الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثاني (من مقاصد المكاتبات: التّعازي)
قال في «مواد البيان» : المكاتبة في التعزية بالأحداث العارضة في هذه الدنيا واسعة المجال؛ لما تتضمّنه من الإرشاد إلى الصّبر، والتسليم إلى الله جلّت قدرته، وتسلية المعزّى عما يسلبه بمشاركة السابقين فيه، ووعده بحسن العوض في الجزاء عنه، إلى غير ذلك مما ينتظم في هذا المعنى. قال:
والكاتب إذا كان جيّد الغريزة حسن التأتّي فيها، بلغ المراد. ثم قال: وحكمها حكم التّهاني من الرئيس إلى المرؤوس، ومن المرؤوس إلى الرئيس، ومن النظير إلى النظير.
ثم التعزية على أضرب:
الضرب الأوّل (التعزية بالابن)
أبلغ ما كتب به في ذلك ما كتب به النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلى معاذ بن «1» جبل، معزّيا له بابن له مات، فيما ذكره أبو الحسين بن سعد في ترسّله، وأبو جعفر النحّاس»
في صناعة الكتّاب، وهو:
«من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل:
«سلام عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا اله إلّا هو.
أما بعد، فعظّم الله لك الأجر، وألهمك الصّبر، ورزقنا وإيّاك الشّكر، ثم إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا «1» من مواهب الله السنيّة، وعوارفه «2» المستودعة، تمتّع «3» بها إلى أجل معدود، وتقبض لوقت معلوم، ثم افترض علينا الشّكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله الهنيّة، وعوارفه المستودعة، متّعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير: الصلاة «4» والرحمة والهدى إن صبرت واحتسبت «5» ، فلا تجمعنّ عليك يا معاذ خصلتين «6» : أن يحبط «7» جزعك صبرك فتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب مصيبتك قد أطعت ربّك وتنجّزت موعوده، عرفت أنّ المصيبة قد قصرت عنه. واعلم أنّ الجزع لا يردّ ميّتا، ولا يدفع حزنا، فأحسن الجزاء وتنجّز الموعود، وليذهب أسفك ما هو نازل بك فكأن قد «8» » .
من كلام المتأخرين:
تعزية بولد، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة «9» ، وهي بعد الألقاب.
وأحسن عزاءه بأعزّ فقيد، وأحبّ حبيب ووليد، وعوّض بجميل الصبر جوانحه الّتي سئلت عن الأسى فقالت: ثابت ويزيد. صدرت هذه المفاوضة
تهدي إليه سلاما يعزّ عليه أن يتبع بالتعزية، وثناء يشقّ عليه أن يطارح حمائم سجعه المطربة بحمائم الشّجو المبكية المنكية، وتوضّح لعلمه ورود مكاتبته المؤلمة، فوقفنا عليها إلّا أنّ الدّمعة ما وقفت، وخواطر الإشفاق عليه وعلى من عنده طفت حرقها وما انطفت، وعلمنا ما شرحه ولم يشرح الصّدر على العادة- من وفاة الولد فلان، سقى الله عهده ولحده، ونضّر وجهه وتغمّد بالرّضوان خاله «1» وخدّه، وما بقي إلّا التمسّك بأسباب الصبر، والتفويض إلى من له الأمر، والدّنيا طريق والآخرة دار ودهليزها القبر، وللمرء من تثبّته وازع، والاجتماع بالأحبّة الراحلين واقع، إن لم يصيروا إلينا صرنا إليهم، وإن لم يقدموا في الدار الفانية علينا قدمنا في الدار الباقية عليهم، نسأل الله تعالى أن يجمعنا في مستقرّ رحمته، ويحضرنا مع الأطفال أو مع المتطفّلين ولائم جنّته، والله تعالى يدارك بالصبر الجميل قلبه، ولا يجمع عليه فقد الثواب وفقد الأحبّة.
الشيخ شهاب الدين محمود «2» الحلبي:
رزقه الله تعالى ثباتا على رزيّته «3» وصبرا، وجعل له مع كلّ عسر يسرا، وأبقاه مفدّى بالأنفس والنّفائس، وكان له أعظم حافظ من نوب الدهر وأجلّ حارس.
المملوك ينهي علمه بهذه النازلة الّتي فتّتت القلوب والأكباد، وكادت أن تفرّق بين الأرواح والأجساد، وأذالت ذخائر العيون، وابتذلت من المدامع كلّ مصون، وأذابت المهج تحرّقا وتلهّبا، وجعلت كلّ قلب في ناري الأسى والأسف متقلّبا، وهي وفاة ولده الذي صغر سنّه، وتزايد لفقده همّ المملوك وحزنه (طويل) .
ونجلك لا يبكى على قدر سنّه
…
ولكن على قدر المخيلة والأصل
وكان الأمل يحدّث بأنه يشدّ للمولى أزره، ويشرح ببرّه صدره، ويؤثّل مجده، ويبقي الذكر الجميل بعده، ففقد من بين أترابه، وذوى عندما أينع غصن شبابه، وغيّب منظره الوسيم في لحده وترابه، وسيّدنا يعلم أنّ الموت منهل لا بدّ من ورده «1» ، وابن آدم زرع لا بدّ من حصده، وأنّ المنية تشمل الصغير والكبير، والجليل والحقير، والغنيّ والفقير، فينبغي له استعمال صبره، والاستبشار بمضاعفة أجره، والله يمتّعه بأهله وطول عمره.
وله «2» (كامل)
لهفي وما لهفي عليك بنافع!
…
كلّا ولا وجدي ولا حرقاتي
يا من قضى فقضى سروري بعده
…
وتحدّرت أسفا له عبراتي
عقد التجلّد حلّها فرط الأسى
…
والقلب موقوف على الحسرات
لو كنت ممّن يشترى أو يفتدى
…
لفديت بالأرواح والمهجات
كنت المعدّ لنصرتي في شدّتي
…
فقضى الحمام «3» بفرقة وشتات
والله لا أنسيت ندبك والبكا «4»
…
أبدا مدى الأنفاس واللّحظات
ويسوءني أن عشت بعدك ساعة
…
أسفا لفقدك ميّتا وحياتي
أعظم الله أجر مولانا ومنحه صبرا جميلا، وأجرا جزيلا، وثناء عريض الشّقّة لثباته على هذه الفادحة طويلا، وجعل هذه الرزيّة خاتمة الرّزايا، وممحّصة جميع الذنوب والخطايا، ولا فجعه بعدها في قرّة عين، ولا أورد محبوبا شغف به قلبه الكريم منهل الحمام ولا سقاه كأس الحين «5» .
المملوك يقبّل البساط الذي ما فتيء لنشر المعدلة مبسوطا، وكلّ أمل ببرّه منوطا.
وينهي إلى العلم الشريف علمه بهذه المصيبة الّتي أصابت فؤاد كلّ محبّ فأصمته، وطرقت سمع كلّ وليّ فأصمّته، وولجت كلّ قلب فأحرقته صبابة وحزنا، ومرّت على الصّلد فصدّعته ولو كان حزنا، وهي وفاة فلان سقى الله عهده، وأسكن الرحمة ثراه ولحده، فشقّ أسفا على المفقود جيب كلّ جنان وطوى الأكباد على جراحها، وحسّر الأجساد على أرواحها (طويل) .
وما هي إلّا نكبة، أيّ نكبة
…
أهاجت سعيرا في الحشا يتلهّب!
فلا جسم إلّا بالتحرّق ذائب
…
ولا قلب إلّا في الأسى يتقلّب
بكى كلّ جفن مصرع السيف فاغتدت
…
عيون عليه في الأباطح تسكب
لقد هال عذّالي بكائي تعجّبا
…
وإنّ بكائي بعد فقده أعجب
فلو رام قسّ وصف حزني ولوعتي
…
لقصّر في أوصافه حين يسهب
فو الله لا جفّت جفوني من البكا
…
وإن زاد عذّالي العتاب وأطنبوا
ولهذا أصدر المملوك هذه المطالعة يدعو لمولانا فيها ويعزّيه، ويندب فقيده بألسنة الأقلام ويبكيه، ويبشّره بما وعد الله الصابرين على مثل هذه الرزيّة ويسلّيه، فيا لها نازلة فجعت بغصن رطيب، وقمر يرفل من الشّبيبة في ثوب قشيب، وصدعت القلوب بفقد حبيب وأيّ حبيب (سريع) .
والموت نقّاد على كفّه
…
جواهر يختار منها الجياد
وبعد، فللمملوك في هذه الرزيّة مشاركة كادت تباين بين روحه والجسد، وهو المصيب لهذه المصيبة ما تجده الوالهة على فقد الولد، لا يستقرّ به قرار، ولا ينجيه من يد الحزن فرار، دأبه البكاء والعويل، وحزنه العريض الطّويل، فواضعفاه عن حمل هذا المصاب، وواأسفا على مسافر لا ينتظر له قدوم ولا إياب، وواعجباه لضدّين اجتمعا لوالده الكريم الجناب (طويل) .
تخون المنايا عهده في سليله
…
وتنصره بين الفوارس والرّجل