الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوسن، ومن زائد الاكتئاب، ما كاد يحرمه التقمّص بثوب الثّواب، بحيث إنّه عوّض بالزّمن الأسود عن العيش الأخضر، وذاق من موجب لبس الأبيض طعم الموت الأحمر، وأنه ضمه إليه ضمّ المحبوب، وابتهج به ابتهاج من ظفر بغاية السّول والمطلوب، فأغمدت الكآبة خوفا من قلمه سيفها، وأزالت الدنيا الدنيّة عنه حيفها، وعزّى نفسه وسلّاها، وشغله إحسانه عن محاسن محا الموت سناها، فرفض من توجّعه ما فرضته حادثته، وسلك منهجا غير المنهج الذي فتّتت فيه حشاه ومهجته، فالله تعالى يكفينا ما نحاذره في المجلس ويحرس سناه، ويديم سعده وعلاه.
النوع الثالث (من مقاصد المكاتبات التّهادي والملاطفة)
قال في «موادّ البيان» : رقاع التّهادي يجب أن تودع من الألفاظ المستحسنة ما يمهّد لقبول الملاطفة والمبرّة الّتي تتميز في المودّة. قال: وينبغي أن يطرف الكاتب إذا كان مهديا أو مستهديا، وقد جرت العادة أن تودع هذه الرقاع من أوصاف الشيء المهدى ما يحسّنه في نفس المهدى إليه. قال:
وينبغي لمن ذهب هذا المذهب أن لا يعتمد تفخيم هديّته، ولا الإشارة إلى جلالة خطرها، فإنّ ذلك يخلّ بشروط المروءة ويتحاماه الكرماء.
ثم هي على ثلاثة أضرب:
الضرب الأوّل (ما يكتب مع التّقادم إلى الملوك من أهل مملكتهم إلى القائمين بإيصال التّقدمة إلى الملك وكاتب السّرّ ونحوهما)
الشيخ جمال الدين بن «1» نباته: إلى كاتب «2» السرّ بالأبواب السلطانية
صحبة تقدمة من نائب الشام إلى السلطان «1» :
لا زالت أقلامها لنتائج الفضل مقدّمة، ولمراكض الكرم والبأس جيادا مسوّمة «2» ولكتائب الملك من كتبه أعلاما بشعارها العبّاسيّ معلمة، وفي يد صاحبها من أصحاب الميمنة، والذين كفروا بآيات الله ونعمها من أصحاب المشأمة، تقبيل محبّ لا تفسخ عقود ولائه المحكمة، ولا تنسخ إلّا في الكتب عقود ثنائه المنظّمة، ولا تطوف الأشواق ببيت قلبه إلّا وهي من ملابس السّلوان المحرّم محرمة.
وينهي أنه قد اختار من عناية مولانا بمقاصده أحسن الخير، وبورك له في قصدها (ومن بورك له في شيء فليلزمه) كما جاء الخبر، وقد جهّر فلانا إلى الأبواب الشريفة خلّد الله سلطانها بتقدمته على العادة في كلّ سنة، واتّبع سفارة مولانا بين يدي المواقف الشريفة فاتّبع من القول أحسنه، وسأل حسن نظر مولانا الذي إذا لا حظ قصدا أعلنه وسعدا عيّنه، وقد جهّز المملوك برسم مولانا ما هو بمقتضى الورقة المجهّزة عطفها، المؤمّلة وإن كانت ورقة قطفها، وسأل مقابلتها بالجبر الذي يحسب الأمل حسابه، ويستفتح ببنان القلم بابه، والإصغاء لما يملى من رسائل الشّوق فإنّها من رسائل إخوان الصّفا المستطابة، لا برح القاصدون مرحين بأيّام مولانا وحقّ لهم أن يمرحوا، تالين نسبة بيته ورحمى الله على يده: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
«3» .
وله إليه أيضا مع الجهاز الشريف السلطاني:
أمتعها الله من خيري الدنيا والآخرة بكرم الأمرين، وبشرف الذّكرين، وسرّها بما يجهّز في الثّناء والثّواب من الوفرين، وأعلى منارها المحلّق إلى السماء على وكر النّسرين. ولا زالت الآمال لا تبرح حتّى تبلغ من تلك اليدين
مجمع البحرين، تقبيل مخلص في الولاء والدّعاء، مستشهد بالخواطر الكريمة على ثبوت الادّعاء، وارد لموارد النّعم قبل صدور بل قبل ورود الرّعاء.
وينهي أنه ليس للمملوك فيما يؤمّله ويتأمّله، ويفصّله من عقود المطالب ويجمله، غير إحسان مولانا الذي لا يملّ على طول الإيناس والإلباس، وعوارف بيته المستجدة تالية: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ*
«1» . وقد جهّز المملوك الولد فلانا بالجهاز المبارك إلى الأبواب الشريفة خلّد الله سلطانها، وملأ به جواهر حبّات القلوب وريحانها، وهو على قدر المملوك ومقداره، لا على قدر مراده واختياره، ولو أن المراد مما يحمله العبد إلى سيّده، ويقدّمه من سبد الحال ولبده، على قدر المحمول إليه، والمقدّم بين يديه، لضعفت قوى أكثر العبيد عن ذلك، ويئس من الرّضوان جهدهم المالك، وإنما على العبيد أن تنصب على قدرتها الحال، وعلى السادات أن تصرّف بعوامل الخبر مستقبل الأفعال.
وعلم مولانا الكريم محيط بتنقّل المملوك في هذه السّنين من بلد إلى بلد، ومن أمد كلّفه إلى أمد، وبما حصل في ذلك من التمحّق في إقطاعات كاد أن يخني عليها الّذي أخنى على لبد. وكان المملوك يودّ لو كان هذا المحمول من الجهاز من جواهر النّجوم المنثورة، وأخبية السّعود المأثورة، وجميع ما زيّن للناس من الشّهوات المذكورة، أضعاف أضعافه الآن، بل أضعاف أضعاف ما حمل الأوّلون من فلان وفلان، كالحسن «2» بن سهل مع الجهة المأمونيّة الّتي حلا ذكرها، وابن طولون «3» مع المعتضديّة الّتي كاثر هذا الغيث قطرها،
والسّامانيّ وما أدراك، والسّلجوقيّ وما أسراك، وجميع ما تضمّنته التواريخ الّتي لو عاينت تاريخ هذه الدولة الشريفة عنت في الحال لمجده، وكان كلّ مجلّد منها يموت للهيبة في جلده؛ لما خلّدته أيامها الشريفة من أخبار حكمها وخيرها، وكرمها وبرّها، وعطفها على مماليك بيتها الشريف، تتقبّل ميسورهم، وتكمّل سرورهم، ويملأ بجيوش الانشراح صدورهم، وتبلّغهم من همم مطلوبهم، وتقبل على زاهرات نجاياهم ورياحين قلوبهم (متقارب) .
ولو لم تطعه نيات القلوب
…
لما قبل الله أعمالها
والمملوك يسأل من إحسان مولانا الذي ألفه، ومعروفه الذي عرفه، ملاحظة الولد فلان بين يدي المواقف الشريفة خلّد الله سلطانها، وإقامة عذر المملوك بعبارته الّتي أحلّ الله سحرها وبيانها. فما للمملوك في مقاصده مثل مودّة مولانا الوافية المتوافيه، ومقدّمة عبارته الكافية الشافية، والله تعالى يعين على شكر مننه، والقيام بفرائض حمده وسننه، والنهوض بأوصاف أياديه الّتي يغرّد بها قلم الكتّاب كما يغرّد القمريّ «1» على فننه.