الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأربعة أشهر، وأيامًا، ودفن بالحوش الذي بناه الخليلي عند أرجل الفقراء والفقهاء المدفونين بالصحراء بوصيته، وأوصى لها بثمانين ألف دينار تُعَمَّر منها، ومهما فضل، يُشترى به لها أوقاف، وأن تعمل خانقاه وجامعًا - رحمه الله تعالى وسامحه، وعفا عنه -.
وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
* * *
*
سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق الأولى *
هو أبو السعادات فرج ابن الملك الظاهر برقوق، لما مرض والده، أوصى أن يكون السلطان بعده ولده أمير فرج المشار إليه، فلما توفي في التاريخ المتقدم ذكره، طلع الخليفة والقضاة والأمراء إلى القلعة، وبويع له بالسلطنة، وجلس على سرير الملك، وعمرُه اثنتا عشرة سنة، ولقب بالملك الناصر أبي السعادات في صبيحة يوم الجمعة، النصف من شوال، سنة إحدى وثماني مئة، وخطب باسمه في ذلك اليوم، ولما فرغوا من أمر السلطنة، جهزوا الملك الظاهر، وصلوا عليه، ودفنوه حيث أوصى به، واستقر الملك الناصر فرج في السلطنة.
* * *
*
ذكر وقعة تمرلنك *
لما دخلت سنة ثلاث وثمان مئة: شاعت الأخبار أن تمرلنك حين عاد من بلاد الهند، بلغه وفاة الظاهر برقوق، فانسرّ لذلك، وأنعم على
مخبره بجملة كثيرة، وكان في نفسه من قتلِه رُسُلَه، ومن أَخْذِ ابن عثمان سيواس وملطية، وأَخْذِ السلطان أحمد بغداد.
فقصد بلاد الشام، ومعه من العساكر ما لا يحصى، فحضر إلى مصر مملوكُ نائب الشام، وأخبر بأن تمرلنك وصل إلى سيواس، وأن علي بن أبي يزيد بن عثمان صاحب الروم توجه هو وقرا يوسف بن قرا محمد، وأحمد بن إدريس إلى برصا، وتركوا البلاد له، فأخذ سيواس، وقتل من أهلها خلقًا كثيرًا.
ثم تتابعت الأخبار بأن أوائل عسكر تمرلنك وصل إلى عَيْنتاب، فاستدعى السلطانُ فرج ابن الملك الظاهر برقوق الخليفةَ والقضاة، وحضر أعيانُ الأمراء وأرباب الدولة، وذكر أن تمرلنك أخذ سيواس، وأن مقدمته وصل إلى مَرْعَش وعينتاب، والقصد أن يؤخذ من التجار ما يُستعان به على النفقة في الجيوش.
فقال القاضي كمال الدين: أنتم أصحاب اليد، وليس لكم معارض فيما تفعلوه، وإن كان القصد الفتوى، فلا يجوز لنا أن نفتي بذلك، وهؤلاء فقراء، وَيدْعون للعساكر، ومتى أُخذ منهم شيء، تشوّشوا، ودَعَوا على الجيش، فقيل: نصيب الأوقاف نأخذه، ونستخدم به الأجناد البطالة.
فتكلم القاضي كمال الدين - أيضًا - كلامًا نافعًا، وجرى بينهم كلام كثير، وحاصل الأمر أنهم اتفقوا على إرسال الأمير أسنبغا الدوادار؛ لكشف الأخبار، وتجهيز الجيوش الشامية لملاقاة من يأتي من جهة
تمرلنك، ويمنعوهم من تعدية الفرات.
وأما أهل دمشق، فإنهم وطنوا على أهل الصالحية والقبيبات والقابون.
وفي [
…
] منها، وصل الأمير أسنبغا إلى دمشق بأن تتجهز العساكر إلى بلاد الشمال، وعلى يده كتاب إلى الرعية بالقيام على تمرلنك، والتأهُّب لقتاله، وأنه بلغنا ما فعل بالمسلمين من القتل والأسر ودفن الأحياء، وأنا واصلون عقيب ذلك، فقرئ بالجامع على الناس بحضور القضاة والعلماء وحاجب الحجاب.
وفيه وصل إلى دمشق من حلب رسولُ تمرلنك، ومعه كتاب منه افتتحه بعد التسمية، وذكر أسماء المشايخ والأمراء والقضاة: يعلمون أنَّا قصدنا عام أول المجيء لأخذ القصاص ممن قتل رُسُلَنا بالرحبة، فلما وصلنا إلى بغداد، وبلغنا موته - يعني: الظاهر -، فرجعنا، وقصدنا الهند لمَّا بَلَغَنا عنهم ما ارتكبوه من الفساد، فأظفرنا الله بهم، ثم قصدنا الكُرُج، فقتلناهم كذلك، ثم قصدنا لمّا بلغنا قلةُ عقل هذا الصبي أبي يزيد - يعنى: ابن عثمان - أن نُفَرِّك باذنه، ففعلنا بسيواس وبلادها ما بلغكم، ثم قصدنا بلاد مصر؛ لنضرب بها السكة، ويُذكر اسمُنا بها في الخطبة، ثم نرجع بعد أن نفني سلطان مصر منها.
وقال: إنا أرسلنا إليكم عدة كتب، ولم (1) ترسلوا لنا جوابًا، ونحن
(1) في الأصل: "لا".
نعلم أنها تصل إليكم، فأرسلوا الجواب من كل بُدّ. هذا معنى الكتاب.
[ .... ] منها وصل إلى دمشق كُتُب النواب ورُسلهم مُجِدِّين إلى مصر، وأخبروا بأن تمرلنك نزل على قلعة بهسنا، وجاوزها إلى جهة حلب.
وفي يوم السبت حادي عشره كانت الوقعة، وكانوا قبل ذلك قد اقتتلوا يوم الخميس، وكان مع عسكر الشام عوام كثيرة مشاة، فانتصفوا منهم، وقاتلوهم يوم الجمعة، فقتلوا منهم وأسروا، فلما كان يوم السبت، اقتتلوا يدًا واحدة، وحملوا على العسكر، فاقتتلوا يسيرًا، وولَّوا الأدبار، ورجع العسكر إلى البلد، ودخل أولهم في آثارهم البلد، وكان العسكر لما رجعوا، داسوا مَنْ قُدَّامَهم من المشاة، وصعِد النواب والأعيان القلعة، ومنهم من لم يدرك، فدُلّيت لهم الحبال من السور، ومنهم من هرب راجعًا على وجهه لا يدري أين يذهب، ولما دَخل التتار البلد، أخذوا في النهب والحريق والأسر، وصار من هرب من العسكر يجييئون في أسوأ حال؛ قد نقبت أقدامهم من المشي، وأُخذت ثيابهم، ودخلوا البلد على هذه الحالة.
وقال بعضهم: ورأيت في تواريخ المصريين: أنه وصل أقبعا دوادار الأمير أسنبغا الدوادار، وأخبر بأن تمرلنك ترك على الباب حراسًا، وأن نائب طرابلس خرج، ومعه نحو سبع مئة فارس، فخرج إليه من عسكر تمرلنك تقدير ثلاثة آلاف فارس، فرموا عليهم بالنشاب، فأخذوه في طوارقهم، وزحفوا عليهم، فرجعوا القهقرى إلى مَدًى بعيد، ثم إن أحد
الفرسان من الشاميين برز بين الصفين، فخرج إليه واحد من التتار وعليه زردبة، واعترك الفارسان ساعة على الخيل إلى أن وقعا على الأرض، فحمل العساكر الشامية، فقتلوا التتري، وخلَّصوا صاحبهم، فحمل التتر، واعتركوا هم وإياهم، فقبضوا من التتر أربعة أنفس، ورجعت كل طائفة إلى مكانها، وربطوا التتر الأربعة، وعلقوهم.
وأخبر بعضُ من حضر الوقعة: أن الأمير أزدمر أخا أينال اليوسفي، وولده أشبك حملا في عسكر التتار، وشوهد من شجاعتهما وقوتهما وصبرهما أمر عظيم، حتى قيل: إنهما وصلا إلى قريب من مكان تمرلنك.
فأما الأمير أزدمر، ففُقد، ولم يُعلم خبره، وأما ولده، فإنه أبلى فيهم بلاء عظيمًا، ولما أُثخن بالجراحات، وقع إلى الأرض، وفيه ستة وثلاثون ضربة.
ولما انقضت الحرب، أُخبر تمرلنك بمكان أشبك بن أزدمر، فأمر بإحضاره، فوجدوه وقد أشرف على الموت، فأمر بملاطفته ومداواة جراحاته، فلما برئ، قَرَّبه تمرلنك، وأدناه؛ لما رأى من شجاعته، واشتهر عنده وعند جماعته، ثم إنه هرب منه، ورجع إلى الشام، ووصل إلى مصر.
وكان لما نزل تمرلنك عينتاب، أرسل إلى دمرداش نائب حلب يَعِدُه بالاستمرار على نيابته، ويأمره بمسك نائب الشام، فقدِم الرسول إلى حلب، وأحضر بين يدي نواب البلاد، وكان معهم من العساكر نحو ثلاثة
آلاف فارس، وكان عسكر الشام نحو ثمان مئة فارس، والآراء مغلولة، والعزائم مجلولة، فبلَّغ الرسول الرسالة إلى نائب حلب، فأنكر ذلك، وزعم أن ذلك حيلة دبرها تمرلنك ليفسد بينهم، وضرب عنق الرسول.
