الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَ
التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ
إِمَّا مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ، أَوِ الْمَتْنِ، أَوِ الْقَرِينَةِ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَيُقَدَّمُ التَّوَاتُرُ عَلَى الْآحَادِ لِقَطْعِيَّتِهِ ; وَالْأَكْثَرُ رُوَاةً عَلَى الْأَقَلِّ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ كَالشَّهَادَةِ، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ، وَالْمُسْنَدُ عَلَى الْمُرْسَلِ، إِلَّا مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، فَالْأَمْرُ أَسْهَلُ فِيهَا لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ. كَمَا سَبَقَ. وَالْمَرْفُوعُ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَالْمُتَّصِلُ عَلَى الْمُنْقَطِعِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَرِوَايَةُ الْمُتْقِنِ وَالْأَتْقَنِ وَالضَّابِطِ وَالْأَضْبَطِ وَالْعَالِمِ وَالْأَعْلَمِ وَالْوَرِعِ وَالْأَوْرَعِ، وَالتَّقِيِّ وَالْأَتْقَى عَلَى غَيْرِهِمْ، وَصَاحِبِ الْقِصَّةِ وَالْمُلَابِسِ لَهَا عَلَى غَيْرِهِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ عِلْمٍ، وَالرِّوَايَةُ الْمُتَّسِقَةُ الْمُنْتَظِمَةُ عَلَى الْمُضْطَرِبَةِ، وَالْمُتَأَخِّرَةُ عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ ; وَرِوَايَةُ مُتَقَدِّمِ الْإِسْلَامِ وَمُتَأَخِّرِهِ سِيَّانِ ; وَفِي تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى غَيْرِهَا رِوَايَتَانِ، فَإِنْ رَجَحَتْ رَجَحَتْ رِوَايَةُ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَزِيدِ خِبْرَةٍ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْزِلَتِهِمْ وَمَكَانِهِمْ مِنْهُ.
ــ
قَوْلُهُ: «فَالتَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ» ، أَيْ: التَّرْجِيحُ الْوَاقِعُ فِي الْأَلْفَاظِ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ مَتْنِهَا، أَوْ سَنَدِهَا، أَوْ قَرَائِنِهَا الْمُحْتَفَّةِ بِهَا.
«أَمَّا الْأَوَّلُ» : يَعْنِي
التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ
، «فَيُقَدَّمُ التَّوَاتُرُ عَلَى الْآحَادِ لِقَطْعِيَّتِهِ» ، أَيْ: لِأَنَّ التَّوَاتُرَ قَاطِعٌ، وَالْآحَادُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَالْقَاطِعُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ بِالضَّرُورَةِ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى بَاقِي الْأَدِلَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَكْثَرُ» أَيْ: وَيُقَدَّمُ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ «رُوَاةً عَلَى» الَّذِي هُوَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَقَلُّ رُوَاةً، «وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ» أَيْ: قَالُوا: لَا يُقَدَّمُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، «كَالشَّهَادَةِ» لَا يُقَدَّمُ فِيهَا الْأَكْثَرُ عَدَدًا عَلَى غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ» . يَعْنِي عِنْدَ مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ مِنْ إِنْكَارِ تَرْجِيحِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ هَهُنَا أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ يُفِيدُ قُوَّةَ الظَّنِّ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْعِلْمِ، بِتَزَايُدِهِ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَزِيَادَةُ الظَّنِّ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا، إِذْ مَا دُونَهَا مَغْمُورٌ بِهَا، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ مَعَهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرُهُمْ فِيمَا أَحْسَبُ عَلَى خِلَافِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْكَرْخِيُّ يَحْكِي التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَقِيلَ: هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُسْنَدُ» ، أَيْ: وَيُقَدَّمُ «الْمُسْنَدُ عَلَى الْمُرْسَلِ» ، لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفٍ لَحِقَهُ تَبَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ، فَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً أَوْلَى، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مَعَ كُلِّ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَتَقْدِيمُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ. وَرَجَّحَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ، وَمَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْمُسْنَدِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا عَبْدُ الْجَبَّارِ.
قَوْلُهُ: «إِلَّا مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ فَالْأَمْرُ أَسْهَلُ فِيهَا لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ كَمَا سَبَقَ» ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَوْ يُعَارِضَهُ، وَيُنْتَظَرُ الْمُرَجِّحُ.
قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى مَا فِيهِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ. أَمَّا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ; فَإِذَا تَعَارَضَ الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ بِأَنْ قَالَ الصَّحَابِيُّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كَذَا، فَقَالَ صَحَابِيٌّ آخَرُ: حَدَّثْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا ;
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كَانَ الْمُسْنَدُ مُتَعَيَّنَ التَّقْدِيمِ، كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ حَدِيثِ غَيْرِهِ فِي رِبَا النَّسِيئَةِ. وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَالْمَرْفُوعُ» ، أَيْ: وَيُقَدَّمُ الْمَرْفُوعُ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ بِالسَّنَدِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «عَلَى الْمَوْقُوفِ» الَّذِي لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ الصَّحَابِيَّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رَفْعِهِ، وَثُبُوتُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام دُونَ غَيْرِهِ.
«وَالْمُتَّصِلُ» يُقَدَّمُ «عَلَى الْمُنْقَطِعِ» ، لِأَنَّ الِاتِّصَالَ صِفَةُ كَمَالٍ فِي الْحَدِيثِ تُوجِبُ زِيَادَةَ ظَنٍّ، وَالِانْقِطَاعَ صِفَةُ نَقْصٍ وَعِلَّةٌ تُوجِبُ نَقْصَ الظَّنِّ، وَلِأَنَّ الْمُنْقَطِعَ نَوْعٌ مِنَ الْمُرْسَلِ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَالْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ» أَيْ: يُقَدَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي وُجُودِهَا فِيهِ، فَيُقَدَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَى إِسْنَادِهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي إِسْنَادِهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَى رَفْعِهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي رَفْعِهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَى اتِّصَالِهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي اتِّصَالِهِ، لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى الشَّيْءِ يُوجِبُ لَهُ قُوَّةً، وَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَتَمَكُّنُهُ فِي بَابِهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ يُوجِبُ لَهُ ضَعْفًا، وَيَدُلُّ عَلَى تَزَلْزُلِهِ فِي بَابِهِ مَا لَمْ يَقُمِ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى ثُبُوتِهِ، فَيَكُونَ الْمُخَالِفُ حِينَئِذٍ مُعَانِدًا، كَالْيَهُودِ فِي نُبُوَّةِ عِيسَى، وَهُمْ وَالنَّصَارَى فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَاضِحٌ، لَكِنْ نَزِيدُهُ إِيضَاحًا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ اشْتَرَكَا فِي صِفَةٍ، أَوْ فِعْلٍ، وَتَفَاوَتَا فِيهِمَا بِالْكَمِّيَّةِ، أَوِ الْكَيْفِيَّةِ، كَانَا جَمِيعًا مُشْتَرِكَيْنِ فِي اشْتِقَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ لَهُمَا مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، أَوْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَاخْتَصَّ الزَّائِدُ مِنْهُمَا بِاشْتِقَاقِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ لَهُ مِنْهُمَا، فَيُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْإِتْقَانِ: مُتْقِنٌ، وَلِلزَّائِدِ فِيهِ: أَتْقَنُ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ.
فَنَقُولُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْمُتْقِنِ عَلَى غَيْرِ الْمُتْقِنِ، وَرِوَايَةُ الْأَتْقَنِ عَلَى غَيْرِ الْأَتْقَنِ ; وَإِنْ كَانَ مُتْقِنًا، لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمُتْقِنِ إِلَى الْأَتْقَنِ كَنِسْبَةِ الْفَاضِلِ إِلَى الْأَفْضَلِ، وَهُوَ مُتَرَجِّحٌ كَمَا سَبَقَ.
وَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الضَّابِطِ عَلَى غَيْرِ الضَّابِطِ، وَرِوَايَةُ الْأَضْبَطِ عَلَى غَيْرِ الْأَضْبَطِ، وَرِوَايَةُ الْعَالِمِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْعَالِمِ ; كَرِوَايَةِ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مِثْلَ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأُبَيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَنَحْوِهِمْ، عَلَى مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ رضي الله عنهم، وَهُوَ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ مَشْهُورًا بِالْفِقْهِ مِنْهُمْ.
وَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْأَعْلَمِ عَلَى غَيْرِ الْأَعْلَمِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا كَرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ أَعْلَمُ بِلَا شَكٍّ. وَلِهَذَا وَهِمَ أَبُو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مُوسَى فِي غَيْرِ قَضِيَّةٍ، وَيُصِيبُ فِيهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَيَقُولُ أَبُو مُوسَى: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ.
وَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْوَرِعِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْوَرِعِ، وَرِوَايَةُ الْأَوْرَعِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْأَوْرَعِ، وَرِوَايَةُ التَّقِيِّ، أَيْ: ذِي التَّقْوَى عَلَى غَيْرِ التَّقِيِّ، وَرِوَايَةُ الْأَتْقَى عَلَى غَيْرِ الْأَتْقَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالزِّيَادَةَ فِيهَا يُوجِبُ زِيَادَةَ الظَّنِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدَمِهِ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، كَمَا فِي الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ عَلَى الْآحَادِ.
قَوْلُهُ: «وَصَاحِبُ الْقِصَّةِ» ، أَيْ: وَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ صَاحِبِ الْقِصَّةِ «وَالْمُلَابِسِ لَهَا عَلَى غَيْرِهِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ عِلْمٍ» يُوجِبُ إِصَابَتَهُ.
مِثَالُ رِوَايَةِ صَاحِبِ الْقِصَّةِ حَدِيثُ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها: «تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَلَالٌ» يُقَدَّمُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» .
وَمِثَالُ رِوَايَةِ الْمُلَابِسِ، أَيْ: الْمُبَاشِرُ لِلْقِصَّةِ: حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا» ; يُقَدَّمُ عَلَى حَدِيثِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَمَأْخَذَهَا فِي «مُخْتَصَرِ التِّرْمِذِيِّ» .
قَوْلُهُ: «وَالرِّوَايَةُ» . أَيْ: وَتُقَدَّمُ الرِّوَايَةُ «الْمُتَّسِقَةُ الْمُنْتَظِمَةُ عَلَى الْمُضْطَرِبَةِ» ، لِأَنَّ اتِّسَاقَ الرِّوَايَةِ وَانْتِظَامَهَا يَدُلُّ عَلَى ضَبْطِهَا وَالْعِنَايَةِ بِهَا، وَاضْطِرَابِهَا يَدُلُّ عَلَى تَزَلْزُلِهَا وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا حَتَّى اضْطَرَبَتْ، وَالِاتِّسَاقُ: الِانْتِظَامُ. ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَانْتِظَامُ الرِّوَايَةِ: هُوَ ارْتِبَاطُ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا بِبَعْضٍ، وَوَفَاءُ الْأَلْفَاظِ بِالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ مُخِلٍّ، وَلَا زِيَادَةٍ مُمِلَّةٍ، وَاضْطِرَابُهَا تَنَافُرُ أَلْفَاظِهَا، وَاخْتِلَافُهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، كَحَدِيثِ: لَا يَبُولُنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي الْمُخَابَرَةِ وَنَحْوِهِمَا وَسَبَبُ وُقُوعِ الِاضْطِرَابِ فِي السُّنَنِ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي أَسْبَابٍ أُخَرَ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُتَأَخِّرَةِ» ، أَيْ: وَتُقَدَّمُ الرِّوَايَةُ الْمُتَأَخِّرَةِ «عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ» ، كَقَوْلِ الرَّاوِي: كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَكَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ وَبُسْرَةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ عَلَى رِوَايَةِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ فِيهِ، لِأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَةَ تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: «وَرِوَايَةُ مُتَقَدِّمِ الْإِسْلَامِ وَمُتَأَخِّرِهِ سِيَّانِ» ، أَيْ: لَا تَرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَتَفَاوُتِهِمَا بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ وَتَأَخُّرِهِ إِنَّمَا يُوجِبُ رُجْحَانًا فِي الْفَضِيلَةِ، لَا فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ التَّرْجِيحَ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: نَظَرَ إِلَى مُطْلَقِ الرُّجْحَانِ فِي الْفَضِيلَةِ، وَلِأَنَّهَا جِهَةٌ يُقَدَّمُ بِهَا فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ، فَقَدَّمَ بِهَا فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ، كَالْعِلْمِ، وَالتَّقْوَى، وَالْعَدَالَةِ.
