الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
برحت بعيون الأعداء فإذا هم بالسّاهرة.
الأجوبة عن كتب الأخبار قال في «موادّ «1» البيان» : الأخبار على أكثر الأحوال لا أجوبة لها، وإنما هي مطالعات بأمور ينهيها الخدّام، وأصحاب البرد إلى السلاطين، مما تخرج أوامرهم إلى الولاة «2» بما تضمّنته، مما يقتضيه كلّ خبر ينهى من سياسة عامّة، أو مصلحة تامّة، قال: فأما ما يستعمله الإخوان في المكاتبة بالأخبار الّتي يكل بعضهم إلى بعض الإخبار بها، فمنها ما يقتضي الجواب، ومنها ما لا يقتضيه.
قال: وأجوبة ما يقتضي الجواب منها تفتنّ بحسب افتنان الأخبار والأغراض الّتي يجيب المجيب بها، وهو أيضا مما لا يعبّر عنه بقول جامع ولا برسم رسم كلّيّ، وإنما يرجع فيه إلى الأمور الّتي يبتدأ بها ويجاب عنها.
النوع السابع عشر (المداعبة)
قال في «موادّ البيان» : ومعاني المداعبات الّتي يستعملها الإخوان غير متناهية، والأغراض الّتي ينتظمها المزاح وتعدّ من طلاقة النفس لا تقف عند قاصية؛ لأنها مستملاة من أحوال متباينة، ومأخوذة من أمور غير معينة، وحصرها في رسوم جامعة يستحيل، وتمثيلها غير مفيد؛ لأنه لا تعلّق لبعضها ببعض، ولا نسبة بين الواحد والآخر، ثم قال: والأحسن بأهل الوداد والصّفاء، والأليق بذوي المخالصة والوفاء، أن يتنزّهوا في المداعبة الدائرة بينهم عن بذيء اللفظ ومفحشه، ومؤلم الخطاب ومقذعه، ويكفّوا اللسان واليد عن الانطلاق بما يدل
على خفّة الأحلام، والرّضا بالرّذل من الكلام اللائق بسفهاء العوامّ، ويتحرّجوا من إرسال قول يبقى وصمة على [مدى الأيّام] إذ لا فرق بين جرح اللّسان وجرح اليد، وقد نطق بها المثل؛ لما في ذلك من الترفّع عن دنايا الأمور الّتي لا يتنازل إليها الكرماء، والتنزّه عن المساقط الّتي لا يستعملها الأدباء، وصيانة المروءة عما يشينها ويخدشها، وتوقيرها عما ينقصها، والأمن من الجواب الذي ربّما قدح في النفس وأثّر، وأحمى الصدر وأوغر، ونقل عن التّوادد إلى التّضادد، وعن التّداني إلى التّباعد، وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه بقوله من أبياته المنسوبة إليه (متقارب) .
فربّ كلام يمضّ الحشا
…
وفيه من الضّحك ما يستطاب
مع مراعاة السلامة من المداخلة المنطوية على الغلّ، والمراآة المبنيّة على المكر، إذا لم يكن للمقابلة على الابتداء الممضّ بالجواب المريض، وغير ذلك مما لا تؤمن عاقبته، ولا تحسن عائدته. قال: ويكون المستعمل في هذا الفنّ ما خفّ موقعه، ولطف موضعه، وهشّ له سامعه، وتلقّاه الوارد عليه مستحليا لثماره، مستدعيا لأنظاره، ولا يعدل به عن سمت الصّدق، وطريق الحقّ، ومذهب التحرّز من المذق «1» ، ويقتصر فيه على النادرة المستطرفة، والنّكتة المستظرفة، واللّمعة المستحسنة، والفقرة المستغربة، دون الإطالة المملّة، ولا يجعل المزح غالبا على الكلام، مداخلا لجميع الأقسام، فإنّ ذلك يفسد معاني المكاتبة، ويحيل نظام المخاطبة، ويضع من معناها وإن كان شريفا، ويوخم لفظها وإن كان لطيفا، ويذهب بجدّها في مذهب الهزل ويميله عن القصد؛ وإلى ذلك يشير بعضهم بقوله (طويل) .
أفد طبعك المكدود بالجدّ راحة
…
بلهو وعلّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
…
بمقدار ما يعطى الطّعام من الملح
وأن يقتصد مع ذلك. ثم قال: وينبغي أن يقصد إلى استعمال الدّعابة في المواضع اللائقة بها، والأحوال المشابهة لها، ولا يودع بابا من الأبواب ما لا يحتمله من الخطاب، فإنّ القصد في هذا النّوع من المكاتبات إنما هو الإعراب عن الظّرف والبراعة، والإبانة عن طلاقة النّفس، والانسلاخ من تعبيس الفدامة «1» والجهامة، ثم عقّب ذلك بأن قال: ومن وقف من ذلك عند الحدّ الكافي، ولزم فيه الأدب اللائق بأهل التّصافي، دلّ على ما ذكرناه، وشهد لمستعمله بإحراز ما وصفناه، ومن تعدّى ذلك عدّ من المجون والملاعبة، وحسب من رذالة الطبع ونذالة الخيم وسفه اللسان، وغير ذلك من الأمور الّتي لا تليق بالكاتبين الكرام، الذين هم خيار الأنام، وولاة النقض والإبرام. وختم ذلك بأن قال: والكاتب إذا كان مهيّأ الطبع للانطباع برسوم الصّناعة ومناسبة أوضاعها، أغناه الوقوف على هذا القول المجمل في استعمال ما يقع في هذا الباب عن تمثيل مفصّل، ولم يذكر له مثالا.
ابن أبي الخصال:
سيّدي وواحدي الذي اجمّل ذكره، وأوالي شكره، لا زال مغناك رحيبا، وزمانك خصيبا، ولا زلت تأخذ لأخراك نصيبا، عبدك فلان مؤدّيها ينتجع الكرام، ويباري في جريها الأيّام، فتارة يجمع، وأخرى يفرّق، وطورا يغرّب، وطورا يشرّق، وأمّ الحضرة- وصل الله حراستها وأدام بهجتها ونفاستها- والملك بها غضّ الشّباب، وأخضر الجلباب، وإحسانك إحسانك، ومكانك من المروءة مكانك، فأوسعه قرى، واملأ عينيه على الشّبع كرى، أستغفر الله، بل أمجده تبنا وعلفا، وأركبه حزنا «2» من الأرض ظلفا «3» ، ودونكه لم يقلّب أرضه بيطار، ولا لجناية به جبّار، وجرحه جبار، وعنده كما علمت دعاء مباح، وثناء في الشكر
مساء وصباح، والسلام.
من كلام المتأخرين:
كتب بعضهم إلى كمال الدّين بن الأثير، وقد جاء إليه في بستانه فلم يجده ولا وجد من أنصفه:
حضر المملوك البستان، مستدنيا قطوف الإنعام والإحسان، واستمطر سحائب فضله، وهزّ إليه بجذع نخله، فلم تتساقط عليه رطبا جنيّا، فعلم أنه قد جاء شيئا فريّا، فثّبت نفسه مع تصاعد الأنفاس، والطمع ينشده (كامل) .
ما في وقوفك ساعة من باس
«1» فانطلق حتّى أتى القرية مستطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوه، مستعطفا حاشيته الرقيقة فأبوا «2» حاشيته أن يستعطفوه، وقال كلّ منهم: تطالب بالقرى كما تطالب بدينك، ارجع حيث شئت هذا فراق بيني وبينك. وعلم أنه لو أقام بها جدارا لما أعطي عليه أجرا، ولو حاول قرى لسمع من التوبيخ ما لم يستطع عليه صبرا، فرجع بخفّي حنين، بعد مشاقّ جرّعت كاسات الحين، فأين هذه المعاملة مما نشيعه عنه من كريم الخلال؟ وكيف نشكو نقص حظّ وله كمال الإحسان وإحسان الكمال؟
الأجوبة عن رقاع المداعبة قال في «موادّ البيان» : ينبغي للمجيب عن المداعبة أن يشتقّ من نفس الابتداء جوابا مناسبا لها، وأن يبنيه متى أحبّ الأخذ بالفضل على المسامحة، واطّراح المناقشة، والإغضاء عمّا يمضّ إبقاء على المودّة، وتحسينا لقبح الصّديق، وتعوّدا لعادة الحلم والاحتمال، وأن يذهب في الجواب مذهب الاختصار، وإيراد النّكت الرائعة كما في الابتداء، على ما تقدّم.