المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المذهب الثاني (مما يكتب في بيعات الخلفاء) - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ٩

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء التاسع]

- ‌[تتمة المقالة الرابعة]

- ‌[تتمة الفصل السابع]

- ‌القسم الثاني من مقاصد المكاتبات، الإخوانيّات (مما يكتب به الرئيس إلى المرؤوس والمرؤوس إلى الرئيس والنظير إلى النظير)

- ‌النوع الأوّل (التّهاني)

- ‌الضرب الأوّل (التهنئة بالولايات، وهي على تسعة أصناف)

- ‌الصنف الأوّل- التهنئة بولاية الوزارة

- ‌الصنف الثاني- التهنة بكفالة السلطنة

- ‌الصنف الثالث- التهنئة بالإمارة

- ‌الصنف الرابع- التهنئة بولاية الحجابة

- ‌الصنف الخامس- التهنئة بولاية القضاء

- ‌الصنف السادس- التهنئة بولاية الدعوة على مذهب الشّيعة

- ‌الصنف السابع- التهنئة بالتقدمة على الرجال

- ‌الصنف الثامن- التهنئة بولاية الديوان

- ‌الصنف التاسع- التهنئة بولاية عمل

- ‌الضرب الثاني (التهنئة بكرامة السلطان وأجوبتها)

- ‌الصنف الثاني- التهنئة برضى السلطان بعد غضبه

- ‌الصنف الثالث- التهنئة بالخلاص من الاعتقال

- ‌الضرب الثالث (من التهاني التهنئة بالعود من الحجّ)

- ‌الضرب الرابع (من التهاني، التهنئة بالقدوم من السّفر)

- ‌الضرب الخامس (من التهانيء التهنئة بالشهور والمواسم والأعياد)

- ‌الصنف الأوّل- التهنئة بأوّل العام وغرّة السّنة

- ‌الصنف الثاني- التهنئة بشهر رمضان

- ‌الصنف الثالث- ما يصلح تهنئة لكلّ شهر من سائر الشّهور

- ‌الصنف الرابع- التهنئة بعيد الفطر

- ‌الصنف الخامس- التهنئة بعيد الأضحى

- ‌الصنف السادس- التهنئة بعيد الغدير من أعياد الشّيعة:

- ‌الصنف السابع- التهنئة بالنّيروز

- ‌الصنف الثامن- التهنئة بالمهرجان

- ‌الضرب السادس (التهنئة بالزواج والتسرّي)

- ‌الضرب السابع (من التّهاني التهنئة بالأولاد، وهو على ثلاثة أصناف)

- ‌الصنف الأوّل- التهنئة بالبنين

- ‌الصنف الثاني- التهنئة بالبنات

- ‌الصنف الثالث- التهنئة بالتّوءم

- ‌الضرب الثامن (من التهاني التهنئة بالإبلال من المرض والعافية من السّقم)

- ‌الضرب التاسع (التهنئة بقرب المزار)

- ‌الضرب العاشر (التهنئة بنزول المنازل المستجدة)

- ‌الضرب الحادي عشر (نوادر التهاني، وهي خمسة أصناف)

- ‌الصنف الأوّل- تهنئة الذّميّ بإسلامه

- ‌الصنف الثاني- التهنئة بالختان وخروج اللّحية

- ‌الصنف الثالث- التهنئة بالمرض

- ‌الصنف الرابع- التهنئة بالصّرف عن الولاية

- ‌النوع الثاني (من مقاصد المكاتبات: التّعازي)

- ‌الضرب الأوّل (التعزية بالابن)

- ‌الضرب الثاني (التعزية بالبنت)

- ‌من كلام المتقدّمين:

- ‌الضرب الثالث (التعزية بالأب)

- ‌من كلام المتقدمين:

- ‌الضرب الرابع (التعزية بالأم)

- ‌الضرب الخامس (التعزية بالأخ)

- ‌الضرب السادس (التعزية بالزوجة)

- ‌الضرب السابع (التعازي المطلقة مما يصلح إيراده في كلّ صنف)

- ‌النوع الثالث (من مقاصد المكاتبات التّهادي والملاطفة)

- ‌الضرب الأوّل (ما يكتب مع التّقادم إلى الملوك من أهل مملكتهم إلى القائمين بإيصال التّقدمة إلى الملك وكاتب السّرّ ونحوهما)

- ‌الضرب الثاني (ما يكتب مع الهديّة عند بعثها)

- ‌الصنف الأوّل- ما يكتب مع إهداء الخيل

- ‌الضرب الثاني (من كتب التهادي الاستهداء)

- ‌الصنف الثاني- الشّراب

- ‌النوع الرابع (الشّفاعات والعنايات)

- ‌النوع الخامس (التشوّق)

- ‌النوع السادس (في الاستزارة)

- ‌النوع السابع (في اختطاب المودّة وافتتاح المكاتبة)

- ‌النوع الثامن (في خطبة النّساء)

- ‌النوع التاسع (في الاسترضاء والاستعطاف والاعتذار)

- ‌النوع العاشر (في الشكوى- أعاذنا الله تعالى منها)

- ‌النوع الحادي عشر (في استماحة الحوائج)

- ‌النوع الثاني عشر (في الشكر)

- ‌النوع الثالث عشر (العتاب)

- ‌النوع الرابع عشر (العيادة والسّؤال عن حال المريض)

- ‌النوع الخامس عشر (في الذّمّ)

- ‌النوع السادس عشر (في الأخبار)

- ‌النوع السابع عشر (المداعبة)

- ‌النوع الأوّل (ما يتعلّق بالكتابة، وهو على ضربين)

- ‌الضرب الأوّل (ما يتعلّق بالمكتوب به)

- ‌الضرب الثاني (ما يتعلق بالخطّ المكتوب)

- ‌القاعدة الأولى- كيفية التعمية

- ‌المذهب الأوّل- أن يكتب بالأقلام القديمة

- ‌المذهب الثاني- أن يصطلح الإنسان مع نفسه على قلم يبتكره وحروف يصوّرها

- ‌ القاعدة الثانية- حلّ المعمّى، وهو مقصود الباب ونتيجته

- ‌الأصل الأوّل- معرفة الأسّ الذي يترتّب عليه الحلّ

- ‌أحدها- أن يعرف مقادير الحروف الّتي تتركّب منها الكلمة

- ‌الثاني- أن يعرف الحروف الّتي لا يقارب بعضها بعضا بمعنى أنها لا تجتمع في كلمة واحدة

- ‌الثالث- أن يعرف الحروف الّتي لا تقارن بعض الحروف في الكلمات إلّا قليلا

- ‌الرابع- أن يعرف ما يجوز تقديمه على غيره من الحروف وما يمتنع

- ‌الخامس- أن يعرف ما لا يقع في أوّل الكلمات من الحروف

- ‌السادس- أن يعرف أنه لا يتكرّر حرف في أوّل كلمة إلّا من هذه العشرة الأحرف

- ‌السابع- أن يعرف أكثر الحروف دورانا في اللّغة

- ‌الأصل الثاني- كيفية التوصّل بالحدس إلى حلّ المترجم

- ‌النوع الثاني (الرّموز والإشارات الّتي لا تعلّق لها بالخطّ والكتابة)

- ‌الباب الأوّل في بيان طبقاتها وما يقع به التفاوت، وفيه ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأوّل في بيان طبقات الولايات، وهي على ثلاث طبقات

- ‌الطبقة الأولى- الخلافة

- ‌الطبقة الثانية- السّلطنة

- ‌الطبقة الثالثة- الولايات عن الخلفاء والملوك

- ‌الصّنف الثاني- ولاية أمراء العربان

- ‌الصنف الثالث- ولاية المقدّمين على الطّوائف

- ‌النوع الثاني (ولاية أرباب الأقلام، وهم صنفان)

- ‌الصّنف الأوّل (أرباب الوظائف الدينيّة، وهم على ثمانية أضرب)

- ‌الضرب الأوّل- أكابر القضاة بأقطار المملكة

- ‌الضرب الثالث- أكابر المحتسبين

- ‌الضرب الرابع- أكابر المدرّسين في عامّة العلوم بأماكن مخصوصة

- ‌الضرب الخامس- أكابر الخطباء بجوامع مخصوصة بأقطار المملكة

- ‌الضرب السادس- وكلاء بيت المال بالدّيار المصرية

- ‌الضرب السابع- المتحدّثون على الوظائف المعتبرة

- ‌الضرب الثامن- المتحدّثون على جهات البرّ العامّة المصلحة

- ‌الضرب الأوّل- دواوين المال

- ‌الضرب الثاني- دواوين الجيوش بالديار المصرية

- ‌الضرب الثالث- دواوين الإنشاء

- ‌النوع الثالث (ولايات أرباب الوظائف الصّناعيّة)

- ‌الضرب الثاني- ولاية رئيس اليهود

- ‌النوع الخامس (ما لا يختصّ بطائفة ولا يندرج تحت نوع)

- ‌الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة الخامسة (في بيان ما تجب على الكاتب مراعاته في كتابة الولايات على سبيل الإجمال)

- ‌الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة الخامسة (في بيان ما يقع به التفاوت في رتب الولايات، وذلك من سبعة أوجه)

- ‌الوجه الأوّل (الألقاب، وهي على ثلاثة أنواع)

- ‌النوع الأوّل (ألقاب الخلفاء)

- ‌الصنف الأوّل- ألقاب الخلفاء أنفسهم

- ‌الصنف الثاني- ألقاب أولياء العهد بالخلافة

- ‌النوع الثاني (ألقاب الملوك، وهي صنفان أيضا)

- ‌الصنف الأوّل- ألقاب السلطان نفسه

- ‌الصنف الثاني- ألقاب أولياء العهد بالملك

- ‌النوع الثالث (ألقاب ذوي الولايات الصادرات عن السلطان من أرباب الوظائف الواقعة في هذه المملكة)

- ‌الوجه الثاني (ألفاظ إسناد الولاية إلى صاحب الوظيفة، ولها ستّ مراتب)

- ‌الأولى- لفظ العهد

- ‌الثانية- لفظ التّقليد

- ‌الثالثة- لفظ التّفويض

- ‌الرابعة- لفظ الاستقرار والاستمرار

- ‌الخامسة- لفظ الترتيب

- ‌السادسة- لفظ التقدّم

- ‌الوجه الثالث (الافتتاحات، وهي راجعة إلى أربع مراتب)

- ‌المرتبة الأولى- الافتتاح بلفظ: هذه بيعة

- ‌المرتبة الثانية- الافتتاح بأمّا بعد حمد الله

- ‌المرتبة الثالثة- الافتتاح برسم بالأمر الشريف

- ‌المرتبة الرابعة- ما كان يستعمل من الافتتاح «بأما بعد فإنّ كذا

- ‌الوجه الرابع (تعدّد التحميد في الخطبة أو في أثناء الكلام واتحاده)

- ‌الوجه الخامس (الدعاء، وله ثلاثة مواضع)

- ‌الموضع الأوّل- في طرّة الولاية

- ‌الموضع الثاني- في أثناء الولاية

- ‌الموضع الثالث-[في] آخر الولاية بالإعانة ونحوها

- ‌الوجه السادس (طول الكلام وقصره، فكلّما عظمت الوظيفة وارتفع قدر صاحبها كان الكلام فيها أبسط)

- ‌الوجه السابع (قطع الورق)

- ‌أحدها- قطع البغداديّ الكامل

- ‌الثاني- قطع الثلثين من المنصوريّ

- ‌الثالث- قطع النّصف منه

- ‌الرابع- قطع الثّلث منه

- ‌الخامس- قطع العادة؛ وهو أصغرها

- ‌الباب الثاني من المقالة الخامسة في البيعات، وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل (في معناها)

- ‌الفصل الثاني (في ذكر تنويع البيعات، وهي نوعان)

- ‌النوع الأوّل (بيعات الخلفاء، وفيها سبعة مقاصد)

- ‌المقصد الأوّل (في أصل مشروعيتها)

- ‌المقصد الثاني (في بيان أسباب البيعة الموجبة لأخذها على الرّعيّة

- ‌السبب الأوّل- موت الخليفة المنتصب من غير عهد بالخلافة لأحد بعده

- ‌السبب الثاني- خلع الخليفة المنتصب لموجب يقتضي الخلع

- ‌السبب الثالث- أن يتوهّم الخليفة خروج ناحية من النّواحي عن الطاعة

- ‌السبب الرابع- أن تؤخذ البيعة للخليفة المعهود إليه بعد وفاة العاهد

- ‌السبب الخامس- أن يأخذ الخليفة المنتصب البيعة على الناس لوليّ عهده بالخلافة

- ‌المقصد الثالث (في بيان ما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة البيعة)

- ‌المقصد الرابع (في بيان مواضع الخلافة الّتي يستدعي الحال كتابة المبايعات فيها)

- ‌أحدها- موت الخليفة المتقدّم عن غير عهد لخليفة بعده

- ‌الثاني- أن يعهد الخليفة إلى خليفة بعده

- ‌الثالث- أن تؤخذ البيعة للخليفة بحضرة ولايته

- ‌الرابع- أن يعرض للخليفة خلل في حال خلافته

- ‌المقصد الخامس (في بيان صورة ما يكتب في بيعات الخلفاء، وفيها أربعة مذاهب)

- ‌المذهب الأوّل (أن تفتتح المبايعة بلفظ «تبايع فلانا أمير المؤمنين» خطابا لمن تؤخذ عليه البيعة)

- ‌المذهب الثاني (مما يكتب في بيعات الخلفاء)

- ‌المذهب الثالث (أن تفتتح البيعة بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله

- ‌المذهب الرابع (مما يكتب في بيعات الخلفاء أن يفتتح البيعة بلفظ: هذه بيعة

- ‌المقصد السادس (فيما يكتب في آخر البيعة)

- ‌المقصد السابع (في قطع الورق الذي تكتب فيه البيعة، والقلم الذي تكتب به، وكيفيّة كتابتها، وصورة وضعها)

- ‌النوع الثاني (من البيعات، بيعات الملوك)

- ‌الباب الثالث من المقالة الخامسة في العهود، وفيه فصلان

- ‌الفصل الأوّل (في معنى العهد)

- ‌الفصل الثاني (في بيان أنواع العهود، وهي ثلاثة أنواع)

- ‌النوع الأوّل (عهود الخلفاء عن الخلفاء، ويتعلّق النظر به من ثمانية أوجه)

- ‌الوجه الأوّل (في أصل مشروعيّتها)

- ‌الوجه الثاني (في معنى الاستخلاف)

- ‌الوجه الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته)

- ‌الوجه الرابع (فيما يكتب في الطّرّة، وهو تلخيص ما يتضمّنه العهد)

- ‌الوجه الخامس (فيما يكتب لأولياء العهد من الألقاب)

- ‌الوجه السادس (فيما يكتب في متن العهد، وفيه ثلاثة مذاهب)

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ «هذا» )

- ‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)

- ‌الطريقة الثانية (طريقة المتأخّرين من الكتّاب)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ «من فلان إلى فلان» كما يكتب في المكاتبات ثم يأتي بالبعدية

- ‌المذهب الثالث (أن يفتتح العهد بعد البسملة بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» ثم يأتي بالبعديّة

- ‌الوجه السابع (فيما يكتب في مستند عهد وليّ الخلافة عن الخليفة

- ‌الوجه الثامن (في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الخلفاء، والقلم الذي يكتب به، وكيفيّة كتابتها وصورة وضعها)

- ‌النوع الثاني (عهود الخلفاء للملوك، ويتعلّق النظر به من سبعة أوجه)

- ‌الوجه الأوّل (في أصل مشروعيّتها)

- ‌الوجه الثاني (في بيان [معنى] الملك والسّلطنة اللتين يقع العهد بهما)

- ‌القسم الأوّل- وهو أعلاها وزارة التفويض

- ‌القسم الثاني- إمارة الاستكفاء

- ‌القسم الثالث- إمارة الاستيلاء

- ‌الوجه الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته فيه)

- ‌الوجه الرابع (فيما يكتب في الطّرة، وهو نمطان)

- ‌النّمط الأوّل- ما كان يكتب في وزارة التفويض في دولة الفاطميين

- ‌النمط الثاني- ما يكتب في طرّة عهود الملوك الآن

- ‌الوجه الخامس (فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان)

- ‌ثبت بأسماء المصادر والمراجع (الجزء التاسع)

- ‌فهرس الجزء التاسع من كتاب صبح الأعشى للقلقشندي

الفصل: ‌المذهب الثاني (مما يكتب في بيعات الخلفاء)

واستثنيت عليه طالبا للرّجوع عنه، فبرّأني الله من حوله وقوّته، وسلبني ما وهب من فضله ونعمته، ومنعني ما وعد من رأفته ورحمته، وخلّاني من يديه، يوم الفزع الأكبر لديه، وحنث كلّ يمين حلفها المسلمون على قديم الأيّام وحديثها، والتّناهي في تأكيدها وتشديدها، وأعروها من لباس الشّبهة، وأخلوها من دواعي المخاتلة، وهذه اليمين يميني، أوردتها على صدق من نيّتي، وصحّة من عزيمتي، واتّفاق من سرّي وعلانيتي، وسردتها سردا متتابعا من غير فصل، وتلفظت بها تلفّظا من غير قطع، والنية فيها نية فلان، على حضور منه وغيب، وبعد وقرب، وأشهد الله تعالى بما عقدته على نفسي منها، وكفى بالله شهيدا على من أشهده، وحسيبا على من اجترأ على إخفار عهده، ونقض عقده.

قلت: فإن كان من تؤخذ عليه المبايعة اثنين، أتي في المبايعة بصيغة التثنية، أو ثلاثة فأكثر، أتي بصيغة الجمع. ولم أقف على كيفية وضعهم لذلك في الكتابة، والذي يظهر أن المبايعة كانت تكتب على الصورة المتقدّمة، ثم يكتب المبايعون خطوطهم بصدورها عنهم، كما يفعل الآن في تحليف من يحلّف من الأمراء وغيرهم من أرباب الوظائف بالمملكة المصرية والممالك الشامية، أو يشهد عليهم في آخر البيعة بمعاقدتهم عليها ورضاهم بها ونحو ذلك.

‌المذهب الثاني (مما يكتب في بيعات الخلفاء)

أن تفتتح المبايعة بلفظ «من عبد الله ووليّه فلان أبي فلان الإمام الفلاني» إلى أهل دولته، ونحو «1» ذلك بالسّلام عليهم، ويؤتى بما سنح من الكلام، ثم يقال: أمّا بعد، فالحمد لله، ويؤتى على وصفه بشريف المناقب، واستحقاقه للخلافة، واستجماعه لشروطها، وما يجري هذا المجرى، ثم

ص: 295

ينخرط في سلك البيعة، ويذكر القائم بأخذها على الناس من سلطان أو وزير عظيم أو نحو ذلك، ويذكر من أمر ولاية الخليفة ما فيه استجلاب قلوب الرعية والأخذ بخواطرهم وما ينخرط في هذا السّلك.

وهذه نسخة بيعة من هذا الأسلوب، لوليّ عهد بعد موت العاهد، كتب بها لبعض خلفاء الفاطميين، ليس فيها تعرّض لذكر الوزير القائم بها، وهي:

من عبد الله ووليّه «أبي فلان فلان بن فلان» الإمام الفلانيّ، بأمر الله تعالى أمير المؤمنين، إلى من يضمّه نطاق الدولة العلوية، من أمرائها وأعيانها، وكبرائها وأوليائها، على اتّساع شعوبهم، وعساكرها على اختلاف ضروبهم، وقبائل عربها القيسيّة واليمنيّة، وكافّة من تشمله أقطارها من أجناس الرعيّة، الأمير منهم والمأمور، والمشهور منهم والمغمور، والأسود والأحمر، والأصغر والأكبر، وفّقهم الله وبارك فيهم.

سلام عليكم، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلّي على محمد خاتم النبيّين، وسيّد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما.

أما بعد، فالحمد لله مولي المنّ الجسيم، ومبدي الطّول العميم، ومانح جزيل الأجر بالصّبر العظيم، مفيد النعم المتشعبة الفنون، ومدني المهج المتعالية لتناول المنون، ومبيد الأعمار ومفنيها، وناشر الأموات ومحييها، والفاتح إذا استغلقت الأبواب، والقائل: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ

«1» الذي لا يغيّر ملكه مرور الغير، ولا يصرف سلطانه تصرّف القدر، ولا يدرك قدمه وأزليّته، ولا ينفد بقاؤه وسرمديّته، مسلم الأنام «2» للحمام، ومصمي الأنفس بسهام

ص: 296

الاخترام، ومورد البشر من المنيّة منهلا ما برحوا في رنقه «1» يكرعون، ولمرّه المشرق يتجرّعون، ومعزز ذلك بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ

«2» .

والحمد لله الذي نصب الأنبياء لمراشده أعلاما، وحفظ ببعثهم من الحقّ والهدى نظاما، وجعل نبوّة جدّنا محمد صلى الله عليه وسلم، لنبوّاتهم ختاما، وعضّد بوصيّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كمالا للدّين وإتماما، واستخلص من ذرّيتهما أئمة هادين إتقانا لصنعته وإحكاما، وأقام الحجّة على الأمم بأن أقام لكلّ زمان منهم إماما، وعاقب بين أنوار الإمامة فإذا انقبض نور انبسط نور، وتابع ظهور بدوره ليشرق طالع إثر غارب يغور، رحمة شاملة للعالمين، وحكمة تامّة حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ولم يخل نبيّا مع ما شرّفه [به] من تناول وحيه وتلقّيه، ولا عصم إماما مع اختصاصه بفروع منصب الإمامة وترقّيه، من لقاء المنيّة، ووداع الأمنيّة، بل أجّل لكلّ منهم أجلا مكتوبا، وفسّح له أمدا محصورا محسوبا، لا يصرفه عن وصوله فضيلة، ولا يصل إلى تجاوزه بقوّة ولا حيلة، قدرة محكمة الأسباب، وعبرة واضحة لأولي الألباب، وقضيّة أوضحها فرقانه الذي أقرّ بإعجازه الجاحدون، إذ يقول مخاطبا لنبيه: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ

«3» .

والحمد لله الذي منح أمير المؤمنين من خصائص الإمامة وأنوارها، وحاز له من ذخائرها وأودعه من أسرارها، ما خوّله فاخر تراثها، وأصار له شرف ميراثها، وجعله القائم بحقّه، والمرشد لخلقه، والماحي بهداه ليلا من الضّلال بهيما، والحاوي بخلافته مجدا لا يزال ثناؤه عظيما: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ

ص: 297

وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً

«1» .

يحمده أمير المؤمنين على أن أوضح بآبائه الأئمة سبل الحقائق، فأصبحوا خلفاء الخالق وأئمّة الخلائق، وخوّله ما اختصّهم به من الإمامة، ورفعه بها إلى أشمخ منازل العلا وأرفع مواطن الكرامة، ويستمدّه شكرا يوازي النّعم الّتي أثبتت [له] على سرير الخلافة وسرّها قدما، وصبرا يوازن الفجيعة الّتي قلّ لها فيض المدامع دما.

ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد الذي فضّ بجهاده جموع الإلحاد، وحصد باجتهاده من مال عن الهدى وحاد، وصدع بما أمر به حتّى عمّ التوحيد، ودانت لمعجزاته الأمم وقد دعاها وهو المفرد الوحيد، ولم يزل مبالغا في مرضاة ربّه، حريصا على إظهار دينه بيده ولسانه وقلبه، حتّى استأثر به وقبضه، وبدّله من الدنيا شرف جواره وعوّضه، وأصاره إليه أفضل نبيّ بصّر وبشّر، وأحيا دين الله وأنشر، وعلى أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إمام الأمّة، وأبي الأئمّة، وقدوة السعداء، وسيّد الشّهداء، وعاضد الدّين بذي الفقار، ومن لم يزل الحقّ إلى ذبّه شديد الافتقار، صلّى الله عليه وعلى آبائه والأئمة من ذرّيّتهما الذين أيقظوا العقول بإرشادهم من السّنة، وأفاضوا من العدل والإحسان ما ألهج بتمجيدهم الألسنة.

وإنّ الإمام الفلانيّ لدين الله أمير المؤمنين كان وليّا لله شرّفه الله واستخلصه، وأفرده بإمامة عصره وخصّصه، وفوّض إليه أمر خلافته، وأحلّه محلّا تقع مطارح الهمم دون علوّه وإنافته، فقام بحقّ الله ونهض، وعمل بأمره فيما سنّ وفرض، وقهر الأعداء بسطواته وعزائمه، وصرّف الأمور بأزمّة التدبير وخزائمه، وبالغ في الذّبّ عن أشياع الملّة، واجتهد في جهاد أعداء القبلة، ووقف على مصلحة العباد والبلاد أمله، ووفّر على ما يحظي عند الله قوله

ص: 298

وعمله، ولم يترك في مرضاة خالقه مشقّة إلّا احتملها، ولا رويّة إلّا صرّفها في إرشاد خلقه وأعملها، حتّى بلغ الغاية المحدودة، واستكمل الأنفاس المعدودة، وأحسن الله له الاختيار، واثر له النّقلة من هذه الدار والزّلفى «1» بسكنى دار القرار، والفوز بمصاحبة الأنبياء الأبرار، والحلول في حظائر قدسه مع آبائه الأئمّة الأطهار، فسار إليه طاهر السّريرة، جميل المذهب والصّورة، مستوجبا بسعيه أفضل رضوانه، ممهّدا بالتقوى لتدبيره أكناف جنانه.

وأمير المؤمنين [يحتسب] عند الله هذه الرّزيّة الّتي عظم بها المصاب، وعظم عند تجرّعها الصّاب، وأضرمت القلوب نارا، وأجرت الآماق دما ممارا «2» ، وأطاشت بهولها الأكباد بالحرق، وكحلت الأجفان بالأرق، وكادت لهجومها الصدور تقذف أفئدتها، والدنيا تنزع نضرتها وبهجتها، وقواعد الملّة تضعف وتهي، والخطوب الكارثة تصرّ «3» ولا تنتهي، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!! تسليما لأمره الذي لا يدفع، وإذعانا لقضائه الذي لا يصدّ ولا يمنع.

وكان الإمام الفلانيّ لدين الله أمير المؤمنين عند نقلته جعل لي عقد الخلافة، ونصّ عليّ بارتقاء منصبها المخصوص بالإنافة، وأفضى إليّ بسرّها المكنون، وأودعني غامض علمها المصون، وعهد إليّ أن أشملكم بالعدل والإحسان، والعطف والحنان، والرحمة والغفران، والمنّ الرائق الذي لا يكدّره امتنان، وأن أكون لأعلام الهدى ناشرا، وبما أرضى الله مجاهرا، ولأحزاب القبلة مظافرا مظاهرا، ولأعداء الملة مرغما قاهرا، ولمنار التوحيد رافعا، وعن حوزة الإسلام بغاية الإمكان دافعا، مع علمه بما خصصت به من كرم الشّيم،

ص: 299

وفطرت عليه من الخلال «1» القاضية مصالح الأمم، وأوتيته من استحقاق الإمامة واستيجابها، ومنحته من الخصائص المبرمة لأسبابها.

فتعزّوا جميع الأولياء، وكافّة الأمراء «2» ، وجميع الأجناد، والحاضر من الرّعايا والباد، عن إمامكم المنقول إلى دار الكرامة، بإمامكم الحاضر الموجود الذي أورثه الله مقامه، وادخلوا في بيعته بصدور مشروحة نقيّة، وقلوب على محض الطاعة مطويّة، ونيّات في الولاء والمشايعة مرضيّة، وبصائر لا تزال بنور الهدى والاستبصار مضيّة، وأمير المؤمنين يسأل الله أن يجعل إمامته محظوظة بالإقبال، دائمة الكمال، صافية من الأكدار، معضودة بمواتاة الأقدار، ويوالي حمده على ما منحه من الاصطفاء الذي جعله لأمور الدّين والدنيا قواما، وأقامه للبريّة سيّدا وإماما، فاعلموا هذا واعملوا به، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكتب في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا.

وهذه نسخة بيعة، كتب بها عن الحافظ «3» لدين الله الفاطميّ بعد وفاة ابن عمه الآمر «4» بأحكام الله، قام بعقدها الوزير أبو الفتح يانس الحافظي، اقتصر

ص: 300

فيها على تحميدة واحدة، وعزّى بالخليفة الميّت، ثم انتقل إلى مقصود البيعة، وهي:

من عبد الله ووليّه عبد المجيد أبي الميمون، الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى كافّة أهل الدولة شريفهم ومشروفهم، وأميرهم ومأمورهم، وكبيرهم وصغيرهم، وأحمرهم وأسودهم، وفّقهم الله وبارك فيهم.

سلام عليكم، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلي على جدّه محمد خاتم النبيين وسيّد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما كثيرا.

أما بعد، فالحمد لله اللطيف بعباده وبريّته، الرؤوف في أقداره وأقضيته، المهيمن فلا يخرج شيء من إرادته ومشيئته، ذي النّعم الفائضة الغامرة، والمنن المتتابعة المتظاهرة، والآلاء المتوالية المتناصرة، القائل في محكم كتابه:

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ

«1» مدبّر أرضه بخلفائه، الذين هم زينة للدنيا وبهجة، وهادي خلقه بأوليائه، لئلا يكون للنّاس على الله حجّة، فسبحان الذي هو للنعم مسبغ وبالكرم جدير، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

«2» .

يحمده أمير المؤمنين أن جعله خليفة دون أهل زمانه، وأوجب ثواب

ص: 301

المستجيبين له بكفالته وضمانه، وجعلهم يوم الفزع الأكبر مكنوفين بحفظه مشمولين بأمانه، وأوزعه الشّكر على ما استرعاه إيّاه من أمر هذه الأمّة، ونقله إليه من تراث آبائه الهداة الأئمّة، وكشفه بإمامته من أفجع نائبة وأفظع ملمّة.

وصلّى الله على جدّنا محمد رسوله الذي أخبر الأنبياء المرسلون بصفته ونعته، وتداولوا البشرى بما يستقبل من زمانه وبعثه، وذكروه فيما أتوا به من كلّ كتاب أوحاه الله وأنزله، واعترفوا بأنه أفضل من كلّ من نبّأه الله وأرسله، فيسّر الله سبحانه ما كان مرتقبا من ظهوره، وأذن في إشراق الأرض بما انتشر في آفاقها من نوره، وبعثه- جلّت قدرته- إلى الأمّة بأسرها قاطبة، وجعل ألسنة الأغماد مجادلة لمن خالف شرعه مخاطبة، فكان لآية الكفر ماحيا، وفي مصالح البريّة ساعيا، وإلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة داعيا، إلى أن لمعت آيات الحقّ وسطعت، وانحسمت مادّة الباطل وانقطعت، وظهر من آياته ما كبّر له المخبتون، واشتهر من معجزاته ما خصم به المتعنّتون، وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ

«1» . فحينئذ نقله الله إلى ما أعدّ له من جنّاته، وخصّه بشرف الشّفاعة في يوم مجازاته، وصدقه وعده فيما بوّأه من النعيم المقيم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ*

«2» .

وعلى أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أولى الناس بالنّبيّ، وأوّل من اتّبعه من ذوي قرابة وأجنبيّ، وابن عمّه الذي اختصّه بمؤاخاته، وجعله خليفة على كافة الناس بعد وفاته، وتحمّل بأمر الله، فيما ولّاه وأولاه، وخطب الناس في حجّة الوداع فقال:«من كنت مولاه فعليّ مولاه» ، وعلى آلهما الكرام الأبرار، وعترتهما المصطفين الأخيار، وهداة المسلمين وقدوتهم، وأمراء المؤمنين وأئمّتهم، الذين حكموا فأقسطوا وما قسطوا، وسلك الحاضرون منهم

ص: 302

سنن أسلافهم الذين فرطوا، واقتفوا آثارهم في السّياسة فما قصّروا ولا فرّطوا، ولم يزل كلّ منهم عاملا من ذلك بما حسّن أيامه، فاعلا في أمر الدّين ما رفع مناره ونشر أعلامه، حتّى اختار الله له ما عنده فنصّ على من أقامه الاستحقاق مقامه، وسلّم عليهم أجمعين سلاما لا انقضاء لأمده، ولا انقطاع لمدده، فنيل المطالب بكرمه وملكوت كل شيء بيده.

وإنّ الحقّ إن خفي حينا فلا بدّ لهلاله من الإبدار وانبساط النّور، وإن الشمس إن تورات بالحجاب فما أوشك عودتها إلى البزوغ والظّهور، وأنّ حسن الصبر إلى يبلغ الكتاب أجله يؤمن من تدلية الشيطان بالغرور، قال الله عز وجل في كتابه الذي هدانا به: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1» .

وإنّ الله تعالى لرأفته بمن أبدعه من خلقه وأنشاه، ولسابق علمه في عمارة هذه الدار على ما أراده عز وجل وشاه، لا يخلي الأرض من نور يستضيء به الساري في الليل البهيم، ولا يدع الأمّة بلا إمام يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، فهو جلّ وعلا أعدل من أن يجعل جيد الإيمان من حلى الإمامة عاطلا، أو يترك الخلق هملا وقد قال: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا «2»

بل يقطع أعذار العباد فيما خلقهم له ووقفهم، ويهديهم بالأئمة إلى التوفّر على عمل ما ألزمهم وكلّفهم، فالأمور محروسة الترتيب محفوظة النّظام، والأرض إذا أظلمت لفقد إمام، أضاءت وأشرقت لقيام إمام. وقد علم الكافّة أنّ حجة الله في أرضه، والمجتنب من الأعمال ما لم يرضه، والمحسن إلى البريّة ببعثه على المصالح وحضّه، الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين الذي آتاه الله الحكم صبيّا، ورفعه من إرث النبوّة مكانا عليّا، واستخلفه على خلقه فكان

ص: 303

للفضل باسطا ولراية العدل ناشرا، وجعله لشمل المحاسن جامعا ولأئمة الخلفاء الراشدين عاشرا، لم يزل ناظرا في البعيد والقريب، عاملا في سياسة الأمّة عمل المجتهد المصيب، مستقصيا حرصه في المحافظة على إعزاز الملّة، مستنفدا جهده في الجهاد فيمن خالف أهل القبلة، باذلا من جزيل العطاء وكثيره ما لا يعرف معه أحد من خاصّته بالفقر ولا ينسب معه إلى القلّة، حتّى استوفى مدّته الموهوبة، واستوعب غايته المكتوبة، وناله من القضاء ما أخرجه من الدّنيا سعيدا، وأقدمه على الله شهيدا، وأصاره إلى ما أعدّ له من نعيم لا يريد به بديلا ولا يطلب عليه مزيدا، وكان انتقاله إلى جوار ربّه تبارك وتعالى، كانتقال أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بغيا من الكافرين واغتيالا. وقد كان يذكر ما يعلمه من حقّ أمير المؤمنين «1» تارة مجاهرا وتارة مخافتا، إلى أن صار على بسط القول في ذلك وتبيينه مثابرا متهافتا، وأفصح بما كان مستبهما مستعجما، وصرّح بما لم يزل في كشفه ممرّضا وعن إفصاحه محجما، وذلك لمّا ألفاه أشرف فرع من سنخ «2» النبوّة، ورآه أكرم في فخارة الأبوّة، وعلمه أبيه «3» الأمير أبي «4» القاسم عمّه سلام الله عليه الذي هو سليل الإمامة القليل المثل، ونجل الخلافة المخصوص من الفخر بأجزل حظّ وأوفر كفل، كان المستنصر بالله أمير المؤمنين سمّاه وليّ عهد المسلمين، وتضمّن ذلك ما خرجت به توقيعاته وتسويغاته إلى الدواوين، وثبّت في طرز الأبنية، وكتب الاتبياعات والأشرية، وعلمته الكافّة علما يقينا ظلّت فيه غير مرتابة ولا ممترية، وفي ضمن ذلك باطن لا يعقله إلا العالمون، ولا ينكره إلّا من قال فيهم: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ «5» .

