الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقِيَاسُ
لُغَةً: التَّقْدِيرُ، نَحْوُ: قِسْتُ الثَّوْبَ بِالذِّرَاعِ ; وَالْجِرَاحَةَ بِالْمِسْبَارِ ; أَقِيسُ وَأَقُوسُ قَيْسًا وَقَوْسًا وَقِيَاسًا فِيهِمَا.
وشَرْعًا: حَمَلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ فِي حُكْمٍ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: إِثْبَاتُ مِثْلِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِمُقْتَضٍ مُشْتَرَكٍ.
وَقِيلَ: تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ مُشْتَرَكٍ، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَقِيلَ غَيْرُ مَا ذُكِرَ.
وَقِيلَ: هُوَ الِاجْتِهَادُ، وَهُوَ خَطَأٌ لَفْظًا وَحُكْمًا.
ــ
قَوْلُهُ: «الْقِيَاسُ» ، أَيِ: الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ «لُغَةً» ، أَيْ: فِي اللُّغَةِ «التَّقْدِيرُ، نَحْوُ: قِسْتُ الثَّوْبَ بِالذِّرَاعِ» ، أَيْ: قَدَّرْتُهُ بِهِ، «وَالْجِرَاحَةَ بِالْمِسْبَارِ» ، وَهُوَ مَا يُسْبَرُ بِهِ الْجُرْحُ، أَيْ: يُرَازُ بِهِ لِيُعْلَمَ عُمْقُهُ، وَهُوَ مَعَ الْجِرَاحِيَّةِ شِبْهُ الْمِيلِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قِسْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، أَيْ: قَدَّرْتُهُ عَلَى مِثَالِهِ، يُقَالُ: قِسْتُ «أَقِيسُ وَأَقُوسُ» ، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ، وَنَظَائِرُهُ فِي اللُّغَةِ كَثِيرَةٌ، وَالْمَصْدَرُ قَيْسًا وَقَوْسًا بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ مِنْ بِنَاءٍ أَقِيسُ قِيَاسًا، وَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مَصْدَرِ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَأَقُوسُ «قَوْسًا» .
قَوْلُهُ: «وَقِيَاسًا فِيهِمَا» ، أَيْ: فِي اللُّغَتَيْنِ تَقُولُ: قِيَاسًا، فَتَقُولُ: أَقِيسُ قِيَاسًا، وَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مَصْدَرِ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَأَقُوسُ قِيَاسًا، وَقِيَاسُهُ: قِوَاسًا، لَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ، انْقَلَبَتْ يَاءً، كَمَا قَالُوا: قَامَ قِيَامًا، وَصَامَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صِيَامًا، وِصَالَ صِيَالًا، وَأَصْلُ جَمِيعِ ذَلِكَ الْوَاوُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّسْوِيَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ تَسْوِيَةٌ خَاصَّةٌ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَهُوَ كَتَخْصِيصِ لَفَظِ الدَّابَّةِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا، فَهُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ، مَجَازٌ لُغَوِيٌّ.
قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» ، أَيْ: وَالْقِيَاسُ شَرْعًا، أَيْ: فِي الشَّرْعِ وَاصْطِلَاحِ عُلَمَائِهِ ; قِيلَ: «حَمْلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ فِي حُكْمٍ ; بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا» ، كَحَمْلِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ بِجَامِعِ الْإِسْكَارِ، وَنَعْنِي بِالْحَمْلِ: الْإِلْحَاقَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَرُبَّمَا أَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ لَا يُعْرَفَانِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ، فَأَخْذُهُمَا فِي تَعْرِيفِهَا دَوْرٌ.
«وَقِيلَ» : الْقِيَاسُ: «إِثْبَاتُ مِثْلِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِمُقْتَضٍ مُشْتَرَكٍ» ، كَإِثْبَاتِ مِثْلِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي النَّبِيذِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحَلِّ النَّصِّ عَلَى التَّحْرِيمِ، إِذْ مَحَلُّهُ الْخَمْرُ لِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ وَهُوَ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ.
«وَقِيلَ» : الْقِيَاسُ «تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ» كَتَعْدِيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى النَّبِيذِ الَّذِي لَمْ يُنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِلْجَامِعِ الْمَذْكُورِ الْمُشْتَرَكِ، وَكَتَعْدِيَةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى الْأَرُزِّ الَّذِي لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لِعِلَّةِ حُصُولِ التَّفَاضُلِ وَالتَّغَابُنِ فِيهِمَا، وَهُوَ الْجَامِعُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: «وَمَعَانِيهَا» ، أَيْ: مَعَانِي هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ لِلْقِيَاسِ «مُتَقَارِبَةٌ» ، أَيْ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَسَاوِيَةً حَقِيقَةً.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ» أَيْ: فِي تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ «غَيْرُ مَا ذُكِرَ» ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ.
فَمِنْهَا مَا يُعْزَى إِلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَاخْتَارَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ بَلَغَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا، أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا عَنْهُمَا.
وَقَدْ زَيَّفَ هَذَا عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا، غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُطْلَبُ بِهِ مَعْرِفَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ، إِذْ حُكْمُهُ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ بِهِ حُكْمُ الْفَرْعِ.
وَقِيلَ فِيهِ: حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ نَفْيِهِ بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ مِنْ صِفَةٍ أَوْ حُكْمٍ وُجُودًا وَانْتِفَاءً.
مِثَالُ الْوُجُودِ قَوْلُهُمْ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٍ، فَأَوْجَبَ الْقَوَدَ كَالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ.
وَمِثَالُ الِانْتِفَاءِ قَوْلُهُمْ فِيهِ. قَتْلٌ لَا يَخْلُو مِنْ شُبْهَةٍ، أَوْ قَتْلٌ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ الشُّبْهَةُ، فَلَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ قِيَاسًا عَلَى الْعَصَا الصَّغِيرَةِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ آخَرَ لِأَجْلِ اشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمُثْبِتِ.
فَقَوْلُهُ: إِثْبَاتُ، يُرَادُ بِهِ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّا إِذَا أَثْبَتْنَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حُكْمًا بِالْقِيَاسِ، فَقَدْ يَعْلَمُ ثُبُوتَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ قَطْعًا، وَقَدْ يَظُنُّهُ ظَنًّا، وَقَدْ يَعْتَقِدُهُ اعْتِقَادًا، وَالْعِلْمُ وَالظَّنُّ وَالِاعْتِقَادُ مُشْتَرَكَةٌ فِي كَوْنِهَا إَثْبَاتًا.
وَقَوْلُنَا: مِثْلُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ حُكْمِ الْأَصْلِ، إِذِ الْحُكْمُ وَصْفٌ لِمَحَلِّهِ، وَوَصْفُ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ لَيْسَ وَصْفًا لِلْآخَرِ، فَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ.
وَقَوْلُنَا: حُكْمُ مَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ لِيَتَنَاوَلَ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، وَلَمْ نَقُلْ: حُكْمُ شَيْءٍ لِشَيْءٍ؛ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِالْمَوْجُودِ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ جَارٍ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمُثْبَتِ وَالْمَنْفِي.
