الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الولاء وتأتي بقيّة الأولياء في اللّفيف، والله تعالى يوزع المملوك شكر هذه النّعم المتصل مددها، والمنن الّتي لا يعدمها ولا يعدّها، ويطيل بقاء مولانا لحمد يجتليه ويجتنيه، وشرف دنيا وأخرى يهدم وفره وعمره ويبتنيه.
النوع الثالث عشر (العتاب)
قال في «موادّ البيان» : المكاتبة بالمعاتبة على التحوّل عن المودّة والاستخفاف بحقوق الخلّة من المكاتبات الّتي يجب أن تستوفى شروطها، وتكمّل أقسامها؛ لأن ترخيص الصّديق لصديقه في المقاطعة والمصارمة دالّ على ضعف الاعتقاد، واستحالة الوداد.
من كلام المتقدّمين.
إنّني ما أحدثت نبوة، إلّا بعد أن أحدثت جفوة، ولا أبديت هجرا، إلّا بعد أن أبديت غدرا، ولا لويت وجها عن الصّلة، إلّا بعد أن ثنيت عطفا إلى القطيعة، والأوّل منّا جان، والثاني حان؛ والمتقدّم مؤثر، والمتأخّر مضطّرّ، وكم بين فعل المختار والمكره، والمبتدع والمتّبع؟
آخر: إن أمسكت يا سيدي عن عتابك، مرخيا من عنانك، كنت بين قطع لحبلك، ورضا بفعلك، أو اقتصرت فيه على التّلويح به لم يغن ذاك مع كثرة جموحك، وشدّة جنوحك، وما ارتكبته من رائك، واستخرجته من جفائك.
رقعة عتاب: لمولانا لدى المملوك عوارف لا يهتدي إلى معرفتها فيوفّيها كنه المراد، وأياد لا يبلغ ما تستحقّه من الإحماد، ولو عضّدته خطباء إياد، أجلّها في نفسه خطرا، وأحسنها عليه أثرا، ما يفرضه له من برّه وإكرامه، وتعهّده واهتمامه، وقد غيّر مولانا عادته، ونقض شيمته، وبدّل المملوك من الانعطاف بالإعراض، ومن الانبساط بالانقباض، وحمّله من ذلك ما أوهى قوى صبره، وأظلم بصائر فكره، فإن يكن ذلك لخطإ واقعه المملوك ساهيا، وجرم اجترمه لاهيا، فمثل مولانا لا يطالب إلّا بالقصد، ولا يعاقب إلّا على العمد، إذ كان
المملوك لا يعصم من زلل، ولا يسلم من خلل، اللهمّ إلّا أن يكون مولانا أراد من المملوك تقويمه وتأديبه، وإصلاحه وتهذيبه، ليحسن أثره في خدمته، ويسلك السبيل الواضح في تباعته، فلا أعدم الله المملوك تثقيفه، ولا سلبه تبصيره وتعريفه، وإن كان ذلك لشكّ عرض من المملوك «1» في وداده، وارتياب خامر في حسن اعتقاده، فأعيذه بالله من القطع بالشّبهات، والعمل بمنغل «2» السّعايات، ومولانا خليق بأن يطلع من أنس المملوك ما غرب، وينبط من سروره ما نضب، ويعيده لرضاه، ويجريه على ما أحمده منه وأرضاه.
رقعة: ليس المملوك يرفع مولانا في إعراضه، إلّا إلى فضله، ولا يحاكمه على انقباضه، إلّا إلى عدله، ولا يستعين عليه إلّا بما يستمليه من آدابه، ولا يناظره إلّا بما أخذه عنه من محافظته وإيجابه، إذ كان المملوك مذ وصلته السعادة بحباله، ناسجا على منواله، متقبّلا شرائف خلاله. وما عهدته عمر الله معاهده، وكبت حاسده، يغضب تقليدا قبل الاختبار، ويحوج البريء إلى موقف الاعتذار، ولا سيّما إذا كان المظنون به عالما بشروط الكرم؛ عارفا بمواقع النّعم، لا ينسخ الشكر بالكفر، ولا يتعوّض عن الحمد بالجحد، وقد عرف مولانا ثناء المملوك على تفضاله، ووقف على بلائه لأعماله، وهو وفيّ بربّ عوارفه وصنائعه، وتثمير ما رهن لديه من ودائعه، وتنزيه سمعه عن الإصغاء إلى ما يختلقه حاسد، ويصوغه كائد، وقد حكّم المملوك على نفسه نقده الذي لا يبهرج عليه ولا يدلّس، وكشفه الذي لا يغطّى عليه ولا يلبّس، فليحكّ أفعال المملوك على محكّ بصيرته، وليجل في تأمّل مقاصده طرف فكرته، فإنه ممن لا تحيله الأحوال ولا تحوّله، ولا تغيّره الغير ولا تبدّله، إن شاء الله تعالى.
رقعة: أفعال شكر «1» المملوك في الحلم والغضب، والرّضا والسّخط، إذا لم يقتض الحزم إيقاعها موقع الفضل، واقعة موقع الإنصاف والعدل، ولا يغلّب هواه على رأيه، ولا بادرته على أناته، وقد جانب مع المملوك عادته، وباين فيه شيمته، وناله من إعراضه، وجفائه وانقباضه، وتغيّر رأيه، ما وسم المملوك فيه بالذّنب ولم يذنبه، وحمله على الجرم ولم يحتقبه، وأوقفه لديه موقف الاعتذار، وأحوجه إلى الاستقالة والاستغفار، وليس المملوك يحاكمه إلّا إليه، ولا يعوّل في الانتصاف إلّا عليه، وما أولاه بأن يعيد المملوك إلى محلّه من رضاه، فإنه لم يواقع في خدمته إلّا ما يرضاه، وحسبه شاهدا بذلك ما يعلم من المملوك من سلامة غيبه، وطهارة جيبه، وفضل ودّه، وصحّة معتقده، إن شاء الله تعالى.
رقعة بمعاتبة على «2» .
كلّ مانع ما لديه من رغبه، دافع عمّا عنده من طلبه، فمستغنى عنه إلّا الله تعالى المبتديء بالنّعم، العوّاد بالكرم، ولو عرف مولانا بطعم شجرة «3» المعروف، لأسرع إلى احتذائها، ولو علم ما لله تعالى عليه من الحقوق في ماله وجاهه، لم يقصّر عن أدائها، غير أنه ظنّ أنّ الفوز بالوجد «4» ، غاية المجد، وأنه إذا أحمد النّسب غنيّ عن الحمد، وأنّ النعمة ترتبط بالرّبط عليها، وتنصرف بالتّصرّف فيها، وما ساء المملوك أن تنزّه عن تقلّد منّة لئيم، وحرم محمدة من كريم، وهذا الحرمان أحسن والله في عين المملوك من النّوال، وهذا الإكداء أبرّ لديه من بلوغ الآمال، وسينشر المملوك مذهبه في كلّ ناد، ويكفّ عنه أمانيّ القصّاد، ويكفيه مؤونة الاعتذار، ويصونه عن أن تبذل إليه وجوه الأحرار، ليعلم
أنّ المملوك على منعه لم يقصّر في بلوغ أوطاره، والسّعي في إيثاره، إن شاء الله تعالى.
رقعة في المعنى: ما ردّ المملوك برّ مولانا مستنزرا لقليله، ولا لائما لنفسه على تأميله، لكنّه انتجعه انتجاع من ظنّه عارفا بقدره، راغبا في شكره، فلو أغضى المملوك منه على الاطّراح لأمره، لاستدلّ منه على قصر الهمّة، وظنّ أنه قوّمه بدون القيمة، ولا سيّما وهو يفرض لمن لا يجاري المملوك في مضمار، ولا يساويه في مقدار، من غير قصد بتأميل ورجاء، وتقديم ذريعة من تقريظ وثناء، ما تضيق عنه الهمم الفساح، ولا يصل إليه الاقتراح.
رقعة عتاب، على تقصير في خطاب:
حوشي مولاي أن يجرّ الذّيل على آثار فضله، ويميت من غروس إحسانه ما هو جدير أن يتعهّده بوبله، ويعفّي منّي رسوم كرمه، ويصدع بمجانبة الإنصاف صفاة صفاته وصفائه، وينطق الألسن بعتابه، ويصلت سيف التأنيب من قرابه، بما استحسنه من مستقبح المصارمة في المخاطبة، واستوطاه من جامح التّرييث في المكاتبه، ولا سيّما وهو يعلم أنّ موقع الإكرام من الكرام، ألطف من موقع الإنعام، وأن محلّ القال، أفضل من محلّ النّوال، وأنّ تغيّر العادة في البرّ، مقوّض لمعاهد الشّكر، ونسيح (؟) السنة في الإنصاف، قاض بالانصراف بعد الانعطاف، وقد كان المملوك أزمع أن يتحمّل تقصيره به، وأن يفلّ من غربه، غير مطاوع للحميّة، ولا منقاد لنفس العصبية، ولا يقرع سمعه بعتاب، ولا يورد عليه ممضّ خطاب. ثم رأى المملوك أن يرشده إلى الأزين، ويبعثه على اعتماد الأحسن، ويحضّه على مراجعة الأفضل، ومعاودة الأجمل، ليتحفّظ مع سواه، ولا يجري مجراه، فليس كلّ أحد يتحمّله، ويرضى رضى المملوك بما يفعله، فمولانا حبّب الله إليه الرّشد «1» ، ووفّقه إلى المنهج الأسد،
هل هو من شيء سوى بشر؟ فما هذا التّيه والبطر؟ ولم هذا الأزل «1» والأشر؟ وما فعل الرئيس إلى ما يصغر عنه قدر، ولا ييأس من نيله عمر، ولا مضت أقلامك في الأقاليم، ولا أشير إليك ببنان التعظيم، ولا فوّضت إليك الوزارة والرّدافة، ولا تأمّرت على الكافة، ولا طاولت الأكفاء فطلت، ولا ناضلت القرناء فنضلت، وإنما سرق إليك الحظّ من ثماده «2» وشلا «3» مصرّدا، وأدرّ لك الدّهر من أخلافه مجدّدا، فافتتحت المعاملة بظلم الإخوان، ونسخ شرائع الإحسان، كذبتك نفسك، وغرّك حدسك، كيف بك غدا إذا استردّ الزمن ما خوّلك، واسترجع ما نوّلك؟ وصحوت بالعزل من سكرة الولاية، وتقرقرت «4» بعد طلب الغاية؟
وعدت إلى إخوانك فوجدت أوطان أنفسهم بك نابية، ونفوسهم للإقبال عليك آبية؟ ولو كان الزمن أمكنك من رقبتي، وطرّق لك الطريق إلى إيداع عرفك في جهتي، لقبح بك أن تطول بطولك، وتّدعي الفضل بفضلك، ولم يحسن أن تبدّل الإنعام، وتضنّ بالالتزام، فإن كنت تفخر بسلفك وأبوّتك، وتطاول بأوّليّتك وأسرتك، فلو كان أبوك كسرى «5» ، لما جبر منك كسرا، ولو كان جدّك بخت نصّر «6»
لما انتفعت به في مظاهرة ولا نصّر، فدع أكثر ما فات، ولا تعوّل على العظام الرّفات، فما استند إليها إلّا عار من الفضل عاطل من الحلى. على أنّك لو فاخرتنا بها لفخرناك، وتقدّمنا وأخّرناك، وإن كنت تستند إلى ديانتك، وتعتمد على نسكك وأمانتك، فهذه خالص حال لا تخلص مرتبتها ولا تتمّ فضيلتها إلا باستشعار التّواضع، والأخذ بمكارم الأخلاق لدى التنازع، فارجع هديتك «1» إلى الأجلّ، واعمل بالأفضل، وقف بحيث رتبتك، ولا تتشوّف إلى غير درجتك، وإن أبيت ذاك فاقطع المراسلة، وأعفها من المواصلة، والسّلام.
رقعة عتاب على تأخر المكاتبة:
من حكم الوداد- أطال الله بقاء سيدي- الزيارة عند المقاربة، والمكاتبة عند المباعدة، وإن كانت المودّة الصريحة لا يغيّرها اجتناب، إلّا أنّ الكتب ألسن البعاد، والأعين الّتي تنظر حقائق الوداد، ولها في القلوب تأثير، وموقعها فيها أثير، وحوشي مولانا أن أهزّ أريحيتّه لما يؤكّد الثقة بإخائه، ويشهد ب بوفائه، ولا سيّما وهو يفرض ذلك لأحبّته، وقوله واجب في شرع مودّته.
رقعة في معناه:
إن ابتدأ المملوك مولانا لم يجب، وإن سأله الابتداء لم يوجب، فلا حقّ لإجابة تؤدّيه، ولا ناجز المسألة تقضيه، فإن كان إذا شخص غابت عن فكره أشخاص أحبّته، وإذا بعد عاملهم بتجافيه وجفوته، فقد كان ينبغي أن يتكلّف ويتجمّل، ويتصنّع ويتعمّل، فإنه لو علّل مشوبا بالانتظار، أو اعتذر ممرّضا بالاعتذار، لأقمت ذلك مقام المكاتبة، وصنته عن محض المعاتبة، لكنّه مال مع الملال، ورضي الاطّراح والإهمال، ودلّ على أنه مستقلّ بالإخوان، متنقّل مع الزمان، وأرجو أن تصدق المخيلة، ويرجع إلى العادة الجميلة.
رقعة معاتبة رجل كريم الأصل لئيم الفعل:
قد عرف مولانا وفّقه الله ووقفه على منهج الرّشاد، أنّ جناية الغضب الذّميم، تقدح في كرم الجنث «1» الكريم، وأنّ قبيح الصّلف، ينسخ تليد الشّرف، وخبيث الذّرّية، يعفّي على طيب المناحت الزّكيّة، وأنه ليس لمن تحلّى بالظّلم والجور، وتلبّس بالنّكث والغدر، وسامح نفسه باطّراح الحقوق، واستيطاء العقوق، إلّا إضاعة الحرم، وإخفار الذّمم.
المعاتبة من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود «2» الحلبي:
يقبّل الأرض وينهي أنه قد صار يرى قربه أزورارا، وطويل سلامه اختصارا، ويغالط في ذلك حتّى شاهده عيانا مرارا، هذا وبكر الولاء، صقيلة الجلباب، وعروس الثناء، جميلة البزّة حسنة الشّباب، وهو لا يفتأ من الموالاة في صعد وقدره في صبب، فكلّما مكّن وتد الاستعطاف يرجو عدم تخلخله فصل بأيسر سبب، بحيث أطفأ الإهمال نار المساعفة والمساعدة، وانتقل توهّم عدم العناية إلى تيقّن وجوده بالمشاهدة، وقد كان يرفع قدره فخفض، وعوّض في الحال عن الرّفع بالابتداء، أنه مفرد وينصب كالنكرة في النّداء، وأهمل حتّى صار كالحروف لا تسند ولا يسند إليها، وألغي حتّى شابه ظننت إذا وقعت متأخّرة عن مفعوليها، ومتى يقلق لأمر، أنشد نفسه (كامل) :
ما في وقوفك ساعة من باس
«3» .
وكان يغشى مجلسه الكريم خدمة وأداء للواجب، وطلبا لعادة أكّدها
إحسانه حتّى صارت ضربة لازب، فلا يخلو مجلس من إظهار تغيّر عادة وطّد الجود أساسها، وانتقاض قاعدة أبرم الكرم أمراسها، فينقطع سلوكا للأدب وتخفيفا عن الخواطر، ويتلقّى ما يصدر بقلب شاك ولسان شاكر، فإن كان قد عزم مولاه على طرده، وعوّضه عن منحة القرب المحنة ببعده، فإنه يأبى ذلك جوده ولطفه، ومعرفة يشكر ويزيد، لا يمكن صرفه، ولو جاز الصّرف لمجرّد «1» بالعبودية لمنعه العدل من سيّده، والحلم الذي عرف من كريم محتده «2» ، فكان المملوك يستحسن في حبره وسبره، ويعوّض عن مقابلته بجبره، فقد صار سمينه غثّا وشحمه ورما، وحديثه رثّا وسهله علما (طويل) .
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة
…
كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا
وما ثمّ بحمد الله ما يوجب ذلك ولا بعضه، ولا يحدث ذمّ المملوك وبغضه، ولو بدا منه زلل، أو لمح منه خطل، فمكارم مولانا أوسع من إبقاء ذلك في صدور الصّدور، و [أحرى ب]- محو آيات السيّئات فإنه لمن عزم الأمور.
وله: يخدم بدعائه، وصادق ولائه، وينهي أنه انكسر خاطره، وأرق جفنه وناظره، وتضاعف بلباله، وتزايدت في النّقص أحواله، مذ تأخّرت الأمثلة الكرام وانقطعت عنه بانقطاعها المنن الجسام، وهو يسأل العفو عن ذنب وقع، وتشريفه بمثال يرفع من قدره ما وضع، واستعمال الصّفح عنه كسائر عاداته، وإجراءه على اللّطف الذي ألفه من تفضّلاته، فقد ضعف صبر المملوك وجنانه، وتفرّق للفراق جفنه وإنسانه، وصغر قدره، وأهمل جانبه وممّن أمر بإهانته فخره، ولهذا ضاقت عليه المسالك، وكان لسان حاله [ينشد] في ذلك (كامل) .
وأهنتني فأهنت نفسي عامدا
…
ما من يهون عليك ممّن يكرم
والمملوك معترف بأنه ما زال يجهل ما يجب عليه من الخدم، ومقرّ بتقصيره عن القيام بحمل ما يواصل به من النّعم، لكنّه ألف من مولانا أن يقابل إساءته بالإحسان، وجهله بصفح لا يقوم بشكره اللّسان، بل جميع الجثمان، فإن كان ذنب من المملوك هو الذي أوجب اطّراحه، وأوجد أسفه وأذهب أفراحه، وكان أيسر مما تقدّمه من جهله وإساءته، فحلمك جدير أن يلحقه بإخوته، وإن كان قد تزايد مقداره، فالمولى قد تضاعف على العفو اقتداره، وإذا كبرت الخطيئة كثر أجر غفرانها، وعلت المجاوزة عنها على أقرانها، وعلى كلا الأمرين فقد استحقّ المملوك المغفرة بكلّ طريق، وأن يقابل رجاؤه بالتحقيق، وأمله بالتصديق.
وله: وينهي أنه ما زال يتلو آيات محاسنه وحمده، ويرفع رايات إحسانه ومجده، ويتولّاه ولا يتولّى عن محبّته، ويكثر الثناء على ألمعيّ فطنته وجزيل مروءته، وقد صار يشاهد من المولى ملالا وصدودا، وإعراضا يغيظ به صديقا ويسرّ به حسودا، واطّراحا أوهمه أنه ألف وصل درجت، أو لفظة هجر لفظت، ولا يعرف له ذنبا يوجب إبعاده، ولا جرما يستوجب به أن ينقض حبل وصله ويرفض وداده، ولا يعلم سببا يوجب سبّه، ولا شيئا يحدث عتبه، مع أنّ المملوك أحقّ أن يبدأ بالإعراض، ويرفل من إغفال مودّته في الثّوب الفضفاض، فإنّ المولى آلمه بالقول مرارا، وجعل سحابة حيفه تهمي عليه مدرارا، وهو يحتمل الأذى ويغضي على القذى، ولا يظهر إلّا محبّة، ولا يبطن له إلّا مودّة، فإن شاهد المولى بعد إعراضه إعراضا فليلم نفسه، أو أحرقه لهب نار الجفاء فلا يشكو مسّه، يحيط بذلك علما، ورأيه العالي.
شعر في العتاب (كامل) .
مولاي قد طال التّباعد بيننا
…
أو ما سئمت قطيعتي وملالي؟
إن لم ترقّ لحالتي يا هاجري
…
مولاي قل لي من يرقّ لحالي
غيره (طويل) .
يباعدني عن قربه ولقائه
…
فلمّا أذاب الجسم منّي تعطّفا
غيره (منسرح) .
إن كان هجراننا يطيب لكم
…
فليس للوصل عندنا ثمن
غيره (كامل) .
شمّتّ بي الأعداء حين هجرتني
…
والموت دون شماتة الأعداء
غيره (سريع) .
تنام عيناك وتشكو الهوى
…
لو كنت صبّا لم تكن نائما
ولبعضهم: سيدي بادأني بلطف من غير خبرة، وأعقبني جفاء من غير ذنب، فأطمعني أوّله في إخائه، وآيسني آخره من وفائه، فسبحان من لو شاء لكشف بإيضاح المبهم عن عزيمة الرأي فيه، والمملوك يقول:(متقارب)
عجبت لقلبك كيف انقلب
…
وصفو ودادك أنّى ذهب
وأعجب من ذا وذا أنّني
…
أراك بعين الرّضا في الغضب
أجوبة رقاع العتاب قال في «موادّ البيان» : حكم أجوبة هذه الرّقاع حكم رقاع أجوبة الاعتذار، إلّا أنها لا تخلو من الإجابة بالإعتاب أو الإصرار على العتاب. قال:
ويجب أن يسلك فيها المجيب مذهب المجيب عن رقاع الاعتذار.
زهر الآداب:
في جواب العتب على تأخّر مكاتبة:
وعلم المملوك ما أشار به من العتب بسبب تأخّر خدمه عن جنابه، وما توهّمه من اشتغال المملوك بأهله وأصحابه، وحاشاه أن يتوهّم في المملوك غير الولاء، والملازمة على الحمد والثّناء، فهو لا يعتمد ذلك إلّا تخفيفا عن خاطره،
ووثوقا بما يتحقّقه المولى من خالص مودّته في باطنه وظاهره، حرسه الله ووفّقه، وفتح له باب السعادة ولا أغلقه، بمنّه وكرمه.
زهر الربيع:
جواب عتاب:
زاد الله جنابه حنانا، وأسبغ عليه إنعاما وإحسانا، وخلّد له على كلّ عدوّ سلطانا.
ولا زالت همّته سماء لمناكب الكواكب، وأياديه تفيض على الأولياء غرائب الرّغائب، ولا برحت سحائب إنعامه هامية، وقطوف إحسانه دائمة دانية، وشرائع مياه جوده تجفّف جفونا من الفاقة دامية.
المملوك يجدّد خدمته، ويواتر للمولى أدعيته، ويعترف بمننه الّتي أقرّت بها ألسنة جوارحه فلا يستطيع أن ينكرها، ويغترف بيد تضرّعه من بحار جوده الّتي تثعب الوليّ من سحابها إلى كل وليّ وتقذف له جواهرها.
وينهي ورود المكاتبة والعلم بمضمونها، والاحتواء على سائر معاني فنونها، وما أشار إليه من العتب الذي يرجو به بقاء الوداد، واستصحاب حال التّواصل من غير نفاد، والمملوك فلا ينكر ذنبه، ولا يتنصّل ولا يتوصّل بل يعترف بجرمه وقلّة خدمه، ويستمسك بالعروة الوثقى من إحسانه وحلمه، ويسأل مكارمه إجراءه على عادته بالصّفح عنه ورسمه، وهو يرجو أنّ أمّ هذه الهفوة لا تلد لها أختا، وأنه لا يعتمد إلّا ما يزيده إلى المولى مقة ويزيل مقتا، فإنّ معاتبة مولانا قد وعتها أذن واعية، ومراضيه لا تخفى على المملوك بعد ذلك منها خافية، إن شاء الله تعالى.
آخر: أسعد الله المجلس وعطف للأولياء قلبه، ونصر كتائبه وأنفذ كتبه، وأرهف في نصرة الإسلام سنانه وعضبه، وألهم حبّة قلب الزمان حبّه، وأقدره على الحلم الزائد حتّى يغفر به لكلّ مذنب ذنبه.
[وينهي] ورود الكتاب الذي أعدّته يد مولانا فصار كريما، وكسته عبارته
ثوب براعته فأصبح منظره وسيما، واستنشق عرف نسيمه المبارك فطاب شميما، وعلم المملوك منه شدّة عتبه، ومرّ التجنّي الذي ظهر من حلو لفظه وعذبه، ولم يعرف لعتبه موجبا، ولا لتغيّر مودّته سببا، فإنه ما حاد عن طريق ولائه ولا حال، ولا زلّت قدمه عنه ولا زال، ولا ماد عن منهج المودّة ولا مال، وما فتيء لمحاسنه ناشرا، ولإحسانه شاكرا، فإن كان قد نقل عنه إلى مولانا شيء أزعجه، وأخرجه عن عادة حلمه وأحرجه، فإن الوشاة قد اختلقوا قولهم ونقلهم، وقصدوا تشتيت المصاحبة شتّت الله شملهم (طويل) .
وقد نقلوا عنّي الّذي لم أفه به
…
وما آفة الأخبار إلّا رواتها
آخر: وردت المشرّفة العالية أعلى الله نجم مرسلها، وأسبغ أياديه وشكر جسيم تفضّلها، فابتهجت الأنفس بحلولها وحلل جمالها، وعوملت بما يجب من إكرامها وإجلالها، وفضّ ختامها ففاح منها أرج العبير والعنبر، وتليت ألفاظها الّتي هي أبهى من الرّياض وأحلى من السّكّر، فأغنت كؤوس فصاحتها عن المدام، وأزال ماؤها الزّلال البارد حرّ الأوام «1» ، وأعرب منشيها عمّا في ضميره من العتب، والضيق الذي حصل في ذلك الصّدر الرّحب، وهو يقسم بنعمته، وبصادق محبّته، أنه لم يبد منه ما يوجب عليه عتبا، ولا انثنى عن الثّناء على [محاسنه «2» ] الّتي شغفته حبّا، فإن كان المولى قد توهّم شيئا أحرجه وأقلقه، وإلى أليم العتب شوّقه، فليزل ذلك الوهم من خاطره، وليثق بما تحقّق من موالاته في باطنه وظاهره، ورأيه العالي.
آخر: أعزّ الله عزماته، وشكر جسيم تفضّلاته.
ولا زالت نعمته باقية، وقدمه إلى درج المعالي راقية، وهمّته إلى السّموّ على الكواكب سامية، وسماء جوده على العفاة هامية، وعزمته لثغور الإسلام حامية،