المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المناسب، والمنشأ، والحكمة - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌ المناسب، والمنشأ، والحكمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مُنْشِأً لِلْحِكْمَةِ، كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ» .

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ مِنْ دَقَائِقِ هَذَا الْبَابِ خُصُوصًا عَلَى نَشَأَةِ الطُّلَّابِ، فَيَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِكَشْفِهِ، وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ أَلْفَاظًا يَنْبَغِي الْكَشْفُ عَنْهَا، ثُمَّ ذِكْرُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا كَمَا يَنْبَغِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

أَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمَذْكُورَةُ، فَهِيَ‌

‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

.

أَمَّا الْمُنَاسِبُ، فَقَدْ سَبَقَ الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ.

وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ فَهُوَ مَحَلُّ النَّشْءِ وَهُوَ الظُّهُورُ، يُقَالُ: نَشَأَ يَنْشَأُ نَشْأً وَنُشُوءًا: إِذَا بَدَا، وَظَهَرَ، وَنَشَأَ الشَّيْءُ: مَظْهَرُهُ وَمَبْدَؤُهُ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَظْهَرُ وَيَبْدُو مِنْهُ.

وَالْحِكْمَةُ غَايَةُ الْحِكَمِ الْمَطْلُوبَةِ بِشَرْعِهِ، كَحِفْظِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ بِشَرْعِ الْقَوْدِ وَالْقَطْعِ.

إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ مَنْشَأً لِلْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْحُكْمِ غَيْرَ مُشْتَرَطٍ خِلَافًا لِقَوْمٍ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ ثُبُوتُ الْمَصْلَحَةِ عَقِيبَهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْشَأً لَهَا أَوْ لَا، فَإِنَّ قَوْلَنَا: هَذَا الْوَصْفُ مُنَاسِبٌ يَصْدُقُ بِاعْتِبَارَاتٍ ثَلَاثٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْشَأً لِلْحِكْمَةِ، كَقَوْلِنَا: السَّفَرُ مَنْشَأُ الْمَشَقَّةِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّرَخُّصِ، وَالْقَتْلُ مَنْشَأُ الْمَفْسَدَةِ; وَهِيَ تَفْوِيتُ النَّفْسِ، وَالزِّنَى مَنْشَأُ

ص: 386

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَفْسَدَةِ; وَهِيَ تَضْيِيعُ الْأَنْسَابِ وَإِلْحَاقُ الْعَارِ، فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَنْشَأُ عَنْهَا الْحِكْمَةُ الَّتِي ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ لِأَجْلِهَا، وَأَصْلَحُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِيجَابُ الْقِصَاصِ مَنْشَأُ حِكْمَةِ الرَّدْعِ عَنِ الْقَتْلِ، وَإِيجَابُ الْحَدِّ مَنْشَأُ حِكْمَةِ الرَّدْعِ عَنِ الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةٍ وَدَرْءَ مَفْسَدَةٍ، وَهِيَ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ.

الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُعَرِّفًا لِلْحِكْمَةِ وَدَلِيلًا عَلَيْهَا، كَقَوْلِنَا: النِّكَاحُ أَوِ الْبَيْعُ الصَّادِرُ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ يُنَاسِبُ الصِّحَّةَ، أَيْ: يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ جَعْلَ الْبَيْعِ سَبَبًا لِلصِّحَّةِ.

قُلْتُ: التَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ مَثَلًا، وَالْحَاجَةُ اقْتَضَتْ جَعْلَ الْبَيْعِ سَبَبًا لِتَحْصِيلِ الِانْتِفَاعِ بِوَاسِطَةِ الصِّحَّةِ، فَالْحَاجَةُ مُنَاسِبَةٌ لِتَحْصِيلِ الِانْتِفَاعِ بِوَاسِطَةِ الْبَيْعِ.

الِاعْتِبَارُ الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَ الْوَصْفِ، وَلَمْ يَنْشَأْ عَنْهُ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، كَشُكْرِ النِّعْمَةِ الْمُنَاسِبِ لِلزِّيَادَةِ مِنْهَا، فَالشُّكْرُ هُوَ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ، وَزِيَادَةُ النِّعْمَةِ هِيَ الْحِكْمَةُ، وَوُجُوبُ الشُّكْرِ هُوَ الْحُكْمُ، لَكِنْ فِي كَوْنِ الشُّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ النِّعْمَةِ نَظَرٌ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ تَقْرِيبِيَّةٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَحْقِيقِيَّةً. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُنَا: الْغِنَى مُنَاسِبٌ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ، وَدَفْعًا لِضَرَرِ الْفَقْرِ عَنْهُمْ، فَالْغِنَى هُوَ الْوَصْفُ، وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ هُوَ الْحُكْمُ، وَمُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ هِيَ الْحِكْمَةُ، وَكُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ تَعْلِيلِيٍّ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ مُنَاسِبٍ يَقْتَضِيهِ، وَمِنْ حِكْمَةٍ هِيَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. وَاعْتَبِرْ هَذَا بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ تَجِدُهُ صَحِيحًا وَإِنَّمَا قَيِّدْنَا الْحُكْمَ بِأَنَّهُ تَعْلِيلِيٌّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ التَّعَبُّدِيَّ

ص: 387

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَإِنِ اقْتَضَاهُ سَبَبٌ، وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ حِكْمَةٌ، لَكِنَّ سَبَبَهُ تَارَةً يُنَاسِبُ، وَتَارَةً لَا يُنَاسِبُ كَأَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ.

قَوْلُهُ: «فَيُفِيدُ التَّعْلِيلُ بِهِ» أَيْ: مَتَى كَانَ الْوَصْفُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ عَقِيبَهُ مَصْلَحَةٌ لِرَابِطِ عَقْلِيٍّ، فَهُوَ مُنَاسِبٌ، فَيُفِيدُنَا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ، أَيْ: إِنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّلٌ بِهِ، «لِإِلْفِنَا مِنَ الشَّارِعِ رِعَايَةَ» مَصَالِحِ الْعِبَادِ تَفَضُّلًا لَا وُجُوبًا، فَمَتَى رَأَيْنَا حُكْمًا ثَبَتَ عَقِيبَ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ مُتَضَمِّنٌ مَصْلَحَةً; غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثَبَتَ لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي أَفْضَى إِلَيْهَا ذَلِكَ الْوَصْفُ.

«وَبِالْجُمْلَةِ مَتَى أَفْضَى الْحُكْمُ إِلَى مَصْلَحَةٍ عُلِّلَ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا» كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ الْمُفْضِي إِلَى صِيَانَةِ الدِّينِ، يُعَلَّلُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ تَبْدِيلُ الدِّينِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي دَرْؤُهَا مِنْ أَكْبَرِ الْمَصَالِحِ.

قَالَ الْآمِدِيُّ: الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَاشِئَةً عَنْ ضَابِطِهَا، أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ كَمَشَقَّةِ السَّفَرِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي جَوَازِ التَّرَخُّصِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الَّذِي لَا تَكُونُ الْحِكْمَةُ فِيهِ نَاشِئَةً عَنْ ضَابِطِهَا; إِمَّا أَنْ يَكُونَ الضَّابِطُ دَالًّا عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، أَوْ لَا. فَالْأَوَّلُ: كَالِانْتِفَاعِ الْمُعْتَبَرِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّصَرُّفِ مِنَ الْأَهْلِ. وَالثَّانِي: كَزِيَادَةِ النِّعْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مِلْكِ النِّصَّابِ.

قُلْتُ: هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ بِأَبْسَطَ مِنْهُ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ غُمُوضٌ عَلَى بَعْضِ النَّاظِرِينَ، وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَاهُ مُمَثَّلًا، وَضَابِطُ الْحِكْمَةِ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي رَتَّبَ

ص: 388

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الشَّارِعُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ، وَرَبَطَهُ بِهِ لِتَحْصِيلِهَا.

ثُمَّ الْحِكْمَةُ قَدْ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهَا لِانْضِبَاطِهَا فِي نَفْسِهَا، فَيُعْتَبَرُ حُصُولُهَا حَقِيقَةً، كَصِيَانَةِ النُّفُوسِ الْحَاصِلِ مِنْ إِيجَابِ الْقِصَاصِ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ فَيُعْتَبَرُ بِمَظِنَّتِهَا، كَرَبْطِ جَوَازِ التَّرَخُّصِ بِالسَّفَرِ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْمَشَقَّةِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّرَخُّصِ.

وَهَذَا الْمِثَالُ إِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِلْمُرَادِ، فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا، فَالْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ مُحَصِّلَةٌ لَهُ عِنْدَ الْفَطِنِ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ إِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ» إِلَى آخِرِهِ.

هَذَا بَيَانٌ لِأَقْسَامِ تَأْثِيرِ الْمُنَاسِبِ فِي الْحُكْمِ وَمَعْنَى تَأْثِيرِهِ، وَهُوَ اقْتِضَاؤُهُ بِحُكْمِ الْمُنَاسَبَةِ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَأَقْسَامُهُ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَرْبَعَةٌ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُؤَثِّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، أَوْ يُؤَثِّرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَإِنْ شِئْتَ، قُلْتَ: إِمَّا أَنْ يُؤَثِّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، أَوْ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا قَدْ تَرَتَّبَ عَلَى وَصْفٍ مُنَاسِبٍ ثَبَتَتْ مُنَاسَبَتُهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ; أَلْحَقْنَا بِهِ إِثْبَاتَ عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى. هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «ثُمَّ إِنْ ظَهْرَ تَأْثِيرُ عَيْنُهُ فِي

ص: 389

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ» فَهَذَا الْمُؤَثِّرُ أَيْ: ثَبَتَ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ كَمَا سَبَقَ. ثُمَّ إِنَّا نُورِدُ الْأَمْثِلَةَ عَلَى تَرْتِيبِ «الْمُخْتَصَرِ» وَنُبَيِّنُ مَقَاصِدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ مِنْ أَلْفَاظِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَهَذَا الْمَكَانُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقِيَاسِ تَحْقِيقًا وَتَصَوُّرًا، خُصُوصًا عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَمَنْ ضَعُفَتْ أَنَسَتُهُ بِهِ.

مِثَالُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ قَوْلُنَا: سَقَطَتِ الصَّلَاةُ عَنِ الْحُرَّةِ الْحَائِضِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لِمَشَقَّةِ التَّكْرَارِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَتَكَرَّرُ، فَلَوْ وَجَبَ قَضَاؤُهَا، لَشَقَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ الْمَشَقَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَلْحَقْنَا الْأَمَةَ بِالْحُرَّةِ فِي ذَلِكَ، فَعَيْنُ الْوَصْفِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ أَثَّرَ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ سُقُوطُ الصَّلَاةِ.

قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْمِثَالِ نَظَرٌ، لِأَنَّ دَلِيلَ الشَّرْعِ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ فِي خُصُوصِ الْحُرَّةِ حَتَّى يَكُونَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْأَمَةِ قِيَاسًا عَلَيْهَا، بَلْ وَرَدَ فِي الْحَائِضِ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، فَالْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْأَمَةِ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحُرَّةِ، وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَمْرَةَ قَالَتْ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ. وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ عُمُومِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، ثُمَّ انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ.