قُلْتُ: وَالتَّوْجِيهُ الْمُؤَثِّرُ الْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ أَنَّ مُتَقَدِّمَ الْإِسْلَامِ أَثْبَتُ إِيمَانًا وَأَرْجَحُ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ لِزِيَادَةِ تَفَكُّرِهِ فِي قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَوَفُّرَ الدَّوَاعِي عَلَى الْعِنَايَةِ بِضَبْطِ الرِّوَايَةِ، وَالتَّحَرِّي فِي تَحَمُّلِهَا وَأَدَائِهَا، وَذَلِكَ مِنْ مَثَارَاتِ زِيَادَةِ الظَّنِّ.
قَوْلُهُ: «وَفِي تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ» يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رضي الله عنهم «عَلَى غَيْرِهَا رِوَايَتَانِ» :
إِحْدَاهُمَا: لَا تُقَدَّمُ، لِأَنَّهُمْ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي مَنَاطِ الرِّوَايَةِ - وَهُوَ الصُّحْبَةُ - سَوَاءٌ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالثَّانِيَةُ: تُقَدَّمُ لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهِمْ، وَتَيَقُّظِهِمْ، وَتَنَبُّهِهِمْ لِلْأَحْكَامِ، وَاحْتِيَاطِهِمْ لَهَا، وَلِمَا ذَكَرْنَا فِي تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْأَقْدَمِ إِسْلَامًا.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي تَقْدِيمِ رِوَايَتِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي إِجْمَاعِهِمْ: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِهِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ رَجَحَتْ» - يَعْنِي رِوَايَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رضي الله عنهم «رَجَحَتْ رِوَايَةُ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ» . يَعْنِي عَلَى رِوَايَةِ أَصَاغِرِهِمْ «لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَزِيدِ خِبْرَةٍ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِمَنْزِلَتِهِمْ» مِنْهُ «وَمَكَانِهِمْ» عِنْدَهُ، وَمُلَازَمَتِهِمْ لَهُ.
قُلْتُ: وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ بِنَاءِ هَذَا عَلَى رُجْحَانِ رِوَايَةِ الْخُلَفَاءِ، بَلْ رِوَايَةُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُحْتَمِلَةٌ لِلْخِلَافِ مُطْلَقًا، كَرِوَايَةِ الْأَقْدَمِ إِسْلَامًا، سَوَاءٌ رَجَحَتْ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ أَوْ لَا، وَالْأَشْبَهُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَصَاغِرِ يُعْرَفُ مِنْ كُتُبِ الطَّبَقَاتِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابَةَ إِلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ طَبَقَةً.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَبْنَاهُ تَفَاوُتُ دَلَالَاتِ الْعِبَارَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، فَيُرَجَّحُ الْأَدَلُّ مِنْهَا فَالْأَدَلُّ، فَالنَّصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلِلظَّاهِرِ مَرَاتِبُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، أَوْ قَرِينَتِهِ، فَيُقَدَّمُ الْأَقْوَى مِنْهَا فَالْأَقْوَى بِحَسَبِ قُوَّةِ دِلَالَتِهِ وَضَعْفِهَا، وَالْمُخْتَلِفُ لَفْظًا فَقَطْ عَلَى مُتَّحَدِهِ، لِدِلَالَةِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ عَلَى اشْتِهَارِهِ ; وَقَدْ يُعَارَضُ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْفَاظِ ضَرْبٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَالِاتِّحَادَ أَدَلُّ عَلَى الْإِتْقَانِ وَالْوَرَعِ، وَذُو الزِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ، لِإِمْكَانِهِمَا بِذُهُولِ رَاوِي النَّاقِصِ ; أَوْ نِسْيَانِهِ، كَمَا سَبَقَ. وَالْمُثْبِتُ عَلَى النَّافِي إِلَّا أَنْ يَسْتَنِدَ النَّفْيُ إِلَى عِلْمٍ بِالْعَدَمِ، لَا عَدَمَ الْعِلْمِ فَيَسْتَوِيَانِ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى حَظْرٍ، أَوْ وَعِيدٍ، عَلَى غَيْرِهِ اِحْتِيَاطًا عِنْدَ الْقَاضِي.
وَالنَّاقِلُ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِيهِمَا خِلَافٌ، وَلَا يُرَجَّحُ مَسْقِطُ الْحَدِّ وَمُوجِبُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى غَيْرِهِمَا، إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي صِدْقِ الرَّاوِي، وَقِيلَ: بَلَى ; لِمُوَافَقَتِهِمَا الْأَصْلَ ; وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِهِ، إِذِ الْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ.
