الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(سلطنة أبي النصر قايتباي الظاهري)
هو أبو النصر قايتباي الظاهري؛ نسبة إلى الملك الظاهر جقمق، بويع له بالسلطنة بحضرة أمير المؤمنين، وأصحاب الحل والعقد، وجلس على تخت الملك الشريف بعد طلوع الشمس بعشر درج من يوم الاثنين، سادس شهر رجب الفرد الحرام، سنة اثنتين وسبعين وثمان مئة، وقبض على تمربغا وخايربك - المشار إليهما فيما تقدم -، وكان من أمرهما ما سبق شرحه، واستمر الملك الأشرف في المملكة، وثبت قدمه في السلطنة، ونشر العدل في الرعية، واطمأن الناس بولايته، وبرز أمره الشريف بإحضار الأمير أزبك من نيابة الشام، واستقر به أتابك العساكر بالديار المصرية، وقد رسم للملك الظاهر تمربغا بعد خلعه بإقامته بدمياط، وعدم التضييق عليه، وسيره إليها، فأقام بها أياماً، ثم وسوس إليه الشيطان، وحَسَّن له الفرارَ منها، وكأنّ نفسه حدثته بالعود إلى السلطنة، فخرج منها قاصداً نحو البلاد الشامية، فجهز السلطان خلفه جماعة، فأدركوه بالقرب من مدينة غزة، فقبض عليه، ورسم السلطان بتجهيزه إلى الإسكندرية، فتوجه إليها، واستمر بها إلى أن مات.
ثم في أواخر السنة المذكورة، وهي سنة اثنتين وسبعين وثمان مئة أنعم السلطان على القاضي غرس الدين خليل الكناني الشافعي أخي الشيخ أبي العباس باستقراره في وظيفة مشيخة الصلاحية، وقضاء الشافعية بالقدس الشريف عوضاً عن الشيخ نجم الدين بن جماعة، وحضر إلى القدس في أواخر ذي القعدة منها.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثمان مئة: فيها جهز السلطان العساكر لقتال شَهْسِوار، وفيها حصل غلاء عظيم، ثم حصل الوباء في أواخر السنة حتى عم جميع المملكة.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثمان مئة: فيها سيَّر السلطان الأمير ناصر الدين محمد بن النشاشيبي الكشف على أوقاف الحرمين الشريفين: القدس، والخليل، وتحرير أمرهما، وإصلاح ما اختل من نظامهما في أيام الأمير بردبك الناجي ناظر الحرمين، فحضر إلى القدس الشريف، ونظر في مصالح الأوقاف، وعمر المسجد الأقصى، وصرف المعاليم، ثم توجه إلى البواب الشريفة.
* وفيها: استقر الأمير يشبك الجمالي في نيابة القدس الشريف عوضًا عن دمرداش العثماني، ودخل إليها في يوم خروج الحاج في شهر شوال.
ثم دخلت سنة خمسة وسبعين وثمان مئة: فيها استقر الأمير ناصر الدين النشاشيبي المشار إليه في وظيفة نظر الحرمين الشريفين استقلالاً، وحضر إلى القدس الشريف في أوائل السنة، وحصل به السرور.
* وفيها: سار الأمير يشبك من مهدي الدوادار الكبير بالعساكر لقتال شَهْسِوار، واستبشر الناس بالنصر، وكان تقدم قبله تجهيز العساكر مرة بعد أخرى، ولم يحصل المقصود، وقُتل من العسكر جماعة، ولم يكن الأمير يشبك المشار إليه توجه قبل ذلك لقتاله، فلما توجه في هذه المرة، علم الناس أنه صاحب سعد، وتدبيره حسن، ورأيه سديد، وأنه لا بد أن يحصل المقصود والنصر بسفره وكان كذلك.
* وفيها: وقعت حادثة بالقدس الشريف في شهر رمضان، وهي أن القاضي غرس الدين الكناني شيخ الصلاحية، وقاضي القدس الشريف حضر عند القاضي شرف الدين الأنصاري وكيل المقام الشريف، وهو نازل بالمدرسة الجوهرية بخط باب الحديد أحدِ أبواب المسجد الأقصى؛ ليسلم عليه، فصادف حضوره عنده حضور الشيخ شهاب الدين العُمَيري، فقصد الشيخ شهاب الدين الجلوس فوق القاضي، فحصل بينهما تشاجر، وحصل فتنة عظيمة، انتهى الحال فيها إلى أن بعض العوام اغتضب للشيخ شهاب الدين، وتوجهوا إلى منزل القاضي بالمدرسة الصلاحية، وهجموا على حريمه، ونهبوا له بعض أمتعة من منزله، واتصل الأمر بالسلطان، وكانت فتنة فاحشة أوجبت عزل القاضي من وظائفه.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وثمان مئة: فيها ركب السلطان وصحبته الأمير أزبك أمير كبير لجهة الخانقاه السّرياقوسيّة، فرفست فرس الأمير أزبك السلطان في رجله، فكُسر، وحُمل إلى القاهرة في مَحَفَّة، واستمر أياماً، ثم عوفي، وذلك في شهر المحرم.
* وفيها: ابتدأ السلطان بعمارة تربته بالصحراء بظاهر القاهرة المحروسة.
* وفيها: أنعم السلطان على شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف بمشيخة الصَّلاحية بالقدس الشريف، وعلى القاضي شهاب الدين أحمد ابن عتبة بقضاء الشافعية عوضاً عن القاضي غرس الدين خليل الكناني، وعلى القاضي خير الدين بن عمران الحنفي بقضاء الحنفية، عوضًا عن
القاضي جمال الدين عبد الله الديري الحنفي، وعلى الشيخ شهاب الدين العُمَيري بمشيخة مدرسته القديمة التي هُدمت، وبُني مكانها المدرسة السلطانية الموجودة الآن بالمسجد الأقصى الشريف، وكان ذلك في شهر صفر عقب عافية السلطان من الكسر الذي كان من فرس الأمير أزبك أمير كبير - كما تقدّم ذكره -، وأُلبس الثلاثةُ، وهم: شيخ الإسلام كمال الدين بن أبي شريف، والقاضي الشافعي، والقاضي الحنفي التشاريفَ على العادة، وألبس الشيخ شهاب الدين العميري جنده صوفاً خضراء على سنجاب، وحصل لهم منه الجبرُ والإكرام، وتوجهوا إلى محل وطنهم في شهر ربيع الأول.
* وفيها في أواخر السنة: قبض الأمير يشبك الدوادار على شَهْسِوار، واعتقل عليه، واستولى على ما كان بيده من المملكة التي تغلب عليها.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثمان مئة: في أوائلها وردت البشائر إلى المملكة بالقبض على شَهْسِوار، ثم حضر الأمير يشبك الدوادار، وصحبته شَهْسِوار معتقلاً عليه هو وجماعة، ودخل إلى القاهرة في شهر ربيع الأول، فصلب هو ومَن معه على باب زويلة في يوم دخولهم القاهرة.
ثم في سنة سبع المذكورة تحرك حسن باك ملك الشرق، وجردت إليه العساكر، فكفى الله المسلمين أمرهم، ورجع إلى بلاده ولم يحصل منه ضرر.
* وفيها: استقر الأمير دقماق الأينالي في نيابة القدس، وفى خل إليها في ربيع الأول، فأقام نحو ثلاثة أشهر، وتوفي، ودفن في الزاوية القلندرية
بتربة ماملا ظاهر القدس الشريف من جهة الغرب، وكان قد أظهر حرمة وشهامة، واستقر بعده الأمير جمق في النيابة، ودخل إلى القدس الشريف في شهر رمضان، وكان يوم دخوله كثير المطر.
* وفيها: وقع ببيت المقدس مطر كثير هدمت منهُ أماكن كثيرة، ومن جملتها: زاوية سيدنا ولي الله تعالى الشيخ محمد القرمي بخط مرزبان، وكان هدم الزاوية في مستهل رمضان، ولم يحصل لأحدٍ من هدم الأماكن ضرر، سوى امرأة واحدة ماتت من بيت هدم عليها.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثمان مئه: فيها أنعم السلطان على الشيخ نجم الدين بن جماعة بمشيخة الصلاحية، وعلى أخيه الخطيب محب الدين بنصف وظيفة خطابة المسجد الأقصى، ونصف وظيفة مشيخة الخانقاه الصلاحية، ووظائف أخر بالمدارس، وعلى القاضي جمال الدين الديري بقضاء الحنفية، وذلك في أوائل السنة، ثم في شوال أنعم على القاضي علاء الدين بن المزوار بقضاء المالكية بعد وفاة القاضي نور الدين البدرشي.
* وفيها: وقعت حادثة بمدينة سيدنا الخليل عليه السلام، وهي فتنة بين الطائفتين بها، حصل بها نهب البلد وتخريبها، وكانت فتنة فاحشة، ورُفع الأمر للسلطان، فسير الأمير علي باي الخاصكي للكشف على ذلك وتحريره، فحضر إلى القدس الشريف، وتوجه وصحبته ناظر الحرمين الأمير ناصر الدين النشاشيبي، والنائب الأمير جقمق، والقضاة بالقدس الشريف، ورسم على أكابر بلد الخليل، وأخذهم صحبته حتى
وصل إلى غزة، فركب فرسًا وساقها، فوقعت عليه حائط، فتوفي هناك.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثمان مئة، وفيها وقعت حادثة بالقدس الشريف، وهي: أن جماعة اعتصبوا، وأنهوا أن كنيسة اليهود محدَثة في دار الإسلام، وورد في ذلك مراسيم شريفة، وعقد فيها مجالس بالقاهرة وبالقدس، ومَنع القاضي بهاء الدين بن عبية قاضي القدس الشافعي اليهودَ من اتخاذها كنيسة، بعد إقامة بينة شهدت عنده أنها محدَثة، ثم في شهر رجب حضر من القاهرة السيد الشريف عفيف الدين، وثار معه جماعة من المتعصبين بالقدس، وهُدمت الكنيسة، واتصل الأمر بالسلطان، فطلب الجماعةَ الذين تكلموا في ذلك، منهم: القاضي، والشهود الذين شهدوا عنده، والشيخ برهان الدين الأنصاري الخليلي، وضربهم لافتئاتهم بالهدم بغير إذن شريف، وكان ذلك في أواخر شعبان، وعزل القاضي، وأمَر باخراجه هو والشيخ برهان الدين من القدس، وعدم سكناهما به.