وفي يوم الخميس تاسع الشهر نزلوا على حلب، وأحاطوا بها وسألوا القتال، فلما طلعت الشمس يوم السبت، برز عسكر حلب ومن اجتمع إليهم من العساكر، ومعهم خلق كثير من العامة، وهم مجتمعون في الظاهر، ولكن قلوبهم متفرقة، وأمراؤهم مختلفة، فوقف نائب الشام في الميمنة، ودمرداش في الميسرة، وبقية النواب في القلب، وركب تمرلنك، وأقبلت جموعه حتى بهر الأبصارَ كثرتُها، وسدَّت الآفاق عِدَّتُها، فاقتتلوا يسيرًا، ودافع نائب دمشق وطرابلس مدافعة كبيرة، فلم يغن شيئًا بالنسبة إلى من دهمهم من العساكر، فما كان غير ساعة حتى دهمها خلق كأمواج البحر المتلاطم، فولَّوا على أدبارهم ناكِصين، وأقبلوا نحو البلد منهزمين، وقتلوا في رجوعهم خلقًا كثيرًا من المشاة، حتى صارت القتلى على الأبواب ما يزيد ارتفاعه على قامة، ودخل النواب إلى القلعة، ودخل معهم كثير من الناس، ودخل التتار المدينة، وحصل بهم فساد كبير سفكًا وأسرًا، وأضرموا فيها النار، وكان قد نزل بالجامع والمساجد الجمُّ الغفير من النساء والمخدَّرات، فربطوهن بالحبال، وأسرفوا في قتل الأطفال، وكانوا لا يستحيون من الزنا في المساجد بحضرة الجمّ الغفير، وانتُهكت الحرمات حتى صار المسجد كالمجزرة؛ لكثرة ما فيه من القتلى، وأكثروا من شرب الخمر والزنا بالأحرار العفائف، وشرعوا
في نقب القلعة، ورَدْمِ خندقها.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشر الشهر نزل دمرداش في طائفة يطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وخلع عليهم أقبية وتيجانًا على عادتهم، وأرسل خلقًا من أصحابه، فاستنزلوا من بالقلعة كل نائب وطائفته، فوضعوا كل رجلين في قيد، ووكلوا بهم من يحفظهم، وأشخص النواب بين يديه، فعنفهم، وأشبعهم توبيخًا وتقريعًا، ثم وكل بهم، وقدمت إليه النساء والصبيان وطرائف الأموال، ففرقها، وأقام بحلب نحوًا من شهر، وأصحابه يُفسدون ما أمكنهم، ثم رحل عنها، وجعلها دكًّا.
وفي الأربعاء نصفه، وصل الخبر إلى دمشق، فنادى الحاجب بذلك، وأمر الناس بالتحول إلى البلد، والاستعداد للعدو، فاختبطت البلد، ثم نودي بخروج السلطان من القاهرة، وتطييب خواطر الناس، ووصول بعض العسكر، وانجفل أهل حماة وتلك النواحي إلى دمشق، ومُنع الناس من السفر من دمشق، وكان ذلك من أسوأ الآراء، واستعدوا للحصار.
وفي الأربعاء ثاني عشرينه وصل الخبر إلى دمشق بأخذ قلعة حلب، وأن رسول تمرلنك واصلٌ معه كتبُ النواب بتسليم دمشق، وأن لا يقاتلوا، فهمَّ الحاجب بالهرب، فقام عليه العوام، وهموا بقتاله، فأقام، وسافر جماعة من الناس خفية، ونادى نائب الغيبة بأن أحدًا لا يشهر سلاحًا، وتسلم البلد للتتار بالأمان، ونادى نائب القلعة بالاستعداد لقتاله، ومن أراد سلاحًا، فليأخذ من القلعة.
ووصل الأمير أسنبغا إلى دمشق، ومعه جماعة، وقاصد تمرلنك، وأخبر عن كيفية الوقعة وأخذِ القلعة، وأنه نزل نائب حلب من القلعة إلى تمرلنك، وأخذ الأمان للنواب.
وفي يوم السبت خامس عشرينه وصل الخبر إلى القاهرة، فركب القضاة والشيخ سراج الدين البلقيني، والأميران: إقبال حاجب الحجاب، ومبارك شاه الحاجب الثاني، وبادرا بالتأهب لقتال تمرلنك، وذكروا ما حلَّ بأهل حلب.