ــ
قَوْلُهُ: " وَأَمَّا الثَّانِي " - يَعْنِي التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ مِنْ جِهَةِ الْمَتْنِ - " فَمَبْنَاهُ "، أَيْ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى " تَفَاوُتِ دَلَالَاتِ الْعِبَارَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، فَيُرَجَّحُ الْأَدَلُّ مِنْهَا فَالْأَدَلُّ "، أَيْ: إِنَّ الْعِبَارَاتِ تَتَفَاوَتُ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ، وَالْإِيضَاحِ وَالْإِشْكَالِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا أَقْوَى دِلَالَةً، قُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذِهِ قَاعِدَةُ هَذَا الْقِسْمِ، " فَالنَّصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ "، لِأَنَّ النَّصَّ أَدَلُّ، لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ غَيْرَ الْمُرَادِ، وَالظَّاهِرَ مُحْتَمِلٌ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا، لَكِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِدَلِيلٍ، كَمَا سَبَقَ فِي تَأْوِيلِ الظَّوَاهِرِ.
قَوْلُهُ: " وَلِلظَّاهِرِ مَرَاتِبُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ أَوْ قَرِينَتِهِ "، أَيْ: قَدْ يَكُونُ لَفْظٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَظْهَرَ فِي الْمُرَادِ مِنْ لَفْظٍ، وَقَدْ تَقْتَرِنُ بِهِ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ مَعْنَوِيَّةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ تُوجِبُ لَهُ زِيَادَةَ الظُّهُورِ، فَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُ بِذَلِكَ، " فَيُقَدَّمُ الْأَقْوَى " فَالْأَقْوَى " مِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ " بِحَسَبِ قُوَّةِ دِلَالَتِهِ وَضَعْفِهَا " كَمَا تُرَجَّحُ بَعْضُ الْعُمُومَاتِ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ قُوَّتِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ بِحَسَبِ قَرَائِنِهَا، وَكَمَا تُقَدَّمُ بَعْضُ الْأَقْيِسَةِ عَلَى بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: " وَالْمُخْتَلِفُ "، أَيْ: وَيُقَدَّمُ الْخَبَرُ الْمُخْتَلِفُ فِي اللَّفْظِ عَلَى مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ " لِدِلَالَةِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ عَلَى اشْتِهَارِهِ. وَقَدْ يُعَارَضُ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْفَاظِ ضَرْبٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالِاتِّحَادِ " - يَعْنِي اتِّحَادَ لَفْظِ الْحَدِيثِ - " أَدَلُّ عَلَى الْإِتْقَانِ وَالْوَرَعِ " يَعْنِي إِتْقَانَ الرَّاوِي وَوَرَعَهُ.
حَاصِلُ هَذَا أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُخْتَلِفَ الْأَلْفَاظِ، وَالْآخَرُ مُتَّحِدَ اللَّفْظِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِهَةُ رُجْحَانٍ، فَصَارَ لِذَلِكَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا مَحَلَّ اجْتِهَادٍ.
أَمَّا جِهَةُ رُجْحَانِ الْمُخْتَلِفِ، فَلِأَنَّ اخْتِلَافَ أَلْفَاظِهِ تَدُلُّ عَلَى شُهْرَتِهِ حَتَّى تَلَعَّبَتْ بِهِ أَلْسِنَةُ الرُّوَاةِ بِاللَّفْظِ تَارَةً، وَبِالْمَعْنَى تَارَةً، فَاخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ لِذَلِكَ.
وَأَمَّا جِهَةُ رُجْحَانِ الْمُتَّحِدِ اللَّفْظِ، فَلِأَنَّ اتِّحَادَ لَفْظِهِ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ، وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى إِتْقَانِ رَاوِيهِ وَوَرَعِهِ حَتَّى اجْتَهَدَ فِي ضَبْطِهِ، فَلَمْ يَدَعْ لِلِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ مَدْخَلًا، وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ ضَرْبٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ.
قُلْتُ: وَقَدْ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِهِ الْمَعْنَى وَلَوْ أَدْنَى اخْتِلَافٍ، أَوْ تَغَيَّرِ انْتِظَامُ الرِّوَايَةِ وَاتِّسَاقُهَا ; قُدِّمَ الْمُتَّحِدُ لَفْظًا، وَإِلَّا فَالْمُخْتَلِفُ، أَوْ يَتَعَارَضَانِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَقَوْلُهُ: " وَالْمُخْتَلِفُ لَفْظًا فَقَطْ ": احْتِرَازٌ مِنَ الْمُخْتَلِفِ مَعْنًى، فَإِنَّهُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَّحِدُ مَعْنًى قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَعْنَى اضْطِرَابٌ، وَالْمُضْطَرِبُ لَا يُعَارِضُ الْمُسْتَقِيمَ، وَهَذَا هُوَ وَالْمُتَوَسِّطُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: " وَذُو الزِّيَادَةِ ". أَيْ: وَيُقَدَّمُ ذُو الزِّيَادَةِ " عَلَى غَيْرِهِ "، أَيْ: عَلَى مَا لَا زِيَادَةَ فِيهِ " لِإِمْكَانِهِمَا "، أَيْ: لِإِمْكَانِ رِوَايَةِ الزَّائِدِ وَالنَّاقِصِ مِنْ رِوَايَتَيْنِ بِأَنْ يَذْهَلَ " رَاوِي النَّاقِصِ " عَنِ الزِّيَادَةِ، أَوْ يَنْسَاهَا، فَيَرْوِيهَا غَيْرُهُ " كَمَا سَبَقَ " فِي قَبُولِ الزِّيَادَةِ مِنَ الثِّقَةِ.
قَوْلُهُ: " وَالْمُثْبِتُ "، أَيْ: وَيُقَدَّمُ الْخَبَرُ الْمُثْبِتُ " عَلَى النَّافِي "، يَعْنِي الدَّالَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عَلَى الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِهِ، كَإِثْبَاتِ بِلَالٍ رضي الله عنه صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَفْيِهَا، لِأَنَّ عِنْدَ الْمُثْبِتِ زِيَادَةُ عِلْمٍ مُمْكِنَةٍ وَهُوَ عَدْلٌ جَازِمٌ بِهَا.
قَوْلُهُ: " إِلَّا أَنْ يَسْتَنِدَ النَّفْيُ إِلَى عِلْمٍ بِالْعَدَمِ، لَا عَدَمِ الْعِلْمِ، فَيَسْتَوِيَانِ ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَعْنِي أَنَّ نَفْيَ النَّافِي إِنِ اسْتَنَدَ إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْبَيْتِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَ إِثْبَاتُ الْمُثْبِتِ لِلصَّلَاةِ، وَقَتْلُ فُلَانٍ مُقَدَّمًا لِمَا سَبَقَ. وَإِنِ اسْتَنَدَ نَفْيُ النَّافِي إِلَى عِلْمٍ بِالْعَدَمِ، كَقَوْلِ الرَّاوِي: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ بِالْبَيْتِ، لِأَنِّي كُنْتُ مَعَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْ نَظَرِي طَرْفَةَ عَيْنٍ فِيهِ، وَلَمْ أَرَهُ صَلَّى فِيهِ، أَوْ قَالَ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ، أَوْ قَالَ: اعْلَمْ أَنْ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْ زَيْدًا، لِأَنِّي رَأَيْتُ زَيْدًا حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ، أَوْ بَعْدَ الزَّمَنِ الَّذِي أَخْبَرَ الْجَارِحُ أَنَّهُ قَتَلَهُ فِيهِ. فَهَذَا يُقْبَلُ، لِاسْتِنَادِهِ إِلَى مُدْرَكٍ عِلْمِيٍّ، وَيَسْتَوِي هُوَ وَإِثْبَاتُ الْمُثْبِتِ، فَيَتَعَارَضَانِ، وَيُطْلَبُ الْمُرَجِّحُ مِنْ خَارِجٍ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِثْلُ هَذَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهَادَةٍ نَافِيَةٍ اسْتَنَدَتْ إِلَى عِلْمٍ بِالنَّفْيِ، لَا إِلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهَا تُعَارِضُ الْمُثْبِتَةَ، لِأَنَّهَا تُسَاوِيهَا، إِذْ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مُثْبِتَتَانِ، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا تُثْبِتُ الْمَشْهُودَ بِهِ، وَالْأُخْرَى تُثْبِتُ الْعِلْمَ بِعَدَمِهِ.
قَوْلُهُ: " وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى حَظْرٍ، أَوْ وَعِيدٍ عَلَى غَيْرِهِ احْتِياطًا عِنْدَ الْقَاضِي ".
أَيْ: وَيُرَجَّحُ مَا تَضَمَّنَ تَحْرِيمًا، أَوْ وَعِيدًا عَلَى مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ذَلِكَ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَقِيلَ: لَا يُرَجَّحُ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: الْوَعِيدُ وَالْحَظْرُ مُتَلَازِمَانِ، إِذْ كُلُّ مَحْظُورٍ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ، لِأَنَّ الْوَعِيدَ مِنْ آثَارِ الْحَظْرِ، وَالْحَظْرَ مِنْ أَحْكَامِ الْوَعِيدِ، فَحَصَلَ التَّلَازُمُ بَيْنَهُمَا لِذَلِكَ.
وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي هَذَا أَنَّ وَعْدَ الشَّرْعِ وَوَعِيدَهُ مُتَكَافِئَانِ فِي الْغَالِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْأَنْعَامِ: 165] ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فُصِّلَتْ: 43]، {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 98] ، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا وَهُوَ كَثِيرٌ. فَإِذَا تَعَارَضَ الْحَاظِرُ وَالْمُبِيحُ، أَوْ مَا تَضَمَّنَ وَعِيدًا أَوْ غَيْرَهُ، احْتَمَلَ الْخِلَافُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَهُوَ أَيْضًا يُشْبِهُ مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا تَعَارَضَتْ فُتْيَا الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ هَلْ يَأْخُذُ بِالْأَخَفِّ، أَوْ بِالْأَثْقَلِ نَظَرًا إِلَى الدَّلِيلِ الْمُتَعَارِضِ هُنَاكَ، أَوْ إِلَى الِاحْتِيَاطِ تَارَةً، وَإِلَى عُمُومِ التَّخْفِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: " وَالنَّاقِلُ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِهِ "، أَيْ: وَيُرَجَّحُ النَّصُّ أَوِ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ. " وَفِيهِمَا خِلَافٌ ": هَلْ يُقَدَّمُ النَّاقِلُ، أَوِ الْمُقَرَّرُ؟
مِثَالُهُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَطْعُومَاتِ الْحِلُّ، فَلَوْ وَرَدَ بِإِبَاحَةِ الثَّعْلَبِ حَدِيثٌ ; وَحَدِيثٌ بِتَحْرِيمِهِ ; فَهَلْ يُرَجَّحُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ لِمُوَافَقَتِهِ أَصْلَ الْحِلِّ وَاعْتِضَادِهِ بِهِ، فَهُمَا دَلِيلَانِ، فَيُرَجَّحَانِ عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ دَلِيلُ الْحَظْرِ، أَوْ يُرَجَّحُ الْحَاظِرُ، لِأَنَّهُ نَاقِلٌ عَنْ أَصْلِ الْحِلِّ، فَهُوَ مُفِيدٌ فَائِدَةَ زِيَادَةٍ، وَهِيَ التَّحْرِيمُ؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي الضَّبُعِ أَنَّهَا صَيْدٌ تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ يُفِيدُ إِبَاحَتَهَا، وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَهِيَ ذَاتُ نَابٍ، وَهُوَ يُفِيدُ تَحْرِيمَهَا، فَالْأَوَّلُ مُقَرِّرٌ لِإِبَاحَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ، وَالثَّانِي نَاقِلٌ عَنْ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ وَالْأَشْبَهُ تَقْدِيمُ الْمُقَرَّرِ لِاعْتِضَادِهِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَعَلَى هَذَا تَنْبَنِي بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، وَهُوَ مَا إِذَا ادَّعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، فَالدَّاخِلُ مَنْ فِي يَدِهِ الْعَيْنُ، وَالْخَارِجُ مَنْ لَيْسَتْ فِي يَدِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ اعْتَضَدَتْ بِيَدِهِ عَلَى الْعَيْنِ فَهُمَا دَلِيلَانِ، وَالْخَارِجُ إِنَّمَا مَعَهُ الْبَيِّنَةُ فَقَطْ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، لِأَنَّهَا نَاقِلَةٌ عَنْ دَلَالَةِ الْيَدِ الَّتِي هِيَ كَالْأَصْلِ، وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ لِأَحْمَدَ رضي الله عنه، وَالْأَشْبَهُ بِقَوَاعِدِهِ وَقَوَاعِدِ غَيْرِهِ فِي اعْتِبَارِ التَّرْجِيحِ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ، وَالْيَدُ صَالِحَةٌ لِلتَّرْجِيحِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عليه السلام: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا بِأَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ، أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا.
قَوْلُهُ: " وَلَا يُرَجَّحُ مُسْقِطُ الْحَدِّ وَمُوجِبُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى غَيْرِهِمَا ". أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يُسْقِطُ حَدًّا، وَالْآخَرُ يُوجِبُهُ ; أَوْ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ، وَالْآخَرُ يَمْنَعُهَا ; لَمْ يُرَجَّحْ مُسْقِطُ الْحَدِّ وَمُوجِبُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى مُقَابِلِهَا، " إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي صِدْقِ الرَّاوِي ".
" وَقِيلَ ": بَلْ يُرَجَّحُ مُسْقِطُ الْحَدِّ وَمُوجِبُ الْحُرِّيَّةِ " لِمُوَافَقَتِهِمَا الْأَصْلَ "، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِّ، وَالْأَصْلُ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ.
قُلْتُ: فَهُوَ مِنْ بَابِ تَعَارُضِ النَّاقِلِ وَالْمُقَرِّرِ.
قُلْتُ: وَقَوْلُنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: " لَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي صِدْقِ الرَّاوِي " وَهْمٌ تَابَعْتُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فِيهِ الْأَصْلَ وَلَمْ أَتَأَمَّلْهُ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي التَّرْجِيحِ مِنْ جِهَةِ الْمَتْنِ، فَإِذَا تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْمَتْنِ بِمُوَافَقَةِ الْأَصْلِ، وَجَبَ تَقْدِيمُهَا.
قُلْتُ: وَقَدْ يُسْتَشْكَلُ هَذَا بِقَوْلِهِ عليه السلام: لَا قَطْعَ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَكَوْنُهُ قَطَعَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ حَدِّ الْقَطْعِ عَمَّنْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ إِلَى تِسْعَةِ دَرَاهِمَ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي وُجُوبَ حَدِّ الْقَطْعِ عَلَيْهِ، فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ تَرْجِيحِهِ أَنْ يَكُونَ فِي قَطْعِ سَارِقِ رُبُعِ دِينَارٍ خِلَافٌ، بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي تَرْجِيحِهِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فِي قِيمَةِ بَاقِيهِ إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ لِبَعْضِهِ الْآخَرِ مُعْسِرًا، فَرِوَايَةُ الِاسْتِسْعَاءِ مُوجِبَةٌ لِحُرِّيَّةِ الْبَاقِي، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَى مُقَابِلِهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ:
أَمَّا الْأَوَّلُ، فَلِأَنَّ حَدِيثَ لَا قَطْعَ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِيهِ مَقَالٌ، فَلَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يُعَارِضُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي الْقَطْعِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ. وَلَوْ صَحَّ، لَرَجَّحْنَاهُ، أَوْ خَرَّجْنَا الْخِلَافَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ قُلْنَا بِهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا فِي الِاسْتِسْعَاءِ الْمُوجِبِ لِحُرِّيَّةِ بَاقِي الْعَبْدِ قَوْلَيْنِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يُرَجِّحُهُ. وَقَدْ صَحَّ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْمَانِعُ لِلِاسْتِسْعَاءِ لَا يَمْنَعُهُ إِعْرَاضًا عَنِ التَّرْجِيحِ الْمَذْكُورِ، بَلْ قَدْ جَاءَ فِي ذِكْرِ الِاسْتِسْعَاءِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَالْأَوْلَى خِلَافُهُ، وَثُبُوتُ الِاسْتِسْعَاءِ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي " الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى ".
قَوْلُهُ: " وَقَوْلُهُ "، أَيْ: وَيُرَجَّحُ قَوْلُهُ " عليه السلام عَلَى فِعْلِهِ، إِذِ الْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ ".
أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِهِ، رُجِّحَ الْقَوْلُ، لِأَنَّ لَهُ صِيغَةً دَالَّةً، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا صِيغَةَ لَهُ تَدُلُّ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا دِلَالَةُ الْفِعْلِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ عليه السلام وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، فَكَانَ الْقَوْلُ أَقْوَى، فَيُرَجَّحُ لِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَوْلَ مُتَّفَقٌ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً، وَالْفِعْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ رَاجِحٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَشْرِيعًا عَامًّا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَإِذَا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ، سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ.