المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سلطنة الملك العادل] نور الدين محمود الزنكي صاحب دمشق الملقب بالشهيد - التاريخ المعتبر في أنباء من غبر - جـ ٢

[مجير الدين العليمي]

فهرس الكتاب

- ‌الدولة العلوية الفاطمية

- ‌خلافة عبيد الله المهدي

- ‌ ذكر ما قتله القرامطة بمكة:

- ‌خلافة القائم بالله

- ‌خلافة المنصور

- ‌خلافة المعزّ لدين الله

- ‌خلافة العزيز بالله

- ‌خلافة الحاكم بأمر الله

- ‌خلافة الظاهر لإعزاز دين الله

- ‌خلافة المستنصر بالله

- ‌خلافة المستعلي بأمر الله

- ‌ ذكر استيلاء الفرنج على بيت المقدس:

- ‌خلافة الآمر بأحكام الله

- ‌ ذكر ظهور قبر إبراهيم عليه السلام

- ‌خلافة الحافظ لدين الله

- ‌خلافة الظافر بأمر الله

- ‌خلافة الفائز بنصر الله

- ‌خلافة العاضد لدين الله

- ‌الدولة العباسية بمصر

- ‌خلافة المستنصر بالله

- ‌خلافة الحاكم بأمر الله

- ‌خلافة المستكفي بالله

- ‌خلافة الواثق بالله

- ‌خلافة الحاكم بأمر الله

- ‌خلافة المعتضد بالله

- ‌خلافة المتوكل على الله

- ‌خلافة الواثق بالله

- ‌خلافة المعتصم بالله

- ‌خلافة المتوكل على الله

- ‌خلافة المستعين بالله

- ‌خلافة المعتضد بالله

- ‌خلافة المستكفي بالله

- ‌خلافة القائم بأمر الله

- ‌خلافة المستنجد بالله

- ‌خلافة أبي العز عبد العزيز بن يعقوب

- ‌ذكر ملك أتابك عماد الدين الزنكي

- ‌ ذكر قتل أتابك عماد الدين زنكيُ، وشيء من سيرته:

- ‌[سلطنة الملك العادل] نورِ الدين محمود الزنكي صاحب دمشق الملقب بالشهيد

- ‌[ذكر الملك الصالح] إسماعيل ابن السلطان نور الدين الشهيد

- ‌[ذكر السلطان الناصر صلاح الدين] يوسف بن أيوب وهو أول الملوك في الدولة الأيوبية

- ‌ ذكرُ ملكِ أسدِ الدين مصر: في شهور سنة أربع وستين وخمس مئة

- ‌[ذكر مُلك صلاح الدين مصر]

- ‌ ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر، وقُطعت خطبة العاضد لدين الله، وانقرضت الدولة العلوية الفاطمية:

- ‌وجرى بين نور الدين وصلاح الدين [من] الوحشة في الباطن:

- ‌ ذكر ما وقع للسلطان صلاح الدين بعد وصوله إلى دمشق في هذه السنة:

- ‌ ذكر غزوات السلطان الملك الناصر صلاح الدين وفتوحاته في هذه السنة:

- ‌ ذكر وقعة حطين:

- ‌وفي سنة أربع وثمانين وخمس مئة:

- ‌وفي سنة سبع وثمانين وخمس مئة:

- ‌وفي سنة ثمان وثمانين وخمس مئة:

- ‌ ذكر وفاة السلطان صلاح الدين وبعض سيرته:

- ‌ ذكر حال أهله وولده بعده:

- ‌[سلطنة الملك الأفضل علي ابن السلطان صلاح الدين]

- ‌ثم في سنة تسعين وخمس مئة:

- ‌وفي سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة:

- ‌وفي سنة ثمان وتسعين وخمس مئة:

- ‌وفي سنة تسع وتسعين وخمس مئة

- ‌وفي سنة ثلاث وست مئة:

- ‌وفي سنة ست وست مئة:

- ‌وفي سنة سبع وست مئة:

- ‌وفي سنة تسع وست مئة:

- ‌وفي سنة اثنتي عشرة وست مئة:

- ‌وفي سنة ثلاث عشرة وست مئة:

- ‌وفي سنة أربع عشرة وست مئة:

- ‌وفي سنة سبع عشرة وست مئة:

- ‌[ذكر سلطنة الملك المعظم ابن العادل]

- ‌تخريب أسوار بيت المقدس: وفي سنة ست عشرة وست مئة

- ‌وفي سنة ست وعشرين وست مئة:

- ‌وفي هذه السنة، وهي سنة ست وعشرين وست مئة

- ‌وفي سنة سبع وعشرين وست مئة:

- ‌وفي سنة ثلاثين وست مئة:

- ‌وفي سنة اثنتين وثلاثين وست مئة:

- ‌وفي سنة أربع وثلاثين وست مئة

- ‌ذكر الملك الأشرف ابن الملك العادل

- ‌وفي سنة ست وثلاثين وست مئة:

- ‌وفي سنة أربعين وست مئة:

- ‌وفي سنة إحدى وأربعين وست مئة:

- ‌وفي سنة اثنتين وأربعين المذكورة:

- ‌وفي سنة ثلاث وأربعين وست مئة:

- ‌وفي سنة أربع وأربعين وست مئة:

- ‌وفي سنة سبع وأربعين وست مئة:

- ‌وفي سنة إحدى وخمسين وست مئة:

- ‌وفي سنة ثلاث وخمسين وست مئة:

- ‌وفي سنة خمس وخمسين وست مئة:

- ‌وفي سنة ست وخمسين وست مئة:

- ‌ولما دخلت سنة تسع وخمسون وست مئة:

- ‌وفي سنة إحدى وستين وست مئة:

- ‌ولما دخلت سنة اثنان وثمانون وست مئة:

- ‌ذِكْرُ سَلَاطِينُ الأَيُّوبِيِّينَ وما استقر عليه الحال بعد وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمة الله عليه

- ‌[ذكر تراجم ملوك الأيوبيين]

- ‌سلطنة الملك العزيز عثمان

- ‌سلطنة الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان

- ‌سلطنة الملك العادل أبو بكر محمد بن أبي الشكر

- ‌وفي سنة إحدى وست مئة:

- ‌وفي سنة ثلاث وست مئة:

- ‌وفي سنة أربع وست مئة:

- ‌وفي سنة ست وست مئة:

- ‌ثم في سنة ثمان وست مئة:

- ‌سلطنة أبي المعالي محمد ابن الملك العادل سيف الدين

- ‌وفي سنة ثمان عشرة وست مئة

- ‌وفي سنة خمس وثلاثين وست مئة:

- ‌سلطنة الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل

- ‌ ذكر الحوادث التي وقعت في بيت المقدس:

- ‌سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل

- ‌سلطنة الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح

- ‌أخبار شجر الدر

- ‌سلطنة الملك المعز عز الدين أيبك التركماني

- ‌سلطنة الملك الأشرف موسى بن يوسف

- ‌وفي سنة اثنتين وخمسين وست مئة:

- ‌سلطنة المعز أيبك التركماني

- ‌سلطنة الملك المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك

- ‌سلطنة الملك المظفر قُطُز

- ‌سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري

- ‌ثم في سنة تسع وخمسين وست مئة:

- ‌وفي سنة تسع وخمسين وست مئة:

- ‌وفي سنة إحدى وستين وست مئة:

- ‌ثم في سنة ثلاث وستين وست مئة:

- ‌وفي سنة أربع وستين وست مئة:

- ‌وفي سنة ست وستين وست مئة:

- ‌وفي سنة تسع وستين وست مئة:

- ‌وفي سنة خمس وسبعين وست مئة:

- ‌سلطنة الملك السعيد محمد بركة ابن الملك الظاهر بيبرس

- ‌ثم في سنة سبع وسبعين وست مئة:

- ‌سلطنة الملك العادل بدر الدين سلامش

- ‌سلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحي

- ‌ثم في سنة تسع وسبعين وست مئة:

- ‌وفي سنة أربع وثمانين وست مئة:

- ‌وفي سنة ست وثمانين وست مئة:

- ‌سلطنة الملك الأشرف صلاح الدين ابن الملك المنصور قلاوون

- ‌وفي سنة تسعين وست مئة:

- ‌وفي سنة إحدى وتسعين وست مئة:

- ‌سلطنة الملك القاهر بيدرا

- ‌ سلطنة الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون *

- ‌ سلطنة الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري *

- ‌ سلطنة الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري *

- ‌ سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية *

- ‌ سلطنة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير *

- ‌ سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون *

- ‌سلطنة سيف الدين أبي بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون

- ‌ سلطنة علاء الدين كجك *

- ‌ سلطنة الملك الناصر أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون *

- ‌سلطنة الملك الصالح أبي الفداء إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون

- ‌ سلطنة الملك الكامل سيف الدين * شعبان ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون

- ‌ سلطنة الملك سيف الدين * حاجي ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون

- ‌ سلطنة الملك الناصر * حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون

- ‌ سلطنة الملك الصالح * صالح ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون

- ‌ سلطنة الملك الناصر حسن *

- ‌ سلطنة الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر حاجي *

- ‌ سلطنة الملك الأشرف شعبان ابن الأمير الأمجد حسين *

- ‌ سلطنة الملك المنصور علي ابن الملك الأشرف شعبان *

- ‌ سلطنة الملك الصالح حاجي ابن الملك الأشرف شعبان *

- ‌ سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى وهو أول الجراكسة *

- ‌ سلطنة الملك الصالح حاجي ابن الملك الأشرف شعبان

- ‌ سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية *

- ‌ سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق الأولى *

- ‌ ذكر وقعة تمرلنك *

- ‌ سلطنة الملك المنصور عبد العزيز بن برقوق *

- ‌ سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق الثانية *

- ‌ سلطنة أبي الفضل بن المتوكل على الله العباسي *

- ‌ سلطنة الملك المؤيد شيخ بدمشق *

- ‌ سلطنة أبي السعادات أحمد ابن الملك المؤيد *

- ‌ سلطنة الملك الظاهر ططر بن عبد الله الظاهري *

- ‌ سلطنة الملك الصالح محمد ابن الملك الظاهر ططر *

- ‌ سلطنة الملك الأشرف برسباي الدقماقي الظاهري *

- ‌ سلطنة أبي المحاسن يوسف ابن الملك الأشرف برسباي *

- ‌ سلطنة الملك الظاهر هقمق العلائي *

- ‌ سلطنة أبي السعادات عثمان ابن الملك الظاهر جقمق *

- ‌ سلطنة الملك الأشرف أينال الأتابكي *

- ‌ سلطنة الملك أحمد ابن الملك الأشرف أينال *

- ‌(سلطنة أبي سعيد خشقدم المؤيدي)

- ‌(سلطنة أبي سعيد بلباي المؤيدي)

- ‌(سلطنة أبي سعيد تمربغا الظاهري)

- ‌(سلطنة العادل خشقدم خير بك)

- ‌(سلطنة أبي النصر قايتباي الظاهري)

- ‌تَرَاجُمُ الأَعْيَّانِ

- ‌حَرْفُ الهَمْزَة

- ‌حَرْفُ البَاءِ

- ‌حَرْفُ التَّاءِ

- ‌حَرْفُ الثَّاءِ

- ‌حَرْفُ الجِيْمِ

- ‌حَرْفُ الحَاءِ

- ‌حَرْفُ الخَاءِ المُعْجَمَة

- ‌حَرْفُ الدَّالِ المُهْمَلَة

- ‌حَرْفُ الذَّالِ المُعْجَمَة

- ‌حَرْفُ الرَّاءِ

- ‌حَرْفُ الزَّاي

- ‌حَرْفُ السَّينِ

- ‌حَرْفُ الّشِينِ المُعْجَمَة

- ‌حَرْفُ الصَّادِ المُهْمَلَة

- ‌حَرْفُ الضَّادِ المُعْجَمَة

الفصل: ‌[سلطنة الملك العادل] نور الدين محمود الزنكي صاحب دمشق الملقب بالشهيد

العسكر، وأعلموهم بقتل زنكي، فدخل أصحابه إليه، وبه رمق.

