الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناقب والفضائل، وأيده بالتوفيق في قوله وفعله فأربى على الأواخر والأوائل، ودلّت سيرته الفاضلة على أنه قد عمر ما بين الله وبينه، وحكمت سنّته العادلة أن كلّ مدح لا يبلغ ثناءه وكلّ وصف لا يقع إلّا دونه، والله يضاعف نعمه عنده ولديه، ويفتح لأمير المؤمنين مشارق الأرض ومغاربها على يديه، وهذا يحقّق أنّ الإسلام قد أحدث له قوّة وتمكينا، وأن ذوي الإيمان قد ازدادوا إيمانا واستبصارا ويقينا، فيجب عليكم لأمير المؤمنين أن تدخلوا في بيعته منشرحة صدوركم، طيّبة نفوسكم، مجتهدين له في خدمة تقابلون بها إحسانه، متقرّبين إليه بمناصحة تحظيكم عند الله سبحانه، عاملين بشرائط البيعة المأخوذة على أمثالكم الذين يتّبعون في فعلهم، ويقع الإجماع بمثلهم، ولكم على أمير المؤمنين أن يكون بكم رحيما، وعن الصغائر متجاوزا كريما، وبالكافّة رؤوفا رفيقا، وعلى الرّعايا عطوفا شفيقا، وأن يصفح عن المسيء ما لم يأت كبيرة، ويبالغ في الإحسان إلى من أحسن السّيرة، ويولي من الإفضال ما يستخلص الضمائر، ويسبغ من الإنعام ما يقتضي نقاء السرائر، وأمير المؤمنين يسأل الله أن يعرّفكم بركة إمامته، ويمن خلافته، وأن يجعلها ضامنة بلوغ المطالب، كافلة لكافّتكم بسعادة المباديء والعواقب، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذهب الثالث (أن تفتتح البيعة بعد البسملة بخطبة مفتتحة بالحمد لله
،
ثم يؤتى بالبعديّة ويتخلّص إلى المقصود، وقد يذكر السلطان القائم بها وقد لا يذكر، وعلى ذلك كانت تكتب بيعات خلفاء بني أميّة بالأندلس، ومن ادّعى الخلافة ببلاد المغرب) وهذه نسخة بيعة كتب بها طاهر «1» الأندلسيّ، في أخذ البيعة على أهل
دانية «1» من الأندلس، للرشيد بن المأمون الأمويّ، وهو منتصب في الخلافة؛ لخلف توهّمه من الرعية، اقتصر فيها على تحميدة واحدة، وليس فيها تعرّض لسلطان قائم بعقدها، وهي:
الحمد لله الذي أسبغ إنعامه باطنا وظاهرا، وسوّغ إفضاله هاملا وهامرا، وأعجز عن وصف إحسانه ناظما وناثرا، وقهر الخلق ناهيا وآمرا، وتعالى جدّه فلا ترى له مضاهيا ولا مظاهرا، ولا موازيا ولا موازرا، ونصر الحقّ وكفى به وليّا وكفى به ناصرا، وجعل جدّ المطيع صاعدا وجدّ العصيّ عاثرا، وحذّر من الخلاف باديا وحاضرا، وماضيا وغابرا.
نحمده سبحانه على نعمه حمد من أصبح لعلق الحمد ذاخرا، ونشكره على مننه ولن يعدم المزيد منه شاكرا، ونضرع إليه أن يجعل حظّنا من بركة الاعتصام وافرا، ووجه نيّتنا في الانتظام سافرا، وأن يمنح أولياءه النصر ظاهرا والفتح باهرا، وأعداءه الرّعب شاجيا والرّمح شاجرا، ونشهد أن لا إله إلّا الله شهادة من أقرّ له بالوحدانيّة صاغرا، وأضحى لأوامره ممتثلا ولنواهيه محاذرا، ونسأله أن يجعل حزب الإيمان ظافرا، ويمدّه بنصره طالبا للثار ثائرا، وصلّى الله على سيدنا محمد رسوله الذي انتخبه من صفوة الصّفوة كابرا فكابرا، وجعله بالفضيلة أوّلا وبالرّسالة آخرا، فأيقظ بالدّعاية ساهيا وناسيا وسكّن بعد الإبانة منافيا ومنافرا، وأذهب بنوره ليلا من الجهالة ساترا، وقام بجهاد الكفرة ليثا خادرا «2» ، وباشر بنفسه المكاره دارعا وحاسرا، وشهد بدرا مبادرا، وحنينا منذرا بالخبر نادرا، وظهر عليهم في كلّ المشاهد غالبا وما ظهروا نادرا، وعلى آله وأصحابه الذين منهم صاحبه وخليفته، المعلومة رأفته، أبو بكر الذي اقتحم لهول الرّدّة مصابرا، وسلّ في قتال الرّوم أهل الجلد والشّدّة سيفا باترا، ومنهم
القويّ في ذات الله عمر الذي أصبح به ربع الإسلام عامرا، ولم يخش في الله عاذلا ولم يرج غادرا «1» ، ومنهم الأصدق حياء عثمان ملاقي البلوى صابرا، والخفر الذي لم ير للأذمّة خافرا، ومنهم أقضاهم عليّ الذي قاتل باغيا وكافرا، وبات لخوف الله ساهرا، ورضي الله عن الإمام المهديّ الذي أطلعه نورا باهرا، وبحرا للعلم زاخرا، وأتى به والضّلال يجرّ رسه سادرا، والباطل يثبت وينفي واردا وصادرا، فجدّد رسم الحقّ وكان داثرا، وقام بآرائه علما هاديا وقرما «2» هادرا، وعن الخلفاء الراشدين المرشدين من أصبح حائدا عن الحقّ جائرا، المجاهدين خاتلا بالعهد خاترا.
أما بعد، فإنّ الله سبحانه جعل الإمامة للناس عصمة، ومنجاة من ريب الالتباس ونعمة، بها تتمهّد عمارة الأرض، ويتجدّد صلاح الكلّ والبعض، ولولاها ظهر الخلل، واختلط المرعيّ والهمل، وارتكبت المآثم، واستبيحت المحارم، واستحلّت المظالم، وانتقم من المظلوم الظالم، وفسد الائتلاف وافترق النّظام، وتساوى الحلال والحرام، فاختار لأمرهم رعاة أمرهم بالعدل فعدلوا، وبالتواصل في ذات الله والتّقاطع فقطعوا في ذات الله ووصلوا، وعدلوا بين أهليهم وأقربيهم فيما ولّوا، ونهضوا بأعباء الكفاية والحماية واستقلّوا، وألزمهم الاتّفاق والانقياد، وحظر عليهم الانشقاق والعناد، فملكوا بأزمّة العقل قياد الأمور، وأشرقت بسيرتهم المباركة أقاضي المعمور، وشاهد الناس فواضل إمامهم، وتبينوا من سيرتهم العادلة علوّ محلّهم في الخلائف ومقامهم، ولم يطرق في مدّتهم للإسلام جناب، ولا اقتحم له باب، وأنّى وسيوفهم تقطر من دماء الأعداء، وبلادهم ساكنة الدّهماء، والكفرة بالرّعب المخامر والداء العياء،
وأهل الإيمان، يجرّون ذيول العزائم، وعبدة الصّلبان، يعثرون في ذيل الهوان الدائم، إلى أن عدمت الأرض منهم بحارها الزّواخر، وأنوارها البواهر، ورأت بعدهم العيون الفواقيء والمتون الفواقر، واكفهرّ وجه اللأواء «1» ، وتفرّقت الفرق بحسب الأهواء، وسفكت الدّماء وركبت المضلّة العمياء، واحتقبت الجوائر، وأهمل الشرع والشّعائر، ثم إن الله تعالى أذن في كشف الكرب، وأطلع بالغرب نورا ملأ الدّلو إلى عقد الكرب، وهو النّور الذي أضاء للبصائر والأبصار، وطلع على الآفاق طلوع النّهار، وذخرت أيّامه السعيدة لدرك الثار، وكلفت به الخلافة وطال بها كلفه، وقام بالإمامة مثل ما قام بها الخلفاء الراشدون سلفه، وذلك هو الخليفة الإمام أمير المؤمنين الرشيد بالله ابن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، وخلّد في عقبهم الإمامة إلى يوم الدّين، وهو الأسد الهصور «2» ، ومن أبوه المأمون وجده المنصور، العريق في الخلافة، والحقيق بالإمامة والإنافة، فجمع ما افترق، ونظّم الأمور ونسّق، ومنع الحوزة أن تطرق والملّة أن تفترق أو تفرّق.
وهذه نسخة بيعة كتب بها أبو المطرّف بن عميرة الأندلسيّ «3» بأخذ البيعة على أهل شاطبة من الأندلس لأبي جعفر المستنصر «4» بالله العبّاسيّ، قام
بعقدها أبو عبد الله محمد «1» بن يوسف بن هود صاحب الأندلس، ثم أخذ البيعة بعد ذلك عليهم لنفسه، وأن يكون ابنه وليّ عهده بعده، وهي:
الحمد لله الذي جعل الأرض قرارا، وأرسل السّماء مدرارا، وسخّر ليلا ونهارا، وقدّر آجالا وأعمارا، وخلق الخلق أطوارا، وجعل لهم إرادة واختيارا، وأوجد لهم تفكّرا واعتبارا، وتعاهدهم برحمته صغارا وكبارا.
نحمده حمد من يرجو له وقارا، ونبرأ ممن عانده استكبارا وألحد في آياته سفاهة واغترارا، وصلّى الله على سيدنا محمد الشريف نجارا، السامي فخارا، فرفع «2» الله من شريعته للأمّة منارا، وأطفأ برسالته للشّرك نارا، حتّى علا الإسلام مقدارا، وعزّ جارا ودارا، وأذعن الكفر اضطرارا، واستسلم ذلّة وصغارا، فمضى وقد ملأ البسيطة أنوارا، وعمّها بدعوته أنجادا وأغوارا، وأوجب لولاة العهد بعده طاعة وأتمارا، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيّا مختارا، ورسولا اجتباه اختصاصا وإيثارا، صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين آثارا واختبارا، وعلى أصحابه الكرام مهاجرين وأنصارا، صلاة نواليها إعلانا وإسرارا، ونرجو بها مغفرة ربّنا إنّه كان غفّارا.
أما بعد، فإنّ المستأثر بالدّوام، اللّطيف بالأنام، أنشأهم على التغاير والتباين، واضطرهم إلى التّجاور والتعاون، وجعل لهم مصلحة الاشتراك، ومنفعة الالتحام والاشتباك، طريقا إلى الأفضل في حياتهم، والأسعد لغاياتهم، وبعث النبيين مرغّبين ومحذّرين، ومبشّرين ومنذرين، فأدّوا عنه ما حمّل، وبيّنوا ما حرّم وحلّل، وكان أعمّهم دعوة، وأوثقهم عروة، وأعلاهم في المنزلة عنده ذروة، وأعطفهم للقلوب وهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، المخصوص بالمقام المحمود، والحوض المورود، وشفاعة اليوم المشهود، ولواء الحمد المعقود، صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أفضل صلاة تفضي إلى الظلّ الممدود، وتبلغنا من شفاعته أفضل موعود، بعثه الله للأحمر والأسود، والأدنى والأبعد، فصدع بأمره وظلام الليل غير منجاب، والدّاعي إلى الله غير مجاب، وأهل الجاهلية كثير عددهم، شديد جلدهم، بعيد في الضّلالة والغواية أمدهم، فسلك من هدايتهم سبيلا، وصبر لهم صبرا جميلا، يحبّ صلاحهم وهم العدوّ، ويلين لهم إذا جدّ بهم العتوّ، ويجهد في أظهار دينه ولدين الله الظهور والعلوّ، حتّى انقادوا بين سابق سبقت له السّعادة، ولا حق تداركته المشيئة والإرادة، ولما رفعت راية الإسلام، وشفعت حجّة الكتاب حجّة الإسلام «1» ، ودعي الناس إلى التزام الأحكام، ونهوا عن الاستقسام بالأزلام «2» ، أخبتوا إلى الربّ المعبود، وأشفقوا من تعدّي الحدود، ووعظوا في الأيمان والعهود، فأتمروا للشرع حين أمر، وخافوا وخامة من إذا عاهد غدر، فكان الرجل يدع الخوض فيما لا يعلمه، ويترك حقّه لأجل يمين تلزمه، وشرعت الأيمان في كلّ فنّ بحسب المحلوف عليه، وعلى قدر الحاجة إليه، فواحدة في المال لحقّ الأداء، وأربع مخمّسة عند ملاعنة النّساء، وخمسون انتهي إليها في أحكام الدّماء، فتوثّق للحدود على مقاديرها، وجرت أمور
العبادات والمعاملات على أفضل تقديرها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعدل قائم، والشرع على القوي والضعيف حاكم، والربّ جل جلاله بما تخفي الصدور عالم، وقام بعده الخلفاء الأربعة أركان الدّين، وأعضاد الحقّ المبين، يحملون الناس على سننه الواضح، وينفّذون أمور المصالح، ويتفقّهون في الأحكام وقوفا مع الظاهر وترجيحا للراجح، وكانوا يتوقّفون في بعض الأحيان، ويطلبون للشّبه وجه البيان، ويستظهرون على تحقيق كثير من الوقائع بالأيمان، حتّى كان عليّ كرم الله وجهه يستثبت في الدّراية، ويستحلف الراوي على الرّواية، وما أنكر ذلك أحد، ولا أعوزه من الشرع مستند، رضي الله عنهم أئمة بالعدل قضوا، وعلى سبيله مضوا، والسّيرة الجليلة تخيّروا وارتضوا، وعن سيد الأنام، ومستنزل درّ الغمام، عمّ نبيّنا عليه أفضل الصلاة والسّلام، الحامي الحدب، والمعقل الأشب «1» ، والغيث الهامل المنكسب، أبي الفضل العبّاس بن عبد المطّلب، وعن الفائزين بالرّتبة الكريمة، والصّحبة القديمة، والمناقب العظيمة، بدور الظّلام وبحور الحكم، وصدور أندية الفضل والكرم، وسائر صحابه عليهم السلام الذين أسلموا على عمره «2» ، وأسلفوا جدّا في نصره، وأدركوا من بركة عيانه وزمانه ما لا مدرك لحصره، كرّم الله مآبهم، وأجزل ثوابهم، وشكر لهم صبرهم واحتسابهم، فلقد عقدوا نيّة الصّدق عند قيامهم لأداء فريضة الإطاقة، واستباحوا صلاة الشكر حين رفعوا حدث الرّدّة وأراقوا سؤر «3» الشّرك وقد استحقّ بنجاسته الإراقة، وابتزّوا كسرى زينته فأبرزوها على سراقة، فرأوا عيانا ما أخبر به سيد المرسلين، وملكوا ما زوي له منها فاطّلع عليه بحقّه المبين، وذهبوا فأظلمت الأرض من بعدهم، وتنكّرت المعارف لفقدهم، واختلط الهمل والمرعيّ، وتشابه الصّريح والدّعيّ، وثارت الفتن من كل
جانب، وصارت الحقوق نهبة [كل] ناهب، ولمّا برحت «1» العهود، وتعدّيت الحدود، بلغ الوقت المحدود، وطلعت ببياض العدل الرايات السّود، تحتها سادات الناس، وذادة موقف الباس، وشهب اليوم العماس «2» ، ونجب البيت الكريم من بني العبّاس، فأعادوا إلى الأمر رونقه، ونفوا عن الصّفو رنقه، وحموا حرم المسلمين، وأحيوا سنّة ابن عمّهم سيّد المرسلين، فأصبحت الأمور مضبوطة، والثّغور محوطة، والسّبل آمنة، والرعيّة في ظلّ العدل والأمن ساكنة، وكان الناس قبلهم قد ركبوا الصّعب والذّلول، وامتطوا الحزن والسّهول، فوثقوا منهم بطاعتهم، واستحلفوهم على بيعاتهم، ذلك بأنهم ألزموهم منها واجبا على القطع، لازما بإلزام الشّرع، ووجدوا لمصلحة الارتباط بالأيمان شواهد من الآثار المنقولة، والأصول المقبولة، ومن أعطى من نفسه كلّ ما عليها، وراعى جملة المصالح وكلّ ما تطرّق إليها، فكيف لا يكون في سعة من هذا التكليف المستند إلى الآثار الشرعية، الداخل في أقسام المصالح المرعيّة؟ كما سلف من الأئمة المهتدين، آباء أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين، ابن عمّ سيّدنا وسيّد المرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين.
لمّا دعا الناس بالمملكة الفلانيّة حماها الله إلى حجّتهم القويّة، وإمرتهم الهاشميّة، مجاهد الدين، بسيف أمير المؤمنين، جمال الإسلام، مجد الأنام، تاج خواصّ الإمام، فخر ملوكه، شرف أمرائه، المتوكّل على الله تعالى أمير المسلمين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود، أسعد الله أيامه، ونصر أعلامه، وقام لذلك متوحّدا المقام الكريم، مشمّرا عن ساعد التّصميم،
ماضيا على الهول مضاء الحسام القاضب، غاضبا لأمر الله ورضاه على غاية هذا الغاضب، مالت إليه الأجياد، وانثالت عليه البلاد، فانتظمها مدينة مدينة، وجعل التوكّل على الله سبحانه شريعة منيعة وذريعة معينة، وتقدّم- أيده الله- بأخذ البيعة على نفسه وعلى أهل الملّة قاطبة للقائم بأمر الله سيّدنا ومولانا الخليفة الإمام المستنصر بالله أبي جعفر أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آله الخلفاء الراشدين، وكان له في ذلك المرام السّعيد، والمقام الحميد، والقدم «1» الذي رضي إبداءه وإعادته المبديء المعيد، وخاطب الدّيوان العزيز النبويّ- خلّد الله شرفه- متضرّعا لوسائل خدمته، متعرّضا لعواطف رحمته، وبعث رسوله على أصدق رجاء في القبول، وأثبت أمل في الإسعاف بالمأمول، وأثناء هذه الإرادة القويمة، والسّعادة الكريمة، تفاوض أهل البلاد في توثيق عقدهم للسلطان فلان المشار إليه الذي هو حكم من أحكام الإجماع المنعقد، وأصل أفضى إليه نظر الناظر واجتهاد المجتهد، إذ أجالوا الأمر فيما يزيده وثاقة، ويكسو وجهه على الأيّام بشرا وطلاقة، ويجعل القلوب مطمئنّة برسوخه في الأعقاب، وثبوته على الأحقاب، فلم يروا رأيا أسدّ، ولا عملا أحصف وأشدّ، من أن يطلبوه بعقد البيعة لابنه الواثق بالله المعتصم به أبي بكر محمد بن مجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، على أن يكون وليّ عهدهم مدّة والده مدّ الله في حياته، وأميرهم عند الأجل الذي لا بدّ من موافاته، فأمضى لهم ذلك من اتّفاقهم، وأثبتوا على ما شرطته بيعته في أعناقهم. وبعد ذلك أتى صولة الإسلام، وصلة دار السّلام، وورد رسول مثابة الجلالة، ونيابة الرّسالة، وملتزم الملائك، ومعتصم الممالك، ومعه الكتاب الذي هو نص أغنى عن القياس، بل هو نور يمشي به في الناس، وأدّى إلى السلطان فلان المشار إليه من تشريف الدّيوان العزيز النبويّ ما وسمه من الفخار بأجلّ وسمه، وقلّده السيف الصارم وسمّاه باسمه، فتلاقى السيفان المضروب والضارب، واشتبه الوصفان الماضي
والقاضب، وبرزت تلك الخلع «1» فابيضّ وجه الإسلام من سوادها، ووضع الكتاب فكادت المنابر تسعى إليه شوقا من أعوادها، وقرئت وصايا الإمام، على الأنام، فعلموا أنها من تراث الرّسالة، وقالوا: كافل الإسلام جدّد له بهذا الصّقع الغربيّ حكم الكفالة، وسمعوا من التقدّم بإنصافهم، والتهمّم بمواسطهم وأطرافهم، جملا عفّروا لها الجباه جودا بالجهد، وسجدوا للشّكر والحمد، فأدركوا من بركة المشاهد أثبت شرف وأبقاه، ورأوا حقيقة ما كادت الأوهام تزول عن مرقاه، وازدادوا يقينا بفضل ما صاروا إليه، ورأوا عيانا يمن ما بايعوا عليه، فتوافت طوائفهم المتبوعة، وجماهيرهم المجموعة، بدارا إلى المراضي الشّريفة، وبناء على وصايا عهد الخليفة، أن يجدّدوا البيعة لمجاهد الدّين، سيف أمير المؤمنين، تولّى الله عضده، ولابنه الواثق بالله المعتصم به أنهضه الله بإمرته بعده، ولم تعد أن تكون الزّيادة الطارئة شرطا في تقرير الإمرة «2» المؤدّاة وإثباتها، أو جارية مجرى السّنن الّتي يؤمر المصلّي بالإعادة عند فواتها، فأعادوا بيعته أداء للفريضة ورجاء للفضيلة، واستندوا إلى الإشارات الجليلة، بعد الاستخارات الطويلة، ورأوا أن يأخذوا بها عادة البيعات العبّاسية، واتّخاذ حكم الأصل طريق الإلحاقات القياسيّة، فبايعوا على تذكّر بيعة أكّدوها بالعهود المستحفظة، ووثّقوها بالأيمان المغلّظة، وبادروا بها نداء مناديهم، وأعطوا على الإصفاق بها صفقة أيديهم.
ولمّا انتهى ذلك إلى الملإ من أهل فلانة وجهاتها، رأوا أن يحلف من سبق، ويصدقوا النّيّة مع من صدق، ويعقدوا ما عقدوا على ما صرّح به العهد الشريف ونطق، فحضر منهم العلماء والصّلحاء، والأجناد والوزراء والفقهاء، والكافّة على تباينهم في المراتب، وتفاوتهم في المناصب، واختلافهم في المواطن والمكاسب، فأمضوها بيعة كريمة المقاصد، سليمة المعاقد، عهدها محكم،
وعقدها مبرم، وموجبها طاعة وسمع، والتقيّد بها سنّة وشرع، ويعمرون بها أسرارهم، ويفنون عليها أعمارهم، ويدينون بها في عسر ويسر، وربح وخسر، وضيق ورفاهية، ومحبّة وكراهية، تبرعوا بذلك كلّه طوعا، واستوفوه فصلا فصلا ونوعا نوعا، وعاهدوا عليها الذي يعلم السّرّ وأخفى، وأضمروا منها على ما أبرّ على الظاهر وأوفى، وتقبّلوا من الوفاء به ما وصف الله به خليله إذ قال:
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى
«1» ، وأقسموا بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم، وبما أخذه على أنبيائه الكرام من العهود المؤكّدة، والمواثيق المشدّدة، على أنهم إن حادوا عن هذه السبيل، وانقادوا لداعي التحريف والتّبديل، فهم برآء من حول الله وقوته إلى حولهم وقوّتهم، تاركون ذمّته الوافية لذمّتهم، والأيمان كلها لازمة لهم على مذهب إمام دار الهجرة، وطلاق كل امرأة في ملك كل واحد منهم لازم لهم ثلاثا، وأيّما امرأة تزوّجها في البلاد الفلانية فطلاقها لازم له، كلّما تزوّج واحد منهن واحدة خرجت طالقا ثلاثا، وعلى كلّ واحد منهم المشي إلى بيت الله الحرام على قدميه، محرما من منزله بحجّة كفّارة لا تجزيء عن حجّة الإسلام، وعبيدهم وأرقّاؤهم عتقاء لاحقون بأحرار المسلمين، وجميع أموالهم عينا وعرضا، حيوانا وأرضا، وسائر ما يحويه المتملّك كلّا وبعضا، صدقة لبيت مال المسلمين، حاشى عشرة دنانير. كلّ ذلك على أشدّ مذاهب الفتوى، وألزمها لكلمة التّقوى، وأبعدها من مخالفة الهوى والظاهر والفحوى، أرادوا بذلك رضا الخلافة الفلانية والفلانية (بلقبي السلطنة) للسلطان وولده المأخوذ لهما البيعة بعد بيعته، وأشهدوا الله على أنفسهم، وكفى بذلك اعتزاما والتزاما، وشدّا لما أمر به وإحكاما:
وفَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ
«2» وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً
«3» .
وهم يرفعون دعاءهم إلى الله تضرّعا واستسلاما، ويسألونه عصمة وكفاية افتتاحا
واختتاما، اللهم إنّا قد أنفذنا هذا العقد اقتداء واهتماما، وقضينا حقّه إكمالا وإتماما، وأسلمنا وجهنا إليك إسلاما، فعرّفنا من خيره وبركته نماء ودواما، واكلأنا بعينك حركة وسكونا ويقظة ومناما، وهَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً «1»
إنك أنت الله منتهى الرّغبات، ومجيب الدّعوات، وإله الأرض والسّموات.
وهذه نسخة بيعة مرتبة على موت خليفة، أنشأتها على هذه الطريقة لموافقتها رأي كتّاب الزمان في افتتاح عهود الملوك عن الخلفاء «بالحمد لله» كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، وتعرّضت فيها إلى قيام سلطان بعقدها؛ لمطابقة ذلك لحال الزّمان وهي:
الحمد لله الذي جعل الأمّة المحمدية أبذخ الأمم شرفا، وأكرمها نجارا وأفضلها سلفا، وجعل رتبة الخلافة أعلى الرّتب رتبة وأعزّها كنفا، وخصّ الشجرة الطيبة من قريش بأن جعل منهم الأئمة الخلفا، وآثر الأسرة العبّاسيّة منها بذلك، دعوة سبقت من ابن عمّهم المصطفى، وحفظ بهم نظامها على الدّوام فجعل ممن سلف منهم خلفا.
نحمده على أن هيّأ من مقدّمات الرّشد ما طاب الزّمان به وصفا، وجدّد من رسوم الإمامة بخير إمام ما درس منها وعفا، وأقام للمسلمين إماما تأرّج الجوّ بنشره فأصبح الوجود بعرفه معترفا.
ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص تمسّك بعهدها فوفى، وأعطاها صفقة يده للمبايعة فلا يبغي عنها مصرفا، وأنّ محمدا عبده ورسوله الذي تدارك الله به العالم بعد أن أشفى فشفى، ونسخت آية دينه
الأديان، وجلا «1» بشرعته المنيرة من ظلمة الجهل سدفا «2» ، وجعل مبايعه مبايعا لله يأخذه بالنّكث ويوفّيه أجره على الوفا، صلّى الله عليه وعلى آله الأطهار وعترته الشّرفا، ورضي الله عن أصحابه الذين ليس منهم من عاهد الله فغدر ولا وادّ في الله فجفا، خصوصا من جاء بالصّدق وصدّق به فكان له قرابة وصفوة الصّفا، والمرجوع إليه في البيعة يوم السّقيفة «3» بعد ما اشرأبّت نحوها نفوس كادت تذوب عليها أسفا، والقائم في قتال أهل الرّدّة من بني «4» حنيفة حتّى استقاموا على الحنيفيّة حنفا، ومن استحال دلو الخلافة في يده غربا فكان أفيد عبقريّ قام بأمرها فكفى، وعمّت فتوحه الأمصار وحملت إليه أموالها فلم يمسكها إقتارا ولم يبذّر فيها سرفا. ومن كان فضله لسهم الاختيار من بين أصحاب الشّورى هدفا، وجمع الناس في القرآن على صحيفة واحدة وكانت قبل ذلك صحفا، ومن سرى إليه سرّ:«أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى» فغدا يجرّ من ذيل الفخار سجفا، واستولى على المكارم من كلّ جانب فحاز أطرافها طرفا طرفا، وعلى سائر الخلفاء الراشدين بعدهم ممّن سلك سبيل الحق ولطريق الهدى اقتفى، صلاة ورضوانا يذهبان الداء العضال من وخامة الغدر ويجلبان الشّفا، ويرفعان قدر صاحبهما في الدنيا ويبوّئان منتحلهما من جنّات النعيم غرفا.
أما بعد، فإنّ عقد الإمامة لمن يقوم بأمر الأمّة واجب بالإجماع، مستند
لأقوى دليل تنقطع دون نقضه الأطماع، وتنبو عن سماع ما يخالفه الأسماع، إذ العباد مجبولون على التباين والتغاير، مطبوعون على التحالف والتناصر، [مضطّرّون إلى التّعاون والتّجاور، مفتقرون إلى التعاضد والتّوازر «1» ] ، فلا بدّ من زعيم يمنعهم من التظالم، ويحملهم على التناصف في التداعي والتحاكم، ويقيم الحدود فتصان المحارم عن الانتهاك، وتحفظ الأنساب عن الاختلاط والاشتراك، ويحمي بيضة الإسلام فيمنع أن تطرق، ويصون الثّغور أن يتوصّل إليها أو يتطرّق، ليعزّ الإسلام دارا، ويطمئنّ المستخفي ليلا ويأمن السارب نهارا، ويذبّ عن الحرم فتحترم، ويذود عن المنكرات فلا تغشى بل تصطلم، ويجهّز الجيوش فتنكأ العدوّ، وتغير على بلاد الكفر فتمنعهم القرار والهدوّ، ويرغم أنف الفئة الباغية ويقمعها، ويدغم الطائفة المبتدعة ويردعها، ويأخذ أموال بيت المال بحقّها فيطاوع، ويصرفها إلى مستحقّها فلا ينازع، لا جرم اعتبر للقيام بها أكمل الشّروط وأتمّ الصّفات، وأكرم الشّيم وأحسن السّمات.
وكان السيد الأعظم الإمام النبويّ، سليل الخلافة، ووليّ الإمامة، أبو فلان فلان العبّاسيّ المتوكّل على الله «مثلا» أمير المؤمنين، سلك الله تعالى به جدد آبائه الراشدين، هو الذي جمع شروطها فوفّاها، وأحاط منها بصفات الكمال واستوفاها، ورامت به أدنى مراتبها فبلغت إلى أغياها، وتسوّر معاليها فرقي إلى أعلاها، واتّحد بها فكان صورتها ومعناها- وكانت الإمامة قد تأيّمت ممن يقوم بأعبائها، وعزّت خطّابها لقلّة أكفائها، فلم تلف لها بعلا يكون لها قرينا، ولا كفئا تخطبه يكون لديها مكينا، إلّا الإمام الفلانيّ المشار إليه، فدعته لخطبتها، وهي بيت عرسه، وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ
«2» فأجاب خطبتها، ولبّى دعوتها؛ لتحقّقه رغبتها إليه وعلمه بوجوب إجابتها عليه، إذ هو شبلها الناشيء بغابها، وغيثها المستمطر من سحابها، بل هو أسدها الهصور، وقطب فلكها الذي عليه تدور، ومعقلها الأمنع الحصين، وعقدها الأنفس
الثّمين، وفارسها الأروع وليثها الشّهير، وابن بجدتها الساقطة منه على الخبير، وتلادها العليم بأحوالها، والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها، وترجمانها المتكلّم بلسانها، وعالمها المتفنّن في أفنانها، وطبيبها العارف بطبّها، ومنجدها الكاشف لكربها.
وحين بلغت من القصد سولها «1» ، ونالت بالإجابة منه مأمولها، وحرم على غيره أن يسومها لذلك تلويحا، أو يعرّج على خطبتها تعريضا وتصريحا، احتاجت إلى وليّ يوجب عقدها، وشهود تحفظ عهدها، فعندها قام السلطان الأعظم الملك الفلانيّ (بالألقاب السلطانية إلى آخرها) خلّد الله سلطانه، ونصر جنوده وجيوشه وأعوانه، فانتصب لها وليّا، وأقام يفكّر في أمرها مليّا، فلم يجد أحقّ بها منه فتجنّب عضلها، فلم تكن تصلح إلّا له ولم يكن يصلح إلّا لها، فجمع أهل الحلّ والعقد، المعتزين للاعتبار والعارفين بالنّقد، من القضاة والعلماء، وأهل الخير والصّلحاء، وأرباب الرأي والنّصحاء، فاستشارهم في ذلك فصوّبوه، ولم يروا العدول عنه إلى غيره بوجه من الوجوه، فاستخار الله تعالى وبايعه، فتبعه أهل الاختيار فبايعوا، وانقادوا لحكمه وطاوعوا، فقابل عقدها بالقبول بمحضر من القضاة والشّهود فلزمت، ومضى حكمها على الصحة وانبرمت. ولمّا تمّ عقدها، وطلع بصبح اليمن سعدها، التمس المقام الشريف السلطانيّ الملكيّ الفلانيّ المشار إليه أعلى الله شرف سلطانه ورفع محلّه، وقرن بالتوفيق في كلّ أمر عقده وحلّه، أن يناله عهدها الوفيّ، ويرد منها موردها الصّفيّ، ليرفع بذلك عن أهل الدّين حجبا، ويزداد من البيت النبويّ قربا، فتعرّض لنفحاتها من مقرّراتها، وتطلّب بركاتها من مظنّاتها، ورغب إلى أمير المؤمنين، وابن عم سيد المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، أن يجدّد له بعهد السلطنة الشريفة
عقدا، ويأخذ له على أهل البيعة بذلك عهدا، ويستحلفهم على الوفاء لهما بما عاهدوا، والوقوف عند ما بايعوا عليه وعاقدوا، ليقترن السّعدان فيعمّ نوءهما، ويجتمع النّيّران فيبهر ضوءهما، فلبّاه تلبية راغب، وأجابه إجابة مطلوب وإن كان هو الطالب، وعهد إليه في كلّ ما تقتضيه أحكام إمامته في الأمة عموما وشيوعا، وفوّض له حكم الممالك الإسلاميّة جميعا، وجعل إليه أمر السلطنة المعظّمة بكلّ نطاق، وألقى إليه مقاليدها وصرّفه فيها على الإطلاق، وأقامه في الأمة لعهد الخلافة وصيّا، وجعله للإمامة بتفويض الأمر إليه وليّا، ونشر عليه لواء الملك وقلّده سيفه العضب، وألبسه الخلعة السّوداء فابيضّ من سوادها وجه الشرق والغرب، وكتب له بذلك عهدا كبت عدوّه، وزاد شرفه وضاعف سموّه، وطولب أهل البيعة بالتّوثيق على البيعتين بالأيمان فأذعنوا، واستحلفوا على الوفاء فبالغوا في الأيمان وأمعنوا، وأقسموا بالله جهد أيمانهم، بعد أن أشهدوا الله عليهم في إسرارهم وإعلانهم، وأعطوا المواثيق المغلّظة المشدّدة، وحلفوا بالأيمان المؤكّدة المعقّدة، على أنهم إن أعرضوا عن ذلك أو أدبروا، وبدّلوا فيه أو غيّروا، أو عرّجوا عن سبيله أو حادوا، أو نقصوا منه أو زادوا، فكلّ منهم بريء من حول الله وقوّته إلى حول نفسه وقوّته، وخارج من ذمّته الحصينة إلى ذمّته، وكلّ امرأة في نكاحه أو يتزوّجها في المستقبل فهي طالق ثلاثا بتاتا، وكلّما راجعها فهي طالق طلاقا لا يقتضي إقامة ولا ثباتا، وكلّ مملوك في ملكه أو يملكه في المستقبل حرّ لا حق بأحرار المسلمين، وكلّ ما ملكه أو يملكه من جماد وحيوان صدقة عليه للفقراء والمساكين، وعليه الحجّ إلى بيت الله الحرام، والوقوف بعرفة وسائر المشاعر العظام، محرما من دويرة أهله ماشيا، حاسرا عن رأسه وإن كان به أذى حافيا، يأتي بذلك في ثلاثين حجّة متتابعة على التمام، لا تجزئه واحدة منها عن حجّة الإسلام، وإهداء مائة بدنة «1» للبيت العتيق كلّ سنة
على الدّوام، وعليه صوم جميع الدّهر إلّا المنهيّ عنه من الأيّام، وأن يفكّ ألف رقبة مؤمنة من أسر الكفر في كلّ عام، يمين كلّ منهم في ذلك على نيّة أمير المؤمنين، وسلطان المسلمين، في سرّه وجهره وأوّله وآخره، لا نيّة للحالف في ذلك في باطن الأمر ولا في ظاهره، لا يورّي في ذلك ولا يستثني، ولا يتأوّل ولا يستفتي، ولا يسعى في نقضها، ولا يخالف فيها ولا في بعضها، متى جنح إلى شيء من ذلك كان آثما، وما تقدّم من تعقيد الأيمان له لازما، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، ولا يجزئه عن ذلك كفّارة أصلا، كلّ ذلك على أشدّ المذاهب بالتخصيص، وأبعدها عن التساهل والتّرخيص. وأمضوها بيعة ميمونة، باليمن مبتدأة بالنّجح مقرونة، وأشهدوا عليهم بذلك من حضر مجلس العقد من الأئمة الأعلام، والشّهود والحكّام، وجعلوا الله تعالى على ما يقولون وكيلا، فاستحقّ عليهم الوفاء بقوله عزّت قدرته: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا «1»
. وهم يرغبون إلى الله تعالى أن يضاعف لهم بحسن نيّتهم الأجور، ويلجأون إليه أن يجعل أئمتهم ممّن أشار تعالى إليه بقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «2»
. إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بيعة مرتّبة على خلع خليفة، أنشأتها على هذه الطريقة أيضا، وتعرّضت فيها لذكر السلطان القائم بها، على ما تقدّم في البيعة المرتّبة على موت خليفة، وهي:
الحمد لله الذي جعل بيت الخلافة مثابة للناس وأمنا، وأقام سور الإمامة وقاية للأنام وحصنا، وشدّ لها بالعصابة القرشيّة أزرا وشاد منها بالعصبة العبّاسيّة ركنا، وأغاث الخلق بإمام هدى حسن سيرة وصفا سريرة فراق صورة ورق معنى، وجمع قلوبهم عليه فلم يستنكف عن الانقياد إليه أعلى ولا أدنى، ونزع جلبابها عمّن شغل بغيرها فلم يعرها نظرا ولم يصغ لها أذنا، وصرف وجهها عمّن أساء فيها تصرّفا فلم يرفع بها رأسا ولم يعمر لها مغنى.
نحمده على نعم حلت للنفوس حين حلّت، ومنن جلت الخطوب حين جلّت، ومسارّ سرت إلى القلوب فسرّت، ومبارّ أقرّت العيون فقرّت، وعوارف أمّت الخليقة فتوالت وما ولّت، وقدم صدق ثبتت إن شاء الله في الخلافة فما تزلزلت ولا زلّت.
ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لنا من درك الشّكوك كالئة، ولمهاوي الشّبه دارئة، وللمقاصد الجميلة حاوية، ولشقّة الزّيغ والارتياب طاوية، وأنّ محمدا عبده ورسوله الذي نصح الأمّة إذ بلّغ فشفى عليلها، وأوردها من مناهل الرّشد ما أطفأ وهجها وبرّد غليلها، وأوضح لهم مناهج الحقّ ودعاهم إليها، وأبان لهم سبل الهداية: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «1»
صلّى الله عليه وعلى آله أئمة الخير وخير الأئمّة، ورضي عن أصحابه أولياء العدل وعدول الأمّة، صلاة ورضوانا يعمّان سائرهم، ويشملان أوّلهم وآخرهم، سيّما الصديق الفائز بأعلى الرّتبتين صدقا وتصديقا، والحائز قصب السبق في الفضيلتين علما وتحقيقا، ومن عدل الأنصار إليه عن سعد بن عبادة بعد ما أجمعوا على تقديمه، وبادر المهاجرون إلى بيعته اعترافا بتفضيله وتكريمه، والفاروق الشديد في الله بأسا واللّيّن في الله جانبا، والموفي للخلافة حقّا والمؤدّي للإمامة واجبا، والقائم في نصرة الدّين حقّ القيام حتّى عمّت فتوحه الأمصار مشارق ومغاربا، وأطاعته العناصر الأربعة؛ إذ
كان لله طائعا ومن الله خائفا وإلى الله راغبا، وذي النّورين المعوّل عليه من بين سائر أصحاب الشّورى تنويها بقدره، والمخصوص بالاختيار تفخيما لأمره، من حصر في بيته فلم يمنعه ذلك عن تلاوة كتاب الله وذكره، وشاهد سيوف قاتليه عيانا فقابل فتكاتها بجميل صبره، وأبي الحسن الذي أعرض عن الخلافة حين سئلها، واستعفى منها بعد ما اضطّرّ إليها وقبلها، وكشف له عن حقيقة الدنيا فما أمّ قبلتها بقلبه ولا ولّى وجهه قبلها، وصرّح بمقاطعتها بقوله:«يا صفراء غرّي غيري، يا بيضاء غرّي غيري» لمّا وصلها من وصلها، وسائر الخلفاء الراشدين بعدهم، الناهجين نهجهم والواردين وردهم.
أما بعد، فإنّ للإمامة شروطا يجب اعتبارها في الإمام، ولوازم لا يغتفر فواتها في الابتداء ولا في الدّوام، وأوصافا يتعيّن إعمالها، وآدابا لا يسع إهمالها، من أهمّها العدالة الّتي ملاكها التّقوى، وأساسها مراقبة الله تعالى في السّرّ والنّجوى، وبها تقع الهيبة لصاحبها فيجلّ، وتميل النّفوس إليها فلا تمل، فهي الملكة الداعية إلى ترك الكبائر واجتنابها، والزاجرة عن الإصرار على الصّغائر وارتكابها، والباعثة على مخالفة النفس ونهيها عن الشّهوات، والصارفة عن انتهاك حرمات الله الّتي هي أعظم الحرمات، والموجبة للتعفّف عن المحارم، والحاملة على تجنّب الظّلامات وردّ المظالم، والشّجاعة الّتي بها حماية البيضة والذّب عنها، والاستظهار بالغزو على نكاية الطائفة الكافرة والغضّ منها، والقوّة بالشوكة على تنفيذ الأوامر وإمضائها، وإقامة الحدود واستيفائها، ونشر كلمة الحق وإعلائها، ودحض كلمة الباطل وإخفائها، وقطع مادّة الفساد وحسم أدوائها، والرأي المؤدّي إلى السياسة وحسن التدبير، والمغني في كثير من الأماكن عن مزيد الجدّ والتشمير، والمعين في خدّع الحرب ومكايده، والمسعف في مصادر كلّ أمر وموارده.
هذا وقد جعلنا الله أمّة وسطا، ووعظنا بمن سلف من الأمم ممن تمرّد وعتا أو تجبّر وسطا، وعصم أمّتنا أن تجتمع على الضّلال، وصان جمعنا عن الخطل في الفعال والمقال، وندبنا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسوّغ
لأئمّتنا الاجتهاد في النّوازل والأحكام فاجتهادهم لا ينكر، خصوصا في شأن الإمامة الّتي هي آكد أسباب المعالم الدينيّة وأقواها، وأرفع المناصب الدّنيويّة وأعلاها، وأعزّ الرّتب رتبة وأغلاها، وأحقّها بالنظر في أمرها وأولاها. وكان القائم بأمر المسلمين الآن فلان بن فلان الفلانيّ ممّن حاد عن الصّراط المستقيم، وسلك غير النّهج القويم، ومال عن سنن الخلفاء الراشدين فأدركه الزّلل، وقارف المآثم فعاد بالخلل، فعاث في الأرض فسادا، وخالف الرّشد عنادا، ومال إلى الغيّ اعتمادا، وأسلم إلى الهوى قيادا، قد انتقل عن طور الخلافة، وعزيز الإنافة، إلى طور العامّة فاتّصف بصفاتهم، واتّسم بسماتهم، فمنكر يجب عليه إنكاره قد باشره، وصديق سوء يتعيّن عليه إبعاده قد وازره وظاهره، إن سلك فسبيل التّهمة والارتياب، أو قصد أمرا نحا فيه غير الصّواب، منهمك على شهواته، منعكف على لذّاته، متشاغل عن أمر الأمّة بأمر بنيه وبناته، الجبن رأس ماله، وعدم الرأي قرينه في أفعاله وأقواله، قد قنع من الخلافة باسمها، ورضي من الإمامة بوسمها، وظنّ أنّ السّودد في لبس السّواد فمال إلى الحيف، وتوهّم أنّ القاطع الغمد فقطع النظر عن السّيف.
ولمّا اطّلع الناس منه على هذه المنكرات، وعرفوه بهذه السّمات، وتحقّقوا فيه هذه الوصمات، رغبوا في استبداله، وأجمعوا على خلعه وزواله، فلجأوا إلى السلطان الأعظم الملك الفلاني (بالألقاب السلطانية إلى آخرها) نصر الله جنوده، وأسمى جدوده، وأرهف على عداة الله حدوده، ففوّضوا أمرهم في ذلك إليه، وألقوا كلّهم عليه، فجمع أهل الحلّ والعقد منهم، ومن تصدر إليهم الأمور وترد عنهم، فاستخاروا الله تعالى وخلعوه من ولايته، وخرجوا عن بيعته، وانسلخوا عن طاعته، وجرّدوه من خلافته، تجريد السّيف من القراب، وطووا حكم إمامته، كطيّ السّجلّ للكتاب. وعندما تمّ هذا الخلع، وانطوى حكمه على البتّ والقطع، التمس الناس إماما يقوم بأمور الإمامة فيوفيها، ويجمع شروطها ويستوفيها، فلم يجدوا لها أهلا، ولا بها أحقّ وأولى، وأوفى بها وأملى، من السيّد الأعظم الإمام النبوي سليل الخلافة، ووليّ الإمامة أبي
فلان فلان العباسيّ الطائع لله «مثلا» أمير المؤمنين، لا زال شرفه باذخا، وعرنينه الشريف شامخا، وعهد ولايته لعهد كلّ ولاية ناسخا، فساموه بيعتها فلبّى، وشاموا برقه لولايتها فأجاب وما تأبّى، علما منه بأنها تعينّت عليه، وانحصرت فيه فلم تجد أعلى منه فتعدل إليه، إذ هو ابن بجدتها «1» ، وفارس نجدتها، ومزيل غمّتها، وكاشف كربتها، ومجلي غياهبها، ومحمد عواقبها، وموضّح مذاهبها، وحاكمها المكين، بل رشيدها الأمين، فنهض المقام «2» الشريف السلطانيّ الملكيّ الفلانيّ المشار إليه، قرن الله مقاصده الشريفة بالنّجاح، وأعماله الصالحة بالفلاح، وبدر إلى بيعته فبايع، وأتمّ به من حضر من أهل الحلّ والعقد فتابع، وقابل عقدها بالقبول فمضى، ولزم حكمها وانقضى، واتّصل ذلك بسائر الرعيّة فانقادوا، وعلموا صوابه فمشوا على سننه وما حادوا، وشاع خبر ذلك في الأمصار وطارت به مخلّقات البشائر إلى سائر الأقطار، فتعرّفوا منه اليمن فسارعوا إلى امتثاله، وتحقّقوا صحّته وثباته بعد اضطرابه واعتلاله، واستعاذوا من نقص يصيبه بعد تمامه لهذا الخليفة وكماله، فعندها أبانت الخلافة العبّاسية عن طيب عنصرها، وجميل وفائها وكريم مظهرها، وجادت بجزيل الامتنان، وتلا لسان كرمها الوفيّ على وليّها الصادق: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ
«3» فجدّد له بالسّلطنة الشريفة عهدا، وطوّق جيده بتفويضها إليه عقدا، وجعله وصيّه في الدّين، ووليّه في أمر المسلمين، وقلّده أمر الممالك الإسلامية وألقى إليه مقاليدها، وملّكه أزمّتها وحقّق له مواعيدها، وعقد له لواءها ونشر عليه أعلامها، وصرّفه فيها على الإطلاق وفوّض إليه أحكامها، وألبسه الخلعة السّوداء فكانت لسؤدده شعارا، وأسبغ عليه رداءها
فكان له دثارا، وكتب له العهد فسقى المعاهد صوب العهاد، ولهج الأنام بذكره فاطمأنّت العباد والبلاد، وعندما تمّ هذا الفصل، وتقرّر هذا الأصل، وأمست الرّعايا بما آتاهم الله من فضله فرحين، وبنعمته مستبشرين، طولب أهل البيعة بما يحملهم على الوفاء، ويمنع بيعتهم من التكدّر بعد الصّفاء، من توثيق عقدها بمؤكّد أيمانها، والإقامة على الطاعة لخليفتها وسلطانها، فبادروا إلى ذلك مسرعين، وإلى داعيه مهطعين، وبالغوا في المواثيق وأكّدوها، وشدّدوا في الأيمان وعقّدوها، وأقسموا بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشّهادة، عالم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور في البدء والإعادة، على الوفاء لهما والموالاة، والنّصح والمصافاة، والموافقة والمشايعة، والطاعة والمتابعة، يوالون من والاهما، ويعادون من عاداهما، لا يقعدون عن مناصرتهما عند إلمام ملمّة، ولا يرقبون في عدوّهما إلّا ولا ذمّة، جارين في ذلك على سنن الدّوام والاستمرار، والثّبوت واللّزوم والاستقرار، على أنّ من بدّل منهم من ذلك شرطا أو عفّى له رسما، أو حاد عن طريقه أو غيّر له حكما، أو سلك في ذلك غير سبيل الأمانة، أو استحلّ الغدر وأظهر الخيانة، معلنا أو مسرّا في كلّه أو بعضه، متأوّلا أو محتالا لإبطاله أو نقضه، فقد بريء من حول الله المتين وقوّته الواقية، وركنه الشديد وذمّته الوافية، إلى حول نفسه وقوّته، وركنه وذمّته. وكلّ امرأة في عصمته الآن أو يتزوّجها مدّة حياته طالق ثلاثا بصريح لفظ لا يتوقّف على نيّة، ولا يفرق فيه بين سنّة ولا بدعة ولا رجعة فيه ولا مثنويّة، وكلّ مملوك في ملكه أو يملكه في بقيّة عمره من ذكر أو أنثى حرّ من أحرار المسلمين، وكلّ ما هو على ملكه أو يملكه في بقيّة عمره إلى آخر أيّامه من عين أو عرض صدقة للفقراء والمساكين، وعليه الحجّ إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجّة بثلاثين عمرة راجلا حافيا حاسرا، لا يقبل الله منه غير الوفاء بها باطنا ولا ظاهرا، وإهداء مائة بدنة «1» في كل حجّة