ص: 390

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

نَعَمْ، هَذَا الْمِثَالُ يَصِحُّ عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ، أَيْ: لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِذَلِكَ فِي خُصُوصِ الْحُرَّةِ، لَكَانَ إِلْحَاقُ الْأَمَةِ بِهَا فِيهِ مِنْ بَابِ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إِلْحَاقُ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، وَإِلْحَاقُ وِلَايَةِ النِّكَاحِ بِوِلَايَةِ الْمَالِ بِجَامِعِ الصِّغَرِ، فَالصِّغَرُ وَصْفٌ أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ إِلَّا مَحَلُّ الْوِلَايَةِ وَهُوَ الْمَالُ وَالنِّكَاحُ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: الطَّوَافُ مَوْجُودٌ فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا، فَتَكُونُ طَاهِرَةً كَالْهِرِّ، فَالطَّوَافُ وَصْفٌ أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ.

قَوْلُهُ: «وَلَا يَضُرُّ ظُهُورُ مُؤَثِّرٍ آخَرَ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ فَيُعَلَّلَ بِالْكُلِّ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ لَا يَضُرُّ وُجُودُ وَصْفٍ آخَرَ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ الثَّابِتُ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ فِيهِ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، بَلْ إِنْ وُجِدَ مَعَهُ مُؤَثِّرٌ آخَرَ، عُلِّلَ بِهِمَا الْأَصْلُ، وَأُلْحِقَ الْفَرْعُ بِهِ بِجَامِعِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ كَالْحَائِضِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُرْتَدَّةِ; يُعَلَّلُ امْتِنَاعُ وَطْئِهَا بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ: الْحَيْضِ وَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ، فَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَقِيسَ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ فِي ذَلِكَ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، صَحَّ، وَكَانَ مِنْ بَابِ الْمُنَاسِبِ الْمُؤَثِّرِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ النَّصُّ شَامِلًا لَهَا.

قَوْلُهُ: «وَكَقِيَاسِ تَقْدِيمِ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ عَلَى تَقْدِيمِهِ فِي الْإِرْثِ» .

هَذَا مِثَالُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِنَا: الْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ

ص: 391

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مُقَدَّمٌ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى تَقْدِيمِهِ فِي الْإِرْثِ، فَالْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْأُخُوَّةُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُتَّحِدٌ بِالنَّوْعِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْوِلَايَةُ وَالْإِرْثُ مُتَّحِدَانِ بِالْجِنْسِ لَا بِالنَّوْعِ، فَهَذَا وُصْفٌ أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَهُوَ جِنْسُ التَّقْدِيمِ، فَعَيْنُ الْأُخُوَّةِ أَثَّرَتْ فِي جِنْسِ التَّقْدِيمِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ هَذَا; وَهُوَ تَأْثِيرُ الْمَشَقَّةِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ وَالسُّقُوطَ مُتَّحِدَانِ بِالنَّوْعِ، أَيِ: الْمَشَقَّةَ فِي الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ مُتَّحِدَانِ بِالنَّوْعِ، وَسُقُوطَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمَا كَذَلِكَ، إِذْ هِيَ مَشَقَّةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَسُقُوطٌ وَسُقُوطٌ، بِخِلَافِ الْأُخُوَّةِ مَعَ الْوِلَايَةِ وَالْإِرْثِ، إِذْ نَقُولُ: هِيَ أُخُوَّةٌ وَأُخُوَّةٌ، فَيَتَّحِدَانِ بِالنَّوْعِ، وَلَا نَقُولُ: وِلَايَةٌ وَوِلَايَةٌ، وَلَا إِرْثٌ وَإِرْثٌ; حَتَّى يَتَّحِدَا فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، بَلْ نَقُولُ: وِلَايَةُ نِكَاحٍ وَإِرْثٍ، فَيَخْتَلِفَانِ بِالنَّوْعِ، أَيْ: لَا يَجْمَعُهُمَا نَوْعٌ وَاحِدٌ، بَلْ إِنَّمَا يَجْمَعُهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ جِنْسُ التَّقْدِيمِ.

قَوْلُهُ: «وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ» إِلَى آخِرِهِ.

هَذَا مِثَالُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ مَا أَثَّرَ جِنْسُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِنَا: سَقَطَتِ الصَّلَاةُ عَنِ الْحَائِضِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْمُسَافِرِ، فَقَدْ أَثَّرَ جِنْسُ الْمَشَقَّةِ فِي عَيْنِ السُّقُوطِ، إِذْ مَشَقَّةُ تَكْرَارِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ مُخَالِفَةٌ لِمَشَقَّةِ إِتْمَامِهَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ فَبِالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، أَمَّا مَاهِيَّةُ السُّقُوطِ فِي حَقِّهِمَا فَوَاحِدَةٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ

ص: 392

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَقُولُ: هَذَا الْمِثَالُ هُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ; وَهُوَ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ نَوْعَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّأْثِيرِ وَاحِدٌ، وَكَذَا نَوْعُ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا مِنْ جِهَةِ سَبَبِهِمَا، إِذْ هَذِهِ مَشَقَّةُ تَكْرَارٍ، وَهَذِهِ مَشَقَّةُ إِتْمَامٍ، وَهَذَا سُقُوطُ أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَذَاكَ سُقُوطُ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا.

وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ: كَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ لِلْمَشَقَّةِ، فَإِنَّ جِنْسَ الْمَشَقَّةِ أَثَّرَ فِي عَيْنِ هَذَا السُّقُوطِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُسَافِرٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَهَذَا يُسَمَّى «الْمُلَائِمَ» أَيِ: الْمُوَافِقَ أَيْ: هُوَ مُوَافِقٌ لِتَصَرُّفِ الشَّرْعِ فِي تَأْثِيرِ جِنْسِ الْأَسْبَابِ فِي أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ اصْطِلَاحِيٌّ، وَإِلَّا فَسَائِرُ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ مُلَائِمَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، إِذْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِجِنْسِ مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ لِلْمَصَالِحِ الْمُنَاسِبَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ يَسِيرِ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ، وَالْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِإِفْضَاءِ ذَلِكَ بِالِاسْتِرْسَالِ فِيهِ إِلَى السُّكْرِ وَالْوَطْءِ الْمُحَرَّمَيْنِ مِنْ بَابِ حَسْمِ الْمَوَادِّ، فَجِنْسُ حَسْمِ الْمَوَادِّ أَثَّرَ فِي تَحْرِيمِ عَيْنِ شُرْبِ الْيَسِيرِ وَعَيْنِ الْخَلْوَةِ.

قَوْلُهُ: «وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ» إِلَى آخِرِهِ.

هَذَا مِثَالُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ مَا أَثَّرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، «كَتَأْثِيرِ جِنْسِ الْمَصَالِحِ فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ» أَيْ: إِلْحَاقُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِبَعْضٍ بِجَامِعِ الْمُنَاسَبَةِ الْمَصْلَحِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ.

وَمَثَّلَهُ الْقَرَافِيُّ بِإِلْحَاقِ شَارِبِ الْخَمْرِ بِالْقَاذِفِ فِي جَلْدِهِ ثَمَانِينَ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَرَاهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الْمُفْتَرِي. فَأَخَذَ مُطْلَقَ الْمُنَاسَبَةِ، وَمُطْلَقَ الْمَظِنَّةِ.

ص: 393

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: فَمَظِنَّةُ جِنْسِ الِافْتِرَاءِ وَهُوَ الْوَصْفُ أَثَّرَتْ فِي جِنْسِ الْجَلْدِ أَوِ الْحَدِّ، وَهُوَ الْحُكْمُ. وَهَذَا يُسَمَّى الْمُنَاسِبَ «الْغَرِيبَ» لِقِلَّةِ الْتِفَاتِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، فَبَقِيَ لِقِلَّةِ وُقُوعِهِ، كَالْغَرِيبِ بَيْنَ أَهْلِ الْبَلَدِ.

«وَقِيلَ: هَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ» يَعْنِي قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: الْمُلَائِمُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، «وَمَا سِوَاهُ» مِنَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ «مُؤَثِّرٌ» وَهِيَ تَأْثِيرُ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ، وَتَأْثِيرُ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ، وَتَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ.

وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّا بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ نَجِدُهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ يُرَاعِي جِنْسَ الْمَصَالِحِ فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ مُلَائِمًا لِتَصَرُّفِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْمَذْكُورِ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَإِذَا كَانَ الْأَضْعَفُ مُلَائِمًا، فَجَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ الْأَقْوَى مُؤَثِّرًا، وَإِنْ تَفَاوَتَ فِي قُوَّةِ التَّأْثِيرِ وَضَعْفِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا كَلَامٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 394

وَلِلْجِنْسِيَّةِ مَرَاتِبٌ: فَأَعَمُّهَا فِي الْوَصْفِ: كَوْنُهُ وَصْفًا، ثُمَّ مَنَاطًا، ثُمَّ مَصْلَحَةً خَاصَّةً، وَفِي الْحُكْمِ: كَوْنُهُ حُكْمًا، ثُمَّ وَاجِبًا وَنَحْوَهُ، ثُمَّ عِبَادَةً، ثُمَّ صَلَاةً.

وَتَأْثِيرُ الْأَخَصِّ فِي الْأَخَصِّ أَقْوَى، وَتَأْثِيرُ الْأَعَمِّ فِي الْأَعَمِّ يُقَابِلُهُ، وَالْأَخَصُّ فِي الْأَعَمِّ، وَعَكْسُهُ وَاسِطَتَانِ.

وَقِيلَ: الْمُلَائِمُ: مَا ذُكِرَ فِي الْغَرِيبِ، وَالْغَرِيبُ: مَا لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ، وَلَا مُلَاءَمَتُهُ لِجِنْسِ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، نَحْوَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِكَوْنِهَا مُسْكِرًا، وَتَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مُعَارَضَةً لِلزَّوْجِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ كَالْقَاتِلِ، إِذْ لَمْ نَرَ الشَّرْعَ الْتَفَتَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ مُنَاسِبٍ، اقْتَرَنَ الْحُكْمُ بِهِ.

وَقَصَرَ قَوْمٌ الْقِيَاسَ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، لِاحْتِمَالِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ تَعَبُّدًا، أَوْ لِوَصْفٍ ثُمَّ لَمْ نَعْلَمْهُ، أَوْ لِهَذَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ، فَالتَّعْيِينُ بِهِ تَحَكُّمٌ.

وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُتَّبِعَ الظَّنُّ وَهُوَ حَاصِلٌ بِاقْتِرَانِ الْمُنَاسِبِ، وَلَمْ تَشْتَرِطِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم فِي أَقْيِسَتِهِمْ كَوْنُ الْعِلَّةِ مَنْصُوصَةً وَلَا إِجْمَاعِيَّةً.

ــ

قَوْلُهُ: " وَلِلْجِنْسِيَّةِ مَرَاتِبٌ " إِلَى آخِرِهِ.

اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَصْفَ مُؤَثِّرٌ فِي الْحُكْمِ، وَالْحُكْمَ ثَابِتٌ بِالْوَصْفِ، وَمُسَمَّى الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ جِنْسٌ تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ مَدْلُولِهِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، كَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ مَدْلُولِ الْجِسْمِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَجْنَاسِ كَمَا تَقَرَّرَ أَوَّلُ الْكِتَابِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ تَارَةً بِالْجِنْسِ،

ص: 395

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتَارَةً بِالنَّوْعِ; احْتَجْنَا إِلَى بَيَانِ مَرَاتِبِ جِنْسِ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ وَمَعْرِفَةِ الْأَخَصِّ مِنْهَا مِنَ الْأَعَمِّ، لِيَتَحَقَّقَ لَنَا مَعْرِفَةُ أَنْوَاعِ تَأْثِيرِ الْأَوْصَافِ فِي الْأَحْكَامِ.

فَأَعَمُّ مَرَاتِبِ " الْوَصْفِ كَوْنُهُ وَصْفًا " لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ، أَوْ لَا يَكُونَ، إِذْ بِتَقْدِيرٍ أَنْ يَكُونَ طَرْدِيًّا غَيْرَ مُنَاسِبٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُنَاطَ بِهِ حُكْمٌ، فَكُلُّ مَنَاطٍ وَصْفٌ، وَلَيْسَ كُلُّ وَصْفٍ مَنَاطًا، " ثُمَّ " كَوْنُهُ " مَنَاطًا " لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً أَوْ لَا، فَكُلُّ مَصْلَحَةٍ مَنَاطٌ لِلْحُكْمِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنَاطٍ مَصْلَحَةً; لِجَوَازِ أَنْ يُنَاطَ الْحُكْمُ بِوَصْفٍ تَعَبُّدِيٍّ، لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَكَلَامُنَا فِي الْمَصْلَحَةِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، أَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا يَخْلُو تَصَرُّفُ الشَّرْعِ عَنْ مَصْلَحَةٍ. " ثُمَّ " كَوْنُ الْوَصْفِ " مَصْلَحَةً " لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مَصْلَحَةً عَامَّةً، بِمَعْنَى أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِمُطْلَقِ النَّفْعِ، وَقَدْ تَكُونُ " خَاصَّةً " بِمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ أَوِ التَّكْمِلَاتِ وَالتَّتِمَّاتِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الِاسْتِصْلَاحِ.

وَأَمَّا الْحُكْمُ، فَأَعَمُّ مَرَاتِبِهِ " كَوْنُهُ حُكْمًا " لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا. " ثُمَّ " كَوْنُهُ " وَاجِبًا وَنَحْوَهُ " أَيْ: مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ الْوَاجِبُ وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ، وَمَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، إِذِ الْوَاجِبُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً اصْطِلَاحِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا. " ثُمَّ " كَوْنُهُ " عِبَادَةً " لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، " ثُمَّ " كَوْنُهُ " صَلَاةً " إِذْ كَلُّ صَلَاةٍ عِبَادَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ عِبَادَةٍ صَلَاةً.

ص: 396

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَعَمُّ أَجْنَاسِ الْحُكْمِ كَوْنُهُ حُكْمًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ طَلَبًا أَوْ تَخْيِيرًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ تَحْرِيمًا أَوْ إِيجَابًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ أَوْ إِيجَابَ الصَّلَاةِ، وَأَعَمُّ أَحْوَالِ الْوَصْفِ كَوْنُهُ وَصْفًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ مُنَاسِبًا، وَأَخَصُّ مِنَ الْمُنَاسِبِ كَوْنُهُ مُعْتَبَرًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ مَشَقَّةً أَوْ مَصْلَحَةً أَوْ مَفْسَدَةً خَاصَّةً، ثُمَّ أَخُصُّ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَاتِ أَوِ الْحَاجَاتِ أَوِ التَّتِمَّاتِ. قَالَ: فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَظْهَرُ الْأَجْنَاسُ الْعَالِيَةُ وَالْمُتَوَسِّطَةُ، وَالْأَنْوَاعُ السَّافِلَةُ لِلْأَحْكَامِ وَالْأَوْصَافِ مِنَ الْمُنَاسِبِ وَغَيْرِهِ، فَالْإِسْكَارُ نَوْعٌ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَالْمَفْسَدَةُ جِنْسٌ لَهُ، وَالْأُخُوَّةُ نَوْعٌ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَالتَّقْدِيمُ فِي الْمِيرَاثِ نَوْعٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَهِيَ تَأْثِيرُ نَوْعٍ فِي نَوْعٍ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي تَقْسِيمِ مَرَاتِبِ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ أَحْسَنُ مِمَّا فِي " الْمُخْتَصَرِ " وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ وَاحِدًا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبًا.

قَوْلُهُ: " وَتَأْثِيرُ الْأَخَصِّ فِي الْأَخَصِّ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لِمَا عُرِفَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ الْأَخَصَّ وَالْأَعَمَّ مِنَ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ; فَلْيَعْلَمْ أَنَّ تَأْثِيرَ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ يَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَتَأْثِيرُ " الْأَخَصِّ فِي الْأَخَصِّ أَقْوَى " أَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ، كَمَشَقَّةِ التَّكْرَارِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ، وَالصِّغَرِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، " وَتَأْثِيرُ الْأَعَمِّ فِي الْأَعَمِّ " يُقَابِلُ ذَلِكَ، فَهُوَ أَضْعَفُ أَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ، وَتَأْثِيرُ " الْأَخَصِّ فِي الْأَعَمِّ وَعَكْسُهُ " وَهُوَ تَأْثِيرُ الْأَعَمِّ فِي الْأَخَصِّ " وَاسِطَتَانِ " بَيْنَ ذَيْنِكَ الطَّرَفَيْنِ، إِذْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُوَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَخَصِّيَّةِ، وَضَعْفٌ مِنْ جِهَةِ الْأَعَمِّيَّةِ،

ص: 397

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِخِلَافِ الطَّرَفَيْنِ، إِذِ الْأَوَّلُ تَمَحَّضَتْ فِيهِ الْأَخَصِّيَّةُ، فَتَمَحَّضَتْ لَهُ الْقُوَّةُ، وَالثَّانِي تَمَحَّضَتْ فِيهِ الْأَعَمِّيَّةُ، فَتَمَحَّضَ لَهُ الضَّعْفُ. وَأَشَرْتُ بِعِبَارَةِ " الْمُخْتَصَرِ " إِلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْمَكَانِ. فَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَا ظَهَرَ فِي الْعِبَادَةِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ فِي الْوَاجِبِ، وَمَا ظَهَرَ فِي الْوَاجِبِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ فِي الْحُكْمِ.

قُلْتُ: لِأَنَّ التَّأْثِيرَ فِي الْأَخَصِّ أَقْوَى مِنْ تَحْصِيلِ ظَنِّ حُصُولِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ.

قَوْلُهُ: " وَقِيلَ: الْمُلَائِمُ مَا ذُكِرَ فِي الْغَرِيبِ " إِلَى آخِرِهِ.

هَذَا قَوْلٌ آخَرُ فِي الْمُلَائِمِ، وَهُوَ أَنَّهُ " مَا ذُكِرَ فِي الْغَرِيبِ " وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ مِنَ الشَّارِعِ، فَيَكُونُ مُلَائِمًا لِتَصَرُّفِهِ.

أَمَّا " الْغَرِيبُ " ; فَهُوَ: " مَا لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ وَلَا مُلَاءَمَتُهُ لِجِنْسِ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، نَحْوَ " قَوْلِنَا: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، لِكَوْنِهَا مُسْكِرًا " فَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ مُسْكِرٍ، بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَرِدَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ، وَتَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مُعَارَضَةً لِلزَّوْجِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَالْقَاتِلِ " مَوْرُوثَهُ، لِأَنَّا " لَمْ نَرَ الشَّرْعَ الْتَفَتَ إِلَى " مِثْلِ " ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ " يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ، " بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ مُنَاسِبٍ " أَيْ: مُنَاسِبٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الشَّهَادَةِ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ. " اقْتَرَنَ الْحُكْمُ بِهِ " وَمُجَرَّدُ الِاقْتِرَانِ لَا يَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْعِلِّيَّةِ.

قُلْتُ: الَّذِي تَضَمَّنَهُ «الْمُخْتَصَرُ» وَأَصْلُهُ: أَنَّ الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مُؤَثِّرٌ وَمُلَائِمٌ وَغَرِيبٌ. وَفِي جَمِيعِهَا خِلَافٌ.

ص: 398

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَمَّا الْمُؤَثِّرُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ فِي جِنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمُؤَثِّرَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:«وَمَا سِوَاهُ مُؤَثِّرٌ» .

وَأَمَّا الْمُلَائِمُ، فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:«وَقِيلَ: الْمُلَائِمُ مَا ذُكِرَ فِي الْغَرِيبِ» .

وَأَمَّا الْغَرِيبُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ أَيْضًا:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ، وَلَا مُلَاءَمَتُهُ لِجِنْسِ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ. وَذَكَرَ الْبَرَوِيُّ فِي «الْمُقْتَرَحِ» أَنَّ الْمُؤَثِّرَ مَا دَلَّ النَّصُّ أَوِ الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَالْمُلَائِمُ هُوَ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ.

وَقَالَ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ الْحَوَارِيُّ: الْعِلَلُ خَمْسٌ، وَذَكَرَ سِتًّا: الْمُؤَثِّرُ، وَالْمُلَائِمُ، وَالْغَرِيبُ، وَالشَّبَهُ، وَالْمُخَيَّلُ، وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ، فَلَعَلَّهُ ذَكَرَهَا سَادِسَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَقُولُ بِهَا، كَمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ

ص: 399

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَا عُرِفَ كَوْنُهُ عِلَّةً بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ. قَالَ: وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِبُخَارَى وَمَرْوَ وَهُوَ مَا كَانَ مُنَاسِبًا. قَالَ: وَفِي اصْطِلَاحِنَا مَا عُرِفَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْعِلَّةِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَالْمُلَائِمُ مَا عُرِفَ تَأْثِيرُ نَوْعِهِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ، كَتَأْثِيرِ نَوْعِ الْجِنَايَةِ فِي نَوْعِ الْعُقُوبَةِ، وَالْغَرِيبُ مَا أَثَّرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.

قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ اخْتِلَافٌ اصْطِلَاحِيٌّ بِدَلِيلِ مَا حَكَى الْحَوَارِيُّ مِنَ اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ الْمَرْوَزِيِّينَ وَبَيْنَهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْمُؤَثِّرِ، وَكَذَلِكَ أَمْثِلَةُ أَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهَا مُطَابِقًا، وَرُبَّمَا كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ مَرَاتِبَ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَأَنَّ الْخُصُوصَ جِهَةُ قُوَّةٍ وَالْعُمُومَ ضَعْفٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. فَانْظُرْ فِي مَرَاتِبِ التَّأْثِيرِ الْوَاقِعَةِ لَكَ، فَإِنَّ أَقْوَاهَا مِنْ أَضْعَفِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ، وَسَمِّ أَنْوَاعَهَا مَا شِئْتَ، وَلَا تَرْتَبِطْ بِتَسْمِيَةِ غَيْرِكَ وَلَا تَمْثِيلِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا تَسْمِيَتَهُمْ تَعْرِيفًا لِاصْطِلَاحِهِمْ وَبَعْضِ أَمْثِلَتِهِمُ الَّتِي ضَرَبُوهَا لِأَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ ثَابِتًا لِلنَّاظِرِ، وَالْأَمْرُ أَضْبَطُ مِنْ ذَلِكَ.