وكان عماد الدين زنكي حسن الصورة، أسمر اللون، مليح العينين، قد وَخَطَه الشيب، وكان قد زاد عمرُه على ستين سنة، ودُفن بالرقة، وكان شديد الهيبة على عسكره عظيمَها، كان له الموصل وما معها من البلاد، وملك الشامَ خلا دمشقَ، وكان شجاعاً، وكانت الأعداء محيطة بمملكته من كل جهة، وهو ينتصف منهم، ويستولي على بلادهم رحمه الله، وعفا عنه -.

وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.

* * *

[سلطنة الملك العادل] نورِ الدين محمود الزنكي صاحب دمشق الملقب بالشهيد

هو نور الدين، أبو القاسم، محمودُ ابنُ الملك المنصور عماد الدين أبي الجود زنكي، بن أقسنقر، المدعو بالشهيد.

لما قُتل والده عماد الدين زنكي، كان نور الدين معه حاضراً عنده، فأخذ خاتم والده وهو ميت من أصبعه، وسار إلى حلب، فملكها، وبلغ سيفَ الدين غازي بنَ عماد الدين زنكي قتلُ والده، فسار إلى الموصل، واستقر ملكُ سيف الدين غازي للموصل وبلادها.

ثم بعد قتل عماد الدين زنكي قصد صاحبُ دمشق مجيرُ الدين حصنَ بعلبك، وحصره، وكان به نجم الدين أيوب بن شادي مستحفظاً،

ص: 60

فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم اتخاذه بالعاجل، فصالحه، وسلم القلعة إليه، وأخذ منه إقطاعاً ومالاً، وملَّكه عدة قُرى من بلاد دمشق، وانتقل أيوب إلى دمشق، وسكنها، وأقام بها.

ثم في سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحبُ حلب بلاد الفرنج مصاف بأرض يغرى، ففتح منها مدينة أرتاح بالسيف، وحصن مامولة، وبصرفوت، وكفر لاثا، وكان بين نور الدين وبين الفرنج مصاف بأرض يغرى من العمق، فانهزم الفرنج، وقتل منهم وأسر جماعة، وأرسل جماعة من الأسرى والغنيمة إلى أخيه سيف الدين غازي صاحبِ الموصل.

وفي سنة أربع وأربعين وخمس مئة حصر نورُ الدين محمود بن زنكي حصنَ حارم، فجمع البرنسُ صاحبُ أنطاكية الفرنج، وسار إلى نور الدين، واقتتلوا، فانتصر نور الدين، وقُتل البرنسُ، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، ثم غزاهم نور الدين غزوة أخرى، فهزمهم، وقتل فيهم وأسر.

وفي سنة سبع وأربعين وخمس مئة: جمعت الفرنج، وساروا إلى نور الدين، وهو محاصرٌ دلوك، فرحل عنها، وقاتلهم أشد قتال رآه الناس، وانهزمت الفرنج، وقُتل وأُسر كثير منهم، ثم عاد نور الدين إلى دلوك، فملكها.

وفي سنة تسع وأربعين وخمس مئة: ملك نور الدين دمشق، وأخذها من صاحبها مجير الدين أرتق بن محمد بن بوري بن طغتكين.

ص: 61

وكان الفرنج قد تغلبوا بتلك الناحية بعد ملكهم عسقلان، حتى إنهم استعرضوا كل مملوك وجارية بدمشق من النصارى، وأطلقوا قهراً كلَّ من أراد منهم الخروجَ من دمشق، واللحوقَ بوطنه، شاء صاحبه أو أبي.

فخشي نور الدين أن يملكوا دمشق، فكاتبَ أهلَ دمشق، واستمالهم من الباطن، ثم سار إليها، وحصرها، ففُتح له الباب الشرقي، فدخل منه، وملك المدينة، وكان نزوله عليها ثالث صفر، وملكها يوم الأحد، تاسع الشهر المذكور، سنة تسع وأربعين وخمس مئة.

وحصَر مجير الدين في القلعة، وبذل له إقطاعاً، من جملته: مدينة حمص، فسلم مجير الدين القلعة إلى نور الدين، وسار إلى حمص، فلم يعطه إياها نورُ الدين، وأعطاه عوضها بالس، فلم يرضها مجير الدين، وسار عنها إلى العراق، وأقام ببغداد، وابتنى داراً بقرب النظَّامية، وسكنها حتى مات بها.

ثم في هذه السنة أو التي بعدها: ملك نور الدين قلعة تل باشر، وأخذها من الفرنج، واستولى على بلاد الشام، من حمص وحماة وبعلبك والرحبة، وبنى بمدينة الموصل الجامعَ النوريَّ، وبحماةَ الجامعَ الذي على نهر العاصي، وجامع الرها، وجامع منبج، وبيمارستان دمشق، ودار الحديث بها.

وفي سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، في رجب: كان بالشام زلازل قوية، فخربَتْ بها حماة، وشيزر، وحمص، وحصن الأكراد،

ص: 62

وطرابلس، وأنطاكية، وغيرها من البلاد المجاورة لها، حتى وقعت الأسوار والقلاع، فقام نور الدين محمود بن زنكي في ذلك المقامَ المرضي؛ من تداركها بالعمارة، وإغارته على الفرنج؛ ليشغلهم عن قصد البلاد، وكان الفرنج يخافون من نور الدين خوفاً شديداً لسلاطته عليهم، وهلك تحت الهدم ما لا يحصى.

وفي سنة ثمان وخمسين وخمس مئة: كبس الفرنجُ نورَ الدين وهو نازلٌ بعسكره في البقيعة تحت حصن الأكراد، فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أطلَّت عليهم صُلبان الفرنج، وقصدوا خيمة نور الدين، فلسرعة ذلك، ركب نور الدين فرساً، وفي رجله الشجَّة، فنزل إنسان كردي، نقضها، فنجا نور الدين، وقُتل الكردي، فأحسنَ نورُ الدين إلى مخلَّفيه ووقف عليهم الوقوف، وسار نور الدين إلى بحيرة حمص، فنزل عليها، وتلاحقَ به مَنْ سلم من المسلمين.

وفي سنة تسع وخمسين: فتح نور الدين قلعة حارم، وأخذها من الفرنج بعد مصافّ جرى بين نور الدين والفرنج، انتصر فيه نور الدين، وقتل وأسر من الفرنج عالما كثيراً، وكان في جملة الأسرى البرنس صاحبُ أنطاكية، والقومصُ صاحبُ طرابلس، وغنم منهم المسلمون شيئاً كثيراً.

وفي هذه السنة - أيضًا - في ذي الحجة سار نور الدين إلى بانياس، وفتحها، وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة إلى هذه السنة.

ص: 63

وفي سنة إحدى وستين وخمس مئة: فتح نور الدين حصن المنيطرة من الشام، وكان بيد الفرنج، وفتح صافيتا، والغربية.

وفي سنة أربع وستين وخمس مئة: ملك نور الدين قلعة جعبر.

ولنور الدين - رحمه الله تعالى - المناقبُ والمآثر والمفاخر ما يستغرق الوصف.

ومما روي عنه - رحمه الله تعالى -: أنه اشترى مملوكاً بخمس مئة دينار، جميل الصورة، ودفعه إلى رجل كبير من جماعته كان رباه، ويعرف أموره، وهو واثق به، وأمره أن يُلبسه أفخرَ الملبوس، ويوقفه في الخدمة على العادة، ففعل.

ثم أمره أن يصعد به كل يوم، ففعل، ثم أمره في يوم من الأيام أن يطلعه ليلاً، ويبيت معه على باب المكان الذي هو فيه، فأنكر عليه ذلك غايةَ الإنكار، وقال: هذا ما اشترى مملوكاً بمئة دينار أبداً، ونسبه إلى القبيح، وتعجب من ذلك غاية العجب، وقال: الشيطان لعب به، بعد تقدمه في السّن، وعبادته وإخلاصه في العمل والجهاد، وما تقدم منه من الخير، لئن وقع منه به فاحشة، لأقتلنَّه.

ثم أخذ كبَّارة، وأصلح رأسها، وحمله إلى المكان الذي ذكره له، وبات عند رأسه ينتظر وقوع ما وقع في نفسه، فلما كان نصف الليل، وإذا بالغلام أخذته الحمى الشديدة إلى طلوع الفجر، ومات من يومه، فبعد دفنه طلب السلطان نورُ الدين الرجل المذكور، وقال له: ما حملك على اتخاذ الكبارة؟ أردت قتلي، والله! إن الموت عندي أهونُ من الوقوع

ص: 64

فيما ظننته بنا، ولكق تعلق بالنفس هوى الغلام المذكور، فاشتريتُه بما تعلم، فطالبتني نفسي برؤيته في كل أسبوع مرة، ففعلت، ثم في كل يوم مرة، ففعلت، ثم طلبت النومَ معه، والدنو منه، لذا أمرتُك بذلك، فلما دخل عليَّ الليل، وأنت وإياه على باب المكان، كشفتُ رأسي، وفتحت يدي، وقلت:

إلهي وسيدي! عبدُك محمودٌ المجاهدُ في سبيلك، الذابُّ عن دينِ نبيك، الذي انقضى عمره في الجهاد، وبناء المساجد والمدارس والرُّبُط طلباً لمرضاتك، يختم أعمالَه بذلك؟ ! وبكيت، فإذا بهاتف يقول في: قد كفيناك ذاك يا محمود، فعلمت أن الغلام قد نزل به أمرٌ، وأما أنت، فجزاك الله عني كلَّ خير على قصدك الجميل بي.

ورأيت في "تاريخ المدينة الشريفة" للشيخ الإمام الحافظ صدرِ العلماء أقضى القضاة جمالِ الدين أبي عبدِ الله محمدٍ الخزرجيِّ السعديِّ العبادي المدني، عرف بالمطري - تغمده الله برحمته - ما نصُّه:

ونقل قاضي القضاة شمسُ الدين بنُ خلكان: أن هذا السور القديم بناه عضد الدولة ابن بُويه بعد الستين وثلاث مئة من الهجرة في خلافة الإمام الطائع لله بن المطيع، ثم تهدم على طول الزمان، وخرب لخراب المدينة، ولم يبق إلا آثاره ورسمه، حتى جدد لها الوزير جمالُ الدين محمدُ بن علي بن أبي منصور الأصبهانيُّ سوراً محكماً حول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين وخمس مئة من الهجرة، ثم كثر الناس من خارج السور، ووصل السلطانُ الملكُ العادل نورُ الدين محمود بن

ص: 65

زنكي بن أقسنقر في سنة سبع وخمسين وخمس مئة إلى المدينة الشريفة، بسبب رؤيا رآها، ذكرها بعض الناس، وسمعتُها من الفقيه عَلَمِ الدين يعقوبَ بن أبي بكر المحترقِ أبوه ليلةَ حريق المسجد، عمَّن حدثه عن أكابر ممن أدرك: أن السلطان محموداً المذكورَ رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مرات في ليلة واحدة، وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود! أَنقذني من هذين، ويشير لشخصين أشقَرين تجاهه، فاستحضرَ وزيرَه قبل الصبح، فذكر له ذلك، فقال: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس له غيرُك، فتجهَّز، وخرج على عَجَل بمقدار ألف راحلة، وما يتبعها من خيل، وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة من أهلها، والوزيرُ معه، وزار، وجلس في المسجد لا يدري ما يصنع. فقال له الوزير: أتعرفُ الشخصين إذا رأيتَهما؟ قال: نعم، فطلب الناس علة الصدقة، وفرق عليهم ذهباً كثيراً وفضة، وقال: لا يبقينَّ أحدٌ بالمدينة إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس، نازلان في الناحية التي تلي قِبْلَة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد، عند دا رآل عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي تعرف الآن بدار العشرة، فطلبهما للصدقة، فامتنعا، وقالا: نحن على كفاية، ما نقبل شيئًا، فجدَّ في طلبهما، فجيءَ بهما، فلما رآهما، قال للوزير: هما ذان، فسألهما عن حالهما، وما جاءَ بهما، فقالا: لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اصدُقاني، وتكرر السؤال حتى أفضى إلى معاقبتهما، فأقرا أنهما من النصارى، وأنهما وصلا لكي ينقلا مَنْ في هذه الحجرة الشريفة المقدسة، باتفاق من ملوكهم، ووجدهما قد حفرا نقباً

ص: 66

تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي، وهما قاصدان إلى جهة الحجرة الشريفة، ويجعلان التراب في بئر عندهما في البيت الذي هما فيه.

هكذا حدثني عمَّن حدثه، فضرب أعناقهما عند الشباك الذي في شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد، ثم أُحرقا بالنار آخر النهار، وركبَ متوجِّهاً نحو الشام، فصاح به من كان نازلاً خارج السور، واستغاثوا، وطلبوا أن يَبني عليهم سوراً يحفظ أبناءَهم وماشيتهم، فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم، وذلك في سنة ثمان وخمسين، وكتب اسمه على باب البقيع، فهو باق إلى اليوم. انتهى كلام المطري - رحمه الله تعالى -، وقال في تاريخه المذكور قبل ذكر هذه الحادثة: إن تأليفه في آخر سنة أربعين وسبع مئة.

وفي "تاريخ المدينة الشريفة" للسيد الشريف نور الدين علي السمهودي: أن الملك العادل نور الدين أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقاً عظيماً إلى الماء حول الحجرة كلها، وأُذيب ذلك الرصاص، وملئ به الخندق، فصار حول الحجرة رصاصاً إلى الماء رحمه الله، ورضي عنه.

وتوفي الملك العادل نور الدين صاحبُ الشام وديار الجزيرة وغير ذلك يوم الأربعاء، حادي عشر شوال، سنة تسع وستين وخمس مئة بعلة الخوانيق بقلعة دمشق المحروسة (1).

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (5/ 187).

ص: 67

ولقِّب بالشهيد؛ لما حصل له في حلقه من الخوانيق، وكذا يقال لأبيه: الشهيد، ويلقب بالقسيم، وكانت الفرنج تقول: القسيم بن القسيم.

ونقل عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم: أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ الفرنج القدس، فسمعهم يقولون: إن القسيم له مع الله سر؛ فإنه ليس يظفر ويُنصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل.

وكان يقول: تعرضت للشهادة غير مرة، فلم يتفق في ذلك، ولو كان فيّ خيرٌ، أو في عند الله قيمة، لرزقنيها، والأعمال بالنية.

وقال له يوماً قطبُ الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان! لا تخاطر بنفسك؛ فإنك لو قتلتَ نفسك، قتلتَ جميع مَنْ معك، وفسد حال المسلمين، فقال له: اسكت يا قطب الدين، قولُك إساءةُ أدب على الله، ومن هو محمود؟ ! من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غيرُ الله الذي لا إله إلا هو، ومن هو محمود؟ فبكى من كان حاضراً (1).

وكان قد شرع يتجهز للدخول إلى مصر لأخذها من صلاح الدين، وكان يريد أن يخلي ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود في الشام قبالة الفرنج، ويسير هو بنفسه إلى مصر، فأتاه أمرُ الله الذي لا مَرَدَّ له (2).

وكان نور الدين أسمر، طويل القامة، ليس له لِحية إلا في حنكه،

(1) انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (12/ 280).

(2)

انظر: "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (10/ 56).

ص: 68

حسنَ الصورة، وكان قد اتسع ملكُه جداً، وخُطب له بالحرمين واليمن لما ملكها توران شاه بنُ أيوب، وكذلك كان يُخطب له بمصر، وخُطب له في الدنيا على جميع منابر الإسلام، وبنى السُّبُل والمكاتب، ووقف على الحرمين وعلى عُربان درب الحجاز، وأقطع لهم الإقطاعات؛ كيلا يتعرضوا للحاج، وأكمل سور المدينة الشريفة، وأجرى لها العين التي تأخذ من أُحد عند قبر حمزة رضي الله عنه، وطبَّق ذكرُه الأرض بحسن سيرته وعدله.

وكان من أهل الزهد والعبادة على قدم عظيم، وكان يصلي كثيراً من الليل.

كما قيل:

جمع الشجاعة والخشوع لربه

ما أحسن المحراب في المحراب

وكان عارفاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وليس عنده فيه تعصُّب، وهو الذي بنى أسوار المدن لما هدمت بالزلازل - كما تقدم -، وبنى المدارس الكثيرة: الشافعية، والحنفية.

ومحاسنه كثيرة لا تُحصى، وفضائله لا تُعد ولا تُحد ولا تُستقصى.

ولد عند طلوع شمس يوم الأحد، سابع عشر شوال، سنة إحدى عشرة وخمس مئة.

ولما مات دفن في بيت القلعة الذي كان يلازم الجلوس فيه، ثم

ص: 69