الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّانِي:
فَسَادُ الِاعْتِبَارِ
، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ نَصًّا، كَحَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم، لَمْ يَقِيسُوا إِلَّا مَعَ عَدَمِ النَّصِّ.
وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ النَّصِّ، وَاسْتِحْقَاقِ تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، لِضَعْفِهِ، أَوْ عُمُومِهِ، أَوِ اقْتِضَاءِ مَذْهَبٍ لَهُ.
ــ
السُّؤَالُ «الثَّانِي: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ نَصًّا» أَيْ: يَكُونُ الْقِيَاسُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَسُمِّيَ هَذَا فَسَادَ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ; اعْتِبَارٌ لَهُ مَعَ دَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ وَظُلْمٌ؛ لِأَنَّهُ وَضْعٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
مِثَالُ مَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ: قَوْلُنَا: يُشْتَرَطُ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ لِرَمَضَانَ، لِأَنَّهُ صَوْمٌ مَفْرُوضٌ، فَلَا يَصِحُّ تَبْيِيتُهُ مِنَ النَّهَارِ كَالْقَضَاءِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} . . . . . . {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 35] ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَامَ يَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلصِّحَّةِ، وَهَذَا قَدْ صَامَ، فَيَكُونُ صَوْمُهُ صَحِيحًا.
وَمِثَالُ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ قَوْلُنَا: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْغَرَرِ، فَلَا يَصِحُّ، كَالسَّلَمِ فِي الْمُخْتَلَطَاتِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الِاعْتِبَارِ، لِمُخَالَفَةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ.
وَمِثَالُ مَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، لِأَنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، فَحَرُمَ غَسْلُهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ، وَهُوَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَالْقَضِيَّةُ فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ.
قَوْلُهُ: «كَحَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِقِيَاسٍ يُخَالِفُ النَّصَّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُعَاذًا رضي الله عنه فِي حَدِيثِهِ الْمَشْهُورِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرَهُ، أَخَّرَ الْقِيَاسَ عَنِ النَّصِّ، وَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رُتْبَةَ الْقِيَاسِ بَعْدَ النَّصِّ، فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم عَلَى كَثْرَةِ اجْتِهَادَاتِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَاسُوا، «إِلَّا مَعَ عَدَمِ النَّصِّ» وَكَانُوا يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النُّصُوصِ، فَإِذَا وَجَدُوهَا، لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَثَمَّ وَجْهٌ ثَالِثٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» هَاهُنَا، لَكِنَّهُ ذُكِرَ قَبْلُ، وَهُوَ أَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ.
قَوْلُهُ: «وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ النَّصِّ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَجَوَابُ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ، أَوْ جَوَابُ الْمُعْتَرِضِ الْمُورِدِ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْعُ النَّصِّ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى خِلَافِهِ; إِمَّا مَنْعَ دَلَالَةٍ، أَوْ مَنْعَ صِحَّةٍ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ الصَّوْمِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ بِدُونِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ، وَقَيَّدْنَاهَا بِحَدِيثِ: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَ يُثَابُ، وَأَنَا أَقُولُ بِهِ، لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. وَالنِّزَاعُ فِيهِ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى ثَوَابِ الصَّائِمِ، وَأَنَا لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْمُمْسِكَ بِدُونِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ صَائِمٌ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ السَّلَمِ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ التَّرْخِيصِ فِي السَّلَمِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحَيَوَانَ، وَإِنْ صَحَّ السَّلَمُ فِي غَيْرِهِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ غَسْلِ الزَّوْجَةِ، فَبِأَنْ نَمْنَعَ صِحَّةَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَإِنْ سَلَّمَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ اشْتُهِرَ، وَإِنْ سَلَّمَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَإِنَّ سَلَّمَ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ; أَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمَوْتُ لَمْ يَقْطَعِ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا، بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ صلى الله عليه وسلم، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا، فَإِنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ نِكَاحَهُمَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي جَوَابِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ: أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقِيَاسِ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ عَلَى النَّصِّ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ، إِمَّا «لِضَعْفِهِ» أَيْ: لِكَوْنِ النَّصِّ ضَعِيفًا، فَيَكُونُ الْقِيَاسُ أَوْلَى مِنْهُ، أَوْ لِكَوْنِ النَّصِّ عَامًّا، فَيَكُونُ الْقِيَاسُ مُخَصِّصًا لَهُ، جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ لِكَوْنِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ النَّصِّ، كَكَوْنِهِ حَنَفِيًّا يَرَى تَقْدِيمَ الْقِيَاسِ عَلَى الْخَبَرِ إِذَا خَالَفَ الْأُصُولَ، أَوْ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، أَوْ مَالِكِيًّا يَرَى تَقْدِيمَ الْقِيَاسِ عَلَى الْخَبَرِ إِذَا خَالَفَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: لِلْمُسْتَدِلِّ الِاعْتِرَاضُ عَلَى النَّصِّ الَّذِي يُبْدِيهِ الْمُعْتَرِضُ بِجَمِيعِ مَا يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَى النُّصُوصِ، سَنَدًا وَمَتْنًا.
تَنْبِيهٌ: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ فَسَادُ الْوَضْعِ الْمَذْكُورِ بَعْدُ، بِخِلَافِ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ; فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ، بَلْ يَرِدُ عَلَى النُّصُوصِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْإِجْمَالَ وَالْغَرَابَةَ تَقَعُ فِيهَا، كَمَا تَقَعُ فِي أَلْفَاظِ الْقِيَاسِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلُهُ رَاجِعًا إِلَى النِّزَاعِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِجِنْسِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، كَمَا لَوِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الظَّاهِرِيِّ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: مَا ذَكَرْتَهُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، أَيْ: إِنَّكَ اعْتَبَرْتَ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا.
قُلْتُ: هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لِأَنَّ الظَّاهِرِيَّ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ أَنَّ جِنْسَ الْقِيَاسِ دَلِيلٌ، أَمَّا الْحَنَفِيُّ إِذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ بِالْقِيَاسِ، فَأَوْرَدَ فَسَادَ الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَازِعُ فِي كَوْنِ جِنْسِ الْقِيَاسِ دَلِيلًا، إِنَّمَا يُنَازِعُ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا فِي هَذَا الْحُكْمِ الْخَاصِّ، وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ سُؤَالَ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلِّيًّا، كَإِنْكَارِ الظَّاهِرِيِّ وَنَحْوِهِ الِاسْتِدْلَالَ بِالْقِيَاسِ، أَوْ جُزْئِيًّا. ثُمَّ هُوَ إِمَّا عَامٌّ، أَيْ: يَرِدُ فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ، كَمَا إِذَا اسْتَدَلَّ بِالْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ، أَوِ الْإِجْمَاعِ، كَمَا سَبَقَتْ أَمْثِلَتُهُ، أَوْ خَاصًّا، أَيْ: لَا يَرِدُ إِلَّا فِي أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ، كَمَا إِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى الْحَنَفِيِّ بِالْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْأَسْبَابِ وَالْمُقَدَّرَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا أَضْبَطُ أَقْسَامِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ.
وَإِذَا تَوَجَّهَ سُؤَالُ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ; انْقَطَعَ مُطْلَقًا، لِتَجَرُّدِ دَعْوَاهُ عَنْ دَلِيلٍ، بِخِلَافِ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ مُطْلُقًا، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ الْخَاصِّ.
وَالْفَرْقُ: أَنَّ النِّزَاعَ هُنَا لَفْظِيٌّ لَا يَقْدَحُ فِي الْحُكْمِ، بِخِلَافِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي عُمْدَةِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ.