِلَيْهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْأَصْلَ» يَنْفِي «الْعَمَلَ بِالظَّنِّ، تُرِكَ» ذَلِكَ «فِي الْمُتَعَدِّيَةِ لِفَائِدَتِهَا» بِالتَّعَدِّي إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا «فَفِي الْقَاصِرَةِ» تَبْقَى «عَلَى الْأَصْلِ» فِي عَدَمِ الْعَمَلِ بِهَا. وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .

الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَاصِرَةَ لَا فَائِدَةَ فِيهَا لِعَدَمِ تَعَدِّيهَا، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَرِدُ

ص: 318

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الشَّرْعُ بِهِ، فَالْقَاصِرَةُ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِهَا، فَلَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً.

قَوْلُهُ: «الثَّانِي» أَيِ: احْتَجَّ الثَّانِي وَهُوَ الْقَائِلُ بِاعْتِبَارِهَا بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعْدِيَةَ الْعِلَّةِ فَرْعُ عِلِّيَّتِهَا، أَيْ: فَرْعُ كَوْنِهَا عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا عِلَّةً فِي الْأَصْلِ عُدِّيَتْ إِلَى الْفَرْعِ، فَلَوْ عَلَّلْتَ عِلِّيَّتَهَا بِتَعْدِيَتِهَا «لَزِمَ الدَّوْرُ» ؛ لِتَوقُّفِ كَوْنِهَا عِلَّةً عَلَى كَوْنِهَا مُتَعَدِّيَةً، وَكَوْنِهَا مُتَعَدِّيَةً عَلَى كَوْنِهَا عِلَّةً، لَكِنَّ الدَّوْرَ بَاطِلٌ، فَالْمُفْضِي إِلَيْهِ بَاطِلٌ، وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ عِلِّيَّتِهَا بِتَعْدِيَتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا مَعَ كَوْنِهَا قَاصِرَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «التَّعْدِيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْعَقْلِيَّةِ» أَيْ: لِلْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ «والمَنْصُوصَةِ» مَعَ قُوَّتِهَا «فَفِي الْمُسْتَنْبَطَةِ أَوْلَى» أَنْ لَا يُشْتَرَطَ لِضَعْفِهَا.

قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّا لَا نُعَلِّلُ الْعِلِّيَّةَ بِالتَّعْدِيَةِ، بَلْ نَجْعَلُ التَّعْدِيَةَ فَائِدَةَ الْعِلِّيَّةِ لَا عِلَّةً لَهَا، فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ، فَلَا نَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ الْوَصْفُ عِلَّةً لِتَعَدِّيِهِ، بَلْ نَقُولُ: فَائِدَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً تَعَدِّيهِ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَإِذَا انْتَفَتْ فَائِدَتُهُ، أَلْغَيْنَاهُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ، لَا لِعَدَمِ عِلَّتِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ، وَانْتِفَائِهِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْوُجُودِ، وَالْفَائِدَةُ غَايَةُ الْوُجُودِ، وَجِهَتُهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَلَا دَوْرَ.

وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّعْدِيَةِ لِلْعَقْلِيَّةِ والمَنْصُوصَةِ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ لِلْمُسْتَنْبَطَةِ؛ لِقِيَامِ الْفَرْقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ مُوجِبَةٌ مُؤَثِّرَةٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ

ص: 319

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تَأْثِيرُهَا فِي مَحَلِّهَا لَا يَتَجَاوَزُهُ، بِخِلَافِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهَا أَمَارَةٌ مُعَرِّفَةٌ، وَالتَّعْرِيفُ لَا يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْمُعَرَّفِ، وَأَيْضًا فَالْقِيَاسُ بِالتَّعْدِيَةِ إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ. وَيَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّ قِيَاسَ الْعِلَّةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ يُفِيدُ الْقَطْعَ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَ ثُبُوتُهَا فِي الْأَصْلِ وَوُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ قَاطِعًا كَانَ الْقِيَاسُ قَاطِعًا، عَقْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ شَرْعِيَّةً كَمَا سَبَقَ، بَلْ إِذَا كَانَ قَاطِعًا فِي الشَّرْعِيَّةِ، فَفِي الْعَقْلِيَّةِ أَوْلَى.

وَأَمَّا المَنْصُوصَةُ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ، فَثَبَتَتْ قُوَّتُهَا بِهِ، وَاسْتَغْنَتْ عَنْ قُوَّةِ التَّعَدِّي، بِخِلَافِ الْمُسْتَنْبَطَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الِاعْتِرَاضِ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ التَّعْدِيَةُ فِي الْعَقْلِيَّةِ والمَنْصُوصَةِ، فَفِي غَيْرِهِمَا أَوْلَى، كَلَامٌ فَاسِدُ الْوَضْعِ، وَالَّذِي يَنْبَغِي الْعَكْسُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اسْتِغْنَاءِ الْعَقْلِيَّةِ والمَنْصُوصَةِ عَنِ التَّعَدِّي لِقُوَّتِهِمَا وَافْتِقَارِ الْمُسْتَنْبَطَةِ إِلَيْهِ لِضَعْفِهَا.

قَوْلُهُ: «وَكَوْنُهَا لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ مَمْنُوعٌ» ، هَذَا جَوَابُ الْمُصَحِّحِينَ لِلْقَاصِرَةِ عَنْ دَلِيلِ الْمُبْطِلِينَ لَهَا. وَبَيَانُهُ أَنَّا نَقُولُ: قَوْلُكُمْ: «الْقَاصِرَةُ لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ» ، فَلَا تَكُونُ مُفِيدَةً «مَمْنُوعٌ، بَلْ هِيَ أَمَارَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهَا فِي مَحَلِّ النَّصِّ» عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ ثَابِتٌ بِهَا، أَوْ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ «مُعَلَّلًا لَا تَعَبُّدًا» عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِهَا، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا تَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ.

ص: 320

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ عَدَمُ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ، فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا فِي الشَّرْعِيَّاتِ، لِأَنَّ مَبْنَى الشَّرْعِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَلِهَذَا كَانَتْ «أَكْثَرُ أَدِلَّتِهِ ظَنِّيَّةً» كَالْعُمُومِ، وَالظَّوَاهِرِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ، فَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ فِيهِ; لَكَانَ أَكْثَرُهُ وَاقِعًا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْفُنُونِ جَرَيَانُ جَمِيعِهَا أَوْ أَكْثَرِهَا عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يُمْتَنَعُ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ فِي الْمَطَالِبِ الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُمْ: الْقَاصِرَةُ عَدِيمَةُ الْفَائِدَةِ.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ «فَائِدَتُهَا مَعْرِفَةُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ» أَيْ: إِنَّهُ مُعَلَّلٌ لَا تَعَبُّدٌ، وَالنَّفْسُ إِلَى قَبُولِ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ أَمْيَلُ، وَإِلَيْهَا أَسْكَنُ، وَهِيَ بِتَصْدِيقِهَا أَجْدَرُ لِحُصُولِ الطُّمَأْنِينَةِ، إِذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ فَرْقًا بَيْنَ قَبُولِهَا نَقْضَ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ، وَبَيْنَ نَقْضِهِ بِمَسِّ الْفَرْجِ، لِأَنَّ فِيهِ مُخَيَّلًا مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَحَلَّ خُرُوجِ الْخَارِجِ النَّاقِضِ بِالنَّصِّ. وَلِهَذَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي مَسِّهِ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ لِيَصِيرَ مَظِنَّةً لِوُجُودِ الْخَارِجِ الْمُنَاسِبِ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: نَحْنُ أَوَّلًا نُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِطَرِيقَةٍ مِنْ إِيمَاءٍ أَوْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ تَضَمُّنِ مَصْلَحَةٍ مُبْهَمَةٍ، ثُمَّ نَنْظُرُ فِي الْمَصْلَحَةِ; إِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنَ النَّصِّ، عَدَّيْنَا حُكْمَهَا، وَإِلَّا قَصَرْنَاهَا عَلَى مَحَلِّهَا، فَالتَّعْدِيَةُ فَرْعُ الصِّحَّةِ وَتَابِعَةٌ لَهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَابِعُ الشَّيْءِ وَفَرْعُهُ مُصَحِّحًا لَهُ؟ .

قُلْتُ: اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، هَلْ هُوَ بِالْعِلَّةِ أَوْ بِالنَّصِّ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ فِي الْفَرْعِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

ص: 321

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْخِلَافُ فِي اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ يَصِحُّ تَرْتِيبُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ عَنْ أَثَرِهَا بِالْعِلَّةِ، فَلَا تَعْرَى الْقَاصِرَةُ عَنْ فَائِدَةٍ، فَتُعْتَبَرُ، وَعَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ بِهِ، فَتَعْرَى الْقَاصِرَةُ عَنْ فَائِدَةٍ، لِأَنَّ أَثَرَهَا لَا يَظْهَرُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ وَلَا فِي غَيْرِهِ، فَلَا تُعْتَبَرُ.

قَالَ الْآمِدِيُّ: النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ أَوْ بِالْعِلَّةِ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيَّةِ بِكَوْنِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِالْعِلَّةِ أَنَّهَا الْبَاعِثَةُ لِلشَّارِعِ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ، لَا أَنَّهَا مُعَرِّفَةٌ لَهُ، وَمُرَادَ الْحَنَفِيَّةِ بِكَوْنِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ أَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ لَا الْعِلَّةِ، فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرُ مُنْكِرٍ لِقَوْلِ الْآخَرِ، بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ فِي الْمَعْنَى، فَثَبَتَ أَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ بَقِيَّةِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ حُكْمِ الْأَصْلِ.

ص: 322

وَاخْتُلِفَ فِي اطِّرَادِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ اسْتِمْرَارُ حُكْمِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّهَا، وَاشْتَرَطَهُ الْقَاضِي وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَلِمَالِكٍ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَأَبِي الْخَطَّابِ، فَتَبْقَى بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةً كَالْعُمُومِ.

وَقِيلَ: مَعَ الْمَانِعِ، إِحَالَةً لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.

وَقِيلَ: الْمَنْصُوصَةُ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ لِضَعْفِهَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

الْأَوَّلُ: تَخَلُّفُ حُكْمِهَا عَنْهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عِلِّيَّتِهَا.

الثَّانِي: عِلَلُ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ لَا مُؤَثِّرَاتٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَاخْتُلِفَ فِي اطِّرَادِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ اسْتِمْرَارُ حُكْمِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّهَا» أَيْ: وُجُودُ حُكْمِهَا فِي كُلِّ مَحَلٍّ وُجِدَتْ فِيهِ، كَوُجُودِ التَّحْرِيمِ حَيْثُ وُجِدَ الْإِسْكَارُ، «فَاشْتَرَطَهُ الْقَاضِي» أَبُو يَعْلَى «وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ» أَيْ: لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ «وَلِمَالِكٍ وَالْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ، فَتَبْقَى» أَيْ: فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ اطِّرَادِهَا تَبْقَى بَعْدَ تَخْصِيصِهَا «حُجَّةً كَالْعُمُومِ» .

«وَقِيلَ: مَعَ الْمَانِعِ» أَيْ: قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّمَا تَكُونُ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَعَ الْمَانِعِ فِي الْفَرْعِ، أَيْ: إِنْ وُجِدَ فِي الْفَرْعِ مَانِعٌ يَمْنَعُ تَعَدِّي الْأَصْلِ إِلَيْهِ، كَانَتْ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ «إِحَالَةً لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ» عَلَى الْمَانِعِ، لَا عَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْوَصْفِ لِلْعِلِّيَّةِ اسْتِصْحَابًا لِحَالِ دَلِيلِ الْعِلِّيَّةِ، كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ حَيْثُ لَمْ يُوجِبِ الْقَوَدَ عَلَى الْأَبِ لِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ، لَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْقَتْلِ الْمَذْكُورِ لِلْمُقْتَضِي.

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

«وَقِيلَ: الْمَنْصُوصَةُ» أَيْ: وَقِيلَ: إِنَّمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ «الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ» وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ضَعْفُ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَقُوَّةُ الْمَنْصُوصَةِ بِالنَّصِّ، فَلَا يُخْرِجُهَا التَّخْصِيصُ عَنِ الْعِلِّيَّةِ لِقُوَّتِهَا.

«وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ» : إِشَارَةٌ إِلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ غَيْرِ هَذَا، مِنْهُمُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ طَوِيلٌ لَمْ أَذْكُرْهُ لِطُولِهِ، وَالْمَشْهُورُ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَهُوَ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ.

ثَالِثُهَا: إِنْ وُجِدَ الْمَانِعُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، قَدَحَ فِي الْعِلِّيَّةِ، وَإِلَّا فَلَا.

وَرَابِعُهَا: إِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً، لَمْ يَقْدَحِ التَّخْصِيصُ فِي عِلِّيَّتِهَا، وَإِلَّا فَلَا.

قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» أَيْ: احْتَجَّ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي اشْتَرَطَ اطِّرَادَهَا بِأَنْ قَالَ:«تَخَلُّفُ حُكْمِهَا عَنْهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عِلِّيَّتِهَا» أَيْ: عَلَى عَدَمِ كَوْنِهَا عِلَّةً لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ، وَانْتِفَاءَهُ مَعَ وُجُودِ عِلَّتِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَحَمْلُ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى خِلَافِهِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْوَصْفَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْعِلِّيَّةِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْعِلِّيَّةِ لَزِمَ وُجُودُ الْحُكْمِ مَعَهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا لَهَا لَمْ يَكُنْ عِلَّةً حَتَّى يَنْضَافَ إِلَى غَيْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ عِلَّةٌ. هَذَا خُلْفٌ.

«الثَّانِي» : أَيِ: احْتَجَّ الْقَائِلُ الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي أَجَازَ تَخْصِيصَهَا، وَتَخَلُّفَ حُكْمِهَا عَنْهَا فِي بَعْضِ صُوَرِهَا بِأَنْ قَالَ:«عِلَلُ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ لَا مُؤَثِّرَاتٌ»

ص: 324

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَإِذَا كَانَتْ أَمَارَاتٍ لَمْ «يُشْتَرَطْ فِيهَا ذَلِكَ» لِأَنَّ الْأَمَارَةَ لَا يَجِبُ وُجُودُ حُكْمِهَا مَعَهَا أَبَدًا، بَلْ يَكْفِي وُجُودُهُ مَعَهَا فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ، كَالْغَيْثِ الرَّطْبِ أَمَارَةٌ عَلَى الْمَطَرِ; وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَوْنِ مَرْكُوبِ الْقَاضِي عَلَى بَابِ الْأَمِيرِ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.

قُلْتُ: قَدْ تَعَارَضَ هُنَا أَصْلَانِ، فَخَرَجَ الْخِلَافُ لِمُلَاحَظَتِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْوَصْفِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهِ الِاسْتِنْبَاطِيَّةِ مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ ذَلِكَ، فَالْأَصْلُ فِيمَا كَانَ مُنَاسِبًا وَقَامَ دَلِيلُ عِلِّيَّتِهِ فِي صُورَةٍ مَا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ فِي صُورَةٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، فَلَا يُلْغَى لِأَجْلِهِ وَصْفٌ قَامَ دَلِيلُ عِلِّيَّتِهِ. وَهَذَا الْأَصْلُ مُعَارَضٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ. أَمَّا وُجُودُ الْمَانِعِ وَنَحْوِهِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ; فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَلَا تَعَارُضَ، فَلَمَّا تَعَارَضَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ، اتَّجَهَ الْمَذْهَبَانِ.

وَحُجَّةُ الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ - وَإِنْ كُنَّا قَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَإِلَى حُجَّةِ الرَّابِعِ أَيْضًا فِيمَا سَبَقَ -: هُوَ أَنَّ قِيَامَ الْمَانِعِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ صَالِحٌ لِإِحَالَةِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَلَا وَجْهَ لِلْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلِّيَّةِ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَقُمْ مَانِعٌ، فَإِنَّ إِحَالَةَ تَخَلُّفِهِ عَلَى عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ مُتَّجِهٌ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ.

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مِثَالُهُ: أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ عِلَّةُ وُجُوبِ الْحَدِّ قَدْ تَخَلَّفَ فِي صُورَةِ الْإِكْرَاهِ، أَحَلْنَا تَخَلُّفَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَانِعٌ، أَمَّا لَوْ تَخَلَّفَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِي الشُّرْبِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَانَعٌ غَيْرُ الْإِكْرَاهِ وَلَا انْتِفَاءُ شَرْطٍ، دَلَّ عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الشُّرْبِ لِإِيجَابِ الْجَلْدِ، إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُحَالَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ غَيْرَهُ.

وَحُجَّةُ الْمَذْهَبِ الرَّابِعِ أَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، تَعَيَّنَ الِانْقِيَادُ لِنَصِّ الشَّارِعِ وَالْإِجْمَاعِ الْمَعْصُومَيْنِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي ذَلِكَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي صُورَةٍ مَا، لِأَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ يُفِيدَانِ مِنْ ظَنِّ الصِّحَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُفِيدُ التَّخْصِيصُ مِنْ ظَنِّ الْبُطْلَانِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 326

تَنْبِيهٌ: لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ أَقْسَامٌ:

أَحَدُهَا: مَا يُعْلَمُ اسْتِثْنَاؤُهُ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ كَإِيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِاخْتِصَاصِ كُلِّ امْرِئٍ بِضَمَانِ جِنَايَةِ نَفْسِهِ، وَإِيجَابِ صَاعِ تَمْرٍ فِي الْمُصَرَّاةِ، مَعَ أَنَّ تَمَاثُلَ الْأَجْزَاءِ عِلَّةُ إِيجَابِ الْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْمِثْلِيَّاتِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْقِيَاسُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَظْنُونَةً كَوُرُودِ الْعَرَايَا عَلَى عِلَّةِ الرِّبَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَلَا يَنْقُضُ وَلَا يُخَصِّصُ الْعِلَّةَ، بَلْ عَلَى الْمُنَاظِرِ بَيَانُ وُرُودِهَا عَلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ أَيْضًا.

الثَّانِي: النَّقْضُ التَّقْدِيرِيُّ: كَقَوْلِهِ: رِقُّ الْأُمِّ عِلَّةُ رِقِّ الْوَلَدِ فَيَنْتَقِضُ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ بِأُمِّهِ، هُوَ حُرٌّ، وَأُمُّهُ أَمَةٌ، فَيُقَالُ: هُوَ رَقِيقٌ تَقْدِيرًا بِدَلِيلِ وُجُوبِ قِيمَتِهِ، فَفِي وُرُودِهِ نَقْضًا خِلَافٌ، الْأَشْبَهُ لَا، اعْتِبَارًا بِالتَّحْقِيقِ لَا بِالتَّقْدِيرِ.

ــ

تَنْبِيهٌ: لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ أَقْسَامٌ «إِلَى آخِرِهِ، لَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِتَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَكَانَ لِلتَّخَلُّفِ أَقْسَامٌ، بَعْضُهَا مُؤَثِّرٌ فِي الْعِلَّةِ، وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ; ذَكَرَ أَقْسَامَ التَّخَلُّفِ لِيَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.

فَأَحَدُ أَقْسَامِ التَّخَلُّفِ» مَا يُعْلَمُ اسْتِثْنَاؤُهُ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ كَإِيجَابِ الدِّيَةِ «فِي قَتْلِ الْخَطَأِ» عَلَى الْعَاقِلَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِاخْتِصَاصِ كُلِّ امْرِئٍ بِضَمَانِ جِنَايَةِ نَفْسِهِ «; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْإِسْرَاءِ: 15] وَقَوْلِهِ عليه السلام: لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلِهِ لِأَبِي رِمْثَةَ عَنِ ابْنِهِ: أَمَا إِنَّهُ

ص: 327

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ» إِيجَابُ صَاعِ تَمْرٍ فِي الْمُصَرَّاةِ «عِوَضًا عَنِ اللَّبَنِ الْمُحْتَلَبِ مِنْهَا» مَعَ أَنَّ تَمَاثُلَ الْأَجْزَاءِ عِلَّةُ إِيجَابِ الْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْمِثْلِيَّاتِ «فَكَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يُضْمَنَ لَبَنُ الْمُصَرَّاةِ بِمِثْلِهِ. وَلِهَذَا تَرَكَ الْحَنَفِيَّةُ الْعَمَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَجَعَلُوهُ مِمَّا يُخَالِفُ الْأُصُولَ، فَهَذَا» لَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْقِيَاسُ «يَعْنِي: لَا تَبْطُلُ بِهِ عِلَّتُهُ، لِثُبُوتِهِ قَطْعًا بِنَصِّ الشَّارِعِ، وَمُنَاسَبَةِ الْعَقْلِ،» وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ «فِي تَعَلُّلِهِ بِأَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرِئٍ مُخْتَصٌّ بِجِنَايَةِ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ دِيَةِ الْخَطَأِ، وَتَمَاثُلُ الْأَجْزَاءِ عِلَّةُ إِيجَابِ الْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْمِثْلِيَّاتِ إِلَّا فِي الْمُصَرَّاةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَوْ لَمْ يَحْتَرِزْ عَنْهُ لَوَرَدَ نَقْضًا. وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا.

» وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَظْنُونَةً كَوُرُودِ الْعَرَايَا عَلَى عِلَّةِ الرِّبَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ «وَكُلِّ مَذْهَبٍ ; فَإِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا حُصُولُ التَّغَابُنِ بِالتَّفَاضُلِ فِي الْأَمْوَالِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، وَالتَّفَاضُلُ وَاقِعٌ فِي الْعَرَايَا، لِأَنَّهَا بَيْعُ رُطَبٍ بِتَمْرٍ، وَالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مَجْهُولٌ، وَهُوَ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَايَا قَدْ جَاءَتْ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى كُلِّ عِلَّةٍ وَقَوْلٍ، سَوَاءٌ عَلَّلَ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ أَوِ الطَّعْمِ أَوِ الْقُوتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لِاسْتِثْنَاءِ الشَّارِعِ لَهَا رُخْصَةً، فَهَذَا» لَا يَنْقُضُ «الْعِلَّةَ، وَلَا يُخَصِّصُهَا» بَلْ

ص: 328

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلَى الْمُنَاظِرِ وَهُوَ الْمُسْتَدِلُّ «بَيَانُ» أَنَّهَا وَارِدَةٌ «عَلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ أَيْضًا» إِذْ لَا يَلْزَمُ الْخَصْمَ قَبُولُ قَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ: إِنَّ الْعَرَايَا مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ عِلَّةِ الرِّبَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، بِدُونِ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ دَعْوَى، وَالدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ إِلَّا بِحُجَّةٍ، فَتُرْوَى لَهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الْعَرَايَا وَبَيَانِ كَوْنِهَا رُخْصَةً.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْعِبَادَةِ: عِبَادَةٌ مَفْرُوضَةٌ، فَتَفْتَقِرُ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ، فَلَا يَنْتَقِضُ ذَلِكَ بِالْحَجِّ حَيْثُ جَازَ الْإِحْرَامُ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زِيدٌ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ نِيَّةٍ، لِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْعِبَادَاتِ; إِمَّا لِمُحَافَظَةِ الشَّرْعِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، أَوْ تَخْفِيفًا عَنِ الْمُكَلَّفِ لِئَلَّا يَلْغُوَ حِجُّهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَتِهِ، وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِنْشَاءِ سَفَرٍ آخَرَ لِفِعْلِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالتَّغَرُّبِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَثْنًى عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، أَوْ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ، أَوْ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ; لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ حَتَّى خَالَفَ الْقِيَاسَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عُدِلَ بِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ لِمَصْلَحَةٍ أَكْمَلَ وَأَخَصَّ مِنْ مَصَالِحِ نَظَائِرِهِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْسَانِ الشَّرْعِيِّ.

فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ بَيْعِ الْمَعْدُومِ، وَجَازَ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ تَوْسِعَةً وَتَيْسِيرًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ.

وَمِنْهُ: أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَضْمَنُ جِنَايَةَ نَفْسِهِ، وَخُولِفَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ رِفْقًا بِالْجَانِي، وَتَخْفِيفًا عَنْهُ؛ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْخَطَأِ مِنَ الْجُنَاةِ

وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْمُصَرَّاةِ; لَمَّا كَانَ اللَّبَنُ الْمُحْتَلَبُ مِنْهَا مَجْهُولًا، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ بِمِثْلِهِ، لَأَفْضَى إِلَى النِّزَاعِ لِجَهَالَةِ الْقَدْرِ الْمَضْمُونِ، فَقَطَعَ

ص: 329

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الشَّارِعُ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ بِإِيجَابِ صَاعِ تَمْرٍ بِاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّهُ مَضْبُوطٌ مَعْلُومٌ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْعَامِّ، لِأَنَّ الشَّخْصَ تَارَةً يَكُونُ آخِذًا لِلصَّاعِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَائِعًا لِلْمُصَرَّاةِ، وَتَارَةً مَأْخُوذًا مِنْهُ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُشْتَرِيًا لَهَا، فَمَا يَقَعُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قِيمَةِ التَّمْرِ وَقِيمَةِ اللَّبَنِ مُغْتَفَرٌ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْعَدْلِ الْعَامِّ. وَقَدْ حَقَّقْتُ هَذَا فِي «الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى» وَالْغَرَضُ أَنَّ كُلَّ خَارِجٍ عَنِ الْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِ فِي غَيْرِ التَّعَبُّدَاتِ، فَهُوَ لِمَصْلَحَةٍ أَكْمَلَ وَأَخَصَّ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْقِيَاسِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ أَقْسَامِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا سَمَّيْتُهُ «النَّقْضَ التَّقْدِيرِيَّ» لِمُنَاسَبَتِهِ، وَذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ فِي إِثْبَاتِهِ، وَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ لَا لِلْخَلَلِ فِيهَا، بَلْ لِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى أَخَصَّ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ:«رِقُّ الْأُمِّ عِلَّةُ رِقِّ الْوَلَدِ، فَيَنْتَقِضُ» عَلَيْهِ «بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ بِأُمِّهِ» وَهُوَ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَبَانَتْ أَمَةً، فَهَذَا الْوَلَدُ حُرٌّ، مَعَ أَنَّ أُمَّهُ أَمَةٌ، فَقَدْ تَخَلَّفَ حُكْمُ الْعِلَّةِ عَنْهَا، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: هَذَا الْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ حُرًّا حُكْمًا، فَهُوَ «رَقِيقٌ تَقْدِيرًا» أَيْ: فِي التَّقْدِيرِ، «بِدَلِيلِ وُجُوبِ قِيمَتِهِ» عَلَى أَبِيهِ لِسَيِّدِ أُمِّهِ، وَلَوْلَا أَنَّ الرِّقَّ فِيهِ حَاصِلٌ تَقْدِيرًا، لَمَا وَجَبَتْ قِيمَتُهُ، إِذِ الْحُرُّ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ.

قُلْتُ: وَمَعْنَى قَوْلِنَا: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى، هُوَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ تُنَازِعُهُ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا عِلَّةُ الرِّقِّ تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَالثَّانِيَةُ عِلَّةُ الْحُرِّيَّةِ تَبَعًا لِاعْتِقَادِ

ص: 330

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَبِيهِ حُرِّيَّتَهُ، فَثَبَتَ مُقْتَضَى هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ تَحْقِيقًا; تَحْصِيلًا لِلْحُرِّيَّةِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِهَا، لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَثَبَتَ مُقْتَضَى عِلَّةِ الرِّقِّ تَقْدِيرًا، جَبْرًا لِمَا فَاتَ عَلَى السَّيِّدِ مِنْ إِتْلَافِ مَالِيَّةِ الْوَلَدِ عَلَيْهِ، إِذْ سَبَبُ إِتْلَافِهِ اعْتِقَادُ الْأَبِ حُرِّيَّتَهُ، فَضَمِنَ مَا أَتْلَفَ، «فَفِي وُرُودِهِ نَقْضًا» أَيْ: فِي وُرُودِ هَذَا النَّقْضِ التَّقْدِيرِيِّ عَلَى الْعِلَّةِ بِحَيْثُ يُبْطِلُهَا «خِلَافٌ، الْأَشْبَهُ لَا» يَرِدُ «اعْتِبَارًا بِالتَّحْقِيقِ لَا بِالتَّقْدِيرِ» .

هَكَذَا وَقَعَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَهُوَ سَهْوٌ، وَالصَّوَابُ الْعَكْسُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَشْبَهَ لَا يَرِدُ اعْتِبَارًا بِالتَّقْدِيرِ لَا بِالتَّحْقِيقِ، لِأَنَّ انْتِقَاضَ الْعِلَّةِ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ إِنَّمَا يَنْدَفِعُ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ رَقِيقًا، وَالرِّقُّ فِيهِ إِنَّمَا ثَبَتَ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا، إِذْ هُوَ فِي التَّحْقِيقِ حُرٌّ، فَتَنْتَقِضُ الْعِلَّةُ. وَهَذَا الْخِلَافُ لَيْسَ فِي «الرَّوْضَةِ» وَلَا «الْمُسْتَصْفَى» إِنَّمَا فِيهِمْ عَدَمُ الِانْتِقَاضِ فَقَطْ، وَلَكِنْ أَنَا نَقَلْتُ الْخِلَافَ مِنْ غَيْرِهِمَا أَحْسَبُهُ الْحَاصِلَ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَشْبَهَ عَدَمُ الِانْتِقَاضِ، لِأَنَّ تَخَلُّفَ حُكْمِ الْعِلَّةِ عَنْهَا لَا لِعَدَمِ عِلِّيَّتِهَا بِدَلِيلِ اطِّرَادِهَا فِي بَقِيَّةِ الصُّوَرِ، بَلْ لِمُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ الْأُخْرَى لَهَا، فَأُحِيلَ التَّخَلُّفُ عَلَيْهَا، وَصَارَ كَمَا سَبَقَ مِنْ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ، وَإِنَّمَا خَرَجَ الْخِلَافُ هَاهُنَا وَاتَّجَهَ; لِأَنَّ مَعَنَا حَالَتَيْ تَحْقِيقٍ وَتَقْدِيرٍ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى حَالَةِ التَّحْقِيقِ، وَهِيَ الْحُكْمُ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ تَكُونُ الْعِلَّةُ مُنْتَقِضَةً، وَبِالنَّظَرِ إِلَى حَالَةِ التَّقْدِيرِ، وَهُوَ كَوْنُهُ فِي مَعْنَى الرَّقِيقِ تَقْدِيرًا بِدَلِيلِ ضَمَانِهِ بِقِيمَتِهِ، تَسْلَمُ وَلَا تَنْتَقِضُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 331

الثَّالِثُ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لِفَوَاتِ مَحَلٍّ أَوْ شَرْطٍ لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ، نَحْوَ: الْبَيْعُ عِلَّةُ الْمِلْكِ، فَيَنْتَقِضُ بَيْعُ الْمَوْقُوفِ وَالْمَرْهُونِ، وَالسَّرِقَةُ عِلَّةُ الْقَطْعِ، فَتَنْتَقِضُ بِسَرِقَةِ الصَّبِيِّ أَوْ دُونَ النِّصَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلَا تَفْسَدُ الْعِلَّةُ، وَفِي تَكْلِيفِ الْمُعَلِّلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِذِكْرِ مَا يُحَصِّلُهُ خِلَافٌ بَيْنِ الْجَدَلِيِّينَ يَسِيرُ الْخَطْبِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ نَاقِضٌ، وَفِي الْعِلَّةِ الْخِلَافُ السَّالِفُ، أَمَّا الْمَعْدُولُ عَنِ الْقِيَاسِ فَإِنْ فُهِمَتْ عِلَّتُهُ أُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَقِيَاسِ عَرِيَّةِ الْعِنَبِ عَلَى الرُّطَبِ، وَأَكْلِ بَقِيَّةِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ وَإِلَّا فَلَا، كَتَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ بِإِجْزَاءِ جَذَعَةِ الْمَعْزِ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ بِكَمَالِهِ بَيِّنَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَوْلِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، إِذْ شَرْطُ الْقِيَاسِ فَهْمُ الْمَعْنَى، وَحَيْثُ لَا فَهْمَ، فَلَا قِيَاسَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ــ

الْقِسْمُ «الثَّالِثُ» مِنْ أَقْسَامِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ تَخَلُّفُهُ لَا لِاسْتِثْنَاءٍ عَامٍّ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، وَلَا لِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى، وَ «لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ» بَلْ «لِفَوَاتِ مَحَلٍّ أَوْ شَرْطٍ» كَقَوْلِنَا:«الْبَيْعُ عِلَّةُ الْمِلْكِ» وَقَدْ وَقَعَ، فَلْيَثْبُتُ الْمُلْكُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، «فَيَنْتَقِضُ بِبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَالْمَرْهُونِ» وَأُمِّ الْوَلَدِ، فَقَدْ حَصَلَ الْبَيْعُ فِيهِ، وَلَمْ يُفِدِ الْمُلْكَ. فَيُقَالُ: لَمْ يَتَخَلَّفْ إِفَادَةُ الْبَيْعِ الْمُلْكَ، لِكَوْنِهِ لَيْسَ عِلَّةً لِإِفَادَتِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَكَقَوْلِنَا:«السَّرِقَةُ عِلَّةُ الْقَطْعِ» وَقَدْ وُجِدَتْ فِي النَّبَّاشِ فَيُقْطَعُ، «فَتَنْتَقِضُ بِسَرِقَةِ

ص: 332

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الصَّبِيِّ، أَوْ سَرِقَةِ» دُونِ النِّصَابِ، أَوْ «السَّرِقَةِ» مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ «فَإِنَّهَا لَمْ تُوجِبِ الْقَطْعَ.

فَيُقَالُ: لَيْسَ ذَلِكَ لِكَوْنِ السَّرِقَةِ لَيْسَتْ عِلَّةً، بَلْ لِفَوَاتِ أَهْلِيَّةِ الْقَطْعِ فِي الصَّبِيِّ، وَفَوَاتِ شَرْطِهِ فِي دُونِ النِّصَابِ وَمِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ شُرُوطِهَا وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، وَهَذَا مِنْهُ، وَهَلْ يُكَلَّفُ الْمُعَلِّلُ أَوِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ عِلِّيَّةِ الِاحْتِرَازِ مِنْ هَذَا» بِذِكْرِ مَا يُحَصِّلُهُ «كَقَوْلِهِ: بَيْعٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَصَادَفَ مَحَلَّهُ، أَوِ اسْتَجْمَعَ شُرُوطَهُ، فَأَفَادَ الْمُلْكَ، أَوِ الْمُكَلَّفُ سَرَقَ نِصِابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَوَجَبَ قَطْعُهُ.

هَذَا فِيهِ» خِلَافٌ بَيْنِ الْجَدَلِيِّينَ «يَعْنِي أَهْلَ صِنَاعَةِ الْجَدَلِ» يَسِيرُ الْخَطْبِ «أَيْ: الْخَطْبُ فِي هَذَا الْخِلَافِ، أَوْ فِي اشْتِرَاطِ هَذَا الِاحْتِرَازِ يَسِيرٌ، لِأَنَّ الْجَدَلَ طَرِيقَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ، وَسُلُوكُهَا تَابِعٌ لِاصْطِلَاحِ أَهْلِهَا، فَإِنْ كَانَ اصْطِلَاحُهُمْ ذَلِكَ كَلَّفَهُ الْمُعَلِّلُ، وَإِلَّا فَلَا، نَعَمِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِلْكَلَامِ، وَأَوْلَى لِنَشْرِهِ وَتَبَدُّدِهِ، فَرُبَّمَا أَفْضَى إِلَى تَشْعِيبٍ مُنَافٍ لِلْغَرَضِ.

قَوْلُهُ:» وَمَا سِوَى ذَلِكَ «يَعْنِي تَخَلُّفَ حُكْمِ الْعِلَّةِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ» نَاقِضٌ «لِلْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ يَقْتَضِي انْتِقَاضَهَا بِمُطْلَقِ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا، تُرِكَ

ص: 333

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ذَلِكَ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَفِي غَيْرِهَا يَكُونُ نَاقِضًا عَمَلًا بِالْأَصْلِ.

وَقَوْلُهُ:» وَفِي الْعِلَّةِ الْخِلَافُ السَّالِفُ «أَيْ: وَإِذَا انْتَقَضَتْ بِمَا سِوَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَفِيهَا الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ، وَهِيَ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ، هَلْ تَبْقَى حُجَّةً مُطْلَقًا أَوْ لَا؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ التَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ، أَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً وَمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَقَدْ سَبَقَ هَذَا وَتَوْجِيهُهُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.

قَوْلُهُ:» أَمَّا الْمَعْدُولُ عَنِ الْقِيَاسِ، فَإِنْ فُهِمَتْ عِلَّتُهُ «إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: الْمَعْدُولُ عَنِ الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ مَعْنَاهُ، أَيْ: يُعْقَلُ الْمَعْنَى الَّذِي عُدِلَ عَنِ الْقِيَاسِ لِأَجْلِهِ، أَوْ لَا، فَإِنْ فَهَمْنَا عِلَّتَهُ، جَازَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ، كَقِيَاسِ عَرِيَّةِ الْعِنَبِ عَلَى» عَرِيَّةِ «الرُّطَبِ» فَنُجِيزُ بَيْعَ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ رُخْصَةً لِلنَّاسِ، وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ عَرِيَّةَ الرُّطَبِ لِهَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَتْ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَكَقِيَاسِ «أَكْلِ بَقِيَّةِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى» أَكْلِ «الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ» بِجَامِعِ اسْتِبْقَاءِ النَّفْسِ بِذَلِكَ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْمُكْرُهُ عَلَى أَكْلِهَا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُضْطَّرِ إِلَى التَّغَذِّي بِهَا بِالْجَامِعِ.

وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ عِلَّتُهُ، أَيْ: عِلَّةُ الْمَعْدُولِ عَنِ الْقِيَاسِ، لَمْ نُلْحِقْ بِهِ غَيْرَهُ، لِأَنَّ مُعْتَمِدَ الْإِلْحَاقِ فَهْمُ الْمَعْنَى، «وَحَيْثُ لَا فَهْمَ، فَلَا قِيَاسَ» وَذَلِكَ «كَتَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ رضي الله عنه بِإِجْزَاءِ جَذَعَةِ الْمَعْزِ» فِي الْأُضْحِيَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَخْصِيصِ «خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه بِكَمَالِهِ بَيِّنَةً» أَيْ:

ص: 334

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِإِقَامَةِ شَهَادَتِهِ مَقَامَ شَهَادَتَيْنِ.

أَمَّا حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ، فَرَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ نَحْرٍ، فَقَالَ: لَا يَذْبَحَنَّ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ. قَالَ: فَقَامَ خَالِيَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا يَوْمٌ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنِّي عَجَّلْتُ نُسُكِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَأَهْلَ دَارِي وَجِيرَانِي، قَالَ: فَأَعِدْ ذِبْحًا آخَرَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ، وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ أَفَأَذْبَحُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ، وَلَا تُجْزِئُ جَذَعَةٌ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ.

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ خُزَيْمَةَ رضي الله عنه، فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ، فَلَمَّا ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَأْتِيَهُ بِالثَّمَنِ، سَاوَمَ الْأَعْرَابِيَّ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْفَرَسِ، وَأَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِمَّا بَاعَهُ بِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: إِنْ كُنْتَ تَشْتَرِي الْفَرَسَ، وَإِلَّا بِعْتُهُ مِنْ غَيْرِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَيِسَ قَدِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا، فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ بِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ تَشْهَدُ وَلَمْ تَحْضُرْنَا؟ فَقَالَ: شَهِدْتُ بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُصَدِّقُكَ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ وَلَا نُصَدِّقُكَ بِأَخْبَارِ الْأَرْضِ! ، أَوْ كَلَامٌ هَذَا مَعْنَاهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَهُ بِشَهَادَتَيْنِ.

وَهَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ مِمَّا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا، فَلَا يَلْحَقُ بِهَا غَيْرُ مَنْ خُصَّ بِهَا، وَكَذَا التَّفْرِيقُ «بَيْنَ بَوْلِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ» ; لَمَّا لَمْ يُعْقَلِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، لَمْ

ص: 335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يُلْحَقْ بِهِمَا ذُكُورُ صِغَارِ الْبَهَائِمِ وَإِنَاثُهَا.

قُلْتُ: الْمَقْصُودُ هَاهُنَا أَنَّا حَيْثُ فَهِمْنَا الْمَعْنَى، أَلْحَقْنَا، وَحَيْثُ لَا فَلَا.

أَمَّا بَوْلُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، فَقَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَوْلُ.

وَأَمَّا تَكْمِيلُ خُزَيْمَةَ بَيِّنَةً، فَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَحْسَبُهُ الْخَطَابِيَّ فِي «مَعَالِمِ السُّنَنِ» أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُكْمِلْهُ بَيِّنَةً وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعِلْمِهِ.

قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ لَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمْضَى الْحُكْمَ مُقَارِنًا لِشَهَادَتِهِ عَلَى وَفْقِهَا، ظَنَّ أَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ شَاهِدَيْنِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 336

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا عَدَمِيًّا، نَحْوَ: لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

لَنَا: الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَةٌ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ عَدَمِيًّا، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ جَعْلُ نَفْيِ شَيْءٍ أَمَارَةً عَلَى وُجُودِ آخَرَ.

قَالُوا: لَوْ جَازَ لَلَزِمَ الْمُجْتَهِدَ سَبْرُ الْأَعْدَامِ.

قُلْنَا: يَلْزَمُهُ سَبْرُ السُّلُوبِ، وَإِنْ سُلِّمَ فَلِعَدَمِ تَنَاهِيهَا، لَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا عِلَّةً.

وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ خِلَافًا لِقَوْمٍ.

لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ جَعْلُ شَيْئَيْنِ أَمَارَةً عَلَى حُكْمٍ، كَاللَّمْسِ وَالْبَوْلِ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ، وَتَحْرِيمِ الرَّضِيعَةِ لِكَوْنِهِ عَمَّهَا وَخَالَهَا بِإِرْضَاعِ أُخْتِهِ وَزَوْجَةِ أَخِيهِ لَهَا.

قَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ عَلَى أَثَرٍ مُؤَثِّرَانِ.

قُلْنَا: عَقْلًا لَا شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا عَدَمِيًّا» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَمْرًا عَدَمِيًّا، أَيْ: هِيَ صِفَةٌ، أَوِ اسْمٌ، أَوْ حُكْمٌ، كَقَوْلِنَا:«لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ» فَلَا يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، «لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ» وَنَحْوَ ذَلِكَ، «خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ» حَيْثُ قَالُوا: لَا يَجُوزُ.

«لَنَا» عَلَى الْجَوَازِ: أَنَّ الْعِلَّةَ «الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَةٌ» أَيْ: عَلَامَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ، «فَجَازَ أَنْ تَكُونَ» أَمْرًا «عَدَمِيًّا، إِذْ لَا يُمْتَنَعُ» أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ جَعَلَ

ص: 337

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

نَفْيَ أَمْرٍ عَلَامَةَ وُجُودِ أَمْرٍ آخَرَ، كَمَا جَعَلَ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَامَةً عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ وَالضَّرْبِ، أَوِ الْحَبْسِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الْأَنْعَامِ: 121] ، فَجَعَلَ انْتِفَاءَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عز وجل عَلَامَةً عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَهُوَ مُبَاحٌ لَكُمْ، فَهُوَ تَعْلِيقٌ لِلْإِبَاحَةِ عَلَى عَدَمِ الْمَضَرَّةِ، فَهَذِهِ أَمَارَاتٌ عَدَمِيَّةٌ عَلَى أَحْكَامٍ ثُبُوتِيَّةٍ.

قُلْتُ: فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ نَظَرٌ، لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ فِعْلٌ ثُبُوتِيٌّ، وَهُوَ امْتِنَاعُ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا.

«قَالُوا» يَعْنِي احْتَجَّ الْخَصْمُ بِأَنْ قَالَ: «لَوْ جَازَ» أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا عَدَمِيًّا; «لَلَزِمَ الْمُجْتَهِدُ» إِثْبَاتَهَا بِالسَّبْرِ; «سَبْرِ الْأَعْدَامِ» جَمِيعِهَا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَمْرًا عَدَمِيًّا.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا» أَيْ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّا نَلْتَزِمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ «يَلْزَمُهُ سَبْرُ السُّلُوبِ» أَيْ: سَبْرُ الْأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي مَظَانِّ الْعِلَّةِ، نَحْوَ: لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا، كَمَا سَبَقَ فِي الْمِثَالِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ.

أَمَّا جَمِيعُ الْأَعْدَامِ يَعْنِي كُلَّ أَمْرٍ مَعْدُومٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ سَبْرُهُ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا لَا تُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرْعِ، نَحْوٌ مِمَّا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ.

قَوْلُهُ: «وَإِنْ سُلِّمَ» أَيْ: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ سَبْرُ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ لَكِنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَتِهَا وَعَدَمِ تَنَاهِيهَا، لَا لِكَوْنِهَا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً.

ص: 338