وفي يوم رابع ربيع الآخر وصل إلى القاهرة الأمير أسنبغا الدوادار، وأخبر بالوقعة، وأخذِ حلب وقلعتِها باتفاق مع دمرداش نائب حلب، وذكر كثرة العساكر الذين مع تمرلنك، فنسبوه إلى الميل إلى تمرلنك؛ لأن أصله أعجمي، وكان أسنبغا لما رجع إلى دمشق، قال للحاجب: خلِّ الناس يسافروا، ومن قدر على ثمن متاع يمشي به، يخرج، فلم يسمع الحاجب منه، ونسبوه إلى غرض أيضًا.
ويوم الأحد المذكور خرج السلطان إلى الريدانية متوجهًا إلى قتال تمرلنك، وخرج معه الخليفة والقضاة - خلا الحنفي؛ فإنه كان ضعيفًا، والقاضي ولي الدين بن خلدون وهو معزول، والشيخ محمد المغيربي -، واستقر نائب الغيبة الأمير تمراز، فأقام عنده جماعة من الأمراء، وكان منهم الأمير أرسطاي بعد أن أفرج عنه مع الأمير سودون قريب السلطان، وتمراز اختار المقام بالإسكندرية بطالًا، فلما توفي الأمير فرج ابن الأمير سالم الحلبي، رسم السلطان - وهو بالريدانية - أن يستقر
المذكور في نيابتها.
وفي يوم خامس عشره صح وصول تمرلنك إلى حماة، وأرسل طائفة من جيشه إلى حمص، فدخلوها بالأمان، وخلع السلطان في الطريق على تغري بردي بنيابة دمشق، وأقبغا الجمالي بنيابة طرابلس، وتمربغا المحلي بنيابة صفد، وطولوا بن علي شاه بنيابة غَزَّة.
وفي يوم الجمعة ثالث عشرينه وصل إلى دمشق مبارك عبد القصار مخبرًا باقتراب السلطان، ورجع معه جماعة ممن كان انجفل إلى الرملة وغيرها، فلما وصل الشاليش إليها، اطمأنت خواطرهم، ورجعوا.
وفي يوم الأحد خامس عشرينه وصل إلى دمشق نائب حلب دمرداش فارًا من تمرلنك في جماعة يسيرة، ولاقاه الحاجب، وتوجه إلى السلطان.
وفي اليوم المذكور وصل إلى دمشق كثير من أهل بعلبك والزبداني بنسائهم وأولادهم ودوابهم، وأخبروا بوصول ابن تمرلنك إلى بعلبك.
ثم عاد تمرلنك إلى حمص، وفي أول جمادى الأولى وصل مبادي الجاليس المصري.
وفي يوم رابعه بكرة النهار لم يفجأ الناس إلا شاليش تمرلنك، وقد أشرفوا على البلد من قبة سَيَّار، وقبة الشيخ خضر، فلما رآهم الناس، انذهلوا، وازدحموا على الدخول من باب النصر - ولم يكن باب مفتوح غيره -، فمات في الزحمة جماعة، وخرج إليهم حاجب الحجاب،
والأمير أسنباي، وقاضي القضاة، ومعه خلق قد استخدمهم، فلما رأوهم، رجعوا هاربين.
وفي يوم سادسه دخل شاليش السلطان إلى دمشق مع ستة مقدمين: بيبرس قريب السلطان، ونوروز الحافظي، وبكتمر الركبي، وأقباي الطريفاي، وأينال باي من قجماس، ويلبغا الناصري، ودخل معهم الأمير تغري بردي وهو مخلوع عليه بنيابة الشام
وفي يوم ثامنه وصل السلطان إلى قبة يلبغا، وقد ملؤوا الأرض، وهم في غاية الكفاية من الملبوس والخيول، فنزل السلطان بقبة يلبغا إلى قرب المغرب، ودخل إلى القلعة، وبات بها، وكان يوم الخميس بعد أن دخل غالب العسكر إلى دمشق، نزل من تمرلنك جماعة إلى السلطان، فركب العسكر إليهم، فقتلوا من التتار جماعة، وأسروا جماعة، ورجع التتار في أسوأ حال.
وفي يوم الأحد طلعت العساكر إلى قبة يلبغا، وأرسلوا يكشفون خبر تمرلنك أين هو نازل؟ حتى يركبوا عليه، فوجدوه نازلًا عند قطنا، وقد حفر حول عساكره خندقًا، وبنى سورًا قريب قامة ونصف، فبقي العسكر كل يوم يركبوا إلى قبة يلبغا من بكرة النهار إلى المغرب، ثم يرجع السلطان والمماليك، وكل ليلة الكشف على أمير من الأمراء إلى بكرة [ثم] يدخل، وتطلع العساكر.
وفي يوم ثاني عشره جاء من جماعة تمرلنك شاب أمرد حسن الشكل اسمه حسين بهادر، فقال: إنه ابن بنت تمرلنك، وقيل: إنه مقدم
ألف، وعلى رأسه تاج جاء طائعًا، فعظَّمه السلطان تعظيمًا كثيرًا، ونزل عند ناظر الجيش ابن غراب، وأخبرهم عن تمرلنك وعن عساكره ما أزعجهم؛ من كثرة العساكر، وعدة الطوائف الذين معه، وكان إرسال المذكور خديعة من تمرلنك.
وفي يوم ثامن عشره نزل جماعة مستكثرة نحو ألف فارس من عسكر تمرلنك، فتقدم إليهم بعض المماليك، والأمير أسنباي، ومعهم جماعة دون المئة، ووقعت بينهم حرب شديدة، وقُتل وأُسر من التمرية جماعة، وحصل في قلوب التمريَّة منهم الرعب، لما رأوا واقعة المماليك الذين واقعوهم، وما حصل بينهم من الشر.
وفي يوم تاسع عشر الشهر توجه العدوّ المخذول، وقطع الدرب صوب البرية، فتبعه بعض العساكر، وكان السلطان نازلًا بقبة يلبغا، فرجع العدو المخذول، واتفقوا، وانكسرت العساكر إلى أن رجعوا إلى السلطان عند قبة يلبغا، فأمد الله تعالى السلطان ومماليكه، وكسروهم إلى أن طالعوهم إلى العقبة، وحال الليل بين العسكرين، وقتل في ذلك اليوم خلائق من العوام والفرسان، وجرح في هذا اليوم القاضي برهان الدين الشاذلي، وبات ملقى على الأرض بقبة يلبغا تلك الليلة، ثم حمل من الغد إلى دمشق، فمات بها.
[
…
] المذكور نزل العدو المخذول بعساكره على قبة يلبغا، وأصبح السلطان والعسكر طلعوا إلى بئر الأعمى، وبقيت القبة بينهم، واستمروا ذلك اليوم يرى بعضهم بعضًا، ولا يقرب أحد منهم إلى الآخر،
إلى أن أمسى المساء، ودخل السلطان القلعة، وبقي بعض الأمراء والعساكر مكانهم، فلما كان ثلث الليل الأخير، خرج السلطان، ومن عَلم به من الأمراء والمماليك، ومن التجار والعوام، واختلفوا في الدروب، وأحس بهم العدو المخذول، فتخطفوهم، وذهب السلطان على قبة سيار، وأحاطت التمريَّة بالبلد، وهم كالجراد المنتشر، فخرج من كان بدمشق من المماليك؛ ظنًا منهم أن العساكر خرجت تدور من خلفه، وخرجت العوام، وقاتلوهم، وقتلوا منهم جماعة، وقاتل أهل البلدين على الأسوار، ثم اجتمع رأي الناس على أن يخرج إليه الشيخ تقي الدين ابن مفلح، والشيخ أبو يزيد البسطامي المجاور بالزاوية بالغزالية، فخرجا إليه، ومعهما المصاحف، وجماعة من الناس خرجوا من سور باب الصغير، فتلقوهم بالقبول والوجه الطلق، وفرح ولد تمرلنك الكبير فرحة عظيمة، وقال: الحمد لله الذي حقنتم دم أهل دمشق، وقال لهم: غدًا اطلعوا إليه بضيافة.
فأصبحوا [
…
] عملوا ضيافة: شواء، وحلوى، وبقج قماش، وبقج فرو، من كل صنف تسعة، وقالوا: عادة الملوك أن يقدم لهم من كل شيء تسعة تسعة، فلما طلعوا بالتقدمة، أعجبته، وكتب أمانًا لأهل دمشق، قرؤوه على السدة، وفيه: أنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم وحريمهم، ونحو ذلك، وكان ممن خرج إليه ذلك اليوم: القاضي شمس الدين النابلسي الحنبلي، والقاضي محيي الدين بن العِزّ الحنفي، والقاضي تقي الدين بن مفلح، ورجعوا وعليهم الخِلَع.
وحكى قاضي القضاة ابن العِزّ الحنفي: أن تمرلنك أحضر إليه القاضي شمس الدين المناوي ممسوكًا، فأهانه إهانة عظيمة، ومنعه من القعود، ونقم عليه أنه نادى بقتاله، وعظَّم القاضي وليَّ الدين بن خلدون؛ لأنه ماشى تمرلنك في فتوحاته، وغير ذلك، وطلب منه أن يكتب له صفة بلاد المغرب ومياهها، ومن بها من قبائل العرب.
[
…
] بُكرة النهار أرادوا أن يفتحوا بابًا من أبواب البلد، فقال لهم نائب القلعة: لا تفتحوا بابًا قريبًا من القلعة، فاتفقوا على فتح باب الصغير، وكان تمرلنك أرسل مرارًا إلى السلطان يطلب الصلح.
