الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَاتِمَةٌ:
الْإِجْمَاعُ إِمَّا نُطْقِيٌّ مِنَ الْكُلِّ، أَوْ سُكُوتِيٌّ، وَكِلَاهُمَا تَوَاتُرٌ، أَوْ آحَادٌ، وَالْكُلُّ حُجَّةٌ، وَمَرَاتِبُهَا مُتَفَاوِتَةٌ.
فَأَقْوَاهَا: النُّطْقِيُّ تَوَاتُرًا، ثُمَّ آحَادًا، ثُمَّ السُّكُوتِيُّ كَذَلِكَ فِيهِمَا.
وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، فَلَا يُثْبِتُ قَاطِعًا.
لَنَا: نَقْلُ الْخَبَرِ الظَّنِّيِّ مُوجِبٌ للْعَمَلِ، فَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الظَّنَّ مُتَّبَعٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ بِالْجُمْلَةِ ظَنِّيٌّ، إِذْ هُوَ ظَوَاهِرُ النَّصِّ.
ــ
«خَاتِمَةٌ» يَعْنِي لِكِتَابِ الْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ: «الْإِجْمَاعُ إِمَّا نُطْقِيٌّ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا ذِكْرٌ لِ
أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ
.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ «الْإِجْمَاعَ إِمَّا نُطْقِيٌّ، أَوْ سُكُوتِيٌّ» وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: إِمَّا «تَوَاتُرٌ أَوْ آحَادٌ» .
فَالنُّطْقِيُّ: مَا كَانَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ جَمِيعِهِمْ عَلَيْهِ نُطْقًا، بِمَعْنَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَطَقَ بِصَرِيحِ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعَةِ، نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:«إِمَّا نُطْقِيٌّ مِنَ الْكُلِّ» .
وَالسُّكُوتِيُّ: مَا نَطَقَ بِهِ الْبَعْضُ، وَسَكَتَ الْبَعْضُ. وَقَدْ سَبَقَ مَعَ تَفْصِيلٍ فِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ إِمَّا أَنْ يُنْقَلَ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا، أَيْ: يُنْقَلُ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْآحَادِ أَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ نَطَقُوا بِصَرِيحِ الْحُكْمِ، أَوْ يُنْقَلَ بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الْآحَادِ أَنَّ بَعْضَ الْمُجْتَهِدِينَ أَفْتَى، وَبَعْضُهُمْ سَكَتَ. هَذِهِ الْقِسْمَةُ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الِاخْتِيَارُ.
أَمَّا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: الْإِجْمَاعُ إِمَّا مَقْطُوعٌ أَوْ مَظْنُونٌ، فَالْمَقْطُوعُ مَا وُجِدَ فِيهِ جَمِيعُ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ مَعَ وُجُودِهَا، وَنُقِلَ تَوَاتُرًا، وَالْمَظْنُونُ مَا اخْتَلَّ فِيهِ أَحَدُ الْقَيْدَيْنِ، بِأَنْ يُوجَدَ عَلَى وَجْهٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مُتَوَاتِرًا، وَمُتَّفَقًا عَلَيْهِ آحَادًا.
مِثَالُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ: أَنْ يَتَّفِقَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، أَوْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَعْضِ، أَوْ يُوجَدَ الِاتِّفَاقُ فِي بَعْضِ الْعَصْرِ، وَلَمْ يَنْقَرِضْ حَتَّى خُولِفَ، أَوْ يُجْمِعَ الصَّحَابَةُ بِدُونِ التَّابِعِيِّ الْمُعَاصِرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ إِجْمَاعٍ غَيْرُ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعَ الظَّاهِرِيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
وَمِثَالُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ آحَادًا: أَنْ يُنْقَلَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِشُرُوطِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْآحَادِ.
قَوْلُهُ: «وَالْكُلُّ حُجَّةٌ» أَيْ: أَقْسَامُ الْإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا حُجَّةٌ، لِتَنَاوُلِ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ، وَأَدِلَّتِهِ الْخَاصَّةِ لَهَا.
قَوْلُهُ: «وَمَرَاتِبُهَا» أَيْ: مَرَاتِبُ أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ «مُتَفَاوِتَةٌ» فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَأَقْوَاهَا النُّطْقِيُّ الْمُتَوَاتِرُ، ثُمَّ النُّطْقِيُّ الْمَنْقُولُ آحَادًا، لِضَعْفِ الْآحَادِ عَنِ التَّوَاتُرِ، ثُمَّ السُّكُوتِيُّ الْمُتَوَاتِرُ، ثُمَّ السُّكُوتِيُّ الْمَنْقُولُ آحَادًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «ثُمَّ السُّكُوتِيُّ كَذَلِكَ فِيهِمَا» أَيْ: فِي تَقْدِيمِ تَوَاتُرِهِ عَلَى آحَادِهِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ السُّكُوتِيَّ عَنِ النُّطْقِيِّ لِقُوَّتِهِ، وَضِعْفِ السُّكُوتِيِّ عَنْهُ ضَعْفَ الْآحَادِ عَنِ التَّوَاتُرِ. فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ، طَرَفَانِ وَوَاسِطَتَانِ، لِأَنَّهَا إِمَّا نُطْقِيٌّ مُتَوَاتِرٌ، أَوْ سُكُوتِيٌّ آحَادٌ، هَذَانِ طَرَفَانِ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِهَتَا قُوَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ، أَوْ نُطْقِيٌّ آحَادٌ، أَوْ سُكُوتِيٌّ مُتَوَاتِرٌ، هَذَانِ وَاسِطَتَانِ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جِهَةُ قُوَّةٍ وَجِهَةُ ضَعْفٍ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ أَرَدْنَا التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْوَاسِطَتَيْنِ، فَالنُّطْقِيُّ الْآحَادُ أَوْلَى بِالرُّجْحَانِ، لِأَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ الْقَادِحَةَ فِي السُّكُوتِيِّ أَكْثَرُ وَأَقْوَى مِنْهَا فِي الْآحَادِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ» .
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: فَأَجَازَهُ الْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْإِجْمَاعُ الْمَرْوِيُّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ حُجَّةٌ، يَعْنِي عِنْدَ مَالِكٍ، خِلَافًا لِأَكْثَرِ النَّاسِ.
قُلْتُ: احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّهُ - يَعْنِي خَبَرَ الْوَاحِدِ - «ظَنِّيٌّ» أَيْ: إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ: «فَلَا يُثْبِتُ قَاطِعًا» وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، وَخَبَرَ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ، فَلَا يَثْبُتُ الْقَاطِعُ بِالظَّنِّيِّ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يَكُونُ مُسْتَنَدًا لِلْقَوِيِّ.
قَوْلُهُ: «لَنَا:» أَيْ: عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمَرْوِيَّ آحَادًا حُجَّةٌ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «نَقْلَ الْخَبَرِ الظَّنِّيِّ» آحَادًا يُوجِبُ الْعَمَلَ «فَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ» آحَادًا «أَوْلَى» أَنْ يُوجِبَ الْعَمَلَ، لِأَنَّ الظَّنَّ وَاقِعٌ فِي ذَاتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَطَرِيقِهِ، وَالْإِجْمَاعُ إِنَّمَا وَقَعَ الظَّنُّ فِي طَرِيقِهِ لَا فِي ذَاتِهِ، وَإِذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، كَانَ بِالثَّانِي أَوْجَبَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الظَّنَّ مُتَّبَعٌ فِي الشَّرْعِ» وَهُوَ مَنَاطُ الْعَمَلِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «وَهُوَ - يَعْنِي الظَّنَّ - حَاصِلٌ بِمَا ذَكَرْنَا» يَعْنِي الْإِجْمَاعَ الْمَنْقُولَ آحَادًا.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ بِالْجُمْلَةِ ظَنِّيٌّ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: «لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، فَلَا يُثْبِتُ قَاطِعًا» .
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ بِالْجُمْلَةِ ظَنِّيٌّ، لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ ضَعِيفَةُ الدِّلَالَةِ، أَوِ السَّنَدِ، أَوْ هُمَا، فَلَئِنْ ضَعُفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِلْقَاطِعِ، فَلْتَضْعُفْ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَنَدًا لِلْقَاطِعِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْطِيلُ الْإِجْمَاعِ مِنْ أَصْلِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَلِيلٌ قَاطِعٌ فِي حَقِّ مَنْ شَافَهَهُ بِهِ، كَمَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي نَفْسِهِ قَاطِعٌ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نُقِلَ آحَادًا، كَانَ حُجَّةً ; كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِذَا نُقِلَ آحَادًا، كَانَ حُجَّةً، وَلَا فَرْقَ.
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ: أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا ; بِخِلَافِ وَقَائِعِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَحَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِجْمَاعُهُمْ إِلَّا آحَادًا، دَلَّ عَلَى وَهَاءِ ذَلِكَ النَّقْلِ ; وَأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَالصَّحِيحُ قَبُولُهُ بِرِوَايَةِ الْآحَادِ، وَهُوَ يَنْقُضُ الِاسْتِدْلَالَ الْمَذْكُورَ.
وَلِلْخَصْمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا ; بِأَنَّ تَوَفُّرَ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ أَشَدُّ مِنْهُ عَلَى نَقْلِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مِنَ الْأَخْبَارِ قَطْعًا، فَاحْتُمِلَ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ آحَادًا مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْإِجْمَاعِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: الْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ عَلَى وُجُوبِ اشْتِرَاطِ الْقَاطِعِ فِي الْأُصُولِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ.
قُلْتُ: يَعْنِي: أَنَّهُ إِنِ اشْتُرِطَ الْقَاطِعُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، لَمْ يُقْبَلِ الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ آحَادًا، وَإِلَّا قُبِلَ، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ إِيرَادِ الدَّلِيلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ.
وَفِي الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ خِلَافٌ، وَفِي أَقَلِّ مَا قِيلَ كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ الثُّلُثُ بِهِ وَبِالِاسْتِصْحَابِ لَا بِهِ فَقَطْ، إِذِ الْأَقَلُّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ دُونَ نَفْيِ الزِّيَادَةِ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ» أَيْ: كُلُّ أَمْرٍ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ، لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ فَرْعُ ذَلِكَ الْأَمْرِ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِجْمَاعِ، لَكَانَ ذَلِكَ إِثْبَاتًا لِلْأَصْلِ بِالْفَرْعِ وَهُوَ دَوْرٌ.
مِثَالُهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ الرِّسَالَةِ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مَا صَدَرَ عَنْهَا مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ، فَلَا يَصِحُّ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا مَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، فَيَصِحُّ إِثْبَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ فَرْعًا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ دَوْرٌ مَحْذُورٌ، وَلَا غَيْرُهُ.
مِثَالُهُ: الْوَحْدَانِيَّةُ، وَحُدُوثُ الْعَالَمِ، لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمَا صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ، فَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ فِي إِثْبَاتِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْقَاعِدَةُ قَدْ عُهِدَتْ وَعُرِفَتْ، وَهِيَ أَنَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ، لَمْ يَثْبُتْ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ ; يَثْبُتُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، فَالتَّمْثِيلُ فِيمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ بِالرِّسَالَةِ صَحِيحٌ.
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ مِمَّا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ وُجُودُ الصَّانِعِ، وَقُدْرَتُهُ، وَعِلْمُهُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ شُرُوطٌ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ فَرْعُ النُّبُوَّةِ، وَالنُّبُوَّةُ فَرْعُ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَالْوُجُودُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْإِرَادَةُ، وَالْحَيَاةُ مِنْ شُرُوطِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَهِيَ إِذَنْ شُرُوطٌ لِأَصْلِ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ، وَشَرْطُ الْأَصْلِ شَرْطٌ لِلْفَرْعِ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهَا شُرُوطٌ، وَإِثْبَاتُ الشَّرْطِ بِمَشْرُوطِهِ دَوْرٌ، لِتَوَقُّفِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَذَكَرَ مِمَّا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ الْوَحْدَانِيَّةُ، وَحُدُوثُ الْعَالَمِ ; قَالَ: فَإِنَّ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالنَّظَرِ الْبَعِيدِ. وَذَكَرَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ كَلَامًا صَحِيحًا، وَإِنْ نَفَرَ مِنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَفْهَمُهُ أَوْ مَنْ يَفْهَمُهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ.
قَوْلُهُ: «وَفِي الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ خِلَافٌ» أَيْ: إِنْ كَانَ مَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ أَمْرًا دِينِيًّا، جَازَ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ «كَالْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ» وَمُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ، وَسِيَاسَاتِ الْعَسَاكِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَفِيهِ «خِلَافٌ» .
مَأْخَذُهُ: أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ الدَّالَّ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ ; هَلْ دَلَّ عَلَى عِصْمَتِهَا مُطْلَقًا عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ فِي خُصُوصِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ سبحانه وتعالى؟ وَالْأَظْهَرُ التَّعْمِيمُ، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُخَالَفَةُ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِنَ الْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَحْفَظُ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا شَيْئًا.
قُلْتُ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا أَحْسَبُهُ يُتَصَوَّرُ، وَإِنْ تُصُوِّرَ، فَهُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ.
أَمَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ: فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مَا كَانَتْ ثَمَرَتُهَا وَمَقْصُودُهَا مُتَعَلِّقًا بِالدِّينِ، وَرَاجِعًا إِلَيْهِ، خَاصًّا بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ وُقُوعُهُ فِي الدُّنْيَا، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَنَصْبِ الْمَوَازِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: الْحُرُوبُ وَالْآرَاءُ فِيهَا: إِنْ كَانَتْ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهِيَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ عَصَبِيَّةً، أَوْ بَغْيًا، أَوْ طَلَبًا لِلدُّنْيَا، أَوْ إِظْهَارًا لِلْفَخْرِ، وَالْخُيَلَاءِ، وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْخَصْمِ ; فَأَصْلُ تِلْكَ الْحُرُوبِ مُحَرَّمَةٌ، فَالْآرَاءُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالْمَكِيدَةُ فِيهَا أُمُورٌ مُحَرَّمَةٌ، وَالْمُحَرَّمَاتُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّمَسُّكُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، إِذِ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْجَوَازِ، فَمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْجَوَازِ، لَا يُتَصَوَّرُ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ كَالتَّمَسُّكِ عَلَى جَوَازِ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، أَوِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ بَيْعِهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مُحَالٌ شَرْعًا.
وَإِنْ وُجِدَ حَرْبٌ، وَقِتَالٌ مَشُوبٌ بِقَصْدِ الْجِهَادِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَالتَّكَثُّرِ مِنْ