الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستثنيت عليه طالبا للرّجوع عنه، فبرّأني الله من حوله وقوّته، وسلبني ما وهب من فضله ونعمته، ومنعني ما وعد من رأفته ورحمته، وخلّاني من يديه، يوم الفزع الأكبر لديه، وحنث كلّ يمين حلفها المسلمون على قديم الأيّام وحديثها، والتّناهي في تأكيدها وتشديدها، وأعروها من لباس الشّبهة، وأخلوها من دواعي المخاتلة، وهذه اليمين يميني، أوردتها على صدق من نيّتي، وصحّة من عزيمتي، واتّفاق من سرّي وعلانيتي، وسردتها سردا متتابعا من غير فصل، وتلفظت بها تلفّظا من غير قطع، والنية فيها نية فلان، على حضور منه وغيب، وبعد وقرب، وأشهد الله تعالى بما عقدته على نفسي منها، وكفى بالله شهيدا على من أشهده، وحسيبا على من اجترأ على إخفار عهده، ونقض عقده.
قلت: فإن كان من تؤخذ عليه المبايعة اثنين، أتي في المبايعة بصيغة التثنية، أو ثلاثة فأكثر، أتي بصيغة الجمع. ولم أقف على كيفية وضعهم لذلك في الكتابة، والذي يظهر أن المبايعة كانت تكتب على الصورة المتقدّمة، ثم يكتب المبايعون خطوطهم بصدورها عنهم، كما يفعل الآن في تحليف من يحلّف من الأمراء وغيرهم من أرباب الوظائف بالمملكة المصرية والممالك الشامية، أو يشهد عليهم في آخر البيعة بمعاقدتهم عليها ورضاهم بها ونحو ذلك.
المذهب الثاني (مما يكتب في بيعات الخلفاء)
أن تفتتح المبايعة بلفظ «من عبد الله ووليّه فلان أبي فلان الإمام الفلاني» إلى أهل دولته، ونحو «1» ذلك بالسّلام عليهم، ويؤتى بما سنح من الكلام، ثم يقال: أمّا بعد، فالحمد لله، ويؤتى على وصفه بشريف المناقب، واستحقاقه للخلافة، واستجماعه لشروطها، وما يجري هذا المجرى، ثم
ينخرط في سلك البيعة، ويذكر القائم بأخذها على الناس من سلطان أو وزير عظيم أو نحو ذلك، ويذكر من أمر ولاية الخليفة ما فيه استجلاب قلوب الرعية والأخذ بخواطرهم وما ينخرط في هذا السّلك.
وهذه نسخة بيعة من هذا الأسلوب، لوليّ عهد بعد موت العاهد، كتب بها لبعض خلفاء الفاطميين، ليس فيها تعرّض لذكر الوزير القائم بها، وهي:
من عبد الله ووليّه «أبي فلان فلان بن فلان» الإمام الفلانيّ، بأمر الله تعالى أمير المؤمنين، إلى من يضمّه نطاق الدولة العلوية، من أمرائها وأعيانها، وكبرائها وأوليائها، على اتّساع شعوبهم، وعساكرها على اختلاف ضروبهم، وقبائل عربها القيسيّة واليمنيّة، وكافّة من تشمله أقطارها من أجناس الرعيّة، الأمير منهم والمأمور، والمشهور منهم والمغمور، والأسود والأحمر، والأصغر والأكبر، وفّقهم الله وبارك فيهم.
سلام عليكم، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلّي على محمد خاتم النبيّين، وسيّد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما.
أما بعد، فالحمد لله مولي المنّ الجسيم، ومبدي الطّول العميم، ومانح جزيل الأجر بالصّبر العظيم، مفيد النعم المتشعبة الفنون، ومدني المهج المتعالية لتناول المنون، ومبيد الأعمار ومفنيها، وناشر الأموات ومحييها، والفاتح إذا استغلقت الأبواب، والقائل: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ
«1» الذي لا يغيّر ملكه مرور الغير، ولا يصرف سلطانه تصرّف القدر، ولا يدرك قدمه وأزليّته، ولا ينفد بقاؤه وسرمديّته، مسلم الأنام «2» للحمام، ومصمي الأنفس بسهام
الاخترام، ومورد البشر من المنيّة منهلا ما برحوا في رنقه «1» يكرعون، ولمرّه المشرق يتجرّعون، ومعزز ذلك بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ
«2» .
والحمد لله الذي نصب الأنبياء لمراشده أعلاما، وحفظ ببعثهم من الحقّ والهدى نظاما، وجعل نبوّة جدّنا محمد صلى الله عليه وسلم، لنبوّاتهم ختاما، وعضّد بوصيّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كمالا للدّين وإتماما، واستخلص من ذرّيتهما أئمة هادين إتقانا لصنعته وإحكاما، وأقام الحجّة على الأمم بأن أقام لكلّ زمان منهم إماما، وعاقب بين أنوار الإمامة فإذا انقبض نور انبسط نور، وتابع ظهور بدوره ليشرق طالع إثر غارب يغور، رحمة شاملة للعالمين، وحكمة تامّة حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ولم يخل نبيّا مع ما شرّفه [به] من تناول وحيه وتلقّيه، ولا عصم إماما مع اختصاصه بفروع منصب الإمامة وترقّيه، من لقاء المنيّة، ووداع الأمنيّة، بل أجّل لكلّ منهم أجلا مكتوبا، وفسّح له أمدا محصورا محسوبا، لا يصرفه عن وصوله فضيلة، ولا يصل إلى تجاوزه بقوّة ولا حيلة، قدرة محكمة الأسباب، وعبرة واضحة لأولي الألباب، وقضيّة أوضحها فرقانه الذي أقرّ بإعجازه الجاحدون، إذ يقول مخاطبا لنبيه: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ
«3» .
والحمد لله الذي منح أمير المؤمنين من خصائص الإمامة وأنوارها، وحاز له من ذخائرها وأودعه من أسرارها، ما خوّله فاخر تراثها، وأصار له شرف ميراثها، وجعله القائم بحقّه، والمرشد لخلقه، والماحي بهداه ليلا من الضّلال بهيما، والحاوي بخلافته مجدا لا يزال ثناؤه عظيما: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ
وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً
«1» .
يحمده أمير المؤمنين على أن أوضح بآبائه الأئمة سبل الحقائق، فأصبحوا خلفاء الخالق وأئمّة الخلائق، وخوّله ما اختصّهم به من الإمامة، ورفعه بها إلى أشمخ منازل العلا وأرفع مواطن الكرامة، ويستمدّه شكرا يوازي النّعم الّتي أثبتت [له] على سرير الخلافة وسرّها قدما، وصبرا يوازن الفجيعة الّتي قلّ لها فيض المدامع دما.
ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد الذي فضّ بجهاده جموع الإلحاد، وحصد باجتهاده من مال عن الهدى وحاد، وصدع بما أمر به حتّى عمّ التوحيد، ودانت لمعجزاته الأمم وقد دعاها وهو المفرد الوحيد، ولم يزل مبالغا في مرضاة ربّه، حريصا على إظهار دينه بيده ولسانه وقلبه، حتّى استأثر به وقبضه، وبدّله من الدنيا شرف جواره وعوّضه، وأصاره إليه أفضل نبيّ بصّر وبشّر، وأحيا دين الله وأنشر، وعلى أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إمام الأمّة، وأبي الأئمّة، وقدوة السعداء، وسيّد الشّهداء، وعاضد الدّين بذي الفقار، ومن لم يزل الحقّ إلى ذبّه شديد الافتقار، صلّى الله عليه وعلى آبائه والأئمة من ذرّيّتهما الذين أيقظوا العقول بإرشادهم من السّنة، وأفاضوا من العدل والإحسان ما ألهج بتمجيدهم الألسنة.
وإنّ الإمام الفلانيّ لدين الله أمير المؤمنين كان وليّا لله شرّفه الله واستخلصه، وأفرده بإمامة عصره وخصّصه، وفوّض إليه أمر خلافته، وأحلّه محلّا تقع مطارح الهمم دون علوّه وإنافته، فقام بحقّ الله ونهض، وعمل بأمره فيما سنّ وفرض، وقهر الأعداء بسطواته وعزائمه، وصرّف الأمور بأزمّة التدبير وخزائمه، وبالغ في الذّبّ عن أشياع الملّة، واجتهد في جهاد أعداء القبلة، ووقف على مصلحة العباد والبلاد أمله، ووفّر على ما يحظي عند الله قوله
وعمله، ولم يترك في مرضاة خالقه مشقّة إلّا احتملها، ولا رويّة إلّا صرّفها في إرشاد خلقه وأعملها، حتّى بلغ الغاية المحدودة، واستكمل الأنفاس المعدودة، وأحسن الله له الاختيار، واثر له النّقلة من هذه الدار والزّلفى «1» بسكنى دار القرار، والفوز بمصاحبة الأنبياء الأبرار، والحلول في حظائر قدسه مع آبائه الأئمّة الأطهار، فسار إليه طاهر السّريرة، جميل المذهب والصّورة، مستوجبا بسعيه أفضل رضوانه، ممهّدا بالتقوى لتدبيره أكناف جنانه.
وأمير المؤمنين [يحتسب] عند الله هذه الرّزيّة الّتي عظم بها المصاب، وعظم عند تجرّعها الصّاب، وأضرمت القلوب نارا، وأجرت الآماق دما ممارا «2» ، وأطاشت بهولها الأكباد بالحرق، وكحلت الأجفان بالأرق، وكادت لهجومها الصدور تقذف أفئدتها، والدنيا تنزع نضرتها وبهجتها، وقواعد الملّة تضعف وتهي، والخطوب الكارثة تصرّ «3» ولا تنتهي، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!! تسليما لأمره الذي لا يدفع، وإذعانا لقضائه الذي لا يصدّ ولا يمنع.
وكان الإمام الفلانيّ لدين الله أمير المؤمنين عند نقلته جعل لي عقد الخلافة، ونصّ عليّ بارتقاء منصبها المخصوص بالإنافة، وأفضى إليّ بسرّها المكنون، وأودعني غامض علمها المصون، وعهد إليّ أن أشملكم بالعدل والإحسان، والعطف والحنان، والرحمة والغفران، والمنّ الرائق الذي لا يكدّره امتنان، وأن أكون لأعلام الهدى ناشرا، وبما أرضى الله مجاهرا، ولأحزاب القبلة مظافرا مظاهرا، ولأعداء الملة مرغما قاهرا، ولمنار التوحيد رافعا، وعن حوزة الإسلام بغاية الإمكان دافعا، مع علمه بما خصصت به من كرم الشّيم،
وفطرت عليه من الخلال «1» القاضية مصالح الأمم، وأوتيته من استحقاق الإمامة واستيجابها، ومنحته من الخصائص المبرمة لأسبابها.
فتعزّوا جميع الأولياء، وكافّة الأمراء «2» ، وجميع الأجناد، والحاضر من الرّعايا والباد، عن إمامكم المنقول إلى دار الكرامة، بإمامكم الحاضر الموجود الذي أورثه الله مقامه، وادخلوا في بيعته بصدور مشروحة نقيّة، وقلوب على محض الطاعة مطويّة، ونيّات في الولاء والمشايعة مرضيّة، وبصائر لا تزال بنور الهدى والاستبصار مضيّة، وأمير المؤمنين يسأل الله أن يجعل إمامته محظوظة بالإقبال، دائمة الكمال، صافية من الأكدار، معضودة بمواتاة الأقدار، ويوالي حمده على ما منحه من الاصطفاء الذي جعله لأمور الدّين والدنيا قواما، وأقامه للبريّة سيّدا وإماما، فاعلموا هذا واعملوا به، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا.
وهذه نسخة بيعة، كتب بها عن الحافظ «3» لدين الله الفاطميّ بعد وفاة ابن عمه الآمر «4» بأحكام الله، قام بعقدها الوزير أبو الفتح يانس الحافظي، اقتصر
فيها على تحميدة واحدة، وعزّى بالخليفة الميّت، ثم انتقل إلى مقصود البيعة، وهي:
من عبد الله ووليّه عبد المجيد أبي الميمون، الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى كافّة أهل الدولة شريفهم ومشروفهم، وأميرهم ومأمورهم، وكبيرهم وصغيرهم، وأحمرهم وأسودهم، وفّقهم الله وبارك فيهم.
سلام عليكم، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلي على جدّه محمد خاتم النبيين وسيّد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فالحمد لله اللطيف بعباده وبريّته، الرؤوف في أقداره وأقضيته، المهيمن فلا يخرج شيء من إرادته ومشيئته، ذي النّعم الفائضة الغامرة، والمنن المتتابعة المتظاهرة، والآلاء المتوالية المتناصرة، القائل في محكم كتابه:
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
«1» مدبّر أرضه بخلفائه، الذين هم زينة للدنيا وبهجة، وهادي خلقه بأوليائه، لئلا يكون للنّاس على الله حجّة، فسبحان الذي هو للنعم مسبغ وبالكرم جدير، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
«2» .
يحمده أمير المؤمنين أن جعله خليفة دون أهل زمانه، وأوجب ثواب
المستجيبين له بكفالته وضمانه، وجعلهم يوم الفزع الأكبر مكنوفين بحفظه مشمولين بأمانه، وأوزعه الشّكر على ما استرعاه إيّاه من أمر هذه الأمّة، ونقله إليه من تراث آبائه الهداة الأئمّة، وكشفه بإمامته من أفجع نائبة وأفظع ملمّة.
وصلّى الله على جدّنا محمد رسوله الذي أخبر الأنبياء المرسلون بصفته ونعته، وتداولوا البشرى بما يستقبل من زمانه وبعثه، وذكروه فيما أتوا به من كلّ كتاب أوحاه الله وأنزله، واعترفوا بأنه أفضل من كلّ من نبّأه الله وأرسله، فيسّر الله سبحانه ما كان مرتقبا من ظهوره، وأذن في إشراق الأرض بما انتشر في آفاقها من نوره، وبعثه- جلّت قدرته- إلى الأمّة بأسرها قاطبة، وجعل ألسنة الأغماد مجادلة لمن خالف شرعه مخاطبة، فكان لآية الكفر ماحيا، وفي مصالح البريّة ساعيا، وإلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة داعيا، إلى أن لمعت آيات الحقّ وسطعت، وانحسمت مادّة الباطل وانقطعت، وظهر من آياته ما كبّر له المخبتون، واشتهر من معجزاته ما خصم به المتعنّتون، وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
«1» . فحينئذ نقله الله إلى ما أعدّ له من جنّاته، وخصّه بشرف الشّفاعة في يوم مجازاته، وصدقه وعده فيما بوّأه من النعيم المقيم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ*
«2» .
وعلى أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أولى الناس بالنّبيّ، وأوّل من اتّبعه من ذوي قرابة وأجنبيّ، وابن عمّه الذي اختصّه بمؤاخاته، وجعله خليفة على كافة الناس بعد وفاته، وتحمّل بأمر الله، فيما ولّاه وأولاه، وخطب الناس في حجّة الوداع فقال:«من كنت مولاه فعليّ مولاه» ، وعلى آلهما الكرام الأبرار، وعترتهما المصطفين الأخيار، وهداة المسلمين وقدوتهم، وأمراء المؤمنين وأئمّتهم، الذين حكموا فأقسطوا وما قسطوا، وسلك الحاضرون منهم
سنن أسلافهم الذين فرطوا، واقتفوا آثارهم في السّياسة فما قصّروا ولا فرّطوا، ولم يزل كلّ منهم عاملا من ذلك بما حسّن أيامه، فاعلا في أمر الدّين ما رفع مناره ونشر أعلامه، حتّى اختار الله له ما عنده فنصّ على من أقامه الاستحقاق مقامه، وسلّم عليهم أجمعين سلاما لا انقضاء لأمده، ولا انقطاع لمدده، فنيل المطالب بكرمه وملكوت كل شيء بيده.
وإنّ الحقّ إن خفي حينا فلا بدّ لهلاله من الإبدار وانبساط النّور، وإن الشمس إن تورات بالحجاب فما أوشك عودتها إلى البزوغ والظّهور، وأنّ حسن الصبر إلى يبلغ الكتاب أجله يؤمن من تدلية الشيطان بالغرور، قال الله عز وجل في كتابه الذي هدانا به: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1» .
وإنّ الله تعالى لرأفته بمن أبدعه من خلقه وأنشاه، ولسابق علمه في عمارة هذه الدار على ما أراده عز وجل وشاه، لا يخلي الأرض من نور يستضيء به الساري في الليل البهيم، ولا يدع الأمّة بلا إمام يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، فهو جلّ وعلا أعدل من أن يجعل جيد الإيمان من حلى الإمامة عاطلا، أو يترك الخلق هملا وقد قال: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا «2»
بل يقطع أعذار العباد فيما خلقهم له ووقفهم، ويهديهم بالأئمة إلى التوفّر على عمل ما ألزمهم وكلّفهم، فالأمور محروسة الترتيب محفوظة النّظام، والأرض إذا أظلمت لفقد إمام، أضاءت وأشرقت لقيام إمام. وقد علم الكافّة أنّ حجة الله في أرضه، والمجتنب من الأعمال ما لم يرضه، والمحسن إلى البريّة ببعثه على المصالح وحضّه، الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين الذي آتاه الله الحكم صبيّا، ورفعه من إرث النبوّة مكانا عليّا، واستخلفه على خلقه فكان
للفضل باسطا ولراية العدل ناشرا، وجعله لشمل المحاسن جامعا ولأئمة الخلفاء الراشدين عاشرا، لم يزل ناظرا في البعيد والقريب، عاملا في سياسة الأمّة عمل المجتهد المصيب، مستقصيا حرصه في المحافظة على إعزاز الملّة، مستنفدا جهده في الجهاد فيمن خالف أهل القبلة، باذلا من جزيل العطاء وكثيره ما لا يعرف معه أحد من خاصّته بالفقر ولا ينسب معه إلى القلّة، حتّى استوفى مدّته الموهوبة، واستوعب غايته المكتوبة، وناله من القضاء ما أخرجه من الدّنيا سعيدا، وأقدمه على الله شهيدا، وأصاره إلى ما أعدّ له من نعيم لا يريد به بديلا ولا يطلب عليه مزيدا، وكان انتقاله إلى جوار ربّه تبارك وتعالى، كانتقال أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بغيا من الكافرين واغتيالا. وقد كان يذكر ما يعلمه من حقّ أمير المؤمنين «1» تارة مجاهرا وتارة مخافتا، إلى أن صار على بسط القول في ذلك وتبيينه مثابرا متهافتا، وأفصح بما كان مستبهما مستعجما، وصرّح بما لم يزل في كشفه ممرّضا وعن إفصاحه محجما، وذلك لمّا ألفاه أشرف فرع من سنخ «2» النبوّة، ورآه أكرم في فخارة الأبوّة، وعلمه أبيه «3» الأمير أبي «4» القاسم عمّه سلام الله عليه الذي هو سليل الإمامة القليل المثل، ونجل الخلافة المخصوص من الفخر بأجزل حظّ وأوفر كفل، كان المستنصر بالله أمير المؤمنين سمّاه وليّ عهد المسلمين، وتضمّن ذلك ما خرجت به توقيعاته وتسويغاته إلى الدواوين، وثبّت في طرز الأبنية، وكتب الاتبياعات والأشرية، وعلمته الكافّة علما يقينا ظلّت فيه غير مرتابة ولا ممترية، وفي ضمن ذلك باطن لا يعقله إلا العالمون، ولا ينكره إلّا من قال فيهم: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ «5» .
وذلك أنّ أمير المؤمنين الغرض والمقصد، والبغية والمطلب، وله عهد بالتلويح
والإشارة، وإليه أوحى بالنّصّ وإن لم يفصح فيه بالعبارة، وكان والده الأمير أبو القاسم- قدّس الله روحه- بمنزلة الأشجار الّتي يتأنّى بها إلى أن يظهر زهرها، والأكمام الّتي ينتظر بها إلى أن يخرج ثمرها، والزّرجونة الّتي نقلت الماء إلى العنقود، والسّحابة الّتي حملت الغيث فعمّ نفعه أهل السّهول والنّجود، ومما يبيّن ذلك ويوضّحه، ويحقّقه ويصحّحه، وتثلج به للمؤمنين صدور وتقوى أفئدة، وتشهد البصائر أنّ النعمة به على الإسلام متتابعة متجدّدة، أنّ الأمرين إذا تشابها من كلّ الجهات، وكانت بينهما مدد متطاولات متباعدات، فالسابق منهما يمهّد للتالي، والأوّل أبدا رمز على الثاني، ولا خلاف بين كافّة المسلمين في أنّ الله تعالى أمر جدّنا محمدا صلى الله عليه وسلم بعقد ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلّى الله عليه فعقدها له يوم غدير خم، وأمير المؤمنين عليّ ابن عمّه وكان له حينئذ عمّ حاضر، وأمضى ما أمر به والإسلام يومئذ غضّ وعوده ناضر، وكذلك أنّ أمير المؤمنين، هو ابن عم الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين، وقد نصّ مع حضور عمومته عليه، وفعل ما فعل ندّه رسول الله اقتداء به وانتهاء إليه، وكان أبو عليّ «1» المنصور الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه، جعل ابنه عبد الرّحيم إلياس وليّ عهد المسلمين، وميّزه بذلك على كافّة الناس أجمعين، ونقش اسمه في السّكّة، وأمر بالدعاء له على المنابر وبمكّة، وألبسه شدّة الوقار المرصّعة بالجوهر، واستنابه عنه إمام الأعياد في الصلاة وفي رقيّ المنبر، وأقامه مقام نفسه في الاستغفار لمن يتوفّى من خواصّ أوليائه، وفي الشّفاعة لهم بمتقبّل مناجاته ومسموع دعائه، مع علمه أنه لا ينال رتبة الخلافة، ولا يبلغ درجة الإمامة، وأن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله- صلّى الله عليه- هو الذي خلق لها، وحين حمّل أعباءها أقلّها وما استثقلها، وإنما تحت ذلك معنى لطيف غامض، وسرّ عن جمهور الناس مستتر وبرقه لأولي البصائر وامض، وهو أنّ مكنون الحكمة، ومكتوم علم الأمة، يدلّان على أنّ الإمام المنصور أبا عليّ، سيفعل فيمن
يستخلفه بعده مثل فعل النبيّ، وقد علم الإمام الحاكم- عليه السلام أنّ المراد بذلك من يأتي بعده ممن أولده أو أنسله، لأنّ ولده حاضر والمقصود من لا ولد له، فجعل ولاية عبد الرحيم العهد تأسيسا لما سيكون، ونقلا للنّفوس من الانزعاج إلى أن تشملها الطّمأنينة والسّكون. فلمّا أفضى الله إلى الإمام المنصور أبي عليّ الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بالخلافة الّتي جعلها واجبا له حقّا، ووافق جدّه- عليه السلام وكان لقبه من لقبه مشتقّا، ظهر المنكتم، ووضح المستتر، وعاد التعريض تصريحا، والتمريض تصحيحا، والرّمز إبانة، والنصّ على أمير المؤمنين أمانة، فاقتدى بجدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف أمير المؤمنين مع حضور عمومته، وفعل في ذلك فعلته وجرى على قضيّته، وكشف عمّا أبهمه الإمام الحاكم بأمر الله قدّس الله لطيفته فتساوى الخاصّ والعامّ في معرفته، ثم حلّه أمير المؤمنين محلّ نفسه في الجلوس على الأسمطة «1» ، وعمل لأوليائه ورعيّته في ذلك بالقضايا المحيطة، ونصبه منصبه في الصلاة على من جرت عادته بالصلاة على مثله، وجمع في اعتماد ذلك بين إحسانه وفضله وبين امتنانه وعدله، وإذ قد تبيّن هذا الأمر الواضح الجليّ، وتساوى في علمه الشانيء والوليّ، وعلم هو ما خصّ الله به أمير المؤمنين من الإمامة، وأزاله عن العقول من ضباب متكاثف وغمامة، وشمله به من فضله ورافته، ونصبه فيه من منصب خلافته الّتي أيّدها بوليّه ووزيره، وعضّدها بصفيّه وظهيره، السيد الأجل أبي الفتح يانس الحافظيّ الذي جعله الله على اعتنائه بدولة أمير المؤمنين من أوضح الشواهد والدلائل، وصرف به عن مملكته محذور الصّروف والغوائل، وأقام منه لمناصحة الخلافة مخلصا جمع فيه أسباب