فَائِدَةٌ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُنَاسِبَ الْمَصْلَحِيَّ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهُ، أَوْ إِلْغَاؤُهُ، أَوْ لَا يُعْلَمَ مِنْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَالْمُنْقَسِمُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ وَالْمُلَائِمِ وَالْغَرِيبِ، هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ الَّذِي عُلِمَ اعْتِبَارُهُ دُونَ الْآخَرِينَ إِلَّا الْمُنَاسِبَ الْمُرْسَلَ عِنْدَ مَالِكٍ.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ مَعَ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ تَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ وَهُوَ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ فَقَطْ، أَوْ جِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ فَقَطْ; فَهُوَ مُنَاسِبٌ غَرِيبٌ.

ص: 400

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُنَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ كَالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ، فَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْقَتْلِ فِي عَيْنِ الْقِصَاصِ، وَتَأْثِيرُ جِنْسِ الْجِنَايَةِ فِي جِنْسِ الْعُقُوبَةِ، فَالْجِنَايَةُ جِنْسٌ لِلْقَتْلِ، وَالْعُقُوبَةُ جِنْسٌ لِلْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَنْقُلُ الْمِلْكَ: بِيْعٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَصَادَفَ مَحَلَّهُ، فَنَقَلَ الْمِلْكَ قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَشْرِطْ، فَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ الْبَيْعِ الصَّادِرِ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ فِي نَقْلِ الْمِلْكِ، وَهُوَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْوَصْفِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْبَيْعِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ، ظَهَرَ فِي جِنْسِ نَقْلِ الْمِلْكِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ، فَالتَّصَرُّفُ جِنْسٌ لِلْبَيْعِ، وَحُصُولُ الْغَرَضِ جِنْسٌ لِلْمِلْكِ.

وَمِثَالُ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ بِاعْتِبَارِ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ تَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالْإِسْكَارِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَمْ يَرِدْ قَوْلُهُ عليه السلام: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَهَاهُنَا إِنَّمَا أَثَّرَ عَيْنُ وَصْفِ الْإِسْكَارِ فِي عَيْنِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَلَا شَاهِدَ لَهُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْإِسْكَارِ فِي جِنْسِ التَّحْرِيمِ.

قُلْتُ: وَهَذَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ لِأَنَّ جِنْسَ السُّكْرِ أَوِ الْإِسْكَارِ الْمَفْسَدَةُ أَوْ سَبَبُهَا، وَجِنْسَ التَّحْرِيمِ الْحُكْمُ، وَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْمَفْسَدَةِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ كَثِيرًا جِدًّا كَمَا سَبَقَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا اعْتَبَرَهُ هَؤُلَاءِ لَازِمًا مِمَّا قُلْنَاهُ أَوَّلًا، أَعْنِي بِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرَ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ أَخَصُّ مِنْ تَأْثِيرِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، وَالْأَخَصُّ يَسْتَلْزِمُ الْأَعَمُّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الَّذِي أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ هُوَ جِنْسَ الْوَصْفِ الْأَعْلَى أَثَّرَ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْأَعْلَى، فَهَاهُنَا تَأْثِيرُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرَ غَيْرِهِ لِلتَّعَذُّرِ، إِذْ لَيْسَ فَوْقَ الْجِنْسِ الْأَعْلَى مَا يَسْتَلْزِمُهُ.

ص: 401

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ مَا كَانَ مُعْتَبَرًا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَالْمُلَائِمَ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَجِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَالْغَرِيبَ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ.

قُلْتُ: وَبِالْجُمْلَةِ مَتَى رَأَيْنَا الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ قَدْ أَثَّرَ نَوْعًا مِنَ التَّأْثِيرِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِأَجْلِهِ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ وَرَبْطِهِ بِهِ، بَلْ نَفْسُ ظُهُورِ تَأْثِيرِ الْمُنَاسِبِ نَوْعًا يُفِيدُ الظَّنَّ الْمَذْكُورَ، كَمَنْ رَأَيْنَاهُ قَابَلَ الْإِحْسَانَ بِالْإِحْسَانِ، وَالْإِسَاءَةَ بِالْإِسَاءَةِ فِي وَقْتٍ مَا، وَلَمْ يَعْهَدْ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الْمُكَافَأَةِ وَعَدَمِهَا، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَصَدَ الْمُكَافَأَةَ حَمْلًا لِتَصَرُّفِهُ عَلَى ظَاهِرِ الْحِكْمَةِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِالْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: «وَقَصَرَ قَوْمٌ الْقِيَاسَ عَلَى الْمُؤَثِّرِ» إِلَى آخِرِهِ.

يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِجَامِعِ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ فِي الْأَصْلِ ـ وَقَدْ عُلِمَ مَا الْمُؤَثِّرُ ـ وَشُبْهَتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَا لَوْ أَجَزْنَا الْقِيَاسَ بِجَامِعٍ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ كَالْمُلَائِمِ وَالْغَرِيبِ، لَلَزِمَ التَّحَكُّمُ وَالتَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ وَهُوَ بَاطِلٌ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّا مَثَلًا لَوْ قِسْنَا النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ بِالنَّبِيذِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ تَعَبُّدًا غَيْرَ مُعَلَّلٍ، كَتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُمْرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهَا لِوَصْفٍ آخَرَ مُنَاسِبٍ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الْإِسْكَارُ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْمُقْتَضِي لِتَحْرِيمِهِ هَذِهِ الْأُمُورَ، كَانَ تَعْيِينُ بَعْضِهَا لِإِضَافَةِ التَّعْيِينِ إِلَيْهِ تَحَكُّمًا. وَأَمَّا بُطْلَانُ التَّحَكُّمِ، فَظَاهِرٌ. وَحِينَئِذٍ يَجِبُ قَصْرُ الْقِيَاسِ عَلَى الْجَامِعِ الْمُؤَثِّرِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ

ص: 402

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، فَلَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الِاحْتِمَالَاتِ، فَالتَّحَكُّمُ فِيهِ مَأْمُونٌ.

قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَرُدَّ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اقْتِرَانَ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْمُلَائِمِ وَالْغَرِيبِ يُفِيدُ الظَّنَّ بِأَنَّهُ سَبَبُهُ وَمُقْتَضِيهِ، وَالظَّنُّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ ظَاهِرَتَانِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِاعْتِبَارِهِمَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا عَلِمْنَا قَطْعًا مِنْ تَصَرُّفِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي الْأَقْيِسَةِ أَنَّهُمْ رَبَطُوا الْأَحْكَامَ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا «كَوْنَ الْعِلَّةِ مَنْصُوصَةً وَلَا إِجْمَاعِيَّةً» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُشْتَرِطًا، لَمَا تَرَكُوا اعْتِبَارَهُ، وَإِلَّا لَلَزِمَ الْقَدْحُ فِي الْعِصْمَةِ النَّبَوِيَّةِ، إِذْ كَانُوا هُمْ كُلَّ الْأُمَّةِ حِينَئِذٍ. فَلَوْ تَرَكُوا مَا هُوَ مُشْتَرَطٌ فِي الِاجْتِهَادِ، لَأَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ، وَلَزِمَ وُقُوعُ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ مُخَالِفًا لِمُخْبِرِهِ، وَهُوَ قَدْحٌ فِي الْعِصْمَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 403

النَّوْعُ الثَّانِي السَّبْرُ: وَهُوَ إِبْطَالُ كُلِّ عِلَّةٍ عُلِّلَ بِهَا الْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ إِجْمَاعًا، إِلَّا وَاحِدَةً فَتُعَيَّنُ; نَحْوَ: عِلَّةُ الرِّبَا الْكَيْلُ أَوِ الطُّعْمُ أَوِ الْقُوتُ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ إِلَّا الْأُولَى، فَإِنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَعْلِيلِهِ، جَازَ ثُبُوتُهُ تَعَبُّدًا، فَلَا يُفِيدُ. وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبْرُهُ حَاصِرًا بِمُوَافَقَةِ خَصْمِهِ، أَوْ عَجْزِهِ عَنْ إِظْهَارِ وَصْفٍ زَائِدٍ فَيَجِبُ إِذًا عَلَى خَصْمِهِ تَسْلِيمُ الْحَصْرِ، أَوْ إِبْرَازُ مَا عِنْدَهُ لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَيُفْسِدُهُ بِبَيَانِ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَعَ حَذْفِهِ، أَوْ بِبَيَانِ طَرْدِيَّتِهِ، أَيْ: عَدَمُ الْتِفَاتِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ فِي مَعْهُودِ تَصَرُّفِهِ، وَلَا يَفْسُدُ الْوَصْفُ بِالنَّقْضِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ جُزْءَ عِلَّةٍ أَوْ شَرْطِهَا، فَلَا يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ صِحَّةُ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ بِدُونِهِ، وَلَا بِقَوْلِهِ: لَمْ أَعْثُرْ بَعْدَ الْبَحْثِ عَلَى مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ، فَيُلْغَى، إِذْ يُعَارِضُهُ الْخَصْمُ بِمِثْلِهِ فِي وَصْفِهِ، وَإِذَا اتَّفَقَ خَصْمَانِ عَلَى فَسَادِ عِلَّةِ مَنْ عَدَاهُمَا، فَإِفْسَادُ أَحَدِهِمَا عِلَّةَ الْآخَرِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، إِذِ اتِّفَاقُهُمَا لَا يَقْتَضِي فَسَادَ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ فَسَادَ عِلَّةِ غَيْرِهِ مِنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ، فَيَسْتَوِيَانِ، فَطَرِيقُ التَّصْحِيحِ مَا سَبَقَ.

ــ

«النَّوْعُ الثَّانِي» : مِنْ أَنْوَاعِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِنْبَاطِ إِثْبَاتُهَا بِالسَّبْرِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُهُ لُغَةً، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الِاخْتِبَارِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَا يُخْتَبَرُ بِهِ طُولُ الْجُرْحِ وَعَرْضُهُ: مِسْبَارًا.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي السَّبْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ: «إِبْطَالُ كُلِّ عِلَّةٍ عُلِّلَ بِهَا الْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ إِجْمَاعًا» أَيْ: بِالْإِجْمَاعِ، «إِلَّا وَاحِدَةً فَتَتَعَيَّنُ» . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ

ص: 404

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمُسْتَدِلَّ بِالْقِيَاسِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ كَذَا لِيَلْحَقَ بِهِ الْفَرْعُ الْمَقِيسُ، وَأَرَادَ تَبْيِينَ الْعِلَّةِ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، ذَكَرَ كُلَّ عِلَّةٍ عُلِّلَ بِهَا حُكْمُ الْأَصْلِ، ثُمَّ يُبْطِلُ الْجَمِيعَ إِلَّا الْعِلَّةَ الَّتِي يَخْتَارُهَا، فَيَتَعَيَّنُ التَّعْلِيلُ بِهَا، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ بِوَاسِطَتِهَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ:«عِلَّةُ الرِّبَا» فِي الْبُرِّ وَنَحْوِهِ إِمَّا «الْكَيْلُ أَوِ الطُّعْمُ أَوِ الْقُوتُ، وَالْكُلُّ» أَيْ: الْعِلَلُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ «إِلَّا الْأُولَى» مَثَلًا، وَهِيَ الْكَيْلُ إِنْ كَانَ حَنْبَلِيًّا أَوْ حَنَفِيًّا، أَوْ إِلَّا الطُّعْمُ إِنْ كَانَ شَافِعِيًّا، أَوْ إِلَّا الْقُوتُ إِنْ كَانَ مَالِكِيًّا، فَيَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ، وَيُلْحِقُ الْأُرْزَ وَالذَّرَّةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِالْبُرِّ بِجَامِعِ الْكَيْلِ، وَيُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى بُطْلَانِ مَا أَبْطَلَهُ، إِمَّا بِانْتِقَاضِهِ انْتِقَاضًا مُؤَثِّرًا، أَوْ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالِاتِّفَاقِ.

وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصِرِ» أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّبْرِ أُمُورٌ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلًا، إِذْ لَوْ كَانَ تَعَبُّدًا، لَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَى تَعْلِيلِهِ - قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ - إِذْ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِي تَعْلِيلِهِ، فَلِلْخَصْمِ الْتِزَامُهُ التَّعَبُّدَ فِيهِ، فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ.

قُلْتُ: وَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ مُنَاظِرًا، أَوْ خَصْمُهُ مُنْتَمِيًا إِلَى مَذْهَبٍ ذِي مَذْهَبٍ ; كَفَاهُ مُوَافَقَةُ الْخَصْمِ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ مُجْتَهِدًا، اعْتُبِرَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعْلِيلِهِ، إِذِ الْمُجْتَهِدُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، إِذْ بَدَوْنِهِ لَهُ أَنْ يَلْزَمَ التَّعَبُّدَ

ص: 405

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فِي الْأَصْلِ، وَيُفْسِدَ كُلَّ عِلَّةٍ عَلَّلَ بِهَا. أَمَّا إِذَا أَجْمَعَ عَلَى كَوْنِهِ مُعَلَّلًا، لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ نَاظِرًا لَا مُنَاظِرًا، اعْتُبِرَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّعْلِيلِ أَيْضًا، لِأَنَّ غَرَضَهُ لَيْسَ إِفْحَامَ خَصْمٍ، بَلِ اسْتِخْرَاجَ حُكْمٍ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّ الْعِلَّةَ هَذَا الْوَصْفُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ، وَفِي هَذَا شَيْءٌ لَا يَخْفَى.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَبْرُهُ حَاصِرًا لِجَمِيعِ الْعِلَلِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَاصِرًا; لَجَازَ أَنْ يَبْقَى وَصْفٌ هُوَ الْعِلَّةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَيَقَعُ الْخَطَأُ فِي الْقِيَاسِ، وَلَا يَصِحُّ السَّبْرُ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِقَوْلِهِ:«فَإِنْ لَمْ يُجْمِعْ عَلَى تَعْلِيلِهِ; جَازَ ثُبُوتُهُ تَعَبُّدًا» «وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبْرُهُ حَاصِرًا» .

وَاعْلَمْ أَنْ دَلَالَةَ السَّبْرِ قَاطِعَةٌ إِنْ كَانَ حَصْرُ الْأَقْسَامِ وَإِبْطَالُ مَا عَدَا الْوَاحِدَ مِنْهَا قَاطِعًا، وَإِنْ كَانَا ظَنِّيَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَنِّيَّةً.

قَوْلُهُ: «بِمُوَافَقَةِ خَصْمِهِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا بَيَانٌ لِطَرِيقِ ثُبُوتِ حَصْرِ السَّبْرِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مُوَافَقَةُ الْخَصْمِ عَلَى انْحِصَارِ الْعِلَّةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، كَانْحِصَارِ عِلَّةِ الرِّبَا فِي الْكَيْلِ أَوِ الطُّعْمِ أَوِ الْقُوتِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ إِذَا سَلَّمَ انْحِصَارَ الْعِلَّةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ وَاسْتَتَمَّ لَهُ إِبْطَالُهَا إِلَّا وَاحِدَةً، حَصَلَ مَقْصُودُهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَعْجِزَ الْخَصْمُ «عَنْ إِظْهَارِ وَصْفٍ زَائِدٍ» عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، لِأَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ; فَقَدْ سَلِمَ الْحَصْرُ ضَرُورَةً، فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْخَصْمِ عَلَى الْحَصْرِ إِمَّا اخْتِيَارِيَّةٌ بِالتَّسْلِيمِ، أَوِ اضْطِرَارِيَّةٌ بِعَجْزِهِ عَنِ الزِّيَادَةِ.

قَوْلُهُ: «فَيَجِبُ إِذَنْ عَلَى خَصْمِهِ تَسْلِيمُ الْحَصْرِ، أَوْ إِبْرَازُ مَا عِنْدَهُ لِيَنْظُرَ

ص: 406

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فِيهِ» أَيْ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَبْرَ الْمُسْتَدِلِّ لِلْأَوْصَافِ حَاصِرٌ بِمُوَافَقَةِ الْخَصْمِ، أَوْ عَجْزِهِ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَجَبَ حِينَئِذٍ عَلَى الْخَصْمِ الْمُعْتَرِضِ إِمَّا «تَسْلِيمُ الْحَصْرِ» فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمُسْتَدِلِّ مِنْهُ، «أَوْ إِبْرَازُ مَا عِنْدَهُ» يَعْنِي إِظْهَارَ مَا عِنْدَ الْمُعْتَرِضِ مِنَ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ «لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَيُفْسِدُهُ» وَلَا يَسْمَعُ قَوْلَ الْمُعْتَرِضِ: عِنْدِي وَصْفٌ زَائِدٌ، لَكِنِّي لَا أَذْكُرُهُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إِمَّا صَادِقٌ، فَيَكُونُ كَاتِمًا لِعِلْمٍ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَيَفْسُقُ بِذَلِكَ، أَوْ كَاذِبٌ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى قَوْلِهِ، وَيَلْزَمُهُ الْحَصْرُ.

قَوْلُهُ: «بِبَيَانِ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَعَ حَذْفِهِ، أَوْ بِبَيَانِ طَرْدِيَّتِهِ» إِلَى آخِرِهِ.

يَعْنِي إِذَا أَبْرَزَ الْخَصْمُ الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مِنَ الْأَوْصَافِ، لَزِمَ الْمُسْتَدِلُّ أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَيُفْسِدُهُ، وَيُبَيِّنُ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ، وَلَهُ إِلَى ذَلِكَ طَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُبَيِّنَ بَقَاءَ الْحُكْمِ مَعَ حَذْفِهِ، أَيْ: عَدَمِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ أَوِ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ أَمَانٌ وُجِدَ مِنْ عَاقِلٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُتَّهَمٍ، فَيَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الْحُرِّ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرَتْ هُوَ أَوْصَافُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ فَقَطْ، بَلْ هُنَاكَ وَصْفٌ آخَرُ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْعَبْدِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ مُلْغًى بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِنَّ أَمَانَهُ يَصِحُّ بِاتِّفَاقٍ مَعَ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ، فَصَارَ وَصْفًا لَاغِيًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْعِلَّةِ.

ص: 407

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي إِبْطَالِ الْوَصْفِ الزَّائِدِ: أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهُ وَصْفًا طَرْدِيًّا، أَيْ: لَمْ يَلْتَفِتِ «الشَّرْعُ إِلَيْهِ فِي مَعْهُودِ تَصَرُّفِهِ» أَيْ: فِيمَا عُهِدَ مِنْ تَصَرُّفِهِ، كَالطُّولِ وَالْقَصْرِ وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ.

مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: يَسْرِي الْعِتْقُ فِي الْأَمَةِ قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ بِجَامِعِ الرِّقِّ، إِذْ لَا عِلَّةَ غَيْرُهُ عَمَلًا بِالسَّبْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: الذُّكُورِيَّةُ وَصْفٌ زَائِدٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَمُلَ عِتْقُهُ بِالسِّرَايَةِ، حَصَلَ مِنْهُ مَا لَا يَحْصُلُ مِنَ الْأَمَةِ مِنْ تَأَهُّلِهِ لِلْحُكْمِ وَالْإِمَامَةِ وَأَنْوَاعِ الْوِلَايَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ السِّرَايَةِ فِي الْأَكْمَلِ ثُبُوتُهُ فِي غَيْرِهِ.

فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْفَرْقِ مُنَاسِبٌ، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نَرَ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ الذُّكُورِيَّةَ وَالْأُنُوثِيَّةَ فِي بَابِ الْعِتْقِ، فَيَكُونُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ مَعْهُودٍ تَصْرِفُهُ، فَيَكُونُ وَصْفًا طَرْدِيًّا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ: «وَلَا يَفْسُدُ الْوَصْفُ بِالنَّقْضِ» إِلَى آخِرِهِ. يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَا يَكْفِيهِ فِي إِفْسَادِ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْرَزَهُ الْمُعْتَرِضُ أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهُ مُنْتَقِضًا، بَلْ يُوجَدُ بِدُونِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ الْعِلَّةِ، أَوْ شَرْطًا لَهَا. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِوُجُودِ الْحُكْمِ لِوُجُودِهِ، «وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ» بِالْحُكْمِ «صِحَّةُ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ بِدُونِهِ» لِأَنَّهُ جُزْءٌ لَهَا وَشَرْطٌ، وَالْعِلَّةُ لَا تَصِحُّ بِدُونِ جُزْئِهَا أَوْ شَرْطِهَا.

مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الْكَيْلُ، فَعَارَضَهُ الْمُعْتَرِضُ بِالطُّعْمِ، فَنَقَضَهُ الْمُسْتَدِلُّ بِالْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُطْعَمُ وَلَا رَبًّا فِيهِ، لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ فِي بُطْلَانِ كَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةً، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ عِلَّةِ الرِّبَا، بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَجْمُوعَ الْكَيْلِ وَالطُّعْمِ، أَوْ شَرْطًا فِيهَا فَتَكُونُ عِلَّةُ الرِّبَا الْكَيْلَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَكِيلُ مَطْعُومًا. وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ كَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً أَنْ يَكُونَ

ص: 408

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْكَيْلُ عِلَّةً صَحِيحَةً، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الطُّعْمُ جُزْءَهَا أَوْ شَرْطَهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّقْضِ وَبَيْنَ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَعَ حَذْفِ الْوَصْفِ حَيْثُ كَانَ مُبْطِلًا لَهُ دُونَ النَّقْضِ: هُوَ أَنَّ بَقَاءَ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَلَا مُعْتَبَرٍ فِي الْحُكْمِ عِلَّةً وَلَا جُزْءَ عِلَّةٍ، وَلَا شَرْطًا، إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ فِيهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، لَمَا وُجِدَ بِدُونِهِ أَصْلًا، بِخِلَافِ وُجُودِ الْوَصْفِ بِدُونِ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي الْحُكْمِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَشْكَلُ، فَيُظَنُّ تَنَاقُضًا.

قَوْلُهُ: «وَلَا بِقَوْلِهِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَلَا يَفْسُدُ الْوَصْفُ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ بِقَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ: إِنِّي «لَمْ أَعْثُرْ بَعْدَ الْبَحْثِ عَلَى مُنَاسَبَةِ» عِلَّتِكَ أَيُّهَا الْمُسْتَدِلُّ، فَيَتَعَارَضُ الْكَلَامَانِ، وَيَقِفُ الْمُسْتَدِلُّ.

قَوْلُهُ: «وَإِذَا اتَّفَقَ خَصْمَانِ عَلَى فَسَادِ عِلَّةِ مَنْ عَدَاهُمَا، فَإِفْسَادُ أَحَدِهِمَا عِلَّةَ الْآخَرِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ» إِلَى آخِرِهِ.

مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظُهُورِهِ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى فَسَادِ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا فِي الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، ثُمَّ أَفْسَدَ أَحَدُهُمَا عِلَّةَ الْآخَرِ، مِثْلَ أَنِ اتَّفَقَ الْحَنْبَلِيُّ وَالشَّفْعَوِيُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الْكَيْلَ وَالطُّعْمَ عِلَّةٌ فَاسِدَةٌ، ثُمَّ نَقَضَ الشَّفَعَوِيُّ عِلَّةَ الْكَيْلِ بِالْمَاءِ، إِذْ هُوَ مَكِيلٌ وَلَا رِبًا فِيهِ، أَوْ نَقَضَ الْحَنْبَلِيُّ عِلَّةَ الطُّعْمِ بِالْمَاءِ أَيْضًا، إِذْ هُوَ مَطْعُومٌ وَلَا رِبًا فِيهِ عَلَى خِلَافٍ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مُصَحِّحًا لِعِلَّةِ النَّاقِضِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ: نَعَمْ، لِأَنَّ مَا عَدَا عِلَّتَيْهِمَا ثَبَتَ فَسَادُهُ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَعِلَّةُ الْخَصْمِ ثَبَتَ فَسَادُهَا بِإِفْسَادِهَا، فَتَعَيَّنَتِ الْعِلَّةُ الْبَاقِيَةُ.

وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْبَاقِيَةِ، لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى

ص: 409

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَسَادِ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا لَا يَقْتَضِي فَسَادَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ فِي اعْتِقَادِهِمَا، وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمَا، إِذْ غَيْرُهُمَا يَعْتَقِدُ فَسَادَ عِلَّتَهِمَا كَالْمَالِكِيِّ يَعْتَقِدُ فَسَادَ التَّعْلِيلِ بِالْكَيْلِ وَالطُّعْمِ، وَيَدَّعِي عِلَّةَ الْقُوتِ، فَيَتَعَارَضُ اعْتِقَادُهُمَا وَاعْتِقَادُهُ، وَكَذَلِكَ «كَلٌّ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ فَسَادَ عِلَّةِ غَيْرِهِ مِنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ» أَيْ: يَعْتَقِدُ فَسَادَ مَا سِوَى عِلَّتِهِ، فَيَتَعَارَضُ اعْتِقَادُهُمَا، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.

قُلْتُ: الْقَوْلَانِ يُمْكِنُ تَنْزِيلُهُمَا عَلَى حَالَيْنِ، وَيَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى فَسَادِ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا، وَإِفْسَادِ أَحَدِهِمَا عِلَّةَ الْآخَرِ ; يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِلَّةِ مُنَاظِرِهِ جَدَلًا، لَا نَظَرًا وَاجْتِهَادًا، أَيْ: يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى إِفْحَامِ خَصْمِهِ وَقَطْعِهِ فِي مَقَامِ النَّظَرِ.

أَمَّا بِالْإِضَافَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ شَرْعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا، لِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ يَثْبُتُ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ مَا لَا يَثْبُتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَبِالْعَكْسِ، كَحُكْمِ الْحَاكِمِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا، وَلَا يُحِيلُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ بَاطِنًا، وَطَلَاقُ الْمُتَأَوِّلِ تَأْوِيلًا يَبْعُدُ عَنِ الظَّاهِرِ يُدِينُ فِيهِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فَائِدَةٌ: اصْطَلَحَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى قَوْلِهِمْ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، يَبْدَءُونَ بِالسَّبْرِ، وَالسَّبْرُ: الِاخْتِبَارُ، وَالتَّقْسِيمُ: جَعْلُ الشَّيْءِ أَقْسَامًا.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْسِيمُ وَالسَّبْرُ، لِأَنَّا نُقَسِّمُ أَوَّلًا، فَنَقُولُ: الْعِلَّةُ إِمَّا كَذَا، أَوْ كَذَا، ثُمَّ نَسْبُرُ، أَيْ: نَخْتَبِرُ تِلْكَ الْأَوْصَافَ أَيُّهَا يَصْلُحُ عِلَّةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّقْسِيمُ وَسِيلَةَ السَّبْرِ الَّذِي هُوَ الِاخْتِبَارُ أُخِّرَ عَنْهُ تَأْخِيرَ الْوَسَائِلِ،

ص: 410

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقُدِّمَ السَّبْرُ تَقْدِيمَ الْمَقَاصِدِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ.

قُلْتُ: وَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُمْ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ عَلَى مَعْنَى سَبْرِ الْعِلَّةِ بِتَقْسِيمِ الْأَوْصَافِ، لَعَادَ إِلَى مَا قَالَهُ، إِذْ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ التَّقْسِيمَ سَبَبٌ لِلسَّبْرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّا إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ السَّبْرَ مُفِيدٌ لِمَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ بِنَاءً عَلَى مُقَدِّمَاتٍ:

إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ التَّعْلِيلُ، فَمَهْمَا أَمْكَنَ جَعْلُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا، لَا يُجْعَلُ تَعَبُّدًا.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي وَصْفِ الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، فَمَتَى أَمْكَنَ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمُنَاسِبِ، لَا يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا الْوَصْفَ الْبَاقِيَ بَعْدَ السَّبْرِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ عِلَّةً بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَالْأُولَى وَالثَّانِيَةُ ظَاهِرَتَانِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا هَذَا الْوَصْفَ، فَدَلِيلُهَا مَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ لَهُ دُرْبَةٌ بِمُمَارَسَةِ الْأَحْكَامِ، وَاسْتِخْرَاجِ أَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا، إِذَا اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مِنْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِمَعْرِفَتِهِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ، إِذِ الْأَوْصَافُ الَّتِي تُنَاطُ بِهَا الْأَحْكَامُ إِمَّا عَقْلِيَّةٌ: كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرِّضَى وَالْعَمْدِيَّةِ، أَوْ مَحْسُوسَةٌ: كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالْغَصْبِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، أَوْ شَرْعِيَّةٌ: كَالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَإِدْرَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَدَارِكِهِ - وَهِيَ الْعُقَلُ وَالْحِسُّ وَالشَّرْعُ - سَبْرٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ طَرِيقٌ مُوَصِّلٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 411

النَّوْعُ الثَّالِثُ الدَّوَرَانُ: وَهُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْوَصْفِ، وَعَدَمَهُ بِعَدَمِهِ وَخَالَفَ قَوْمٌ.

لَنَا: يُوجِبُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ فَيُتَّبَعُ

قَالُوا: الْوُجُودُ لِلْوُجُودِ طَرْدٌ مَحْضٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَالْعَكْسُ لَا يُعْتَبَرُ هُنَا، ثُمَّ الْمَدَارُ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا لِلْعِلَّةِ، أَوْ جُزْءًا فَتَعْيِينُهُ لِلْعَلِيَّةِ تَحْكُّمٌ.

قُلْنَا: عَدَمُ تَأْثِيرِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ لَا يَمْنَعُ تَأْثِيرَهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ، ثُمَّ الْعَكْسُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَلَكِنْ مَا أَفَادَهُ مِنَ الظَّنِّ مُتَّبَعٌ، وَاحْتِمَالُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَنْفِي إِفَادَةَ الظَّنِّ، وَهُوَ مَنَاطُ التَّمَسُّكِ، وَصَحَّحَ الْقَاضِي، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّمَسُّكَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ الْمُفِيدَةِ لِلطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، نَحْوَ: مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ، صَحَّ ظِهَارُهُ، وَمَنَعَ ذَلِكَ آخَرُونَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ــ

«النَّوْعُ الثَّالِثُ» : يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِنْبَاطِ; إِثْبَاتُهَا بِالدَّوَرَانِ.

وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ دَارَ يَدُورُ دَوْرًا وَدَوَرَانًا، إِذَا تَحَرَّكَ حَرَكَةً دَوْرِيَّةً، وَهِيَ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَى مَبْدَئِهَا، كَحَرَكَةِ الْفَلَكِ وَالدُّولَابِ وَالرَّحَا وَنَحْوِهَا.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الدَّوَرَانَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: «وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْوَصْفِ» الْمُدَّعَى عِلَّةً «وَعَدَمُهُ بِعَدَمِهِ» .

قَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اقْتِرَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَعَدَمِهِ مَعَ عَدَمِهِ، قَالَ: وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً.

قُلْتُ: وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ عَنِ الدَّوَرَانِ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، مِنْهُمُ الْآمِدِيُّ قَالَ:

ص: 412

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدُلُّ عَلَيْهَا قَطْعًا، كَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ظَنًّا، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَبْنَاءِ زَمَانِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

قُلْتُ: فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: «وَخَالَفَ قَوْمٌ» أَيْ: فِي كَوْنِ الدَّوَرَانِ مُفِيدًا لِلْعِلِّيَّةِ خِلَافٌ.

مِثَالُ ذَلِكَ الْخَمْرُ; حِينَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا حَرَامٌ، فَهَذَا اقْتِرَانُ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْوَصْفِ، وَلَمَّا كَانَتْ عَصِيرًا، وَبَعْدَ أَنْ صَارَتْ خَلًّا بِالِاسْتِحَالَةِ، لَيْسَتْ مُسْكِرَةً، فَلَيْسَتْ حَرَامًا، فَهَذَا اقْتِرَانُ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ.

وَقَدْ يَكُونُ الدَّوَرَانُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا ذُكِرَ فِي الْخَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي صُورَتَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي حُلِيِّ الِاسْتِعْمَالِ الْمُبَاحِ: الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلزَّكَاةِ فِي كُلٍّ مِنَ النَّقْدَيْنِ كَوْنُهُ أَحَدَ الْحَجَرَيْنِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ دَارٌ مَعَ كَوْنِهِ أَحَدَ الْحَجَرَيْنِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، لَكِنَّ الدَّوَرَانَ فِي صُورَةٍ أَقْوَى مِنْهُ فِي صُورَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مُدْرَكٌ ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا ظَاهِرًا.

قَوْلُهُ: «لَنَا» أَيْ: عَلَى أَنَّ الدَّوَرَانَ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ هُوَ أَنَّهُ «يُوجِبُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ» فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ، أَمَّا أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً، فَلِدَلِيلِ الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ; أَمَّا دَلِيلُ الْعُرْفِ، فَإِنَّ مَنْ نَادَيْنَاهُ بِاسْمٍ، فَغَضِبَ، ثُمَّ سَكَتْنَا عَنْهُ، فَزَالَ غَضَبُهُ، ثُمَّ نَادَيْنَاهُ فَغَضِبَ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ; حَصَلَ لَنَا الْعِلْمُ فَضْلًا عَنِ الظَّنِّ بِأَنَّ عِلَّةَ غَضَبِهِ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا شَأْنُ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْأَصْلُ حَمْلُ الشَّرْعِيَّاتِ عَلَيْهَا مَا لَمْ يَقُمْ فَارِقٌ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَإِنَّ الْكَسْرَ مَثَلًا يُوجَدُ

ص: 413

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الِانْكِسَارُ بِوُجُودِهِ، وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ عَلِمَ الْأَطِبَّاءُ مَا عَلِمُوهُ مِنْ قُوَى الْأَدْوِيَةِ وَأَفْعَالِهَا، كَالْأَدْوِيَةِ الْمُسَهِّلَةِ وَالْقَابِضَةِ وَغَيْرِهَا، حَيْثُ دَارَتْ آثَارُهَا مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا. وَكَذَلِكَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ لَمَّا رَأَوْهُ يَكْمُلُ بِمُقَابَلَتِهَا، وَيَنْقُصُ بِمُقَارَبَتِهَا لِغَلَبَتِهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَدْسِ الْمُحْتَمَلِ; إِلَّا أَنَّ مُسْتَنَدَهُ الدَّوَرَانُ، وَمُسْتَنَدُ كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَأَمَّا دَلِيلُ الشَّرْعِ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام بَعَثَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةَ عَامِلًا، فَلَمَّا عَادَ مِنْ عَمَلِهِ، جَاءَ بِمَالٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي، فَخَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ الرَّجُلِ نَبْعَثُهُ فِي عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي، أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ.

وَهَذَا عَيْنُ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّوَرَانِ، أَيْ: إِنَّا إِذَا اسْتَعْمَلْنَاكَ، أُهْدِيَ لَكَ، وَإِذَا لَمْ نَسْتَعْمِلْكَ لَمْ يُهْدَ لَكَ، فَعِلَّةُ الْهَدِيَّةِ لَكَ اسْتِعْمَالُنَا إِيَّاكَ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ يُوجِبُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ. وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ ظَنُّ الْعِلِّيَّةِ، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، فَلِأَنَّ الظَّنَّ مُتَّبَعٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ بِمَا عُرِفَ فِي الدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ مِنْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ.

قَوْلُهُ: «قَالُوا» يَعْنِي الْمَانِعِينَ لِلِاحْتِجَاجِ بِالدَّوَرَانِ; احْتَجُّوا بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاحْتِجَاجَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِوُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ، أَوْ بِانْتِفَائِهِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَهُوَ الْعَكْسُ، فَإِنْ كَانَ بِالْأَوَّلِ، فَهُوَ «طَرْدٌ مَحْضٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ» كَمَا تَقَرَّرَ، وَإِنْ كَانَ بِالثَّانِي كَانْتِفَاءِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْإِسْكَارِ، فَالْعَكْسُ

ص: 414

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لَا يُعْتَبَرُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَى الدَّوَرَانِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْمَدَارَ» هُوَ مَا يَدُورُ مَعَهُ الْحُكْمُ وُجُودًا وَعَدَمًا قَدْ يَكُونُ عِلَّةَ الْإِسْكَارِ، وَ «قَدْ يَكُونُ لَازِمًا لِلْعِلَّةِ» كَالْحُمْرَةِ وَالْمَيَعَانِ وَالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ، وَقَدْ يَكُونُ «جُزْءًا» لِلْعِلَّةِ كَالْعَمْدِيَّةِ أَوِ الْعُدْوَانِيَّةِ فِي عِلَّةِ الْقِصَاصِ، وَإِذَا كَانَ مَدَارُ الْحُكْمِ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَتَعْيِينُهُ لِكَوْنِهِ عِلَّةً تَحَكُّمٌ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّيْءُ قَدْ يَدُورُ مَعَ مَا لَيْسَ عِلَّةً، كَحَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ مَعَ الْكَوَاكِبِ، وَلَيْسَتْ عِلَّةً لَهَا، وَالْجَوْهَرُ وَالْعَرَضُ كُلٌّ مِنْهُمَا دَائِرٌ مَعَ الْآخَرِ، وَلَيْسَتْ عِلَّةً لَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِالدَّوَرَانِ، فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: «قُلْنَا» أَيْ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمْ; أَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ «عَدَمَ» تَأْثِيرِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ «مُنْفَرِدَيْنِ» أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمَا حَالَ انْفِرَادِهِ «لَا يَمْنَعُ تَأْثِيرَهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ» لِأَنَّ التَّرْكِيبَ يُفِيدُ مَا لَا يُفِيدُهُ الْإِفْرَادُ. وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ جَوَابٌ بِمَنْعِ الْحَصْرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إِمَّا بِالْوُجُودِ عِنْدَ الْوُجُودِ أَوْ بِالْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ تَقْسِيمٌ غَيْرُ حَاصِرٍ، فَقَوْلُنَا: لَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ بِالِاحْتِجَاجِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَكْسَ عَنِ الْعِلَّةِ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ حَيْثُ قَالَ: لَا تَكُونُ الْعِلَّةُ عِلَّةً حَتَّى يُقْبِلَ الْحُكْمُ بِإِقْبَالِهَا، وَيُدْبِرَ بِإِدْبَارِهَا، فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ أَنَّ الْعَكْسَ لَا يُعْتَبَرُ. وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ إِلْغَاءُ الدَّوَرَانِ.

وَبِتَقْدِيمِ التَّسْلِيمِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ - نَقُولُ: «الْعَكْسُ» فِي الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُفِيدُ بِانْضِمَامِهِ إِلَى

ص: 415

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الطَّرْدِ ظَنًّا بِأَنَّ الْوَصْفَ عِلَّةٌ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَا أَفَادَهُ مِنَ الظَّنِّ عَمَلًا بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ يَحْصُلُ التَّرْجِيحُ وَالتَّكْمِيلُ بِمَا لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِالِاعْتِبَارِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ احْتِمَالُ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ جُزْءِ عِلَّتِهِ أَوْ شَرْطِهَا، فَبِأَنْ نَقُولَ:«احْتِمَالُ» ذَلِكَ «لَا يَنْفِي إِفَادَةَ الظَّنِّ» بِأَنَّ مَدَارَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ عَلَى مَا سَبَقَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْعُرْفِ وَالشَّرْعِ، وَإِفَادَةُ الظَّنِّ بِذَلِكَ هِيَ «مَنَاطُ التَّمَسُّكِ» فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَا يَنْفِي حُصُولَهَا، لَمْ يَضُرَّنَا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

وَهَاهُنَا طَرِيقَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ، لَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِمِثْلِهَا، وَصُورَتُهَا أَنْ يُقَالَ: بَعْضُ الدَّوَرَانَاتِ حُجَّةٌ قَطْعًا كَدَوَرَانِ قَطْعِ الرَّأْسِ مَعَ الْمَوْتِ فِي جَارِي الْعَادَةِ، فَلْتَكُنْ جَمِيعُ الدَّوَرَانَاتِ حُجَّةً قَطْعًا تَسْوِيَةً وَعَدْلًا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَإِحْسَانًا إِلَى الْمُكَلَّفِينَ بِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ وَبِتَوْفِيرِ خَوَاطِرِهِمْ عَلَى النَّظَرِ فِي مَدَارِ فُرُوقِ الْأَحْكَامِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْلِ: 90] ، وَعُورِضَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَعْضَ الدَّوَرَانَاتِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا كَمَا سَبَقَ، فَلْيَكُنْ جَمِيعُهَا كَذَلِكَ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا لَوْ كَانَ حُجَّةً، لَوَرَدَ نَقْضًا عَلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْهَا، وَالنَّقْضُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ شَبَهِيَّةٌ خَيَالِيَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا عَلَى جِهَةِ تَدْرِيبِ النَّاظِرِ بِتَرْكِيبِ الْحُجَجِ، إِذْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ مِنْ أَحْسَنِهَا صُورَةً وَوَصْفًا.

قَوْلُهُ: «وَصَحَّحَ الْقَاضِي وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّمَسُّكَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ الْمُفِيدَةِ

ص: 416

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لِلطَّرْدِ وَالْعَكْسِ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: اخْتُلِفَ فِي التَّمَسُّكِ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ الْمُفِيدَةِ لِلطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، كَقَوْلِنَا فِي تَصْحِيحِ ظِهَارِ الذِّمِّيِّ:«مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ، صَحَّ ظِهَارُهُ» كَالْمُسْلِمِ، وَفِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ: مَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورَتِهِ مُنْفَرِدَةً لَا تَجِبُ فِي ذُكُورِهِ وَإِنَاثِهِ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ بِالِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ، فَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَجَبَتْ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً، فَوَجَبَتْ فِي ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا، وَالْحُمُرُ وَالْبِغَالُ لَمْ تَجِبْ فِي ذُكُورِهَا فَلَمْ تَجِبْ فِي ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي الْخَيْلِ.

فَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ صِحَّةَ طَلَاقِ الذِّمِّيِّ شَاهِدٌ لِصِحَّةِ ظِهَارِهِ، وَعَدَمَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي ذُكُورِ الْخَيْلِ شَاهِدٌ لِعَدَمِهَا فِي ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا، فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِشَبَهِهِ بِالدَّوَرَانِ وَتَحْصِيلِهِ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِجَامِعِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ لَيْسَ نَصًّا فِي الْعِلِّيَّةِ وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا مُؤَثِّرًا وَلَا مُلَائِمًا، وَلَا مُنَاسِبًا غَرِيبًا وَلَا مُرْسَلًا، إِنَّمَا هُوَ مُخَيَّلٌ تَخْيِيلًا شَبَهِيًّا أَنَّ الْفَرْعَ الْمَشْهُودَ لَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى عِلَّةِ الْأَصْلِ الشَّاهِدِ، وَالظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنَ التَّخَيُّلِ إِنْ حَصَلَ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَلَا يُنَاطُ بِهِ حُكْمٌ، وَلَا يَكُونُ مُعَوَّلًا عَلَيْهِ.

قُلْتُ: التَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النُّظَّارِ وَالْمُجْتَهِدِينَ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَبِاخْتِلَافِ الْأُصُولِ الشَّاهِدَةِ كَثْرَةً وَقِلَّةً، فَمَتَى كَانَ هَذَا الطَّرِيقُ مُفِيدًا مِنَ الظَّنِّ مَا يُسَاوِي مَا يُفِيدُهُ دَلِيلٌ آخَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِ، كَخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْعُمُومِ أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَنَحْوِهِ; صَحَّ التَّمَسُّكُ بِهِ، إِذْ قَدْ يَتَّفِقُ نَاظِرٌ فَاضِلٌ مُرْتَاضٌ، فَتَظْهَرُ لَهُ أُصُولٌ كَثِيرَةٌ شَاهِدَةٌ لِلْفَرْعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ

ص: 417

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

حَتَّى يَكَادُ يَجْزِمُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْفَرْعِ حُكْمُ تِلْكَ الْأُصُولِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى مَا ظَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنَاظِرًا، أَمْكَنَهُ إِبْرَازُ تِلْكَ الشَّوَاهِدِ لِخَصْمِهِ، وَقَرَّبَ مَا ادَّعَاهُ إِلَى ذِهْنِهِ بِالْمُقَدِّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَقْبُولَةِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الظَّنُّ بِذَلِكَ، فَيَسْلَمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 418

خَاتِمَةٌ

اطِّرَادُ الْعِلَّةِ لَا يُفِيدُ صِحَّتَهَا، إِذْ سَلَامَتُهَا عَنِ النَّقْضِ لَا يَنْفِي بُطْلَانَهَا بِمُفْسِدٍ آخَرَ; وَلِأَنَّ صِحَّتَهَا بِدَلِيلِ الصِّحَّةِ لَا بِانْتِفَاءِ الْمُفْسِدِ، كَثُبُوتِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمُقْتَضِي، لَا بِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَالْعَدَالَةُ بِحُصُولِ الْمُعَدِّلِ، لَا بِانْتِفَاءِ الْجَارِحِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِهَا فَتَصِحُّ، مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا فَتَفْسَدُ.

