المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حجج منكري القياس - شرح مختصر الروضة - جـ ٣

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْإِجْمَاعُ

- ‌ جَوَازَ الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ

- ‌ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ

- ‌ اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ

- ‌ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

- ‌أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ

- ‌مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ

- ‌ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا

- ‌اسْتِصْحَابُ الْحَالِ

- ‌ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ

- ‌الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا

- ‌الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ

- ‌الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ:

- ‌الْقِيَاسُ

- ‌ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ

- ‌ الْفَرْعِ

- ‌تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ

- ‌ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌ تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ

- ‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

- ‌ الْعِلَّةَ

- ‌تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ»

- ‌ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ

- ‌قِيَاسُ الشَّبَهِ:

- ‌قِيَاسُ الدَّلَالَةِ:

- ‌ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ

- ‌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ

- ‌الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

- ‌«الِاسْتِفْسَارُ»

- ‌ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ

- ‌ فَسَادُ الْوَضْعِ

- ‌ الْمَنْعُ

- ‌ التَّقْسِيمُ:

- ‌ مَعْنَى التَّقْسِيمِ

- ‌ الْمُطَالَبَةُ:

- ‌ النَّقْضُ

- ‌الْكَسْرُ:

- ‌ الْقَلْبُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ

- ‌ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ

- ‌ عَدَمُ التَّأْثِيرِ

- ‌ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ

- ‌ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ

- ‌الِاجْتِهَادُ

- ‌مَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ

- ‌ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ»

- ‌الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ

- ‌إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ

- ‌التَّقْلِيدُ

- ‌الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌ الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ

- ‌ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ

- ‌التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ

- ‌ التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ

- ‌التَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ

- ‌ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ

- ‌ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ

- ‌مِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي:

- ‌ تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ

- ‌ تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:

- ‌ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ

الفصل: ‌ حجج منكري القياس

قَالُوا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فَالْحَاجَةُ إِلَى الْقِيَاسِ رَدٌّ لَهُ، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وَلَمْ يَقُلِ: الرَّأْيُ.

قُلْنَا: الْمُرَادُ تَمْهِيدُ طُرُقِ الِاعْتِبَارِ، وَالْقِيَاسُ مِنْهَا؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَحْكَامِ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَقَوْلُكُمْ: مَا لَيْسَ فِيهِ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ يُنَاقِضُ اسْتِدْلَالَكُمْ بِالْعُمُومِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا أَصْلًا. وَالْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ رَدٌّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، إِذْ عَنْهُمَا تَلَقَّيْنَا دَلِيلَهُ.

قَالُوا: بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مَعْلُومَةٌ فَكَيْفَ تُرْفَعُ بِالدَّلِيلِ الْمَظْنُونِ؟ قُلْنَا: لَازِمٌ فِي الْعُمُومِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالشَّهَادَةِ.

قَالُوا: شَأْنُ شَرْعِنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَعَكْسُهُ، نَحْوُ غَسْلِ بَوْلِ الْجَارِيَةِ دُونَ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْحَيْضِ، دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ، وَإِيجَابِ أَرْبَعَةٍ فِي الزِّنَى دُونَ الْقَتْلِ، وَنَحْوِهِ كَثِيرٌ ; وَمُعْتَمَدُ الْقِيَاسِ الِانْتِظَامُ.

قُلْنَا: لَا نَقِيسُ إِلَّا حَيْثُ يُفْهَمُ الْمَعْنَى، وَالْخِلَافُ فِي فَهْمِ الْمَعْنَى مَسْأَلَةٌ أُخْرَى.

ــ

قَوْلُهُ: «قَالُوا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} » هَذِهِ‌

‌ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ

نَذْكُرُهَا، وَأَجْوِبَتَهَا:

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ مُرَاغَمَةٌ لِلْقُرْآنِ وَرَدٌّ لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَقُولُ:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89] ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ فِي

ص: 269

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْكِتَابِ كِفَايَةً وَغَنَاءً عَنِ الْقِيَاسِ، وَإِثْبَاتُ «الْحَاجَةِ إِلَى الْقِيَاسِ رَدٌّ» لِذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الْمَائِدَةِ: 49]، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاءِ: 59] ، «وَلَمْ يَقُلْ» : احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالرَّأْيِ، وَلَا رُدُّوهُ إِلَى «الرَّأْيِ» .

قَوْلُهُ: «قُلْنَا» : هَذَا جَوَابُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ «الْمُرَادَ» بِقَوْلِهِ عز وجل:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38]، وَ {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89] مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ «تَمْهِيدُ طُرُقِ الِاعْتِبَارِ» الْكُلِّيَّةِ، «وَالْقِيَاسُ» مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ دَلَّ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَالسُّنَّةِ بِمَا سَبَقَ فِي الْإِجْمَاعِ، وَبِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْرِ: 7] ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَسُنَّةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم دَلَّا عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ «لِلْإِجْمَاعِ» مِنَّا وَمِنَ الْخَصْمِ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ «بِأَحْكَامِ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ» عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْبَيَانِ الْكُلِّيِّ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَمْهِيدِ طُرُقِ الِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِلَّا فَأَيْنَ فِي الْكِتَابِ مَسْأَلَةُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْعَوْلِ، وَمَسْأَلَةُ الْأَكْدَرِيَّةِ وَغَيْرُهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، وَأَيْنَ فِيهِ مَسْأَلَةُ الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُفَوَّضَةِ، وَنَحْوِهَا، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ

ص: 270

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَنْتُمْ قَدْ حَرَّمْتُمُ الْقِيَاسَ، وَلَا نَصَّ فِي الْكِتَابِ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجْتُمُوهُ مِنْ أَدِلَّةٍ كُلِّيَّةٍ عَامَّةٍ عَلَى زَعْمِكُمْ.

قَوْلُهُ: «وَقَوْلُكُمْ: مَا لَيْسَ فِيهِ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ يُنَاقِضُ اسْتِدْلَالَكُمْ بِالْعُمُومِ» هَذَا إِبْطَالٌ لِعُذْرٍ لَهُمْ يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ دَلِيلِنَا الْخَامِسِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَمْ نَذْكُرْ هَذَا الْعُذْرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» نَصًّا، لَكِنِّي نَبَّهْتُ عَلَيْهِ هَاهُنَا بِذِكْرِ جَوَابِهِ.

وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: لَوْلَا الْقِيَاسُ، لَتَعَطَّلَتْ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ عَنْ أَحْكَامٍ؛ لِعَدَمِ وَفَاءِ النُّصُوصِ الْقَلِيلَةِ بِالْحَوَادِثِ الْكَثِيرَةِ ; أَجَابُوا بِمَا سَبَقَ عِنْدَ تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَبِعُذْرٍ آخَرَ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هَاهُنَا، وَهُوَ أَنْ قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ تَعَطُّلَ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ عَنِ الْأَحْكَامِ، بَلْ مَا لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ أَيْ: لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْأَحْكَامِ.

وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الِاعْتِذَارَ يُنَاقِضُ اسْتِدْلَالَكُمْ بِعُمُومِ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى اسْتِدْلَالِكُمْ يُوجِبُ أَنْ لَا حَادِثَةَ إِلَّا وَلَهَا فِي الْكِتَابِ حُكْمٌ، فَقَوْلُكُمْ بَعْدَ هَذَا:«مَا لَيْسَ فِيهِ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ» إِثْبَاتٌ؛ لِأَنَّ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا لَا حُكْمَ لَهُ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ عَيْنُ التَّنَاقُضِ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ» ، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} : «اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا» عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ «أَصْلًا» ،

ص: 271

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لِأَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي اسْتِيعَابِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِجُزْئِيَّاتِ الْمَوْجُودَاتِ وَكُلِّيَّاتِهَا، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي اسْتِيعَابِ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى مَعَهُ عَنِ الْقِيَاسِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَا إِشْكَالَ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْقُرْآنُ. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيِهِ نِظَامُ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، هُوَ خَاصٌّ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِيهَا مَنَافِعُ الْمُخَاطَبِينَ وَطَرِيقُ هِدَايَتِهِمْ. وَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، أَيْ: مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمِلَّةِ، كَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِهِ. قَالَ: هَذَا حَصْرُ مَا اقْتَضَتْهُ عِبَارَةُ الْمُفَسِّرِينَ.

قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي جُزْئِيَّاتِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْأَقْيِسَةِ مَا لَا ضَرُورَةَ بِتَحَقُّقِ الْمِلَّةِ إِلَيْهِ، بَلْ يَحْصُلُ اتِّبَاعُ الْمِلَّةِ بِدُونِهَا بَلْ جَمِيعُ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ تَتَحَقَّقُ الْمِلَّةُ بِدُونِهَا، إِذْ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ مُخْلِصًا مَعَ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ اعْتِقَادًا، ثُمَّ لَمْ يَأْتِ بِفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْخُصُوصُ.

قَوْلُهُمُ: الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ لَيْسَ حُكْمًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا رَدًّا إِلَى اللَّهِ

ص: 272

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالرَّسُولِ.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ «الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ» حُكْمٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَ «رَدٌّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، إِذْ عَنْهُمَا تَلَقَّيْنَا دَلِيلَهُ» ، أَيْ: دَلِيلُ الْقِيَاسِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لَهُمْ: «قَالُوا: بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ» مِنَ التَّكَالِيفِ «مَعْلُومَةٌ» عَمَلًا بِمُوجِبِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَالْقِيَاسُ مَظْنُونٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ، «فَكَيْفَ تُرْفَعُ» الْبَرَاءَةُ الْمَعْلُومَةُ «بِالدَّلِيلِ الْمَظْنُونِ» ؟

وَالْجَوَابُ: إِنَّ هَذَا «لَازِمٌ» لَكُمْ «فِي الْعُمُومِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالشَّهَادَةِ» ، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا إِنَّمَا تُفِيدُ الظَّنَّ، وَقَدْ رَفَعْنَا بِهَا الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ بِاتِّفَاقٍ. وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى جِهَةِ الْمُنَاقَضَةِ الْجَدَلِيَّةِ وَالْإِلْزَامِ. أَمَّا التَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ، فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ مَشْرُوطًا فِي التَّكَالِيفِ الْعَمَلِيَّةِ، بَلْ حُصُولُ الظَّنِّ فِيهِ كَافٍ ثُبُوتًا وَزَوَالًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي نَسْخِ التَّوَاتُرِ بِالْآحَادِ.

وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: الْكَافِي فِي الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ هُوَ الظَّنُّ، وَلَهُ رَفْعُ الْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الظَّنِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَوُجُودُهَا كَالْعَدَمِ. وَهَذَا كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ الطَّرْدُ دُونَ الْعَكْسِ، فَوُجُودُهُ كَالْعَدَمِ، لَكِنَّهُ تَرَجَّحَ بِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: «قَالُوا: شَأْنُ شَرْعِنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَعَكْسُهُ» يَعْنِي الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُخْتَلَفَاتِ «نَحْوُ: غَسْلِ بَوْلِ الْجَارِيَةِ دُونَ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْحَيْضِ دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ» مَعَ اسْتِوَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كَوْنِهِ

ص: 273

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

خَارِجًا مِنَ الْفَرَجِ نَجِسًا، وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ، قَوِيَ الْإِشْكَالُ، إِذْ يَجِبُ الْغُسْلُ بِخُرُوجِهِ مَعَ طَهَارَتِهِ دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ مَعَ نَجَاسَتِهِمَا، وَالْقِيَاسُ الْعَكْسُ، «وَإِيجَابُ أَرْبَعَةِ» شُهُودٍ «فِي الزِّنَى دُونَ الْقَتْلِ» مَعَ إِفْضَائِهِمَا إِلَى الْقَتْلِ فِيمَا إِذَا كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا، وَإِنْ كَانَ بِكْرًا قَوِيَ الْإِشْكَالُ، إِذْ لَا زُهُوقَ فِيهِ. وَمَعَ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ، وَالْقَتْلُ الَّذِي فِيهِ الزُّهُوقُ يُكْتَفَى فِيهِ بِشَاهِدَيْنِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ الْعَكْسَ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، كَكَوْنِهِ فَرَّقَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ بَيْنَ قَضَاءِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَكِلَاهُمَا عِبَادَةٌ، وَأَبَاحَ النَّظَرَ إِلَى الْأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ، وَكِلْتَاهُمَا امْرَأَةٌ مَحَلٌّ لِلشَّهْوَةِ.

وَجَمَعَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، فَأَوْجَبَ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَفَرَّقَ فِي التَّطَيُّبِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَكُلُّهَا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْإِفْطَارِ وَالْيَمِينِ، وَهِيَ أَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، ثُمَّ غَايَرَ بَيْنَ مَقَادِيرِ كَفَّارَتِهَا، وَأَوْجَبَ الْقَتْلَ عَلَى الزَّانِي وَالْقَاتِلِ وَتَارِكِ الصَّلَاةِ، وَالْكَافِرِ، وَجِنَايَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْعَنَاقِ: تُجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ. وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابِ: 50] ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ أَنَاسِيُّ مُكَلَّفُونَ.

«وَمُعْتَمَدُ الْقِيَاسِ: الِانْتِظَامُ» ، يَعْنِي: اتِّفَاقُ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّفَاوُتُ وَاقِعًا فِي الشَّرْعِ لَمْ نَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ انْتِظَامِ مَعَانِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ حَتَّى يَلْحَقَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ.

ص: 274

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: «قُلْنَا: لَا نَقِيسُ إِلَّا حَيْثُ يُفْهَمُ الْمَعْنَى، وَالْخِلَافُ فِي فَهْمِ الْمَعْنَى مَسْأَلَةٌ أُخْرَى» . تَقْرِيرُ هَذَا أَنَّا لَا نُنْكِرُ وُقُوعَ مَا ذَكَرْتُمْ فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّا مَا ادَّعَيْنَا عُمُومَ وُقُوعِ الْقِيَاسِ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ، بَلْ حَيْثُ فَهِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ ثَبْتَ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، أَلْحَقَنَا بِهِ مَا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْفُرُوعِ، كَالنَّبِيذِ مَعَ الْخَمْرِ، وَالْأَرُزِّ مَعَ الْبُرِّ. وَلِهَذَا قُلْنَا: الْأَحْكَامُ إِمَّا غَيْرُ مُعَلَّلٍ كَالتَّعَبُدَاتِ، أَوْ مُعَلَّلٍ كَالْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ لِضَعْفِ عَقْلِهِ حِفْظًا لِمَالِهِ، أَوْ مَا يَتَرَدَّدُ فِي كَوْنِهِ مُعَلَّلًا أَوَّلًا، كَقَوْلِنَا: اسْتِعْمَالُ التُّرَابِ فِي غَسْلِ وُلُوغِ الْكَلْبِ هَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ أَمْ مُعَلَّلٌ؟ وَخَرَجَ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافُ فِي قِيَامِ الْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَالْغَسْلَةِ الثَّامِنَةِ مَقَامَهُ ; إِنْ قُلْنَا: هُوَ تَعَبُّدٌ، لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: مُعَلَّلٌ بِإِعَانَةِ الْمَاءِ عَلَى إِزَالَةِ أَثَرِ الْوُلُوغِ ; قَامَ ذَلِكَ مَقَامَهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِزَالَةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: هُوَ تَعَبُّدٌ، كَفَى بِالتُّرَابِ مُسَمَّاهُ وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ أَجْزَاءَ مَحَلِّ الْوُلُوغِ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مُعَلَّلٌ، اشْتُرِطَ تَعْمِيمُهُ بِهِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ، وَكَذَلِكَ غَسْلُ الْيَدِ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ إِنْ قِيلَ: هُوَ عِبَادَةٌ، وَجَبَتْ لَهُ النِّيَّةُ، وَإِنْ قِيلَ: نَظَافَةٌ، لَمْ يَجِبْ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ.

وَبِالْجُمْلَةِ لَا نَقِيسُ إِلَّا حَيْثُ فَهِمْنَا الْمَعْنَى وَوُجِدَتْ شُرُوطُ الْقِيَاسِ، فَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْخَاصَّةِ مُعَلَّلَةً أَوْ غَيْرَ مُعَلَّلَةِ ; فَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى خَارِجَةٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ يَثْبُتُ فِيهَا مِنَ الْحُكْمِ بِالتَّعَبُّدِ أَوِ التَّعَلُّلِ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ عَنِ الْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ إِجْمَالِيٌّ، وَالْجَوَابُ التَّفْصِيلِيُّ أَنَّ الصُّوَرَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا كُلُّهَا أَوْ جُلُّهَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ عَنْهُ إِمَّا بِمَنْعِ

ص: 275

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْحُكْمِ مِنْ فَرْقٍ أَوْ جَمْعٍ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ، أَوْ بِإِبْدَاءِ الْمُنَاسِبِ.

أَمَّا غَسْلُ بَوْلِ الْجَارِيَةِ دُونَ بَوْلِ الْغُلَامِ، فَقَدْ سَوَّى الْحَسَنُ بَيْنَهُمَا فِي النَّضْحِ، وَغَيْرُهُ فِي الْغَسْلِ، فَلَا نَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، فَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ آلَةَ بَوْلِ الْغُلَامِ بَارِزَةٌ عَنْ سَمْتِ بَدَنِهِ، وَالنَّاسُ أَمْيَلُ إِلَى حَمْلِهِ، فَيَكْثُرُ بَوْلُهُ عَلَى النَّاسِ، فَيَشُقُّ غَسْلُهُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ فَإِنَّ بَوْلَهَا لَا يُجَاوِزُهَا إِلَى غَيْرِهَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ اعْتَبَرَ بَوْلَهُمَا، فَوَجَدَ بَوْلَ الْجَارِيَةِ أَثْقَلَ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِلْفَرْقِ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ مِزَاجَ الذَّكَرِ حَارٌّ، وَمِزَاجُ الْأُنْثَى بَارِدٌ، فَيَضْعُفُ الْهَضْمُ، فَتَبْقَى الْفَضْلَةُ كَثِيفَةً، ذَاتِ قِوَامٍ كَثِيفٍ، فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْأَجْسَامِ، كَانَ أَثَرُهَا مُحْتَاجًا إِلَى الْغَسْلِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فِي الْغُلَامِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا افْتَرَقَ مَنِيُّ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى نَاسَبَ افْتِرَاقَ بَوْلِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْبَوْلِ عَكْسُهُ فِي الْمَنِيِّ، إِذْ مَنِيُّ الذَّكَرِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَنِيُّ الْأُنْثَى رَقِيقٌ أَصْفَرُ، وَبَوْلُ الْأُنْثَى أَغْلَظُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ شَبَهِيٌّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحُكْمُ فَرْعِيٌّ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ تَصْلُحُ لِتَقْرِيرِهِ وَتَقْوَى عَلَيْهِ.

وَأَمَّا إِيجَابُ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ فِي الزِّنَى دُونَ الْقَتْلِ، فَقَدْ قَرَّرْتُهُ مَبْسُوطًا فِي «الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى» عَلَى وَجْهٍ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ فِي حَقِّ الْحَائِضِ بَيْنَ قَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ فَلِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ

ص: 276

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتَكَرُّرِهَا، فَيَشُقُّ قَضَاؤُهَا دُونَ الصَّوْمِ، إِذْ هُوَ شَهْرٌ فِي السَّنَةِ، وَهَذَا مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِلْفَرْقِ وَكَوْنُهُمَا عِبَادَةً لَا يَقْتَضِي اسْتِوَاؤُهُمَا فِي ذَلِكَ.

وَأَمَّا إِبَاحَةُ النَّظَرِ إِلَى الْأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ، فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَمْنُوعٌ؛ إِذِ النَّظَرُ إِلَيْهِمَا بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجًا أَوْ سَيِّدًا. وَأَمَّا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَيَجُوزُ مِنَ الْأَمَةِ إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا فِي حَالِ الْمِهْنَةِ وَالْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا، فَالتَّحَرُّزُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ يَشُقُّ، كَمَا قِيلَ فِي وَجْهِ الْحُرَّةِ وَكَفَّيْهَا لِذَلِكَ، وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا لِحَاجَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، وَإِلَى غَيْرِ وَجْهِهَا أَيْضًا لِحَاجَةِ الْعِلَاجِ؛ لِأَنَّ اجْتِنَابَ ذَلِكَ يُورِثُ مَشَقَّةً مُنْتَفِيَةً شَرْعًا، وَهُوَ الْفَرْقُ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ الشَّرْعِيِّ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَغَيْرِهَا، لَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ مُنَاسِبٌ لِثُبُوتِ هَذَا الِاسْتِحْسَانِ.

وَأَمَّا قَتْلُ الصَّيْدِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ; فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ، فَلَا يُرَدُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنِهِمَا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى إِتْلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ إِقَامَةً لِرَسْمِ الْعَدْلِ كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقِّ الْآدَمِيِّ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ قَتْلَهُ ارْتِكَابٌ لِمَا نَهَى اللَّهُ عز وجل عَنْهُ هُوَ حَقُّ لَهُ سبحانه وتعالى، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ جَزَاءَهُ مَصْرُوفٌ إِلَى الْآدَمِيِّ هُوَ حَقٌّ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْخَذُ فِي الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ فِيهِ، لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْفَرْقُ فِي التَّطَيُّبِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ دُونَ قَتْلِ الصَّيْدِ غَلَبَ فِيهِ إِتْلَافُ حَقِّ الْآدَمِيِّ وَفِيهِمَا حَقُّ اللَّهِ عز وجل، عَلَى أَنَّ

ص: 277

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

جَمِيعَ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ، وَالْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ مَعَ جَمِيعِهِمْ، فَلِلْمُجْتَهِدِ مِنْهُمْ أَنْ يَلْتَزِمَ الْفَرْقَ فِي الْجَمِيعِ، أَوِ التَّسْوِيَةَ فِي الْجَمِيعِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ السُّؤَالُ.

وَأَمَّا إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِأَسْبَابِهَا الْمَذْكُورَةِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله مَنَعَ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ فِيهَا لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا وَمَقَادِيرِهَا، وَأَجَازَهُ فِي غَيْرِهَا. وَمَنْ أَجْرَى الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّمَا أَجْرَاهُ حَيْثُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَوُجِدَتْ شُرُوطُ الْقِيَاسِ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ الَّذِي سَبَقَ، مَعَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِمَّا جُبْرَانٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّارِعَ عَلِمَ أَنَّ كَفَّارَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يُكَافِئُهُ جَبْرًا أَوْ زَجْرًا، فَشَرَعَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَدْلٌ، وَهَذَا مِنَ الْعَدْلِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الزَّانِي وَالْقَاتِلِ وَنَحْوِهِ مَعَ اخْتِلَافِ جِنَايَاتِهِمْ، فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ مَفْسَدَةَ أَدْنَى هَذِهِ الْجِنَايَاتِ تُوجِبُ الْقَتْلَ، وَسَقَطَ الزَّائِدُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ فِيمَا فَوْقَهُ مِنَ الْجِنَايَاتِ تَفَضُّلًا أَوْ تَعَذُّرًا؛ إِذْ لَا عُقُوبَةَ وَرَاءَ الْقَتْلِ، مَعَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ اتِّحَادَ كَيْفِيَّةَ الْقَتْلِ فِيهِمْ، بَلِ الْقَاتِلُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِمُوجِبِ الْعَدْلِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَالزَّانِي إِنْ كَانَ بِكْرًا، فَلَا قَتْلَ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَيْهِ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْجَلْدِ، فَزُهُوقُهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا، فَيُجْلَدُ، وَيُرْجَمُ حَتَّى يَمُوتَ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْأَلَمِ وَالتَّعْذِيبِ أَضْعَافُ مَا فِي الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الْقَتْلِ، وَجِنَايَةُ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ ; غَيْرَ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْكُفْرِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَفْضُلُ بِتَرْكِ

ص: 278

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ وَالْمُثْلَةِ بِالرَّجْمِ وَنَحْوِهِ.