وذلك أنّ أمير المؤمنين الغرض والمقصد، والبغية والمطلب، وله عهد بالتلويح

ص: 304

والإشارة، وإليه أوحى بالنّصّ وإن لم يفصح فيه بالعبارة، وكان والده الأمير أبو القاسم- قدّس الله روحه- بمنزلة الأشجار الّتي يتأنّى بها إلى أن يظهر زهرها، والأكمام الّتي ينتظر بها إلى أن يخرج ثمرها، والزّرجونة الّتي نقلت الماء إلى العنقود، والسّحابة الّتي حملت الغيث فعمّ نفعه أهل السّهول والنّجود، ومما يبيّن ذلك ويوضّحه، ويحقّقه ويصحّحه، وتثلج به للمؤمنين صدور وتقوى أفئدة، وتشهد البصائر أنّ النعمة به على الإسلام متتابعة متجدّدة، أنّ الأمرين إذا تشابها من كلّ الجهات، وكانت بينهما مدد متطاولات متباعدات، فالسابق منهما يمهّد للتالي، والأوّل أبدا رمز على الثاني، ولا خلاف بين كافّة المسلمين في أنّ الله تعالى أمر جدّنا محمدا صلى الله عليه وسلم بعقد ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلّى الله عليه فعقدها له يوم غدير خم، وأمير المؤمنين عليّ ابن عمّه وكان له حينئذ عمّ حاضر، وأمضى ما أمر به والإسلام يومئذ غضّ وعوده ناضر، وكذلك أنّ أمير المؤمنين، هو ابن عم الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين، وقد نصّ مع حضور عمومته عليه، وفعل ما فعل ندّه رسول الله اقتداء به وانتهاء إليه، وكان أبو عليّ «1» المنصور الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه، جعل ابنه عبد الرّحيم إلياس وليّ عهد المسلمين، وميّزه بذلك على كافّة الناس أجمعين، ونقش اسمه في السّكّة، وأمر بالدعاء له على المنابر وبمكّة، وألبسه شدّة الوقار المرصّعة بالجوهر، واستنابه عنه إمام الأعياد في الصلاة وفي رقيّ المنبر، وأقامه مقام نفسه في الاستغفار لمن يتوفّى من خواصّ أوليائه، وفي الشّفاعة لهم بمتقبّل مناجاته ومسموع دعائه، مع علمه أنه لا ينال رتبة الخلافة، ولا يبلغ درجة الإمامة، وأن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله- صلّى الله عليه- هو الذي خلق لها، وحين حمّل أعباءها أقلّها وما استثقلها، وإنما تحت ذلك معنى لطيف غامض، وسرّ عن جمهور الناس مستتر وبرقه لأولي البصائر وامض، وهو أنّ مكنون الحكمة، ومكتوم علم الأمة، يدلّان على أنّ الإمام المنصور أبا عليّ، سيفعل فيمن

ص: 305

يستخلفه بعده مثل فعل النبيّ، وقد علم الإمام الحاكم- عليه السلام أنّ المراد بذلك من يأتي بعده ممن أولده أو أنسله، لأنّ ولده حاضر والمقصود من لا ولد له، فجعل ولاية عبد الرحيم العهد تأسيسا لما سيكون، ونقلا للنّفوس من الانزعاج إلى أن تشملها الطّمأنينة والسّكون. فلمّا أفضى الله إلى الإمام المنصور أبي عليّ الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بالخلافة الّتي جعلها واجبا له حقّا، ووافق جدّه- عليه السلام وكان لقبه من لقبه مشتقّا، ظهر المنكتم، ووضح المستتر، وعاد التعريض تصريحا، والتمريض تصحيحا، والرّمز إبانة، والنصّ على أمير المؤمنين أمانة، فاقتدى بجدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف أمير المؤمنين مع حضور عمومته، وفعل في ذلك فعلته وجرى على قضيّته، وكشف عمّا أبهمه الإمام الحاكم بأمر الله قدّس الله لطيفته فتساوى الخاصّ والعامّ في معرفته، ثم حلّه أمير المؤمنين محلّ نفسه في الجلوس على الأسمطة «1» ، وعمل لأوليائه ورعيّته في ذلك بالقضايا المحيطة، ونصبه منصبه في الصلاة على من جرت عادته بالصلاة على مثله، وجمع في اعتماد ذلك بين إحسانه وفضله وبين امتنانه وعدله، وإذ قد تبيّن هذا الأمر الواضح الجليّ، وتساوى في علمه الشانيء والوليّ، وعلم هو ما خصّ الله به أمير المؤمنين من الإمامة، وأزاله عن العقول من ضباب متكاثف وغمامة، وشمله به من فضله ورافته، ونصبه فيه من منصب خلافته الّتي أيّدها بوليّه ووزيره، وعضّدها بصفيّه وظهيره، السيد الأجل أبي الفتح يانس الحافظيّ الذي جعله الله على اعتنائه بدولة أمير المؤمنين من أوضح الشواهد والدلائل، وصرف به عن مملكته محذور الصّروف والغوائل، وأقام منه لمناصحة الخلافة مخلصا جمع فيه أسباب

ص: 306