وَإِذَا لَزِمَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَصْفِ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ، أَوْ رَاجِحَةٌ، أَلْغَاهَا قَوْمٌ إِذِ الْمُنَاسِبُ مَا تَلَقَّتْهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ بِالْقَبُولِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَحْصِيلِ دِينَارٍ مَعَ خَسَارَةِ مِثْلِهِ، أَوْ مِثْلَيْهِ، وَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ، إِذِ الْمَصْلَحَةُ مِنْ مُتَضَمِّنَاتِ الْوَصْفِ، وَالْمَفْسَدَةُ مِنْ لَوَازِمِهِ، فَيُعْتَبَرَانِ، لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، إِذْ يَنْتَظِمُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ: لِي مَصْلَحَةٌ فِي كَذَا، لَكِنْ يَصُدُّنِي عَنْهُ مَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ كَذَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فَأَثْبَتَ النَّفْعَ مَعَ تَضَمُّنِهِ لِلْإِثْمِ.

ــ

قَوْلُهُ: " خَاتِمَةٌ: اطِّرَادُ الْعِلَّةِ لَا يُفِيدُ صِحَّتَهَا " إِلَى آخِرِهِ.

لِمَا بَيْنَ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ; أَخَذَ يُبَيِّنُ الطُّرُقَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا.

فَمِنْهَا: اطِّرَادُهَا لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا، إِذْ مَعْنَى اطِّرَادِهَا سَلَامَتُهَا عَنِ النَّقْضِ، وَهُوَ بَعْضُ مُفْسِدَاتِهَا، " وَسَلَامَتُهَا عَنْ " مُفْسِدٍ وَاحِدٍ " لَا يَنْفِي بُطْلَانَهَا

ص: 419

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِمُفْسِدٍ آخَرَ " كَكَوْنِهَا قَاصِرَةً أَوْ عَدَمِيَّةً، أَوْ طَرْدِيَّةً غَيْرَ مُنَاسِبَةٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ، وَمَا مِثَالُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْتَقِضَةً، إِلَّا مِثَالُ مَنْ يَقُولُ: هَذَا الْعَبْدُ صَحِيحٌ سَلِيمٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْمَى، إِذْ جَازَ أَنْ تَنْتَفِيَ سَلَامَتُهُ بِبَرَصٍ أَوْ عَرَجٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ حُكْمٌ، وَالْأَحْكَامُ إِنَّمَا تَثْبُتُ " صِحَّتُهَا بِدَلِيلِ الصِّحَّةِ لَا بِانْتِفَاءِ الْمُفْسِدِ " وَ " بِوُجُودِ الْمُقْتَضِي، لَا بِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ " وَعَدَالَةُ الشَّاهِدِ وَالرَّاوِي إِنَّمَا تَثْبُتُ " بِحُصُولِ الْمُعَدِّلِ لَا بِانْتِفَاءِ الْجَارِحِ " فَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ إِنَّمَا تَصِحُّ بِوُجُودِ مُصَحِّحِهَا، لَا بِانْتِفَاءِ مُفْسِدِهَا.

" وَقَوْلُ الْقَائِلِ ": هَذِهِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةٌ، إِذْ " لَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِهَا " " مُعَارَضٌ " بِقَوْلِ الْخَصْمِ: هِيَ فَاسِدَةٌ، إِذْ " لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا ".

وَمِنَ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ فِي إِثْبَاتِهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى صِحَّتِهَا بِاقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِهَا، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ، إِذِ الْحُكْمُ يَقْتَرِنُ بِمَا يُلَازِمُ الْعِلَّةَ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ، كَاقْتِرَانِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِلَوْنِهَا وَطَعْمِهَا وَرِيحِهَا، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ الْإِسْكَارُ.

وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ مِنَ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثُ طُرُقٍ:

أَحَدُهَا: سَلَامَةُ الْعِلَّةِ عَنْ عِلَّةٍ تُفْسِدُهَا وَتَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا.

الثَّانِي: اطِّرَادُهَا وَجَرَيَانُهَا فِي حُكْمِهَا.

الثَّالِثُ: اطِّرَادُهَا وَانْعِكَاسُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّوَرَانَ لَا يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ، وَالطَّرِيقَانِ الْأَوَّلَانِ مُسْتَفَادَانِ مِنْ " الْمُخْتَصَرِ ".

وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَمَمْنُوعٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ إِفَادَةِ الدَّوَرَانِ الْعِلِّيَّةِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: " وَإِذَا لَزِمَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَصْفِ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ " إِلَى

ص: 420

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

آخِرِهِ.

أَيْ: إِذَا كَانَ الْوَصْفُ الْمَصْلَحِيُّ الْمُنَاسِبُ يَسْتَلْزِمُ، أَوْ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً مُسَاوِيَةً لِمَصْلَحَتِهِ، أَوْ رَاجِحَةً عَلَيْهَا، اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ تُلْغَى مَصْلَحَتُهُ، وَتَخْتَلُّ مُنَاسَبَتُهُ أَمْ لَا؟ " فَأَلْغَاهَا قَوْمٌ " مِنْهُمْ الْآمِدِيُّ فِي " الْمُنْتَهَى " وَأَبْقَاهَا آخَرُونَ.

حُجَّةُ مَنْ أَلْغَاهَا: أَنَّ " الْمُنَاسِبَ مَا تَلَقَّتْهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ بِالْقَبُولِ " وَمَا عَارَضَ مَصْلَحَتَهُ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ " لَيْسَ كَذَلِكَ " فَلَا يَكُونُ مُنَاسِبًا، " إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَحْصِيلِ دِينَارٍ " عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ " خَسَارَةُ " دِينَارٍ أَوْ دِينَارَيْنِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ لِتَكَافُؤِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَالثَّانِي الْتِزَامٌ لِلْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ.

وَحُجَّةُ مَنْ أَبْقَاهَا: أَنَّ " الْمَصْلَحَةَ مِنْ مُتَضَمَّنَاتِ الْوَصْفِ، وَالْمَفْسَدَةَ مِنْ لَوَازِمِهِ " أَيْ: قَدْ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً وَلَزِمَتْهُ مَفْسَدَةٌ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا لِاخْتِلَافِ جِهَتِهِمَا، " كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ " تُعْتَبَرُ طَاعَةً مِنْ وَجْهٍ; مَعْصِيَةً مَنْ وَجْهٍ عَلَى مَا سَبَقَ، " إِذْ يَنْتَظِمُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ: لِي مَصْلَحَةٌ فِي كَذَا، لَكِنْ يَصُدُّنِي عَنْهُ مَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ كَذَا " كَمَا يَقُولُ التَّاجِرُ: لِي مَصْلَحَةٌ فِي رُكُوبِ الْبَرِّ، أَوِ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ، وَتَحْصِيلِ الرِّبْحِ، لَكِنْ يَصُدُّنِي عَنْهُ مَا فِيهِ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ يَقُولُ الشَّخْصُ: لِي فِي التَّزَوُّجِ مَصْلَحَةُ الْإِعْفَافِ، لَكِنَّ فِيهِ مَفْسَدَةَ إِلْزَامِ الْمُؤْنَةِ، وَيَقُولُ الْمُسَافِرُ: لِي فِي الْفِطْرِ مَصْلَحَةُ التَّرَخُّصِ وَالتَّخْفِيفِ، لَكِنَّ فِيهِ مَفْسَدَةُ فَوَاتِ الْأَجْرِ.

وَبِالْجُمْلَةِ، فَمُعَارَضَةُ ضِدِّ الشَّيْءِ لَهُ لَا يُبْطِلُ حَقِيقَتَهُ، فَكَذَلِكَ الْمَفْسَدَةُ إِذَا

ص: 421

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَارَضَتِ الْمَصْلَحَةَ، لَا تُبْطِلُ حَقِيقَتَهَا.

نَعَمْ قَدْ يَخْفَى أَثَرُهَا، وَيُمْنَعُ اعْتِبَارُهَا، بِالْعَرْضِ إِذَا سَاوَتْهَا، أَوْ تَرَجَّحَتْ عَلَيْهَا، كَمَا قَرَّرْنَا فِي بَابِ الِاسْتِصْلَاحِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمَصْلَحَةَ مَعَ الْمَفْسَدَةِ الْأَطِبَّاءُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْغِذَاءُ الْفُلَانِيُّ نَافِعٌ مِنْ جِهَةِ كَذَا; مُضِرٌّ مِنْ جِهَةِ كَذَا، وَيُصْلِحُهُ كَذَا، " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " فِي شَأْنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [الْبَقَرَةِ: 219] ، " فَأَثْبَتَ النَّفْعَ " وَهُوَ مَصْلَحَةٌ، " مَعَ تَضَمُّنِهِ لِلْإِثْمِ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَنَفْعُ الْخَمْرِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ:

فَإِنَّ الْمُدَامَ تُقَوِّي الْعِظَامَ

وَتَشْفِي السَّقَامَ وَتَنْفَيِ التَّرَحْ

وَالْأَطِبَّاءُ كَثِيرًا مَا يَضَعُونَهَا فِي أَنْوَاعِ الْمُدَاوَاةِ وَالْمُعَالَجَاتِ، وَرَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّدَاوِي بِهَا.

وَأَمَّا الْمَيْسِرُ، وَهُوَ الْقِمَارُ; فَنَفْعُهُ تَكْثِيرُ الْمَالِ، إِذْ هُوَ تِجَارَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالرِّبَا، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوَسِّعُونَ بِمَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَيَذُمُّونَ مَنْ لَا يَحْضُرُهُ، وَيُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَيُسَمُّونَهُ الْبَرَمَ، أَيْ: الْبَخِيلَ.

وَأَمَّا مَفْسَدَتُهُمَا الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْإِثْمُ، فَإِفْسَادُ الْعَقْلِ فِي الْخَمْرِ، وَالتَّغَابُنُ بِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي الْمَيْسِرِ، وَالنِّزَاعُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا هُوَ فِي اخْتِلَالِ

ص: 422

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمُنَاسِبِ الْمَصْلَحِيِّ لِمُعَارَضَتِهِ مِثْلَهُ أَوْ أَرْجَحَ مِنْهُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ. أَمَّا الْعَمَلُ بِهِ، فَمَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ اخْتِلَالَ الْمُنَاسَبَةِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ، تَصَرَّفَ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا، وَالْوَاجِبُ هَاهُنَا امْتِنَاعُ الْعَمَلِ لِمَا سَبَقَ مِنْ لُزُومِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجَّحٍ، أَوِ الْتِزَامُ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ، فَيَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ يَتْرُكُهُ لِاخْتِلَالِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ، وَالْآخَرَ يَتْرُكُهُ لِمُعَارَضَةِ الْمُقَاوِمِ أَوِ الرَّاجِحِ، فَتَرْكُ الْعَمَلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ طَرِيقَهُ مُخْتَلِفٌ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 423