وَقَوْلُنَا: لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ ظَاهِرٌ، وَلَعَلَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى تَنَاوُلِهِ قِيَاسَ الشَّبَهِ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُنَا: عِنْدَ الْمُثْبِتِ؛ لِيَشْمَلَ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَكُونُ مَنْصُوصَةً، وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَنْبَطَةٌ، كَعِلَّةِ الرِّبَا الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ بِطَرِيقِ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، وَهَلْ هِيَ الْكَيْلُ، أَوِ الطَّعْمُ، أَوِ الْوَزْنُ، أَوِ الِاقْتِيَاتُ؟ ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمُرَادُ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَلَوِ اقْتَصَرْنَا عَلَى قَوْلِنَا: لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، لَكَانَ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُرَادَةُ مِنَ الْحَدِيثِ هِيَ الْكَيْلَ، يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِغَيْرِهَا قِيَاسًا فَاسِدًا خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ الْعِلَّةِ الْمُرَادَةِ لِلشَّارِعِ، فَإِذَا قُلْنَا: لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمُثْبِتِ، وَهُوَ الْقَائِسُ، كَانَ إِثْبَاتُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ لِلْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الَّذِي رَآهُ عِلَّةً قِيَاسًا شَرْعِيًّا دَاخِلًا فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْحَدِّ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَظَاهِرٌ أَنَّهُ قِيَاسٌ شَرْعِيٌّ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ، فَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ أَقْيِسَةً شَرْعِيَّةً، إِذْ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ أَوِ الْبُطْلَانِ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي «الْمُنْتَهَى» : الْقِيَاسُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ مُنْقَسِمٌ إِلَى قِيَاسِ الْعَكْسِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ نَقِيضِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ فِي غَيْرِهِ؛ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَإِلَى قِيَاسِ الطَّرْدِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ.
قُلْتُ: وَيَرِدُ عَلَى ظَاهِرِهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُسْتَنْبَطَةً.
قُلْتُ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ قِيَاسِ الْعَكْسِ قَوْلُهُ عليه السلام حِينَ عَدَّدَ لِأَصْحَابِهِ وُجُوهَ الصَّدَقَةِ: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ أَوْ قَالَ: وَالرَّجُلُ يَأْتِي أَهْلَهُ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ يَعْنِي: أَكَانَ يُعَاقَبُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَهْ، يَعْنِي كَمَا أَنَّهُ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ يَأْثَمُ، كَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ يُؤْجَرُ، فَقَدْ حَصَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَقِيضَ حُكْمِ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ الْإِثْمُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ؛ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَهِيَ كَوْنُ هَذَا مُبَاحًا وَهَذَا حَرَامًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُشْبِهُ مَا سَبَقَ مِنْ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بَحْثٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ أَيْضًا فِي «جَدَلِهِ» : الَّذِي نَرَاهُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ مَعْلُومٍ.
وَقِيلَ: الْقِيَاسُ رَدُّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلٍ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ سَبَقَ نَحْوُهُ.
وَالْعِبَارَاتُ فِي تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ كَثِيرَةٌ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ اعْتِبَارُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْقِيَاسِ أَقْسَامًا بِاعْتِبَارَاتٍ:
أَحَدُهَا: إِمَّا جَلِيٌّ: وَهُوَ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَنْصُوصَةً، أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، أَوْ مَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي تَقْوِيمِ النَّصِيبِ.
وَإِمَّا خَفِيٌّ: وَهُوَ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةً، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ.
الثَّانِي: إِمَّا مُؤَثِّرٌ: وَهُوَ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِيهِ ثَابِتَةً بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ كَانَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِيهِ قَدْ أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ فِي جِنْسِهِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.
وَإِمَّا مُلَائِمٌ: وَهُوَ مَا أَثَّرَ جِنْسُ الْعِلَّةِ فِيهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْقِيَاسَ إِمَّا أَنْ يُصَرَّحَ فِيهِ بِالْعِلَّةِ أَوْ بِمَا يُلَازِمُهَا، أَوْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهَا فِيهِ، فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَالثَّانِي قِيَاسُ الدَّلَالَةِ، وَالثَّالِثُ الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْأَصْلِ، وَهُوَ مَا جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، إِمَّا الْمُنَاسَبَةُ، أَوِ الشَّبَهُ، أَوِ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، أَوِ الطَّرْدُ أَوِ الْعَكْسُ، فَالْأَوَّلُ يُسَمَّى: قِيَاسَ الْإِخَالَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَتَخَيَّلُ لَهُ مُنَاسَبَةَ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ، فَيُعَلِّقُهُ بِهِ، وَالثَّانِي قِيَاسُ الشَّبَهِ، وَالثَّالِثُ قِيَاسُ السَّبْرِ، وَالرَّابِعُ قِيَاسُ الطَّرْدِ.
قُلْتُ: ذَكَرَ الْقِسْمَةَ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ الْآمِدِيُّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا لَمْ يَسْبِقْ بَيَانُهُ مِنْهَا مَشْرُوحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: هُوَ» ، يَعْنِي الْقِيَاسَ هُوَ:«الِاجْتِهَادُ، وَهُوَ» يَعْنِي هَذَا التَّعْرِيفَ «خَطَأٌ لَفْظًا وَحُكْمًا» ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَلِأَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَنْبَأَ عَنْهُ، فَلَيْسَ هُوَ بِلَازِمٍ لَهُ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، فَلِأَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالنَّظَرِ فِي الْعُمُومَاتِ، وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهَا مِنْ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ طَلَبًا لِلْحُكْمِ، فَإِنَّهُ اجْتِهَادٌ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ؛ وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يُنْبِئُ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ فِي النَّظَرِ، وَالْقِيَاسِ قَدْ يَكُونُ جَلِيًّا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: فَرَجَعَ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ تَعْرِيفَ الْقِيَاسِ بِالِاجْتِهَادِ تَعْرِيفٌ بِالْأَعَمِّ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ، إِذْ كَلُّ قِيَاسٍ اجْتِهَادٌ، وَلَيْسَ كُلُّ اجْتِهَادٍ قِيَاسًا، فَكَانَ الْحَدُّ غَيْرَ جَامِعٍ لِخُرُوجِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ مِنْهُ، وَلَا مَانِعَ لِدُخُولِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَا لَيْسَ بِقِيَاسٍ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَمِنَ التَّعْرِيفَاتِ الْفَاسِدَةِ لِلْقِيَاسِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ إِصَابَةُ الْحَقِّ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِنَحْوِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، لَا يَكُونُ قِيَاسًا.
وَقَدْ يُطْلَقُ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَوْضُوعَتَيْنِ وَضْعًا خَاصًّا بِحَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهُمَا نَتِيجَةٌ.
وَيَرْسُمُهُ الْمَنْطِقِيُّونَ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَقْوَالٍ إِذَا سُلِّمَتْ، لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ، نَحْوُ: كُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ، وَكُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ، يَلْزَمُ عَنْهُ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ مُؤَلَّفٌ، فَهَذِهِ نَتِيجَةٌ لَازِمَةٌ عَنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، وَلَوْ أَضَفْنَا إِلَيْهِمَا مُقَدِّمَةً أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُنَا: كُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ ; لَزِمَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ مُحْدَثٌ، فَهِيَ نَتِيجَةٌ لَازِمَةٌ عَنْ مُقَدِّمَاتٍ بِطْرِيقِ التَّرْكِيبِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَإِطْلَاقُ الْقِيَاسِ عَلَى هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ اسْمٌ إِضَافِيٌّ يَسْتَدْعِي أَمْرَيْنِ يُضَافُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَيُقَدَّرُ بِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ تَقْدِيرُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ.
قُلْتُ: تَسْمِيَةُ الْمَنْطِقِيِّينَ لِهَذَا قَيَاسًا هُوَ اصْطِلَاحٌ بَيْنِهِمْ، وَالْأَمْرُ فِي الِاصْطِلَاحِيَّاتِ قَرِيبٌ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَرِيًّا عَنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالِاعْتِبَارِ، إِذْ هُوَ اعْتِبَارٌ لِلنَّتِيجَةِ بِالْمُقْدِّمَتَيْنِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَتَقْدِيرٌ لَهَا بِنَظَائِرِهَا مِنَ النَّتَائِجِ فِي طَرِيقِ لُزُومِهَا عَنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَغَايَةُ مَا ثَمَّ أَنَّ مَعْنَى التَّقْدِيرِ فِي هَذَا أَخْفَى مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قِيَاسًا لُغَةً أَوْ فِي مَعْنَاهُ.