الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنّ مثله لا يهمل واجبا، ولأمر ما قال الأحنف «1» وقد وصف بالأناة: لكنّي أتعجّل أن لا أردّ كفؤا خاطبا.
النوع التاسع (في الاسترضاء والاستعطاف والاعتذار)
قال في «موادّ البيان» : المكاتبة في استعطاف الرّؤساء، وملاطفة الكبراء، تحتاج إلى حسن تأتّ؛ لما تشتمل عليه من إيجاب حقوق الخدمة، وما أسلفوه من مرعيّ الخدم، وما يتبع هذا من التنصّل والاعتذار الذي يسلّ السخائم من القلوب، ويستنزل الأوغار من الصّدور، ويطلع الأنس وقد غرب، ولها موقع في تأليف الكلام.
قال: وينبغي للكاتب أن يستعمل فيها فكره، ويوفّيها حقّها من جودة الترتيب، واستيفاء المعاني، وأن يذهب إلى استعمال الألفاظ الجامعة لمعاني العذر، الملوّحة بالبراءة مما قرف «2» به، ولا يخرج لفظه مخرج من يقيم الحجة على براءة الساحة مما رمي به، فإنّ ذلك مما يكرهه الرؤساء؛ لأنّ عادتهم جارية بإيثار اعتراف الخدّام لهم بالتقصير والتفريط والإخلال بالفروض، ليكون لهم في العفو عند الإقرار عارفة توجب شكرا مستأنفا، فأما إذا أقام التابع الحجة على براءته وسلامته مما رفع عنه، فلا يوضع الإحسان إلا «3» إليه في إقراره على منزلته، والرّضا عنه والاستعطاف، بل ذلك واجب له، في منعه منه ظلم.
وهذه نسخ من ذلك:
لابي الحسين بن سعد:
فإن رأيت أن تنظر في أمري نظرا يشبه أخلاقك المرضيّة ويكون لحسن ظنّي بك مصدّقا، ولعظيم أملي [فيك] محقّقا، ولما لم تزل تعدنيه منجزا، ولحقّ حرمتي بك وقديم اتّصالي بأسبابك قاضيا، فعلت، إن شاء الله تعالى.
ومنه: لسليمان «1» بن وهب:
من انصرف في الاحتجاج إلى الإقرار بما يلزمه وإن لم يكن لازما، فقد لطّف الاستعطاف، واستوجب المسامحة والإنصاف.
ومنه: وقد نالني من جفوة الأمير بعد الذي كنت أتعرّف من برّه وألطافه أمر أحلّني محلّ المذنب في نفسي مع البراءة من الذّنب، وألزمني الإساءة مع الخروج من التقصير، وزاده عندي عظما وشدّة أنّي حاولت الخروج منه بالاعتذار، فلم أجد لي إلى الأمير ذنبا أعتذر منه، ولا عليّ فيما ألزمني من معتبته حجة أحاول دفعها والتخلّص منها، فأصبحت أعالج من ذلك داء قد خفي دواؤه، وأحاول صلاح أمر لم أجن فساده، فإن رأيت أن تفعل كذا وكذا فتصل قديم ما أصبح عندي من معروفك بحديثه، فليس عندي في مطالبة حجّة أنجح من التوجّه إلى الأمير بنفسه، والثقة عنده بفضله، فإن كنت مذنبا عفا، وإن كنت بريئا راجع.
ومنه: لأبي «2» عليّ البصير:
وأنا أحد من أسكنته ظلّك، وأعلقته حبلك، وحبوته بلطيف برّك، وخاصّ عنايتك، وانتصف بك من الزّمان، واستغنى بإخائك عن الإخوان، فهو لا يرغب إلّا إليك، ولا يعتمد إلّا عليك، ولا يستنجح طلبه إلّا بك، وقد كان فرط منّي قول: إن تأوّلته لي، أراك أوجه عذري، وقام عندك بحجّتي، فأغناني عن توكيد الأيمان على حسن نيّتي، وإن تأوّلته عليّ، أحاق «1» بي لائمتك وحبسني على [أسوإ] حال عندك، وقد أتيتك معترفا بالزّلة، مستكينا للموجدة، عائذا بالصّفح والإقالة، فإن رأيت أن تقرّ عينا قرّت بنعمتك عندي، ولا تسلبني منها ما ألبستني، وأن تقتصر من عقوبتي على المكروه الذي نالني بسبب عتبك عليّ، وتأمر بتعريفي رأيك بما يطأمن هلعي، وتسكن إليه نفسي، ويأمن به روعي، فعلت، إن شاء الله تعالى.
ومنه: لأبي الحسين بن أبي «2» البغل:
نبوّ الطّرف من الوزير دليل على تغيّر الحال عنده، والجفاء ممن عوّد الله البرّ منه شديد، وقد استدللت بإزالة الوزير إيّاي النّحل الذي كان نحلنيه بتطوّله، على ما سؤت له ظنّا بنفسي، وما أخاف عتبا؛ لأني لم أجن ذنبا، فإن رأى الوزير أن يقوّمني لنفسي، ويدلّني على ما يريده منّي، فعل، إن شاء الله تعالى.
ومنه: لأبي «3» الرّبيع:
أصدق المقال، ما حقّقه الفعال، وأفضل الخبر، ما صدّقه الأثر.
ومنه: لمولانا سيرة في الفضل والإحسان ما أمّلها آمل إلّا جادت وسخت ومنحت، وعوائد في العفو ما رجاها راج إلّا صفحت وسمحت، وأحقّ من تلقّاه عند العثار، بالإقالة والاغتفار، ووقف به عند حدّ التقويم والإصلاح، ولم يعرّضه لنقيصة الإقصاء والاطّراح، من شفع الهفوة بالاعتذار، وخطب التغمّد بلسان الإقرار، ودلّت التجارب منه على حسم الأضرار، وكان له من سالف الخدم وسائل وذرائع، ومن صحيح الإخلاص ممهّد وشافع، فلا عجب أنّ المملوك يهفو فيعفو، ويظلم فيكظم، ويجهل فيحلم، ويخطيء فيصيب، ويدعو متنصّلا فيجيب، وقد جعل الله سهمه المعلّى، ويده الطّولى، وألهمه التفضّل بالإنعام، والتغميض عن زلّات الكرام، وقد حصل للمملوك في هذه النّبوة من إزرائه على عقله، وتقبيحه لفعله، أعظم تجربة، وأكبر مأدبة، والمملوك يسأل إحسان سيّدي أن يعيده إلى رضاه ولطفه، ويؤنس منه مستوحش إقباله وعطفه، ويصدّق رجاءه فيه، ويجزل ثواب وفادته عليه، إن شاء الله تعالى.
رقعة: المملوك يخطب صفح سيّده وإقالته بلسان الاغتفار، ويستعيد ما عرف من رضاه وعاطفته بوسائل الاعتذار، ليكون المتفضّل في كلّ الحالات، والمنعم من كلّ الجهات، وقد عرف السّهو والنّسيان، المعترضين للإنسان، وأنّهما يحولان بينه وبين قلبه، ويزوّران عليه خطأه في صورة صوابه، فيتورّط في السّقط غير عامد، ويتهوّر في الغلط غير قاصد، وقد قال الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ «1»
. وما أولى مولانا بأن يحفظ على المملوك جميل آرائه، ولا يسلبه ما شمله من ظلّ آلائه، ولا يسمه بميسم العقوق فإنه يجد نفسه بخلاف ذلك في طاعته، ومرتبتها بغير هذه الرتبة في خدمته.
فصل: وقد آوى سيدي المملوك من ظله، وأعلقه من حبله، وأسبغ عليه
من فضله، ما أنصفه به من الزّمان، وأغناه عن الإخوان، ووقف رغباته عليه، وصرف آماله إليه، ونزّله منزلة من لا يشكّ في اعتقاده، ولا يستريب بوداده، وكان المملوك أرسل لفظا على سبيل الإشفاق ذهب به الحاسد إلى غير معناه، وخالف في تفسيره حقيقة مغزاه، وأحاله عن بنيته، وعرضه عليه على غير صورته، ليوحش محلّ المملوك المأنوس من رعايته، وينفّر سربه المطمئنّ بملاحظته وعنايته، وقد أرسل المملوك هذه العبوديّة سائلا في محو إظلام موجدته، وأن يعيد المملوك إلى مكانه من حضرته، إن شاء الله تعالى.
لا أتوسّل إليك إلّا بك، ولا آتيك إلّا من بابك، ولا أستشفع إليك بسواك، ولا أكل رجعة هواك إلّا إلى هواك، ولا أنتظر إلّا عطفتك الّتي لا تقودها زخارف الأموال، ولا تعيدها شفاعات الرجال (طويل) .
إذا أنت لم تعطفك إلّا شفاعة
…
فلا خير في ودّ يكون بشافع
شعر في معنى ذلك (سريع) .
هبني تخطّيت إلى زلّة
…
ولم أكن أذنبت فيما مضى
أليس لي من قبلها خدمة
…
توجب لي منك سبيل الرّضى
غيره (وافر)
وحقّك ما هجرتك من ملال
…
ولا أعرضت إلّا خوف مقت
لأنّ طبائع الإنسان ليست
…
على وفق الإرادة كلّ وقت
اعتذار عن التأخر، من ترسل أبي الحسين بن سعد:
إن لم يكن في تأخّري عنك عذر تقبله، فاجعله ذنبا تغفره.
علي بن خلف:
الأعذار- أطال الله بقاء سيّدي- تنأى على الامتناع، وتضيق على الاتّساع، وذلك بحسب ما تصادفه من قبول وردّ، ومسامحة ونقد، وأنا أحمد الله
على أن جعل عذري إلى من يتمحّل العذر للمعتذر، ويصفح صفح المالك المقتدر، كأنّما ائتمّ بقول الشاعر (طويل) :
إذا ما أتت من صاحب لك زلّة
…
فكن أنت محتالا لزلّته عذرا
ولم يجعله إلى من يغلّب هاجس الظّنون، على واضح الحجّة، ومعتلّ الشكّ على صحيح اليقين. ونمي إليّ أنّ غابطا «1» لمكاني من حضرته، حسدني على محلّي من مودّته، وزوّر ما ينكشف عن الإفك والبهتان، ودلّس الكذب في صورة البرهان، فلما جلّاه في معارض زخارفه أظهر لسيدي عواره»
، وأبدى لطرفه شواره «3» ، فشلّ «4» سمعه عن وعيه، وطرف طرفه عن رعيه، واستنمّ علائم شيمته، في حسن الضّنّ بأحبّته، فقدّمت من الاعتذار ما يقدّمه المذنب نزولا على طاعته، وتأدّبا في خدمته، وشفعته من الشّكر بما يقتضيه إحسانه ويوجبه.
أبو الفرج «5» الببغاء:
أحقّ المعاذير بالتقبّل وأولاها بسعة القلوب ما صدر عن استكانة الأقدار، ودلّ على حسم موادّ الأضرار، وصفا من كدر الاحتجاجات، وتنزّه عن تمحّل الشّبهات، ليخلص به ملك العفو، وتتكامل نعمة التّجاوز. ولست أكره شرف تأديبه، ونبل تثقيفه وتهذيبه، ما لم يتجاوز في العقوبة والتقويم إلى مؤلم الإعراض، ومضيض التنكّر والانقباض، ولا أخطب الإقالة من تفضّله إلّا بلسان الثّقة وشافع الخدمة، هاربا إلى سعة كرمه مما دفعتني المحبّة إليه، وأشفى بي عدم التوفيق عليه، فإن رأى أن يكون عند أحسن ظنّي به في الصّفح، كما هو عند أصدق أملي فيه بالإنعام، فعل.
وله في مثله:
ليس يخلو الإغراق في التنصّل والمبالغة في الاعتذار من إقامة لحجّة، أو تمسّك باعتراض شبهة، وأنا أجلّ ما أخطبه من عظيم عفوه، وأكبر ما أحاوله من نعمة تجاوزه، عن المقابلة بعين الاعتراف بالزّلل وبعد الاستحقاق من الصّفح، ما لم يوجب لي بسعة تأوّله، ويعد عليّ فيه بعادات تفضّله، لتصفو منه الأعضاء، وتلزمني واجبات الشكر والثّناء، غير ممتنع مع ذلك من التبرّي إليه مما أنكره من تجاوز السّهو إلى العمل، والتوجّه إلى ما فرط بالاختيار والقصد اللذين يغفر بتجنّبهما مذموم الأفعال، ويتغمّد سيّيء الأعمال، فإن رأى أن يحمل أمري فيما قصدتني الأيام بتوجّه الظّنون فيه على غير النيّة لا ظاهر الفعل، إذ كانت صفات الإنسان بالأشهر من أخلاقه والأكثر من أفعاله، ولا صفة لي أعرف بها وأنسب إليها غير الاعتراف بإنعامه، والتّطاول من اصطناعه، آخذا من كلّ حال بالفضل، ومشفّعا بسطة الرياسة والنّبل.
وله في مثله:
لست أخلو في المدّة الّتي تجاوز الدهر لي عنها في خدمته من توصّل بفرط الاجتهاد، إلى ما وصل من رأيه إلى رتبة التقبّل والإحماد، وليس يحبط ما أتيته من مرضيّ الخدمة بالنيّة والعمد بما لعلّه فرط من غير مراد، إذ كان- أيده الله بفائض طوله، ومأثور فضله- آخذا من آداب الله بما أحاكمه منه «1» : إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
«2» . و [لو] لا إيثاري «3» مفترض الطاعة واستكانة الاعتداد، وأن لا أخطب رضاه بلسان الاحتجاج، ولا ألتمس عفوه بوجوب الاستحقاق، لتسلم له صفات التفضّل، ولي مواتّ الاعتراف بسالف التطوّل، لبرهنت على سلامتي مما قصر عليّ بتوجّه الظّنون واعتراض الأوهام، ولا أقول