الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجعله خليفة في حياته ثم يخلفه بعده. قال: ولو أوصى بالإمامة فوجهان «1» ؛ لأنه يخرج بالموت عن الولاية فلا يصحّ منه تولية الغير. واستشكل الرافعيّ رحمه الله هذا التوجيه بكلّ وصية، وبأنّ ما ذكره من جعله خليفة بعده، إن أريد به استنابته فلا يكون ذلك عهدا إليه بالإمامة. وإن أريد جعله إماما في الحال، فهو: إمّا خلع نفس العاهد، وإمّا اجتماع إمامين في وقت واحد. وإن أريد جعله خليفة أو إماما بعد موته فهو الوصية من غير فرق.
قلت: وهذا جنوح من الرافعيّ رحمه الله إلى صحّة الخلافة بالوصيّة أيضا، كما تصحّ «2» بالاستخلاف.
الوجه الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته)
واعلم أنه يجب على الكاتب أن يراعي في كتابة العهد بالخلافة أمورا:
منها: براعة الاستهلال بذكر ما يتّفق له، من معنى الخلافة والإمامة واشتقاقهما، وحال الولاية، ولقب العاهد والمعهود إليه، ولقب الخلافة، إلى غير ذلك مما سبق بيانه في الكلام على البيعات.
ومنها: أن ينبّه على شرف رتبة الخلافة، وعلوّ قدرها، ورفعة شأنها، ومسيس الحاجة إلى الإمام، ودعاية الضرورة إليه، ونحو ذلك مما سبق في البيعات أيضا.
ومنها: أن ينبّه على اجتماع شروط الإمامة في المعهود إليه من حين
صدور العهد بها من العاهد، فقد قال الماورديّ «1» : إنه تعتبر شروط الإمامة في المعهود إليه من وقت العهد، حتّى لو كان المعهود إليه صغيرا أو فاسقا وقت العهد وبالغا [عدلا] عند الموت، لم تصحّ خلافته حتّى يستأنف أهل الاختيار بيعته. قال الرافعيّ «2» رحمه الله: وقد يتوقّف في هذا. قال النوويّ «3» رحمه الله في «الروضة» : لا توقّف، والصواب ما قاله الماورديّ.
ومنها: أن ينبّه على اجتهاد العاهد وتروّي نظره في حقّيّة المعهود إليه؛ فقد قال الماورديّ: وإذا أراد الإمام أن يعهد بالإمامة، فعليه أن يجهد رأيه في الأحقّ بها، والأقوم بشروطها، فإذا تعيّن له الاجتهاد في أحد، عهد إليه.
ومنها: أن يشير إلى تقدّم الاستخارة على العهد، وأنّ استخارته أدّته إلى المعهود إليه؛ فإنّ الاستخارة أمر مطلوب في كل أمر، خصوصا أمر المسلمين وعموم الولاية عليهم، فإنّ اختيار الله للخلق خير من اختيارهم لأنفسهم، والله يقول الحقّ وهو يهدي السّبيل.
ومنها: أن ينبّه على أنّ عهده إليه بعد مشورة أهل الاختيار ومراجعتهم في
ذلك، وتصويبهم له، خروجا من الخلاف. فقد حكى الرافعيّ رحمه الله، وجهين فيما إذا كان المعهود إليه أجنبيّا من العاهد ليس بولد ولا والد، هل يجوز أن ينفرد بعقد البيعة له وتفويض العهد إليه ولا يستشير فيه أحدا؟ أصحّهما الجواز؛ لأنّ العهد إلى عمر، رضي الله عنه، لم يوقف على رضا الصحابة رضوان الله عليهم، ولأنّ الإمام أحقّ بها، فكان اختياره فيها أمضى، وقوله فيها أنفذ.
وحكى الماورديّ في جواز انفراد العاهد بالبيعة فيما إذا كان المعهود إليه والد أو ولدا ثلاثة مذاهب:
أحدها- ما اقتصر الرافعيّ، رحمه الله، على نسبته إلى الماورديّ، ومقتضى كلامه ترجيحه: أنه يجوز الانفراد بعقدها للولد والوالد جميعا؛ لأنه أمير للأمة نافذ الأمر لهم وعليهم، فغلّب حكم المنصب على حكم النسب، ولم يجعل للتّهمة طريقا على أمانته، ولا سبيلا إلى معارضته.
والثاني- أنه لا يجوز انفراده بها لولد ولا والد حتّى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلا لها، فيصحّ منه حينئذ عقد البيعة، لأن ذلك [منه] تزكية [له] تجري مجرى الشهادة، وتقليده على الأمة يجري مجرى الحكم، والشهادة والحكم ممتنعان من الولد والوالد للتّهمة، لما جبل عليه من الميل إليهما.
والثالث- أنه يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده دون ولده؛ لأنّ الطبع إلى الولد أميل، فأما عقدها لأخيه وغيره من الأقارب والمناسبين فكعقدها للأجانب في جواز الانفراد بها.
ومنها: أن ينبّه على العلم بحياة المعهود إليه ووجوده إن كان غائبا، فقد قال الماورديّ: إنه لو عهد إلى غائب مجهول الحياة لم يصحّ عهده، وإن كان معلوم الحياة صح، ويكون موقوفا على قدومه.
ومنها: أن ينبّه على أن المعهود إليه منصوص عليه بمفرده، أو وقع العهد شورى في جماعة وأفضت الخلافة إلى واحد منهم بإخراج الباقين أنفسهم منها،
أو اختيار أهل الحلّ والعقد أحدهم، إذ يجوز للخليفة أن يعهد إلى اثنين فأكثر من غير تقديم البعض على البعض، ويختار أهل الاختيار بعد موته واحدا ممن عهد إليه، فإنّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جعلها شورى في ستة، فقال: الأمر إلى عليّ وبإزائه الزّبير بن العوّام، وإلى عثمان وبإزائه عبد الرحمن بن عوف، وإلى طلحة وبإزائه سعد بن أبي وقّاص. فلما توفّي عمر، رضي الله عنه، جعل الزبير أمره إلى عليّ، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن بن عوف، فخرج منها ثلاثة، وبقيت شورى «1» في عثمان وعليّ، ثم بايع عليّ عثمان. والمعنى في الشّورى أنه لا يجوز أن تجعل الإمامة بعد العاهد في غير المعهود إليهم.
ومنها: أن ينبّه على عدد المعهود إليهم وترتيبهم إن كان قد رتّب الخلافة في أكثر من واحد، إذ يجوز أن يعهد إلى اثنين فأكثر على الترتيب. فلو رتّب الخلافة في ثلاثة مثلا- فقال: الخليفة بعدي فلان، فإذا «2» مات، فالخليفة بعده فلان، [فإن مات فالخليفة بعد فلان جاز] «3» وكانت «4» الخلافة منتقلة إليهم على ما رتّبها. ففي صحيح البخاريّ من رواية ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف على جيش مؤتة زيد بن حارثة- وقال: إن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلا، فتقدم زيد فقتل، فأخذ الراية جعفر وتقدّم فقتل، فأخذ الراية
عبد الله بن رواحة وتقدّم «1» فقتل، فاختار المسلمون بعده خالد بن الوليد» . قال الماورديّ: وإذا «2» جاز ذلك في الإمارة جاز مثله في الخلافة. قال: وقد «3» عمل بذلك في الدولتين من لم ينكر عليه أحد من علماء العصر.
فعهد سليمان بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز، ثم بعده إلى يزيد بن عبد الملك، وأقرّه عليه من عاصره من الناس، ومن لا تأخذه في الله لومة لائم.
ورتّبها الرشيد في ثلاثة من بنيه: الأمين، ثم المأمون، ثم المؤتمن، من غير «4» مشورة من عاصره من فضلاء العلماء.
ولو قال العاهد: عهدت إلى فلان، فإن مات فلان بعد إفضاء الخلافة إليه، فالخليفة بعده فلان، لم تصحّ خلافة الثاني، ولم ينعقد عهده بها؛ لأنه لم يعهد إليه في الحال، وإنما جعله وليّ عهده بعد إفضاء الخلافة إلى الأوّل، وقد يموت قبل إفضائها إليه فلا يكون عهد الثاني بها منبرما.
ومنها: أن ينبّه على أنّ صدور العهد في حال نفوذ أمر العاهد وجواز تصرّفه، فإنه لو أراد وليّ العهد قبل موت العاهد أن يردّ ما إليه من ولاية العهد إلى غيره لم يجز؛ لأنّ الخلافة لا تستقرّ إلّا بعد موت المستخلف. وكذا لو قال:
جعلته وليّ عهد إذا أفضت الخلافة إليّ لم يجز؛ لأنه ليس في الحال بخليفة، فلم يصحّ عهده بالخلافة.
ومنها: أن ينبّه على قبول المعهود إليه العهد، فإنه إذا عهد الإمام بالخلافة إلى من يصحّ العهد إليه على الشّروط المعتبرة فيه، كان العهد موقوفا على قبول
المعهود إليه؛ فإن قبل صحّ العهد وإلّا فلا، حتّى لو امتنع من القبول بويع غيره. والعبرة في زمن القبول بما بين عهد العاهد وموته على الأصح، لتنتقل عنه الإمامة إلى المعهود إليه مستقرّة بالقبول المتقدّم. وقيل: إنما يكون القبول بعد موت العاهد؛ لأنه الوقت الذي يصحّ فيه نظر المعهود إليه.
ومنها: أن يورد من وصايا العاهد للمعهود إليه ما يليق به. وقد ذكر الماورديّ أنّ الذي يلزمه من أمور الأمّة عشرة أشياء:
أحدها- حفظ الدّين على أصوله المستقرّة، وما أجمع عليه سلف الأمّة، وأنه إن «1» نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجّة، وبيّن له الصّواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدّين محروسا من الخلل، والأمّة ممنوعة من الزّلل.
الثاني- تنفيذ الأحكام، بين المتشاجرين، وقطع الخصام، بين المتنازعين، حتّى تعمّ النّصفة فلا يتعدّى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث- حماية البيضة، والذّبّ عن الحرم «2» ليتصرّف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
الرابع- إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من الإتلاف «3» والاستهلاك.
الخامس- تحصين الثّغور بالعدّة المانعة، والقوّة الدافعة، حتّى لا يظفر «4» الأعداء بغرّة ينتهكون بها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.
السادس- جهاد من عاند الإسلام بعد الدّعوة حتّى يسلم أو يدخل في
الذّمّة ليقام بحقّ الله تعالى في إظهاره على الدّين كلّه.
السابع- جباية الفيء «1» والصّدقات على ما أوجبه الشرع نصّا واجتهادا من غير حيف «2» ولا عسف.
الثامن- تقدير العطاء وما يستحقّ في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع- استكفاء الأمناء، وتقليد النّصحاء، فيما يفوّضه [إليهم من الأعمال]«3» ويكله إليهم من الأحوال لتكون الأعمال بالكفاة «4» مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر- أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفّح الأحوال لينهض بسياسة الأمّة، وحراسة الملّة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلا بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغشّ الناصح. وقد قال تعالى: يا داوُدُ، إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
«5» . فلم يقتصر الله تعالى «6» على التفويض دون المباشرة، بل «7» أمره بمباشرة الحكم بين الخلق بنفسه. وقد قال «8» صلى الله عليه وسلم:«كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» ولله درّ محمد «9» بن يزداد وزير المأمون «10» ، حيث قال مخاطبا له (بسيط) .