الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الأوّل (التّهاني)
قال في «مواد البيان» : كتب التّهاني من الكتب الّتي تظهر فيها مقادير أفهام الكتّاب، ومنازلهم من الصّناعة، ومواقعهم من البلاغة. وهي من ضروب الكتابة الجليلة النفيسة، لما في التهنئة البليغة من الإفصاح بقدر النعمة، والإبانة عن موقع الموهبة، وتضاعف السّرور بالعطيّة. وأغراضها ومعانيها متشعّبة لا تقف عند حدّ، وإنما نذكر منها الأصول الّتي تفرّعت منها فروع رجعت إليها، وحملت عليها.
قال: ويجب على الكاتب أن يراعي فيها مرتبة المكتوب إليه والمكتوب عنه في الرسالة اللائقة بهما مما لا يتسامح بمثله.
ثم التهاني على أحد عشر ضربا:
الضرب الأوّل (التهنئة بالولايات، وهي على تسعة أصناف)
الصنف الأوّل- التهنئة بولاية الوزارة
«1» : قد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على ترتيب المملكة أنّ الوزارة كانت في الزمن المتقدّم هي أرفع وظائف المملكة وأعلاها رتبة، وأنّها الرتبة الثانية بعد الخلافة. وكانت في زمن الخلفاء تكاد أن تكون كالسلطنة الآن، فهي «2» من
الأتباع ومن في معناهم على نحو ما كانت في الزّمن المتقدّم بين الرّؤساء والأكابر، ومن الرؤساء والأكابر بحسب ما تقتضيه رتبة المهنّإ.
وهذه نسخ تهان من ذلك على ما كان عليه الحال في الزّمن القديم.
تهنئة بوزارة: من إنشاء أبي «1» الحسين بن سعد، كتب بها إلى الوزير محمد «2» بن القاسم بن عبيد رحمه الله، وهي:
من كانت النعمة- أيد الله الوزير- نافرة عنه وبفنائه غريبة، فهي تأوي من الوزير إلى مثوى معهود، وكنف محمود، وتجاور منه من يوفّيها حقّها، ويقابلها بحسن الصّحبة لها، ويجري في الشكر لما يولّاه، والرّعاية لما يسترعاه، على شاكلة مضى عليها السّلف من أهله، ونشأ في مثلها الخلف، مقتديا بالأوّل الآخر، وبالماضي الغابر، تشابها في كرم الأفعال، ورعاية لحقوق الآمال، واعتمادا للرأفة والرّحمة، وعموما بالإنصاف والمعدلة، إلى ما خصّ الله به أهل البيت رضي الله عن الماضين منهم وأقام عزّ الباقين وحراستهم: من العلم بالسياسة والدّرابة «3» بتدبير المملكة ورعاية الأمّة، والهداية فيهم لطرق الحيطة ونهج المصلحة.
والحمد لله على ما خصّ به الوزير من فضله الذي رفع قدره فيه عن
مساماة ومشاكلة المقادر «1» والشّبيه، وجعله فيما حباه به نسيج وحده، وقريع دهره، وجمع له من مواهب الخير، وخصائص الفضل ما أبان به موقعه في الدّين، وأعطاه معه الولاية من جميع المسلمين.
والحمد لله حمدا مجدّدا على ما جدّده له من رأي أمير المؤمنين واجتبائه، ومحلّه من اختياره واصطفائه.
والحمد لله على ما منحه من كرامته، وجدّد له من نعمته، فيما أعاد إلى تدبيره من وزارته، وأشركه فيه من أمانته، احتياطا منه للمملكة، ونظرا للخاصّة والعامّة، فإنّ عائدة رأيه سوّت بين الضّعيف والقويّ، ووصلت إلى الدّاني والقضيّ؛ وأعادت إلى الملك بهاءه، وإلى الإسلام نوره وضياءه، فاكتست الدنيا من الجدّة بعد الإخلاق «2» ، والنّضارة بعد الإنهاج «3» ، ما لم يكن يوجد مثله إلّا بالوزير في شرف منصبه، وكرم مركّبه، فهنّأ الله الوزير ما آتاه وتابع له قسمه، ووصل له ما جدّد له بالسّعادة، وأمدّه فيه بالزّيادة؛ وأعطاه من كلّ مأمول أعظم حظّ وأوفر نصيب وقسم، تراخيا في مدّة العمر، وتناهيا في درجة العزّ، وأحتياطا بالموهبة في العاجلة، وفوزا بالكرامة في الآجلة، إنه فعّال لما يشاء.
تهنئة أخرى في مثل ذلك: أوردها في ترسّله، وهي:
التهنئة بالوزير للزّمان وأهله بما جمّلهم به، وجدّد لهم من ميسم العزّ، وسربلهم إياه من حلّة الأمن بولايته، والنعمة على أوليائه ورعاياه على حسب مواقعهم من مشاركته وحظوظهم من معدلته ظاهرة، ولله على ذلك الحمد الفاضل، والشكر الكامل. وللوزير من هذه النعمة الجليلة، والدولة السعيدة، أهناها موقعا، وأسراها ملبسا، وأدومها مدّة، وأجملها نغية، وأثراها مبوّءا، وأسلمها
عقبى، فتولّاه الله بالمعونة والحراسة، وأيّده الله بالنصر والكفاية، وأنهضه بما قلّده واسترعاه، وبلّغه محابّه ومناه، وأرجو أن يكون موقعي من ثقة الوزير يلحقني عنده بمن مكّنته الأيام من قضاء الحقّ في التلقّي والإبعاد، ويعوّضني بتفضيله مما حرمته منها محلّ ذوي الإخلاص والاعتداد.
تهنئة أخرى في مثل ذلك: أوردها في ترسّله أيضا، وهي:
وهذا أوّل يتلوه ما بعده بلا تناه ولا نقص بإذن الله ومشيئته، بل يكون موصولا لا تبلغ منه غاية إلّا شفعتها درجة ترقى، تكنف ذلك كفاية من الله شاملة كاملة، وغبطة في البدء والعاقبة بلا انقطاع ولا ارتجاع، حتّى يكون المنقلب منه بعد بلوغ العمر منتهاه، إلى فوز برحمة الله ورضاه. فهنيئا للوزير بما لا يقدر أحد أن يدّعي فيه مساعفة المقدار، ولا يناله بغير استحقاق، إذ لا مثل ولا نظير للوزير: فضلا ظاهرا، وعلما على العلوم موفيا، وسابقة في تقليب الخلافة ظهرا لبطن، وحلب الدّهر شطرا بعد شطر، وجمعا من مال السلطان «1» لما كان متفرّقا، وحفظا لما كان ضائعا، وحماية لبيضة «2» الملك، وضبطا للثّغور، وتلقّيا للخطوب بما يفلّ حدّها، ويطفيء نارها ولهبها ويقيم أودها «3» ، وما وهب الله في رأيه من فتح البلاد المرتجة، وقمع الأعداء المتغلّبة، وسكون الدّهماء، وشمول الأمن، وعموم العدل، والله يصل ذلك بأحسنه.
تهنئة أخرى في مثل ذلك: من إنشاء عليّ «1» بن خلف في «مواد البيان» وهي:
أطال الله بقاء حضرة الوزارة السامية، فارعة من المعالي أسمقها نجودا، كارعة من المنن أعذبها ورودا، ساحبة من الميامن أرقّها برودا، ممتّعة بالنّعم الّتي يرامي الشّكر عن حوزتها، ويحامي البشر عن حومتها، مبلّغة في أوليائها وأعدائها، قاضية ما ترتمي إليه رحابها، فلا ترى لها وليّا إلّا لا حب المذهب، ثاقب الكوكب، سامي الطّرف، حامي الأنف، ولا عدوّا إلّا ضيّق المطرح، وعر المسرح، صالد الزّند، مفلّل الحدّ، راغم العرنين، متلولا للجبين. ولا زالت أزمّة الدنيا بيدها حتّى تبلغ بآمالها منتهاها، وتجري بأيّامها إلى أقصى مداها، [فهي] من أعظم النّعم خطرا، وأحسنها على الكافّة أثرا، وأولاها بأن يفاض في شكرها، وتتعطّر الآفاق بذكرها. ولسيدنا الوزير الأجلّ يراع يستيقظ في صلاحهم وهم هاجعون، وينصب في الذّبّ عنهم وهم وادعون، وكل تدبيرهم فيه، إلى مدبّر يخاف الله ويتّقيه، ويعمل فيمن استرعاه بما يرتضيه، ولا يمدّ يد الاقتدار عليهم متسلّطا، ولا يتّبع دواعي الهوى فيهم متسقّطا، واضعا الأشياء في حقائقها، سالكا بها أمثل طرائقها، ملاينا من غير ضعف، مخاشنا من غير عنف، قريبا من غير صغر، بعيدا من غير كبر، مرغّبا بلا إسراف، مرهبا بإنصاف، ناظرا إلى محقّرات الأمور وأطرافها، كما ينظر في معاظمها وأشرافها، آخذا بوثائق الحزم، متمسّكا بعلائق العزم، راميا بفكرته من وراء العواقب، خاطما بآرائه أنوف المصاعب، ناظما بإيالته عقود المصالح، موطّئا برياضته ظهور الجوامح، إن ثقّف ذا النّبوة الفريدة، والهفوة الوحيدة، اقتصر على ما يوافقه الوالد الحدب، من مقوّم الأدب [وإن قبض]«2» على المرتكس في غوايته، المفلس في عنايته، ضيّق عليه مجال العفو، وأحاق به أليم العذاب والسّطو،