وَالْقَتْلُ بِالزِّنَى، إِمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ بِهَتْكِ الْعِرْضِ، وَتَضْيِيعِ النَّسَبِ، أَوْ أَنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ لِذَلِكَ فَجُعِلَ كُفْئًا لِسَبَبِهِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ رضي الله عنه: تَجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ فَقَدْ بَيَّنْتُ وَجْهَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ فِي «مُخْتَصَرِ» التِّرْمِذِيِّ، وَلَمْ أَنْشَطْ هَاهُنَا لِتَقْرِيرِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابِ: 50] ، فَإِنَّ فَضِيلَةَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام عَلَى غَيْرِهِمْ مَعْلُومَةٌ بِالِاضْطِرَارِ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِتَخْصِيصِهِمْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ عز وجل أَنْ يُكْرِمَهُمْ بِهِ، وَكَوْنُهُمْ جَمِيعًا أَنَاسِيَّ مُكَلَّفِينَ لَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَلَا يَمْنَعُ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ، لَلَزِمَ الْقَدْحُ فِي النُّبُوَّاتِ بِأَنْ يُقَالَ: كُلُّ النَّاسِ أَنَاسِيُّ فَكَيْفَ يَخْتَصُّ بِالْمُعْجِزِ النَّبِيُّ؟ . وَهَذِهِ شُبْهَةُ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15]، {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [الْقَمَرِ: 24] ، {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 34] .

فَإِنْ قِيلَ: الْمُعْجِزُ وَالنُّبُوَّةُ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ عليهم السلام، خُصُّوا بِهَا بِحُكْمِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنْ قُلْتُمْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ الْمُخْتَصَّةِ بِمِحَالِّهَا دُونَ نَظَائِرِهَا كَذَلِكَ، صَحَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ بُطْلَانِ الْقِيَاسِ.

قُلْنَا: النُّبُوَّةُ مَوْهِبَةٌ لِغَيْرِ مَعْنًى أَوْ لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي

ص: 279

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مُسَلَّمٌ، وَبِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا وَهَبَ النُّبُوَّةَ لِأَهْلِهَا لِمَا اخْتَصُّوا بِهِ عَلَى بَاقِي الْعَالَمِ مِنْ زِيَادَةِ الْخَيْرِ، وَالصَّلَاحِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْعِبَادَةِ، وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَاكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عز وجل، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، [الْأَنْعَامِ: 124] وَسَائِرُ مَا مُدِحَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اخْتِصَاصَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ لَهُ، فَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ، خُصَّتْ بِأَحْكَامِهَا لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ.

فَإِنْ قِيلَ: لَكِنْ أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِذَا فَهِمْنَا الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ أَوِ الْمُؤَثِّرَ غَيْرَ الْمُنَاسِبِ، أَلْحَقْنَا بِهِ مَا فِي مَعْنَى مَحَلِّهِ، كَإِلْحَاقِ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ، فَهَلْ نَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ لِلِاخْتِصَاصِ بِالنُّبُوَّةِ فِي الْأَنْبِيَاءِ إِذَا وَجَدْتُمُوهُ فِي آحَادِ النَّاسِ تُلْحِقُونَهُ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ؟ إِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، فَلَا قَائِلَ بِهِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا، فَمَا الْفَرْقُ؟

قُلْنَا: إِنَّ الْقِيَاسَ مَدْرَكٌ ظَنِّيٌّ تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَإِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ حُكْمٌ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ أَصْلٌ لِقَوَاطِعِ الشَّرَائِعِ وَظَنِّيَّاتِهَا، فَلَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَمْرُ النُّبُوَّةِ ظَنِّيًّا، أَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مَدْرَكًا لِلنُّبُوَّةِ قَطْعِيًّا، لَأَثْبَتْنَاهَا بِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُعْجِزُ بِشُرُوطِهِ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ فِي شَخْصٍ مَا، عَدَّيْنَا حُكْمَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَمَنْ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ عَلَى يَدِهِ فَقُلْنَا مَثَلًا: إِنَّمَا ثَبَتَ كَوْنُ مُوسَى عليه السلام نَبِيًّا لِظُهُورِ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ عَلَى يَدِ عِيسَى

ص: 280

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِمَا، لَمَّا كَانَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَاطِعًا ثَبَتَ بِمِثْلِهِ النُّبُوَّةُ الْقَاطِعَةُ.

وَمِمَّا يُورَدُ مِنْ نَظَائِرِ هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَجُوزَ الشَّوْهَاءَ الْقَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ تُحَصِّنَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَحْرَارِ عَلَى الْبَدَلِ، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْإِمَاءِ الْحِسَانِ لَا تُحَصِّنُ آدَمِيًّا وَاحِدًا.

وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ رحمه الله وَهُوَ مِنَ الْقَيَّاسِينَ، فَيَسْقُطُ السُّؤَالُ، وَمَنِ الْتَزَمَهُ أَبْدَى فَرْقًا مُنَاسِبًا عِنْدَهُ، وَهُوَ نَقْصُ الرِّقِّ وَكَانَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَهُوَ تَكَلُّفٌ، إِذْ لَيْسَ مُؤَثِّرًا، وَالصَّوَابُ رَأْيُ مَالِكٍ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ، لِجَازَ لِلْمُجْتَهِدِ الْتِزَامُهُ، إِذْ لَا نَصَّ فِي نَفْيِهِ وَلَا إِجْمَاعَ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لِمَ قُطِعَ سَارِقُ الْقَلِيلِ دُونَ غَاصِبِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ أَحْوَجُ إِلَى الرَّدْعِ؟

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْغَصْبَ فِعْلٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يَخْلُو كُلُّ إِقْلِيمٍ عَنْ سُلْطَانٍ يَكُفُّ ظُلْمَ الظَّالِمِ، وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ، إِمَّا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ عز وجل بِالْعَدْلِ، أَوْ حِيَاطَةً لِلْمُلْكِ وَسِيَاسَةً لَهُ، وَذَلِكَ دَافِعٌ لِمَفْسَدَةِ الْغَصْبِ مَنْعًا أَوْ قَطْعًا، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهَا فِعْلٌ خَفِيٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ، فَوَضَعَ لَهُ الشَّرْعُ زَاجِرَ الْقَطْعِ، إِذْ بَدَوْنِ ذَلِكَ لَا تَزُولُ الْمَفْسَدَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَأَمَّا وُجُوبُ الْغُسْلِ فِي خُرُوجِ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ، فَذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ لَهُ مَعْنًى مُنَاسِبًا إِنْ تَحَقَّقَ، وَلَا أَسْتَطِيعُ الْآنَ تَحْقِيقَهُ.

ص: 281

قَالُوا: لَوْ أَرَادَ الشَّارِعُ تَعْمِيمَ الْمَحَالِّ بِالْأَحْكَامِ لَعَمَّهَا نَصًّا، نَحْوُ: الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَيَتْرُكُ التَّطْوِيلَ.

قُلْنَا: هَذَا تَحَكُّمٌ عَلَيْهِ كَقَوْلِ مَنْ حَرَّمَ الْمَلَاذَّ: وَفِعْلُهَا لَا يَضُرُّهُ، ثُمَّ لَعَلَّهُ أَبْقَى لِلْمُجْتَهِدِينَ مَا يُثَابُونَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ.

قَالُوا: كَيْفَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفَرْعِ بِغَيْرِ طَرِيقِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ.

قُلْنَا: مَنْ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ لَا يَرِدُ هَذَا عَلَيْهِ، وَمَنْ يُثْبِتُهُ بِالنَّصِّ يَقُولُ: الْقَصْدُ الْحُكْمُ، لَا تَعْيِينُ طَرِيقَهٍ، فَإِذَا ظَنَّ وُجُودَهُ اتَّبَعَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ.

قَالُوا: غَايَةُ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْإِلْحَاقَ، نَحْوُ: أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، لَا يَقْتَضِي عِتْقَ كُلِّ أَسْوَدَ مِنْ عَبِيدِهِ.

قُلْنَا: وَكَذَا لَوْ صَرَّحَ، فَقَالَ: قِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ، فَلَيْسَ بِوَارِدٍ، بِخِلَافِ قَوْلِ الشَّارِعِ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا فَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ مُسْكِرٍ، ثُمَّ بَيْنَ الشَّارِعِ وَغَيْرِهِ فَرْقٌ يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ.

ــ

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: «قَالُوا: لَوْ أَرَادَ الشَّارِعُ تَعْمِيمَ الْمَحَالِّ بِالْأَحْكَامِ، لَعَمَّهَا نَصًّا، نَحْوُ» قَوْلِهِ: «الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ» أَوْ فِي كُلِّ مَطْعُومٍ أَوْ مُقْتَاتٍ. «وَيَتْرُكُ التَّطْوِيلَ» بِأَنْ يَنُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءٍ بِدُونِ بَيَانِ عِلَّتِهِ فِيهَا، ثُمَّ يُوقِعُ النَّاسَ بَعْدَهُ فِي الِاخْتِلَافِ الطَّوِيلِ الْعَرِيضِ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، فَلَمَّا لَمْ يَنُصُّ عَلَى تَحْرِيمِ تَعْمِيمِ الْمَحَالِّ بِأَحْكَامِهَا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَعْمِيمَهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ مِنْهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَأَحَالَ الْبَاقِيَ عَلَى تَحْقِيقِ

ص: 282

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَنَاطِ، أَوْ عَلَى تَنْقِيحِهِ، أَوِ الْبَقَاءِ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ «هَذَا تَحَكُّمٌ» عَلَى الشَّارِعِ، وَتَحَجُّرٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بَقَوْلِ الْمُبَاحِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: لَا فَائِدَةَ فِي تَحْرِيمِ الْمَلَاذِّ كَالزِّنَى وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِ، إِذْ «فِعْلُهَا لَا يَضُرُّهُ» ، وَهُوَ يَنْفَعُ النَّاسَ. وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِنَا أَنَّ فِي ذَلِكَ حِكْمَةَ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ، فَكَذَلِكَ عَدَمُ تَعْمِيمِهِ الْمَحَالَّ بِالْأَحْكَامِ تَنْصِيصًا لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ، فَلَعَلَّهُ أَبْقَى لِلْمُجْتَهِدِينَ مَجَالًا فِي الْأَحْكَامِ يُثَابُونَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَوْ عَمَّ مَحَالَّ الْأَحْكَامِ بِهَا، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَجَالٌ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَكِيلٍ رِبَوِيٌّ، لَثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَرُزِّ بِالنَّصِّ، وَلَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ.

الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: «قَالُوا: كَيْفَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفَرْعِ بِغَيْرِ طَرِيقِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ؟» وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَحُكْمُ الْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالْإِلْحَاقِ كَتَحْرِيمِ النَّبِيذِ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَالطَّرِيقُ مُخْتَلِفٌ ; فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا! .

وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، هَلْ هُوَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ مِنَ النَّصِّ، أَوْ بِنَفْسِ النَّصِّ؟ فَمَنْ أَثْبَتَ «الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ» لَمْ يَرِدْ هَذَا السُّؤَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَثْبَتَ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِسْكَارِ مَثَلًا فِي الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ. وَمَنْ أَثْبَتَهُ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ، قَالَ: الْمَقْصُودُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا تَعْيِينُ طَرِيقِهٍ بِكَوْنِهِ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، أَوْ نَصًّا فِي الْأَصْلِ قِيَاسًا فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَسِيلَةٌ، وَالْحُكْمَ مَقْصِدٌ، وَمَعَ حُصُولِ الْمَقْصِدِ لَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الْوَسَائِلِ، لَمْ يَضُرَّ

ص: 283

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَضْلًا عَنِ اخْتِلَافِهَا. وَهَذَا كَمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ دَخَلَهَا.

الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: «قَالُوا: غَايَةُ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً، وَهُوَ» يَعْنِي النَّصَّ عَلَيْهَا «لَا يُوجِبُ الْإِلْحَاقَ» ، يَعْنِي إِلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، «نَحْوُ» قَوْلِ الْقَائِلِ:«أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، لَا يَقْتَضِي عِتْقَ كُلِّ أَسْوَدَ مِنْ عَبِيدِهِ» ، وَإِذَا لَمْ يَقْتَضِ النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ الْإِلْحَاقَ فَالْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ الَّتِي تُسْتَخْرَجُ الْعِلَّةُ مِنْهَا بِالِاسْتِنْبَاطِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ أَكْثَرِ الْأَقْيِسَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقْتَضِيَهُ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ الْخَصْمَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْقِيَاسِ فِي الْعِتْقِ، لَمْ يَتَعَدَّ الْوَصْفَ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، وَ «قِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ» ; لَمَا جَازَ عِتْقُ السُّودَانِ بِالْقِيَاسِ؛ لِمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ:«حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا، فَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ مُسْكِرٍ» ; لَصَحَّ الْإِلْحَاقُ وَالتَّعْدِيَةُ، وَاتَّجَهَتِ التَّسْوِيَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، وَهُمُ الْقَاشَانِيَّةُ وَالنَّهْرَوَانِيَّةُ، وَإِذْ بَيْنَ الْبَابَيْنِ هَذَا الْفَرْقُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ إِلْزَامُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، عَلَى أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَعْتَقْتُ هَذَا الْعَبْدَ لِسَوَادِهِ، يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ كُلُّ أَسْوَدَ.

نَعَمِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْعِتْقِ مَعَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ غَيْرُ وَارِدٍ، وَالْحُكْمُ مُلْتَزَمٌ فِي الْبَابَيْنِ، وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا تَأْكُلْ هَذِهِ الْحَشِيشَةَ لِأَنَّهَا سُمٌّ، أَوْ: لَا تَأْكُلِ الْإِهْلِيلَجَ؛ لِأَنَّهُ مُسْهِلٌ، أَوْ: لَا تُجَالِسُ فُلَانًا؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدِعٌ ; فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّعْدِيَةُ، وَاجْتِنَابُ كُلِّ سُمٍّ وَمُسْهِلٍ وَمُبْتَدِعٌ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ طَرْدِ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ التَّعَبُّدُ، ثُمَّ إِنَّ الْخَصْمَ مُنَاقِضٌ لِنَفْسِهِ، إِذِ احْتِجَابُهُ هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ قَاسَ بُطْلَانَ

ص: 284

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى بُطْلَانِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنْ صَحَّ احْتِجَاجُهُ بِالْقِيَاسِ هَاهُنَا، فَلِمَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مُطْلَقًا؟ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ احْتِجَاجُهُ بِهِ، لَمْ يَقْدَحْ فِي احْتِجَاجِنَا بِالْقِيَاسِ، وَأَيْضًا إِذَا اعْتَقَدَ الْخَصْمُ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ فِي أَصْلٍ كَبِيرٍ وَهُوَ بُطْلَانُ الْقِيَاسِ، فَلِمَ لَا يَصِحُّ احْتِجَاجُنَا فِي الْفُرُوعِ الْيَسِيرَةِ الْخَطْبِ؟ .

قَوْلُهُ: «ثُمَّ بَيْنَ الشَّارِعِ وَغَيْرِهِ فَرْقٌ يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ» : بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ مَنَاطُ ثُبُوتِهَا الظَّنُّ تَوْسِيعًا لِمَجَارِي التَّكْلِيفِ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ لَا تُنْقَلُ عَنْهُمْ إِلَّا بِطَرِيقٍ قَاطِعٍ ; إِمَّا احْتِيَاطًا لِحُقُوقِهِمْ لِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ الْمُوجِبِ لِتَضْيِيقِ الْأَمْرِ فِي حُقُوقِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ فِي الْأَصْلِ مِلْكٌ لِلَّهِ عز وجل، فَتُعُبِّدَ فِي زَوَالِهَا بِالطَّرِيقِ الْقَاطِعِ، وَأَثْبَتَ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ بِالطُّرُقِ الْمَظْنُونَةِ، وَلِلَّهِ سبحانه وتعالى أَنْ يَفْعَلَ فِي مُلْكِهِ مَا يَشَاءُ.

وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ شَيْءٌ، فَأَقَرَّ عَلَيْهِ، اسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ رِضَاهُ بِهِ بِشَرْطِهِ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّ شَخْصًا بَاعَ مَالَ إِنْسَانٍ بِحَضْرَتِهِ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ، فَسَكَتَ، وَلَمْ يُنْكِرْ، بَلْ أَظْهَرَ الِاسْتِبْشَارَ وَالْفَرَحَ ; لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالْإِيجَابِ، أَوْ يُعْلَمَ رِضَاهُ أَوْ يُوَكِّلَ فِيهِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ فِي حُقُوقِ الْمَخْلُوقِينَ ضَيَّقَ غَايَةَ التَّضْيِيقِ بِخِلَافِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَلْزَمُكُمْ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، فَإِنَّ التَّرَاضِيَ فِي الْبَيْعِ شَرْطٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، وَلَمْ تَعْتَبِرُوا لَهُ صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهَذَا حَقُّ آدَمِيٍّ قَدْ أَزَلْتُمُوهُ عَنْهُ بِغَيْرِ طَرِيقٍ

ص: 285

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَاطِعٍ.

فَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٍ، بَلِ الْمُعَاطَاةُ تَقْتَرِنُ بِهَا قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى الرِّضَا قَطْعًا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَلَى تَوَالِي الْأَعْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ.

ص: 286

قَالُوا: لَا قِيَاسَ فِي الْأُصُولِ، فَكَذَا فِي الْفُرُوعِ.

قُلْنَا: مَمْنُوعٌ بَلْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قِيَاسٌ بِحَسَبِ مَطْلُوبِهِ قَطْعًا فِي الْأَوَّلِ وَظَنًّا فِي الثَّانِي، ثُمَّ هُوَ قِيَاسٌ، فَإِنْ صَحَّ صَحَّ مُطْلَقُهُ، وَثَبَتَ الْقِيَاسُ، وَإِلَّا بَطَلَ مَا ذَكَرْتُمْ.

وَاعْلَمْ: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِمَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حَمْلُ الذَّامَّةِ عَلَى حَالِ وُجُودِ النَّصِّ وَالْحَاثَّةِ عَلَى حَالِ عَدَمِهِ.

ــ

الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: «قَالُوا: لَا قِيَاسَ» ، أَيْ: الْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ «فِي الْأُصُولِ» ، فَلْيَكُنْ مُمْتَنِعًا «فِي الْفُرُوعِ» .

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا «مَمْنُوعٌ، بَلْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا» ، أَيْ: فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ «قِيَاسٌ بِحَسَبِ مَطْلُوبِهِ قَطْعًا فِي الْأَوَّلِ» يَعْنِي فِي الْأُصُولِ «وَظَنًّا فِي الثَّانِي» يَعْنِي فِي الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْأُصُولِ الْقَطْعُ وَفِي الْفُرُوعِ الظَّنُّ، فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ فِي الْأُصُولِ قَطْعِيًّا، وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ فِي الْفُرُوعِ ظَنِّيًّا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا قِيَاسٌ مِنْهُمْ لِامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ فِي الْفُرُوعِ عَلَى امْتِنَاعِهِ فِي الْأُصُولِ عَلَى زَعْمِهِمْ، فَإِنْ صَحَّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقِيَاسِ هَاهُنَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مُطْلَقُ الْقِيَاسِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُمْ هَاهُنَا، بَطَلَ مَا ذَكَرُوُهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ.

ــ

«وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِمَا» ، أَيِ: اسْتِعْمَالُ

ص: 287

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ، «أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا» أَيْ: بَيْنَ قِسْمَيْ أَحَادِيثِ ذَمِّ الْقِيَاسِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ «حَمْلُ الذَّامَّةِ» ، أَيْ: هُوَ أَنْ تُحْمَلَ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَمِّ الْقِيَاسِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ، وَتُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَثِّ عَلَيْهِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ، احْتِرَازًا مَنْ تَنَاقُضِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مَنْ مَدْحِ الشَّاهِدِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ وَذَمِّهِ، فَحُمِلَ الذَّمُّ عَلَى مَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ يَعْلَمُ بِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ لَهُ بِهِ بَيِّنَةً، إِذْ فِي الْمُبَادَرَةِ بِالشَّهَادَةِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - نَوْعُ تَكَلُّفٍ وَفُضُولٍ، وَرُبَّمَا اتُّهِمَ الشَّاهِدُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، كَمَا حُكِيَ أَنَّ رَجُلَا حَضَرَ لِيَشْهَدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِحَقٍّ، فَقَالَ لَهُ الْحَاكِمُ: أَتَشْهَدُ بِهَذَا الْحَقِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَحْلِفُ، وَأُخَاصِمُ، قَالَ: فَمِنْ هَاهُنَا مَا تُقْبَلُ شَهَادَتُكَ.

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا هِيَ فِي كِتَابِ «أَدَبِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ» لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهَا بِأَسَانِيدِهَا مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهِيَ وَافِيَةٌ بِالْمَقْصُودِ مِنْ إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَفَوْقِ الْمَقْصُودِ، وَلَمْ يَكُنِ الْكِتَابُ عِنْدِي الْآنَ حَتَّى أُثْبِتَهَا هَاهُنَا، وأَيْضًا آثَرَتُ الِاخْتِصَارَ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ أَنَّ الرَّأْيَ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ، وَالرَّأْيُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: رَأْيٌ مَحْضٌ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ، فَذَلِكَ الْمَذْمُومُ الَّذِي لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَرَأْيٌ يَسْتَنِدُ إِلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ مِنَ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالِاسْتِحْسَانِ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَوِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَلِهَذَا يُقَالُ: هَذَا رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ عَنْ كُلِّ

ص: 288

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

حُكْمٍ صَارَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَنَدُهُ فِيهِ الْقِيَاسَ أَوْ دَلِيلَ غَيْرِهِ، وَالْقِيَاسُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا حَدَّهُ، وَهُوَ اعْتِبَارُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الرَّأْيِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ أَخَصُّ مِنَ الْقِيَاسِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ بِحَسَبِ الْإِضَافَةِ هُمْ كُلُّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي الْأَحْكَامِ بِالرَّأْيِ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَسْتَغْنِي فِي اجْتِهَادِهِ عَنْ نَظَرٍ وَرَأْيٍ، وَلَوْ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ.

وَأَمَّا بِحَسَبِ الْعَلَمِيَّةِ، فَهُوَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ عَلَمٌ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ، أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ أَهْلَ الرَّأْيِ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ إِلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ ; إِمَّا لِعَدَمِ بُلُوغِهِمْ إِيَّاهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ، أَوْ لِكَوْنِهِ رِوَايَةَ غَيْرِ فَقِيهٍ، أَوْ قَدْ أَنْكَرَهُ رَاوِي الْأَصْلِ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، أَوْ لِكَوْنِهِ وَارِدًا فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ لَزِمَهُمْ تَرْكُ الْعَمَلِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَّجَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي «جَامِعِهِ» نَحْوَ مِائَةٍ أَوْ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ صِحَاحٍ خَالَفَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي التَّشْنِيعِ عَلَيْهِ حَتَّى صَنَّفَ كِتَابًا فِي الْخِلَافِ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَكَثُرَ عَلَيْهِ الطَّعْنُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ حَتَّى بَلَغُوا فِيهِ مَبْلَغًا وَلَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِذِكْرِهِ، وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا عِصْمَتَهُ مِمَّا قَالُوهُ، وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا إِلَيْهِ نَسَبُوهُ.

ص: 289

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّهُ قَطْعًا لَمْ يُخَالِفِ السُنَّةَ عِنَادًا، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيمَا خَالَفَ مِنْهَا اجْتِهَادًا لِحُجَجٍ وَاضِحَةٍ، وَدَلَائِلَ صَالِحَةٍ لَائِحَةٍ، وَحُجَجُهُ بَيْنَ النَّاسِ مَوْجُودَةٌ، وَقَلَّ أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْهَا مُخَالِفُوهُ، وَلَهُ بِتَقْدِيرِ الْخَطَأِ أَجْرٌ، وَبِتَقْدِيرِ الْإِصَابَةِ أَجْرَانِ، وَالطَّاعِنُونَ عَلَيْهِ إِمَّا حُسَّادٌ، أَوْ جَاهِلُونَ بِمَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ، وَآخِرُ مَا صَحَّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه إِحْسَانُ الْقَوْلِ فِيهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْوَرْدِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ «أُصُولُ الدِّينِ» وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 290

أَرْكَانُ الْقِيَاسِ مَا سَبَقَ.

فَشَرْطُ الْأَصْلِ ثُبُوتُهُ بِنَصٍّ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ ; أَوِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا وَلَوْ ثَبَتَ بِقِيَاسٍ، إِذْ مَا لَيْسَ مَنْصُوصًا وَلَا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّتِهِ، وَلَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ جَامِعٌ، فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى، إِذْ تَوْسِيطُ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ لِانْتِفَاءِ الْجَامِعِ بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَصْلِ أَصْلِهِ.

وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا لَعَلَّلَ الْخَصْمُ بِعِلَّةٍ تَتَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ، فَإِنْ سَاعَدَهُ الْمُسْتَدِلُّ فَلَا قِيَاسَ، وَإِلَّا مُنِعَ فِي الْأَصْلِ فَلَا قِيَاسَ، وَيُسَمَّى: الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ، نَحْوُ: الْعَبْدُ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ كَالْمُكَاتَبِ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: الْعَبْدُ يُعْلَمُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، إِذْ لَا يُعْلَمُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ: الْوَارِثُ أَوِ السَّيِّدُ، وَرُدَّ: بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُقَلِّدٌ لِإِمَامِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لَهُ، إِذْ لَا يَتَعَيَّنُ مَأْخَذُ حُكْمِهِ، وَلَوْ عَرَفَ فَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَجْزِهِ عَنْ تَقْرِيرِهِ فَسَادُهُ، إِذْ إِمَامُهُ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَقَدِ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ لِنُدْرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ.

ــ

قَوْلُهُ: «أَرْكَانُ الْقِيَاسِ مَا سَبَقَ» .

لِمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ صِحَّةُ الْقِيَاسِ وَكَوْنُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا ; وَجَبَ الْقَوْلُ فِي أَرْكَانِهِ، وَشُرُوطِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَأَرْكَانُهُ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِهِ، وَهِيَ الْأَصْلُ، وَالْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ، وَالْحُكْمُ. وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى بَيَانِ حَقَائِقِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا وَمُصَحِّحَاتِهَا.

«فَشَرْطُ الْأَصْلِ» - يَعْنِي الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ - أُمُورٌ:

ص: 291

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ ثَابِتًا «بِنَصٍّ، وَإِنِ اخْتَلَفَا» - يَعْنِي الْخَصْمَيْنِ - فِي الْأَصْلِ، «أَوِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا» عَلَى ثُبُوتِهِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ، فَإِنْ وَافَقَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ، ثَبَتَ الْأَصْلُ بِالنَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهِ، فَالنَّصُّ وَافٍ بِإِثْبَاتِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمِ. وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ ثُبُوتُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفَرْعُ، وَيَلْحَقُ بِهِ، وَمَا لَا ثُبُوتَ لَهُ لَا يُتَصَوَّرُ بِنَاءُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُتَفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا لِيَكُونَ غَايَةً يَنْقَطِعُ عِنْدَهَا النِّزَاعُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَالْمُعْتَرِضُ كَمَا يُنَازِعُ فِي الْفَرْعِ يُنَازِعُ فِي الْأَصْلِ.

مِثَالُ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ قَوْلُنَا: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ تَالِفَةٌ، تَحَالَفَا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَبَايِعَانِ اخْتَلَفَا، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا، كَمَا إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً، وَالْحَنَفِيَّةُ يَمْنَعُونَ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ التَّحَالُفُ عِنْدَ قِيَامِ السِّلْعَةِ عَلَى رَأْيٍ لَهُمْ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه السلام: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا أَوْ تَرَادَّا، وَالتَّرَادُّ ظَاهِرٌ فِي بَقَاءِ الْعَيْنِ، عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي غَسْلِ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ: حَيَوَانٌ نَجِسٌ، فَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ، فَإِنْ مَنَعُوا الْحُكْمَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ، دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ فِيهِ.

وَمِثَالُ مَا ثَبَتَ بِالِاتِّفَاقِ قِيَاسُ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْأَرُزِّ عَلَى الْبُرِّ، وَالْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ، وَهُوَ كَثِيرٌ.

قَوْلُهُ: «وَلَوْ ثَبَتَ بِقِيَاسٍ» ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَصْلُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، حَصَلَ

ص: 292

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَقْصُودُ، وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ صَارَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، فَجَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ كَالْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ.

مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْأَرُزِّ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ بِجَامِعِ الْكَيْلِ، فَيَحْرُمُ فِي الذُّرَةِ قِيَاسًا عَلَى الْأَرُزِّ، لَكِنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى الْعَبَثِ الْمَذْكُورِ، وَيُنَافِي قَوْلَنَا بَعْدُ: إِنَّ الْأَصْلَ لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ هُنَاكَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: «إِذْ مَا لَيْسَ مَنْصُوصًا وَلَا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّتِهِ» . هَذَا تَوْجِيهٌ لِاشْتِرَاطِ كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ ثَابِتًا بِنَصٍّ أَوِ اتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ بِكَوْنِهِ أَصْلًا مَقِيسًا عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا مَقِيسًا عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا اخْتُصَّ بِكَوْنِهِ أَصْلًا لِثُبُوتِهِ فِي نَفْسِهِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْخَاصَّةُ ; لَمْ يَكُنْ بِالْأَصَالَةِ أَوْلَى مِنَ الْفَرْعِ.

قَوْلُهُ: «وَلَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِقِيَاسِهِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَإِنْ شِئْتَ، قُلْتَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ.

مِثَالُهُ: أَنْ يَقِيسَ الذُّرَةَ عَلَى الْأَرُزِّ الْمَقِيسِ عَلَى الْبُرِّ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْآخَرِ الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبَرُّ هَاهُنَا وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ - وَهُوَ الذُّرَةُ - جَامِعٌ، فَقِيَاسُ مَحَلِّ النِّزَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الْآخَرِ الْبَعِيدِ وَهُوَ الْبُرُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَوْسِيطَ الْأَوَّلِ الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَهُوَ الْأَرُزُّ

ص: 293

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

«تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ» ، إِذْ عِوَضُ مَا نَقُولُ: يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي الذُّرَةِ قِيَاسًا عَلَى الْأَرُزِّ، وَفِي الْأَرُزِّ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ، فَلْنَقُلْ: يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي الذُّرَةِ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ، إِذْ تَوْسِيطُ الْأَرُزِّ فِي الْبَيْنِ عَبَثٌ، «وَإِلَّا» ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَصْلِ الْآخَرِ الثَّانِي، وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ جَامِعٌ، «لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ» ، كَمَا لَوْ قَاسَ الذُّرَةَ عَلَى الْأَرُزِّ، وَالْأَرُزَّ عَلَى الْحَدِيدِ، «لِانْتِفَاءِ الْجَامِعِ بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ» وَهُوَ الذُّرَةُ، «وَأَصْلٍ أَصَّلَهُ» وَهُوَ الْحَدِيدُ، الَّذِي جَعَلَهُ أَصْلًا لِلْأَرُزِّ، الَّذِي هُوَ أَصْلُ الذُّرَةِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْوُضُوءِ: عِبَادَةٌ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ، فَلَوْ مَنَعَ الْحُكْمَ فِي التَّيَمُّمِ، فَأَثْبَتَ الْحُكْمَ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ بِكَوْنِهِمَا عِبَادَةً، قُلْنَا: فَقِسِ الْوُضُوءَ عَلَى الصَّلَاةِ بِجَامِعِ الْعِبَادَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَوْسِيطِ التَّيَمُّمِ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنِهِمَا بِكَوْنِ التَّيَمُّمِ طَهَارَةً، لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ طَهَارَةً، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مُنْتَفٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا بِيَسِيرٍ أَنَّ الْأَصْلَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ، وَهَاهُنَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِأَصْحَابِنَا، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ هُوَ الْمَشْهُورُ لِإِفْضَاءِ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ إِلَى الْعَبَثِ الْمَذْكُورِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ لِلْقَوْلِ بِالْجَوَازِ فَائِدَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ ثَابِتًا بِقِيَاسٍ شَبَهِيٍّ، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ يَلْحَقُ بِهِ بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ بِحَيْثُ يَكُونُ مَحَلُّ النِّزَاعِ بِأَصْلِهِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْأَصْلِ

ص: 294

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْبَعِيدِ، كَمَا لَوْ جَعَلْنَا عِلَّةَ الْفِضَّةِ الْوَزْنَ وَالثَّمَنِيَّةَ جَمِيعًا، وَقِسْنَا عَلَيْهِ الْحَدِيدَ قِيَاسًا شَبَهِيًّا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوَزْنِ، ثُمَّ قِسْنَا الصُّفْرَ أَوِ الرَّصَاصَ وَنَحْوَهُ عَلَى الْحَدِيدِ، لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا لَا جَدْوَى لَهُ، إِذِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَصْلِهِ وَهُمَا الصُّفْرُ وَالْحَدِيدُ مُسْتَنِدٌ إِلَى قِيَاسٍ ضَعِيفٍ شَبَهِيٍّ، وَهُوَ قِيَاسُ الْحَدِيدِ عَلَى الْفِضَّةِ، فَلْنَسْتَرِحْ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ، وَلْنَجْزِمْ بِبُطْلَانٍ كَوْنِ الْأَصْلِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ.

قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ» ، أَيْ: عَلَى الْأَصْلِ «بَيْنَ الْأُمَّةِ» ، وَلَا يَكْفِي الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ، «وَإِلَّا لَعَلَّلَ الْخَصْمُ» ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، جَازَ أَنْ يُعَلِّلَ الْخَصْمُ الْمُعْتَرِضُ الْأَصْلَ «بِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ، فَإِنْ سَاعَدَهُ الْمُسْتَدِلُّ» عَلَى ذَلِكَ، انْقَطَعَ الْقِيَاسُ، «فَلَا قِيَاسَ» لِعَدَمِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِذَلِكَ، بَلْ عَلَّلَ بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْفَرْعِ، مَنَعَهُ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةَ الْأَصْلِ، وَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هَذِهِ الْعِلَّةُ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، بَلْ هَذِهِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى إِلَيْهِ، فَيَنْقَطِعُ الْقِيَاسُ أَيْضًا، «وَيُسَمَّى الْقِيَاسَ الْمُرَكَّبَ» لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ.

مِثَالُهُ: أَنْ يُقَاسَ الْعَبْدُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِهِ قِصَاصًا،

ص: 295

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَيُقَالُ: الْعَبْدُ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ كَالْمُكَاتَبِ، «فَيَقُولُ الْخَصْمُ» الْمُعْتَرِضُ:«الْعَبْدُ يُعْلَمُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ» وَهُوَ السَّيِّدُ «بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ» ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِلَّةَ امْتِنَاعِ الْقِصَاصِ فِي الْمُكَاتَبِ كَوْنُهُ مَنْقُوصًا بِالرِّقِّ، بَلْ كَوْنُهُ لَا يُعْلَمُ مَنْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِدَمِهِ هَلْ وَارِثُهُ أَوْ سَيِّدُهُ الَّذِي كَاتَبَهُ؟ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ صَارَ فِيهِ شَيْئًا بَيْنَ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَحْكَامِهِ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُؤَدِّيَ يُعْتَقُ، وَيَكُونُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ وَارِثَهُ كَسَائِرِ الْأَحْرَارِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ يَعُودُ رَقِيقًا، وَيَكُونُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ سَيِّدَهُ كَسَائِرِ الْعَبِيدِ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمُكَاتَبِ هِيَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِمُسْتَحِقِّ دَمِهِ كَمَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ، امْتَنَعَ قِيَاسُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ دَمِهِ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ أَنَّ الْعِلَّةَ ذَلِكَ بَلْ هِيَ نَقْصُ الرِّقِّ، مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْمُكَاتَبِ، بَلْ هِيَ مَا ذَكَرَهُ، أَوْ مَنَعَ الْحُكْمَ فِيهِ، فَيَقُولُ: سَلَّمْتُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمُكَاتَبِ نَقْصُ الرِّقِّ، لَكِنْ لَا أُسَلِّمُ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ، فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ مَنْعِ الْعِلَّةِ فِي الْمُكَاتَبِ أَوْ مَنْعِ الْحُكْمِ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ قِيلَ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ: إِنْسَانٌ بَدَّلَ دِينَهُ، فَيُقْتَلُ كَالْمُرْتَدِّ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ تَبْدِيلُ الدِّينِ، وَإِنَّمَا هِيَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِتَنْقِيصِ عَدَدِهِمْ، وَإِعَانَةِ عَدُوِّهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا لَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْمَرْأَةِ، إِذْ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْإِعَانَةِ وَالنِّكَايَةِ، فَلَا

ص: 296

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا بِالْمُرْتَدِّ، فَإِنَّ سَلَّمْتَ هَذِهِ الْعِلَّةَ، انْقَطَعَ الْإِلْحَاقُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمْهَا، فَمَا تُقْبَلُ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ أَوِ الْحُكْمِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا يَسُوغُ لِلْخَصْمِ الْخُرُوجُ عَنْهَا وَالتَّعْلِيلُ بِغَيْرِهَا.

قُلْتُ: وَحَاصِلُ الْمَنْعِ الْمَذْكُورِ يَرْجِعُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِمَعْرِفَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَعَدَمِهِ، وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ بِوُجُودِ النِّكَايَةِ وَعَدَمِهَا.

قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَرُدَّ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْحُكْمِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمَحْذُورَ اللَّازِمَ مِنْ عَدَمِهِ لَا يَلْزَمُ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَصْلِ مَحْذُورٌ ; لَمْ يَكُنْ إِلَى اشْتِرَاطِهِ ضَرُورَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ تَعْلِيلُ الْخَصْمِ بِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ إِلَى آخِرِ مَا قَرَّرْتُمُوهُ لَا يَلْزَمُ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ «مُقَلِّدٌ لِإِمَامِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لَهُ» أَيْ: لِإِمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَأْخَذُ إِمَامِهِ فِي الْحُكْمِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَذْهَبَهُ عَلَى الْجَهَالَةِ، «وَلَوْ عَرَفَ» مَأْخَذَ إِمَامِهِ، لَكِنْ «لَا يَلْزَمُ مِنْ عَجْزِهِ عَنْ تَقْرِيرِ» مَذْهَبِ إِمَامِهِ «فَسَادُهُ» ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ لِقُصُورِهِ عَنْ تَقْرِيرِهِ، و «إِمَامُهُ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَقَدِ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ» ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، لَا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي الْأَصْلِ.

ص: 297

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمِثَالُهُ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ؛ لِكَوْنِ الْعِلَّةِ فِي الْمُرْتَدَّةِ لَيْسَتْ بِتَبْدِيلِ الدِّينِ، بَلْ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وُجِدَ فِيهَا نَصٌّ خَاصٌّ عِنْدَهُ مَنَعَ مِنْ قَتْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام: نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَالْعِلَّةُ فِي قَوْلِهِ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فَلَيْسَ لِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَقُولَ لِلْحَنْبَلِيِّ أَوِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ سَلَّمْتَ أَنَّ عِلَّةَ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ إِعَانَةُ الْعَدُوِّ وَإِلَّا مَنَعْتَ قَتْلَهُ، مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ مَذْهَبٌ لِإِمَامِهِ.

وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْعَهُ عَلَى مَذْهَبِ إِمَامِهِ، فَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، أَيْ: أَنَّهُ مَنَعَ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لِإِمَامِهِ، أَمَّا لَوْ مَنَعَ عَلَى مَذْهَبِ إِمَامِهِ مَنْعًا صَحِيحًا، مِثْلُ أَنْ قِيلَ لَهُ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ، فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَجِلْدِ الْكَلْبِ، فَمَنَعَ حُكْمَ الْأَصْلِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ إِمَامِهِ، وَإِنْ مَنَعَ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ إِمَامِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَصَدَّى لِتَقْرِيرِهِ، فَكَيْفَ يَعْدِلُ عَنْهُ، بَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ مُنْقَطِعًا؛ لِأَنَّهُ مُنْتَقِلٌ، ثُمَّ لَوْ سَاغَ ذَلِكَ، لَمَا تَمَكَّنَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِفْحَامِ خَصْمِهِ غَالِبًا؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَلْزَمَهُ حُكْمًا، مَنَعَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَوْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَ فِيهِ، فَكَانَ يَنْعَكِسُ مَقْصُودُ الْمُنَاظَرَةِ؛ إِذْ هِيَ طَرِيقٌ وُضِعَتْ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ بِاخْتِصَارٍ، وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ التَّطْوِيلَ وَالشَّغَبَ وَتَضْيِيعَ الْحَقِّ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ «يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ» ، وَيَمْنَعُ التَّوَصُّلَ إِلَى إِظْهَارِهَا «لِنُدْرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ» مِنْ ذَلِكَ.

ص: 298

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَهَاهُنَا وَجْهٌ آخَرُ فِي نَفْيِ الْمَحْذُورِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا نَازَعَ فِي الْعِلَّةِ، أَمْكَنَ الْمُسْتَدِلَّ أَنْ يُقَرِّرَهَا بِطَرِيقِهَا، وَيُثْبِتَ عِلَّتَهُ الْمُتَعَدِّيَةَ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يُحَقِّقَهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، وَبَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ إِذَا خَالَفَ فِيهِ الْخَصْمُ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجُوزُ.

ص: 299

وَقِيلَ: لَا يُقَاسُ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بِحَالٍ؛ لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّسَلْسُلِ بِالِانْتِقَالِ، وَرُدَّ: بِأَنَّهُ رُكْنٌ فَجَازَ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ كَبَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ.

وَأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ دَلِيلُ الْأَصْلِ الْفَرْعَ وَإِلَّا لَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْقِيَاسِ.

وَأَنْ يَكُونَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، إِذْ لَا تَعْدِيَةَ بِدُونِ الْمَعْقُولِيَّةِ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَا يُقَاسُ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بِحَالٍ، لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّسَلْسُلِ بِالِانْتِقَالِ» ، يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا قَاسَ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، مَنَعَهُ الْخَصْمُ، فَإِنْ أَثْبَتَهُ الْمُسْتَدِلُّ بِقِيَاسٍ آخَرَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِيهِ أَيْضًا، فَيَمْنَعُهُ الْخَصْمُ، وَيُفْضِي إِلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَسْأَلَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَيَنْتَشِرُ الْكَلَامُ، وَيَتَسَلْسَلُ، وَإِنْ أَثْبَتَ الْأَصْلَ بِدَلِيلٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَالْمُرْسَلِ وَالْمَفْهُومِ وَنَحْوِهِ فَيُفْضِي إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» ، أَيْ: وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَصْلَ «رُكْنٌ» مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، «فَجَازَ إِثْبَاتُهُ» عِنْدَ النِّزَاعِ فِيهِ «بِالدَّلِيلِ كَبَقِيَّةِ» أَرْكَانِهِ مِنْ عِلَّةٍ وَحُكْمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَالِانْتِقَالُ مِنْ مَسْأَلَةٍ إِلَى مَسْأَلَةٍ إِذَا عَادَ بِثُبُوتِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، لَمْ يُمْنَعْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُهُ، وَهُمَا سَاعِيَانِ فِيهِ بِتَقْرِيرِ مُقَدِّمَاتِهِ، فَهُمَا بِمَثَابَةِ مَنْ يَضْرِبُ اللَّبِنَ، وَيَعْمَلُ الطِّينَ لِيَبْنِيَ جِدَارًا، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ هَذَا الْقَاصِرُونَ الَّذِينَ قَلَّتْ مَوَادُّهُمْ، فَيَرْتَبِطُونَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْهُ، وَيُسَمُّونَهُ انْتِشَارًا فِي الْكَلَامِ وَتَفْرِيقًا لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ شُرُوطِ الْأَصْلِ.

ص: 300

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلُ الْأَصْلِ مُتَنَاوِلًا لِلْفَرْعِ، إِذْ لَوْ تَنَاوَلَ دَلِيلُ الْأَصْلِ الْفَرْعَ، لَكَانَ ثَابِتًا بِالنَّصِّ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْقِيَاسِ.

مِثَالُهُ: لَوْ قَاسَ السَّفَرْجَلَ عَلَى الْبُرِّ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا بِجَامِعِ الطُّعْمِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْبُرِّ الطُّعْمُ بِقَوْلِهِ عليه السلام: لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ يَتَنَاوَلُ السَّفَرْجَلَ، فَقِيَاسُهُ عَلَى الْبُرِّ تَطْوِيلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَاسَ الذِّمِّيَّ عَلَى الْمُعَاهَدِ فِي عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ عليه السلام: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ يَتَنَاوَلُ الصُّورَتَيْنِ، فَهُوَ قِيَاسُ مَنْصُوصٍ عَلَى مَنْصُوصٍ، فَلَا يَصِحُّ كَقِيَاسِ الْبُرِّ عَلَى الشَّعِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ عَلَى الدَّنَانِيرِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: «أَنْ يَكُونَ» الْأَصْلُ «مَعْقُولَ الْمَعْنَى، إِذْ لَا تَعْدِيَةَ بِدُونِ الْمَعْقُولِيَّةِ» ، أَيْ: مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا لَا يُعْقَلُ، لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الصُّبْحُ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَرْبَعًا كَالْعَصْرِ، أَوْ ثَلَاثًا كَالْمَغْرِبِ، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الظُّهْرِ أَوِ الْمَغْرِبِ صَلَاةً لَيْسَ هُوَ الْمُقْتَضِي لِكَوْنِهَا أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا، بَلْ هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ لَا نَعْقِلُهُ. هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» مِنْ شُرُوطِ الْأَصْلِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِي «الْمُنْتَهَى» أَنَّ شُرُوطَ حُكْمِ الْأَصْلِ تِسْعَةٌ:

ص: 301

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْعِيًّا، لَكَانَ الْحُكْمُ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْفَرْعِ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، فَلَا يَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ حَاصِلًا. قَالَ النِّيلِيُّ فِي «شَرْحُ جَدَلِ الشَّرِيفِ» : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْأَصْلِ شَرْعِيًّا بِأَنْ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا، لَمَا أَفَادَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَلَا عَقْلِيًّا، وَلَا لُغَوِيًّا؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ الْحَقَائِقُ الْعَقْلِيَّةُ.

مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ: شَرَابٌ مُشْتَدٌّ، فَأَوْجَبَ الْحَدَّ كَمَا أَوْجَبَ الْإِسْكَارَ، أَوْ كَمَا وَجَبَ تَسْمِيَتُهُ خَمْرًا، فَإِنَّ إِيجَابَهُ الْإِسْكَارَ أَمْرٌ مَعْقُولٌ، وَتَسْمِيَتُهُ خَمْرًا أَمْرٌ لُغَوِيٌّ، وَإِيجَابُ الْحَدِّ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِيمَا إِذَا قَاسَ النَّفْيَ عَلَى النَّفْيِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا فِي الْأَصْلِ، كَانَ الْحُكْمُ نَفْيًا أَصْلِيًّا، وَالنَّفْيُ الْأَصْلِيُّ لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ النَّفْيُ الطَّارِئُ الَّذِي هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.

قُلْتُ: مَعْنَى كَوْنِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْعِ، بَلْ هُوَ قَبْلُهُ، فَلَا يَكُونُ مِنْهُ، كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْإِبَاحَةِ: لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا لِثُبُوتِهَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا حَيْثُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ شَرْعِيًّا، إِذْ غَيْرُ الشَّرْعِيِّ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ نَتِيجَةُ الدَّلِيلِ، وَالنَّتِيجَةُ مِنْ جِنْسِ الْمُنْتَجِ، فَلَوْ قَالَ: الْعَالَمُ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ، فَالْخَمْرُ حَرَامٌ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَقْلِيَّتَانِ، وَالنَّتِيجَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.

ص: 302

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ، لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، فَلَوْ نُسِخَ، لَبَطَلَ، فَيَمْتَنِعُ بِنَاءُ حُكْمِ الْفَرْعِ عَلَيْهِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مِمَّا يَقُولُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ لِتَكُونَ الْعِلَّةُ مُعْتَبَرَةً عَلَى أَصْلِهِ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْدُولًا بِهِ سَنَنُ الْقِيَاسِ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لِتَعَذُّرِ التَّعْدِيَةِ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُجْمَلٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، وَذَكَرَ تَفْصِيلَهُ وَأَطَالَ فِيهِ.

قُلْتُ: وَذَلِكَ التَّطْوِيلُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِأَنْ يُقَالَ: مَا عُدِلَ بِهِ عَنْ سَنَنِ الْقِيَاسِ إِنْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ لِكَوْنِهِ مُنَاسِبًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، وَوُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ جَوَازُ الْقِيَاسِ، فَلَا مَانِعَ مِنْهُ.

الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى تَعْلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَعَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الْأَوَّلَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالثَّانِيَ عَنْ قَوْمٍ.

قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ الدَّلِيلُ الْعَامُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا فِي كُلِّ أَصْلٍ بِخُصُوصِهِ.

الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَالْكَرْخِيِّ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ.

قُلْتُ: هَذَا الشَّرْطُ ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ إِثْبَاتِ

ص: 303

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْأَصْلِ بِالْقِيَاسِ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَأَنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ.

وَبَقِيَ مِمَّا ذَكَرُوهُ شَرْطَانِ آخَرَانِ:

الِاتِّفَاقُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ دَلِيلُهُ الْفَرْعَ. وَقَدْ ذُكِرَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَقَالَ - أَعْنِي الْآمِدِيَّ فِي «جَدَلِهِ» : شُرُوطُ الْأَصْلِ مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى حُكْمِهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى عِلَّتِهِ.

وَلِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ شُرُوطٌ سِتَّةٌ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا.

الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَبَّدًا فِيهِ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الْقِيَاسُ.

قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ، ثُمَّ تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ شَبَهِيٍّ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ فِي الْفَرْعِ مَظْنُونًا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ، إِذْ قَدْ نَصُّوا عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ تَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا وَتَارَةً يَكُونُ أَقْوَى، وَتَارَةً أَضْعَفَ. هَذَا إِنْ كَانَ الْقِيَاسُ شَبَهِيًّا، وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، فَنَحْنُ لَا نَقِيسُ إِلَّا إِذَا وُجِدَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ، أَثَّرَتْ مِثْلَ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَيَكُونُ مَقْطُوعًا أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُفِيدُ وُجُودَ الْمَدْلُولِ، فَدَلَالَةُ عِلَّةِ الْأَصْلِ إِذَا وُجِدَتْ فِي الْفَرْعِ، دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ إِذَا كَانَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ قَطْعِيًّا فِيهِ، فَصَارَ كَقِيَاسِ الْعِلَّةِ.

وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: إِذَا كَانَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ قَطْعِيًّا

ص: 304

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَوُجُودُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ قَطْعِيًّا، كَانَ الْقِيَاسُ قَطْعِيًّا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ.

قُلْتُ: وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ، جَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ بِالْقَطْعِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ شَرْطًا.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ، إِذِ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا وَرَدَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَثْنًى عَنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ كَتَخْصِيصِ خُزَيْمَةَ بِكَمَالِهِ بِبَيِّنَةٍ عَنْ قَاعِدَةِ الشَّهَادَةِ، أَوْ كَانَ مُبْتَدَأً بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ كَالْمُقَدَّرَاتِ مِنَ الْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَنُصُبِ الزِّكْوَاتِ، وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ مَعْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَعْقُولٍ، كَاللِّعَانِ وَالْقَسَامَةِ وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهَذَانَ الضَّرْبَانِ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ، أَوْ لِعَدَمِ النَّظِيرِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَوْ بَيْنَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَاخْتَارَ فِي «الْمُنْتَهَى» أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، لَمْ يُشْتَرَطِ الْإِجْمَاعُ، إِذْ لَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لِإِمَامِهِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا، اشْتُرِطَ الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَيْسَ مُرْتَبِطًا بِإِمَامٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ فِي الْأَصْلِ، فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ، أَوْ بِتَعَيُّنِ عِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ كَمَا سَبَقَ فِي سُؤَالِ التَّرْكِيبِ. وَهَذَا اخْتِيَارٌ حَسَنٌ جِدًّا، لَكِنَّ وُقُوعَهُ بَعِيدٌ.

ص: 305

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهِ شَرْعِيًّا.

الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَإِلَّا فَالْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْهُ تَكُونُ لَاغِيَةً.

قَالَ: وَقَدِ اشْتَرَطَ لَهُ قَوْمٌ شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ. الثَّانِي: قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهُمَا فَاسِدَانِ. وَقَرَّرَ فِيهِ نَحْوَ مَا سَبَقَ فِي «الْمُنْتَهَى» وَأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا قِيَامَ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ الْإِجْمَالِيِّ الْعَامِّ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ حَقٌّ، وَإِلَّا فَلَا.

أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الشُّرُوطُ الرَّاجِعَةُ إِلَى عِلَّةِ الْأَصْلِ فَسِتَّةٌ أَيْضًا:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا شَرْعِيًّا كَالْحُكْمِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، وَإِلَّا لَمْ يُمْكِنْ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْفَرْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَخْفَى مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي الْخَفَاءِ.

قُلْتُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَصْلِ أَظْهَرَ مِنْهَا فِي الْفَرْعِ.

وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ: الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَ حَالَتِهَا فِي الْمَحَلَّيْنِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً بِحَيْثُ يُسَاوِيهَا الْحُكْمُ أَيْنَ وُجِدَتْ، وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا مَوْضِعُهُ عِنْدَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مُتَّحِدَةً فِي الْأَصْلِ، أَيْ: لَا يَكُونُ مَعَهَا فِيهِ عِلَّةٌ

ص: 306

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أُخْرَى، وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا مَوْضِعُهُ عِنْدَ ذِكْرِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ مَضْبُوطَةً بِحَيْثُ لَا تَتَخَلَّفُ عَنْهَا حِكْمَتُهَا الَّتِي هِيَ غَايَةُ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَمَقْصُودُهُ، وَإِلَّا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، كَمَنْ ضَبَطَ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ وَهِيَ الصِّيَانَةُ عَنِ التَّفْوِيتِ بِالْجُرْحِ فَقَطْ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى مَنْ جَرَحَ مَيِّتًا مَعَ تَيَقُّنِ عَدَمِ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ.

الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً فَشَرْطُهَا أَنْ لَا تَعُودَ بِإِبْطَالِ مَا اسْتَنْبَطَتْ، كَمَا إِذَا اسْتُنْبِطَ مِنْ وُجُوبِ الشَّاةِ فِي الزَّكَاةِ دَفْعُ حَاجَاتِ الْفُقَرَاءِ، وَسَدُّ خَلَّاتِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَرْكَ النَّصِّ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ بِتَجْوِيزِ أَدَاءِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى تَرْكِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ، إِذِ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّصِّ أَقْوَى مِنَ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ.

وَقَدْ ذَكَرْتُ لَكَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ عِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةً يَتَكَرَّرُ بَعْضُهَا قَصْدًا لِإِيضَاحِ الْمَذْكُورِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ، فَإِنَّهُ مُحَصِّلٌ لِذَلِكَ، وَذَكَرْتُ شُرُوطَ الْعِلَّةِ مَعَ شُرُوطِ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُهَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِيمَا بَعْدُ؛ لِأَنِّي ذَكَرْتُ مَعْنَى كَلَامِهِ عَلَى نَحْوِ تَرْتِيبِهِ، وَسَأُحِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ هَاهُنَا عِنْدَ شُرُوطِ الْعِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 307

وَشَرْطُ حُكْمِ الْفَرْعِ مُسَاوَاتُهُ لِحُكْمِ الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الْبَيْعِ عَلَى النِّكَاحِ فِي الصِّحَّةِ ; وَالزِّنَى عَلَى الشُّرْبِ فِي التَّحْرِيمِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَعَدُّدُ الْعِلَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ، أَوِ اتِّحَادُهَا مَعَ تَفَاوُتِ الْمَعْلُولِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَقْلًا، وَخِلَافُ الْأَصْلِ شُرِعًا، وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَالْعِلَّةُ تَقْتَضِي كَمَالَهُ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى فَاقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِمَزِيدِ فَائِدَةٍ، أَوْ ثُبُوتِ مَانِعٍ، وَأَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا، أَوْ أُصُولِيًّا عِلْمِيًّا، إِذِ الْقَاطِعُ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ ; وَفِي اللُّغَوِيِّ خِلَافٌ سَبَقَ.

ــ

قَوْلُهُ: " وَشَرْطُ حُكْمِ الْفَرْعِ مُسَاوَاتُهُ لِحُكْمِ الْأَصْلِ " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا ذِكْرُ مَا يُشْتَرَطُ لِلرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ الْفَرْعُ، وَذَلِكَ شَرْطَانِ فِي " الْمُخْتَصَرِ ":

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ، " كَقِيَاسِ الْبَيْعِ عَلَى النِّكَاحِ فِي الصِّحَّةِ؟ ، كَقَوْلِنَا فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدٌ عَلَى غَائِبٍ، فَصَحَّ قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ، وَكَقِيَاسِ " الزِّنَى عَلَى الشُّرْبِ فِي التَّحْرِيمِ "، وَكَقِيَاسِ الصَّوْمِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْوُجُوبِ.

قَوْلُهُ: " وَإِلَّا لَزِمَ تَعَدُّدُ الْعِلَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ "، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ، لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَعَدُّدُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، وَأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ الْعِلَّةِ فِي الْآخَرِ، إِذْ لَوْ

ص: 308

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

اتَّحَدَتْ فِيهِمَا، لَمَا اخْتَلَفَ أَثَرُهَا، وَهُوَ الْحُكْمُ، لَكِنَّ تَعَدُّدَ الْعِلَّةِ خِلَافُ الْفَرْضِ، أَيْ: خِلَافُ التَّقْدِيرِ؛ إِذِ التَّقْدِيرُ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ بِعِلَّتِهِ. وَإِمَّا اتِّحَادُ الْعِلَّةِ " مَعَ تَفَاوُتِ الْمَعْلُولِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَقَلًا، وَخِلَافُ الْأَصْلِ شُرِعًا " ; أَمَّا أَنَّهُ " مُحَالٌ عَقْلًا " ; فَلِأَنَّ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ إِذَا اتَّحَدَ مَحَلُّهَا، أَوْ تَعَدَّدَ وَاسْتَوَى فِي قَبُولِهِ لِأَثَرِهَا، لَا يُؤْثِّرُ أَثَرًا مُخْتَلِفًا، بَلْ مُتَسَاوِيًا، كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ، وَالتَّسْوِيدِ مَعَ الِاسْوِدَادِ، فَإِنَّا إِذَا فَرَضْنَا جِسْمَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ فِي قَبُولِ التَّسْوِيدِ، وَسَوَّدْنَاهُمَا تَسْوِيدًا مُتَسَاوِيًا، كَانَ اسْوِدَادُهُمَا مُتَسَاوِيًا، كَالثَّوْبَيْنِ يُصْبَغَانِ بِصِبْغٍ وَاحِدٍ.

وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ " خِلَافَ الْأَصْلِ شَرْعًا "، فَلِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ وُرُودُ الشَّرْعِ عَلَى وَفْقِ الْعَقْلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اتِّحَادَ الْعِلَّةِ مَعَ تَفَاوُتِ الْمَعْلُولِ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، فَلَوْ قَدَّرْنَا وُقُوعَهُ شَرَعًا، لَكَانَ ذَلِكَ خِلَافَ الْأَصْلِ فِي الشَّرْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَصْلَ مُوَافَقَتُهُ لِلْعَقْلِ، وَمُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي التَّعَبُّدَاتِ وَنَحْوِهَا خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ شَرْعًا، وَلَمْ نَقُلْ: إِنَّهُ مُحَالٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ وَضْعِيَّةٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْرِيفِ لِلْحُكْمِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ مُعَرِّفًا لِحُكْمَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ مُؤَثِّرةً يَسْتَحِيلُ فِيهَا ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: " وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى امْتِنَاعِ تَفَاوُتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ.

ص: 309

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُمَا لَوْ تَفَاوَتَا، لَكَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ إِمَّا دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي تَحْصِيلِ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ، أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ دُونَهُ كَمَا إِذَا قِسْنَا النَّدْبَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَعِلَّةُ الْأَصْلِ تَقْتَضِي كَمَالَ حُكْمِ الْفَرْعِ، وَلَمْ يَحْصُلْ؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ الْوُجُوبِ وَمَصْلَحَتَهُ أَكْمَلُ مِنْ حِكْمَةِ النَّدْبِ، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْ عِلَّةِ الْأَصْلِ مُقْتَضَاهَا، فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ، " وَإِنْ كَانَ أَعْلَى " مِنْهُ، كَمَا إِذَا قِسْنَا الْوُجُوبَ عَلَى النَّدْبِ، " فَاقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي " أَنَّهُ اخْتُصَّ بِمَزِيدِ فَائِدَةٍ أَوْجَبَتْ تَعْيِينَهُ وَالِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ، أَوْ بِثُبُوتِ مَانِعٍ مَنَعَ مِنْ مُجَاوَزَتِهِ اخْتُصَّ بِمَزِيدِ فَائِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَكِيمَ إِذَا عَنَّ لَهُ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا أَرْجَحُ مِنَ الْآخَرِ، لَا يَعْدِلُ عَنِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ إِلَّا لِمَانِعٍ مِنَ الرَّاجِحِ، أَوْ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ فِي الْمَرْجُوحِ. وَأَيًّا مَا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ زِيَادَةِ حُكْمِ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ مُخَالَفَةُ مَا ثَبَتَ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ لِأَنَّ اقْتِصَارَهُ عَلَى النَّدْبِ فِي الْأَصْلِ إِنْ كَانَ لِمَزِيدِ فَائِدَةٍ، فَزِيَادَةُ الْوُجُوبِ فِي الْفَرْعِ مُفَوِّتٌ لِتِلْكَ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ تَثْقِيلٌ فِي التَّكَالِيفِ، وَإِنْ كَانَ لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنْ إِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْوُجُوبِ فِي الْأَصْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَنَا مِنْ إِثْبَاتِهَا فِي الْفَرْعِ مَا مَنَعَ الشَّارِعَ مِنْ إِثْبَاتِهَا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ مُتَلَقًّى عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَاجْتِهَادُ الْقَائِسِ فِي الْفَرْعِ تَابِعٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْأَصْلِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْخِلَافُ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، كَمَا يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ: لَمَّا بَلَغَ بِرَأْسِ الْمَالِ أَقْصَى مَرَاتِبِ الْأَعْيَانِ

ص: 310

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَهُوَ الْحُلُولُ ; وَجَبَ أَنْ يَبْلُغَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ أَقْصَى مَرَاتِبَ الدُّيُونِ، وَهُوَ التَّأْجِيلُ، فَإِنَّ هَذَا قِيَاسٌ لِإِثْبَاتِ الْأَجَلِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى نَفْيِهِ فِي الثَّمَنِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ: طَهَارَةٌ، فَيَسْتَوِي مَائِعُهَا وَجَامِدُهَا فِي النِّيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ، فَإِنَّهُ قِيَاسٌ لِإِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ عَلَى نَفْيِهَا فِي طَهَارَةِ الِاسْتِنْجَاءِ. وَفِي هَذَا خِلَافٌ، وَالْأَشْبَهُ صِحَّتُهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْإِثْبَاتِ عَلَى الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَاسُوا التَّسْوِيَةَ فِي إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِي الْأُخْرَى، وَالتَّسْوِيَةُ لَيْسَتْ نَفْيًا فِي إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، وَلَا إِثْبَاتًا، بَلْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنَّفْي وَالْإِثْبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَهَارَةَ الِاسْتِنْجَاءِ لَا تُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْحَجَرِ، فَقَدَ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ النِّيَّةِ، ثُمَّ اتَّفَقْنَا فِي طِهَارَةِ الْحَدَثِ بِالْجَامِدِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُشْتَرَطَ النِّيَّةُ فِيهَا بِالْمَاءِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، تَسْوِيَةً بَيْنَ مَائِعِهَا وَجَامِدِهَا.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُفَارِقَ حُكْمُ الْفَرْعِ حُكْمَ الْأَصْلِ، لَا فِي جِنْسِهِ، وَلَا فِي زِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ، فَكَيْفَ يَخْتَلِفُ؟

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْفَرْعِ غَيْرُ حُكْمِ الْأَصْلِ ; لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْدِيَةً، بَلِ ابْتِدَاءَ حُكْمٍ.

الشَّرْطُ الثَّانِي لِحُكْمِ الْفَرْعِ بِأَنْ يَكُونَ حُكْمًا " شَرْعِيًّا " فَرْعِيًّا، " لَا عَقْلِيًّا "، وَلَا " أُصُولِيًّا عِلْمِيًّا "، أَيْ: يُطْلَبُ فِيهِ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَطْعِيٌّ، وَالْقِيَاسُ إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ، وَالْقَاطِعُ لَا يَثْبُتُ بِالظَّنِّيِّ.

قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ مَا فِي هَذَا وَأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يَكُونُ قَطْعِيًّا.

ص: 311

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قَوْلُهُ: " وَفِي اللُّغَوِيِّ خِلَافٌ سَبَقَ " أَيْ: فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ لُغَوِيًّا كَقِيَاسِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا، وَاللَّائِطِ عَلَى الزَّانِي فِي كَوْنِهِ زَانِيًا، وَالنَّبَّاشِ عَلَى السَّارِقِ فِي كَوْنِهِ سَارِقًا، فَهَذَا قِيَاسٌ لُغَوِيٌّ، وَفِيهِ " خِلَافٌ سَبَقَ " فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي أَنَّ اللُّغَةَ تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَقَدْ ذُكِرَ لِحُكْمِ الْفَرْعِ شُرُوطٌ أُخَرُ:

مِنْهَا: أَنْ لَا يُمْكِنَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ، إِذْ يَكُونُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ فَسَادِ الْوَضْعِ، كَمَا يُقَالُ فِي عَدَمِ إِجْزَاءِ عِتْقِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ، فَلَا تُجْزِئُ فِيهِ الْكَافِرَةُ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: هَذَا عَلَى خِلَافِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِإِجْزَاءِ مُطْلَقِ الرَّقَبَةِ، وَفِي النَّصِّ كِفَايَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَرِدَ النَّصُّ بِحُكْمِ الْفَرْعِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. ذَكَرَهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِمِيرَاثِ الْجَدِّ جُمْلَةً، لَمَا نَظَرَ الصَّحَابَةُ فِي تَوْرِيثِهِ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ، قَالَ غَيْرُهُ: وَكَذَلِكَ لَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِمَشْرُوعِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ، وَقَعَ النَّظَرُ فِي أَنَّ الْفَاسِقَ أَوِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَتَيْنِ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَأَفْسَدَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الشَّرْطَ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَاسُوا قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. عَلَى الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حُكْمٌ جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا، وَإِنَّمَا حُكْمُ الْأَصْلِ يَتَعَدَّى الْعِلَّةَ كَيْفَ مَا كَانَ.

ص: 312

وَشَرْطُ الْفَرْعِ وُجُودُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ ظَنًّا إِذْ هُوَ كَالْقَاطِعِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ ; وَشَرَطَ قَوْمٌ تَقَدُّمَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ؛ إِذِ الْحُكْمُ يَحْدُثُ بِحُدُوثِ الْعِلَّةِ، فَلَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ لَصَارَ الْمُتَقَدِّمُ مُتَأَخِّرًا.

وَالْحَقُّ اشْتِرَاطُهُ لِقِيَاسِ الْعِلَّةِ دُونَ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ لِجَوَازِ تَأَخُّرِ الدَّلِيلِ عَنِ الْمَدْلُولِ كَالْأَثَرِ عَنِ الْمُؤَثِّرِ ; بِخِلَافِ الْعِلَّةِ عَنِ الْمَعْلُولِ ; أَمَّا الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ عَلَامَةٌ وَمُعَرِّفٌ، وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً فَلَا عِبْرَةَ بِالْقَاصِرَةِ وَهِيَ مَا لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ كَالثَّمَنِيَّةِ فِي النَّقْدَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَشَرْطُ الْفَرْعِ وُجُودُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ ظَنًّا» إِلَى آخِرِهِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ إِلَى هَاهُنَا هُوَ فِي الْأَصْلِ وَحُكْمِهِ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا هُوَ فِي الْفَرْعِ نَفْسِهِ عَلَى تَرْتِيبِ أَصْلِ «الْمُخْتَصَرِ» ، وَشَرْطُهُ «وُجُودُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ» ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فَرْعًا لَهُ؛ لِأَنَّ تَعَدِّيَ الْحُكْمِ إِلَيْهِ فَرْعُ تَعَدِّيَ الْعِلَّةِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ أَصْلٌ فِي الْفَرْعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ، بَلْ تَكْفِي فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ كَالْقَطْعِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْقَطْعِ، فَإِنِ اتَّفَقَ لَنَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَمَا زَادَ عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا، إِذْ حَصَلَ لَنَا الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَصَارَ الظَّنُّ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَالْقَطْعِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْصُلُ

ص: 313

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَقْصُودُهُ فِي بَابِهِ.

قَوْلُهُ: «وَشَرَطَ قَوْمٌ تَقَدُّمَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ» ، إِلَى آخِرِهِ.

هَذَا شَرْطٌ آخَرُ لِلْفَرْعِ اشْتَرَطَهُ قَوْمٌ، وَفِيهِ تَحْقِيقٌ يَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ شَرْطَ الْفَرْعِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ ثَابِتًا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ يَحْدُثُ بِحُدُوثِ عِلَّةِ الْأَصْلِ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَيْهِ، فَلَوْ تَأَخَّرَ حُكْمُ الْأَصْلِ عَنِ الْفَرْعِ، لَتَأَخَّرَتِ الْعِلَّةُ عَنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِلْأَصْلِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ عَنِ الْفَرْعِ، لَصَارَ الْمُتَقَدِّمُ فِي الثُّبُوتِ مُتَأَخِّرًا وَهُوَ مُحَالٌ.

قَالَ الْآمِدِيُّ: وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، فَلَوْ تَأَخَّرَ الْبَاعِثُ عَنْ حُكْمِ الْفَرْعِ، لَكَانَ ثُبُوتُهُ قَبْلَهُ إِمَّا بِغَيْرِ بَاعِثٍ، أَوْ بِبَاعِثٍ آخَرَ، وَيَلْزَمُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَلَوْ صَحَّ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، لَكِنْ إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ بَعْضُ الْعِلَلِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ.

قَوْلُهُ: «وَالْحَقُّ اشْتِرَاطُهُ لِقِيَاسِ الْعِلَّةِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ فِي قِيَاسِ الْعِلَّةِ «دُونَ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ» ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَنْ الْعِلَّةَ لَا يَجُوزُ تَأَخُّرُهَا عَنِ الْمَعْلُولِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ وُجُودُهُ بِغَيْرِ عِلَّةٍ أَوْ بِعِلَّةٍ غَيْرِ الْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَالدَّلِيلُ يَجُوزُ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْمَدْلُولِ، كَالْعَالَمِ دَلِيلٌ عَلَى الصَّانِعِ الْقَدِيمِ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَكُلُّ أَثَرٍ كَالدُّخَانِ وَنَحْوِهِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مُؤَثِّرِهِ كَالنَّارِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مِنْ

ص: 314