وأن سبب رجوع السلطان: اختلاف الأمراء والمماليك عليه، وأن [
…
] تاسع عشره اختفى جماعة من الأمراء ومماليك السلطان، فمن الأمراء: سودون الناصري الطيار، وقاني بيه العلائي، وجمق أمراء دمشق وغيرهم، وجماعة من الخاصكية، فوقع الاختلاف بين الأمراء والمماليك، وأُشيع بينهم أن الأمراء اختلفوا، ومن معهم من المماليك توجهوا إلى الديار المصرية ليأخذوها، فوقع الوهن في العسكر بسبب ذلك.
فأشير على السلطان بالرجوع، فذهب على عقبة دمر، وذهب إلى صفد، فأخذوا نائب صفد معهم، وذهبوا إلى غزة، فلحقوا الأمراء الهاربين: سودون الطيار، ورفقته، ثم إن السلطان أقام بغزة أيامًا حتى تلاحق به بعض المنقطعين، ثم توجه إلى مصر.
ولما فتح باب الصغير، نودي في السقطية أن يكفوا عن القتال، وعسكر تمرلنك فيه خراسانية، وهم أهل المدن: سمرقند، وهمدان،
وأصبهان، وغيرها، وشقطية، وتركمان البلاد، والدشارية، وغيرهم، وأرسل إلى دمشق نائبًا يقال له: شاه ملك، فجاء، ونزل خارج باب الصغير، وولَّوا صدقةَ بن خليل الحسامي حاجبَ الحجاب، وعبد الرحمن التكريتي شاد الدواوين، وعبد الملك ولاية المدينة، وخلع عليهم تمرلنك، وكذلك على قاضي القضاة محيي الدين بن العزّ بقضاء القضاة، والخطابة، ومشيخة الشيوخ، والأنظار المضافة إلى القضاء؛ فإن تمرلنك يعظم الحنفية، وكذلك خلع على القاضي شمس الدين النابلسي بقضاء الحنابلة، وعلى القاضي ناصر الدين بن أبي الطيب بكتابة السر، وعلى شهاب الدين بن الشهيد بالوزارة، وسكن صدقة بدار الذهب، والقاضي الحنفي بدار الخطابة.
[
…
] كان عسكر تمرلنك يدخلون البلد، ويخرجون ويشترون، وتضاعف على الناس ما كان طلب منهم، وكان ذلك الوفا قصر عن ضبطها الحوادث الجزئية، وأما الكلية، فأمرٌ اشترك في معرفته الخاص والعام، من حضر وغاب.
وفي الثاني من الشهر المذكور وصل بريدي إلى مصر: أنّ الأمراء والمماليك بينهم اختلاف، وأنهم رجعوا إلى مصر هاربين، فخرج الأستادار إلى لقاء السلطان، وأخذ معه خيولًا وخيامًا وقماشًا، وغير ذلك.
وفي يوم الخميس خامسه وصل السلطان إلى مصر، وصحبته الخليفة والأمراء، ونائب الشام، وحاجب الحجاب، ونائب صفد،
ونائب غزة، ووصل مع السلطان تقدير ألف مملوك، وحضر الأمراء، ومع كل أمير مملوك واحدٌ أو اثنان، وبعضهم وحده ليس معه أحد، وليس معهم قماش ولا خيام، ولا برك ولا عدة؛ فإنهم تركوا جميع ما كان معهم بدمشق، ونجوا بأنفسهم
وفي يوم الجمعة سادسه حضر القاضي محيي الدين بن العزّ الحنفي بالخانقاه السُّميساطية على قاعدة القاضي الشافعي، وحضر معه القاضي الحنبلي، وحاجب الحجاب، ومن كان في دمشق من الحنفية، ثم عاد إلى بيت الخطابة، وخطب يومئذ بالجامع، ودعا للسلطان محمد قان، ثم للأمير تمر، ثم لولي العهد محمد سلطان، وأقام القاضي الحنفي ببيت الخطابة، وباشر نظر الأوقاف المتعلقة بالقاضي الشافعي.
هذا والتمريَّة محاصرون القلعة، ونهبوا بَرَّ المدينة، وأحرقوه، واستأسروا من الأولاد والحريم والرجال خلقًا كثيرًا، وأحرق باب القلعة إلى حائط العادلية الكبرى، إلى نصف الطريق بين السورين، وبين الناحية الأخرى إلى الصمصامية إلى المارستان وحارة الغرباء، ونصبوا على القلعة مناجنيق، وحذَافات، ومدافع كثيرة، وشرعوا في النقوب، وبنوا قلاعًا مقابل القلعة، وطلب جميع ما في دمشق من الخيل والجمال والبغال التي للمصريين والغياب، ونودي: أن من أخفى من ذلك شيئًا، شنق.
ثم إن المباشرين طلبوا أعيان أهل البلد، وقالوا لهم: اشترينا البلد بمال، وشرعوا يجبون من الناس، ويعاقبونهم ثم أضعف ذلك أضعافًا
كثيرة وأخذ المباشرون لأنفسهم أموالًا كثيرة وضربوا الناس حتى تعدى ذلك إلى الفقراء وأهل العلم، ومن امتنع مما وجب عليه، رسم بشنقه.
وكان تمرلنك في تلك الأيام ينادي بالأمان، ومنع أحدًا من الشقطية أن يدخل البلد، بل كان يمسك أراذل الشقطية ممن يفسد، ويفكر في موضع من البلد عالٍ بظهر يظهر أنه مشنوق.
وكان تمرلنك قد أرسل شخصًا من جهته، فكان يتسلم الأموال من المباشرين، وكان صدقة بن الحسامي في هذه المدة قاعدًا في دست النيابة؛ فإنه كان يقعد على حافة الإيوان، ويقعد قدامه كاتب السر، وعن يمينه القاضي الحنفي، وتحته الحنبلي، والوزير والموقعون في بقية الحلقة.
ثم انتشر الجور، وتناهوا في الظلم، وفقد الناس القوت، ولم يَر أحد بعد توجه السلطان خبزًا في فرن يباع، وغلا القمح والشعير؛ فإنهم لما تسلموا البلد، ختموا على جميع الحواصل التي بأيدي الناس الغائبين والحاضرين، وكان القمح يُباع الغرارةُ بثلاث مئة وستين، ثم وصل في مدة يسيرة إلى ألف وأربع مئة، واستمر الأمر على ذلك، ولا يجسر أحد يبيع هذا إلا بالليل، أو في خفية، وهم يأخذون حواصل، ويبيعون ذلك، وغالبًا البضائع لا توجد، وصارت الفلوس تقبض الخمسة بدرهم فضة، وهلك الفقراء، وبقي الإنسان لا يقدر يمشي من كثرة الأموات، وعجز الناس عن دفنهم.
وكبسوا الخانات والأسواق والمدارس، وغيرها، وسلموا كل حارة
لواحد من أمراء التتار، ودخلوا يعاقبون الناس لاستخلاص ما في أيديهم، وذلك في [
…
]، وكان نائب الشام قد نزل بالجامع، وانتهك هو وجماعته حرمته، وفعل فيه ما لا يفعل في الكنائس، وأغلقوا أبوابه غيرَ باب الزيادة، يخرج فيه ويدخل.
وفي يوم الأربعاء آخر رجب عمَّ الحريق والأسر والنهب، وكان تسليم القلعة إلى تمرلنك يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة، ولم تقم الجمعة في الجامع الأموي إلا مرة واحدة، وهي الجمعة الأولى من استيلاء التتار على البلد، ثم نزل فيه نائب الشام، وفي أوائل مقامه بالجامع أُقيمت جمعتان في شمالي الجامع، شهدهما القليل من الناس، ثم تعطلت الجمعة بعد ذلك من الجامع، وكان أهل القلعة سلموا بأمان بعد تسعة وعشرين يومًا من الاستيلاء على البلد.
وفي يوم سلخ رجب دخل البلد من عسكر التتار خلق لا يحصى عددهم، فنهبوا ما بقي من المتاع، وسبوا النساء والصبيان، وأسروا الرجال، وألقوا الأطفال، وأضرموا في البلد النار، واستمروا على ذلك ثلاثة أيام، ورحلوا، وكانوا قد وصلوا إلى بلاد أذرعات، وحاولوها إلى طرف بلاد السواد، ووصلوا إلى جبل بني هلال، وحاصروا الناس في الحصون والمحامي، وهلك في المحامي من الحراس نحو أربع مئة وخمسين نفسًا، وبموضع آخر خلق، وأخذوا الدواب والخبايا.
وجاء مماليك السلطان الذين تأخروا عنه إلى مصر جماعةً بعد جماعة، حفاةً عراة، وجاء منهم جماعة في البحر من السواحل، وكان
مَنْ جاء منهم إلى نائب غزة منهم يعطيه ما يستتر به على قدر حاله، وأعطى السلطان لكل من المماليك الذين حضروا ألف درهم، وحضر - أيضًا - قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي.
[
…
] من السنة كبس نائب غزة المذكور بيت نوبا وغيرها على العشران الذين نهبوا الرملة، فوسط منهم ستين نفسًا.
وفي الشهر المذكور وقع بَرَدٌ قدر الجوز والبيض لم يُر مثلُه قط، ووُزِنَتْ منه واحدة، فكانت سبعًا وعشرين درهمًا.
[
…
] ثالث شعبان توجه تمرلنك راجعًا إلى بلاده، وتأخر بقايا من عسكره بعده بيومين، وكان من تأخر، يمر على جمع كثير، فيأخذ ما أراد من النساء والصبيان، ولا يقدر أحد على دفعه؛ مما حصل عندهم من الخوف والجبن، وخرج الناس من هذه الوقعة كالأموات الذين خرجوا من قبورهم، ولم يجدوا ما يأكلون، فأكلوا الجراد، وكسدت الفلوس، فكان يصرف الدرهم بثلاثة أو أربعة، واحترق كثير من البلد بعد رحيلهم، لعجز الناس عن طفيه.
[
…
] شعبان وصل إلى القاهرة الأمير سيف الدين شيخ، الذي كان نائب طرابلس، وكان قد وقع في أسر تمرلنك، ثم هرب منه، ووصل إلى طرابلس، ثم ركب في البحر إلى مصر، فخرج الأمراء إليه، وتلقوه، وأرسلوا إليه الخيل بالسّروج المغرقة، والقماش والذهب والفضة، وغير ذلك.
[
…
] شعبان وصل دقماق المحمدي نائب حماة، وكان وقع
أيضًا في الأسر، ثم تخلص، ثم وصل من القاهرة تغري بردي نائب دمشق، وبقية النواب إلى محل ولاياتهم، والأمراء والأجناد، لما تحققوا رحيل تمرلنك وعساكره من البلاد الشامية.
وفي يوم السبت السادس والعشرين من ذي القعدة أخذ تمرلنك بغداد، وكان قد وصل إليها في أواخر شوال، وحاصرها إلى أن أخذها، وبذل السيف فيها ثلاثة أيام، يقتلون الرجال، ويأسرون النساء والصبيان، ثم بعد ثلاثة أيام رسم تمرلنك لقومه أن يأتيه كل واحد برأس، فشرعوا في قتل الأسارى ومن وجدوا، فأحضروا نحو مئة ألف رأس، فلما حضرت الرؤوس، بنوها مواذن نحو الأربعين، وثبتوها بالحجارة والآجر، وجعلوا الرؤوس دائرة عليها، ثم أمر بهدمها، فهدمت، وخربوا كثيرًا من بغداد.
وكان أصل تمرلنك المذكور من سمرقند، ولد بضواحي كش من أعمال سمرقند، مسيرة يوم عنها، وقيل: كان أبوه أحد وزراء تلك البلاد، فنشأ لبيبًا حازمًا جَلْدًا، وصار معه رفقة له يقطع الطريق، وجاءه سهم في رجله، وآخر في كتفه، فبطل نصفه، ولم يزل تتنقل به الأحوال إلى أن استولى على مملكة خراسان، ثم قصد سجستان وأخربها؛ بحيث لم يُبق بها حجرًا ولا مدرًا، ثم استولى على عراق العجم، وقتل في ساعة واحدة من ملوك العجم سبعة عشر نفسًا، واستولى على بلاد فارس، ثم قصد مدينة أصفهان، وهي من أكبر المدن، فقاتله أهلها، فقتل في يوم واحد منهم نحو مئة ألف، أو يزيدون، وجمع الأولاد في مكان، وداسهم
بالخيل، ثم قصد بلاد الدشت، وتختَ مملكتها، فواقعوه، فكسرهم، وخرَّب بلادهم، ثم توجه إلى بغداد، واستولى عليها، وأخربها، ثم ذهب إلى بلاد الهند، وكسرهم، وقتلهم، واستولى على بلاده، ثم إن صاحبها أرسل إليه، وطلب رضاه، فلم يخرب من بلاده شيئًا، وجاءَ الخبر بموت الملك الظاهر برقوق، فرجع، وتوجه إلى بلاد الشام، فأخربها، ثم ذهب إلى بلاد الروم، فكسر عسكرها، وأسر ابن عثمان، وأخرب بلاد الروم.
وبالجملة: فقد قتل من الخلق، وأخذ من الأموال، وأخرب وأحرق من البلاد ما لا يعلمه إلا الله.
وقيل: إن بين استقلاله بالإمرة ووفاته نيفًا وثلاثين سنة، وقيل: إن بعض جداته رأت منامًا، فعبر لها بأنها تلد رجلًا يملك البلاد، ويقهر العباد.
وتوفي بسمرقند في رابع رمضان، سنة سبع وثمان مئة.
وتيمور هو: الحديد بالتركي.
[
…
] الملك الناصر فرج بن برقوق أنه استمر سلطانًا مدة، ونزل الشام مرارًا، ووصل لحلب مرتين، واستمر سلطانًا إلى سنة ثمان وثمان مئة، ففتك في مماليك أبيه، فاختلفوا عليه، واتفق مَنْ بالقاهرة على خلعه، فخُلع، واختفى بالقاهرة في السنة المذكورة.
* * *