ثم عقد مجلساً بمنزل الأمير يشبك الدوادار بحضور العلماء والقضاة بالديار المصرية، ورجع القاضي شهاب الدين بن عبية عن حكمه الصادر منه بالقدس الشريف بعد أن استخلفه قاضي القضاة ولي الدين الأسيوطي الشافعي بالديار المصرية، وأذن له في الرجوع عن حكمه، ونفذ على خلفاء الحكم العزيز من المذاهب الأربعة، وأفتى العلماء من الشافعية والحنفية بمصر بجواز إعادة الكنيسة، ومن جملة مَن أفتى، وأظهر التعصب: القاضي شهاب الدين المغربي قاضي الجماعة بالغرب المالكي فأنشد فيه بعضهم:
تُفْتِي بِعَوْدِ كَنِيسٍ
…
وَكَانَ ذَلِكَ جَهْلَا
وَتَدَّعِي فَرْطَ عِلْمٍ
…
وَاللهِ مَا أَنْتَ إِلَاّ
وكانت فتنة فاحشة.
* وفيها: حج أتابك العساكر أزبكي إلى بيت الله الحرام، خرج من القاهرة في ثاني شوال، وقصد المدينة الشريفة، وأقام بها ثمانية أيام، ثم توجه إلى مكة.
* وفيها: حجت الآدر الشريفة خوند جهة المقام الشريف إلى بيت الله الحرام، وكان شيخ الإسلام أمين الدين الأقصرائي من جملة المساعدين للمسلمين في أمر كنيسة اليهود بالقدس، فتوجه إلى الحجاز الشريف من شدة ما حصل له من الحنق بسبب ما وقع بحق المسلمين من الضرب والإهانة بسبب اليهود، فتوفي ولدُهُ سعد الدين بدرب الحجاز الشريف، وحضر هو إلى القاهرة صحبة الحاج، وتوفي عقب ذلك.
* وفيها - أعني: سنة تسع وسبعين وثمان مئة -: استقر الأمير جارقطلي في نيابة القدس الشريف عوضًا عن جمق، ودخل إليها في شوال، وأقام الحكم بحرمة وشهامة.
ثم دخلت سنة ثمانين وثمان مئة: في أوائلها كانت وفاة الشيخ أمين الدين الأقصرائي - كما تقدم -.
* وفيها: حضر السلطان إلى القدس الشريف في شهر رجب، وجلس بقبة موسى تجاه باب السلسلة بالمسجد الأقصى الشريف، ونظر
في حال الرعية، وحكم بالعدل، وسمع الشكوى على النائب بالقدس الشريف المسمى جارقطلي.
ثم توجه إلى الرملة، وعاد إلى القاهرة، ودخل إليها في يوم الخميس، الثاني والعشرين من شعبان
* وفيها: أُعيدت كنيسة اليهود بالقدس، وحضر من القاهرة القاضي شهاب الدين الحزمي الشافعي المشهور بابن حيلات، والقاضي علاء الدين الميموني الحنفي، وأذن الحنفي في إعادتها بآلاتها القديمة، فأعيدت، وكان القاضي شهاب الدين الحزمي حصل له توعك بالقدس، فرجع إلى القاهرة، ولم يتكلم في أمرها، واستغفر الله تعالى مما وقع منه من السفر في هذه الحادثة.
وحُكي لي بالقاهرة أن السبب في رجوعه من القدس بسرعة، وعدم تكلمه في أمر الكنيسة: أنه لما حصل لهُ التوعك بالقدس، كان بخلوة بالمدرسة الجوهرية، وإذا باليهود قد حضروا بالمدرسة، وجلسوا على باب الخلوة التي هو بها، وتكلموا في أمر الكنيسة، فقال بعضهم لبعض: هذا عيدٌ مبارك بإعادة هذه الكنيسة، فما نسمي هذا العيد؟ فقالوا: نسميه: عيد النصر، فلما سمع القاضي ذلك، اقشعر جسدُهُ من ذلك، وانزعج، وبادر بالخروج من القدس، وتوجه إلى القاهرة، واستغفر الله مما وقع منه.
وأمّا الحنفي، فأقام بالقدس إلى أن كملت عمارتها، ثم عاد إلى القاهرة، وقد أسكن الله تعالى مقته في قلوب العباد.
وفي سنة ثلاث وثمانين وثمان مئة: حصلت له محنة من السلطان بسبب حُكم حَكم به من أيام قاضي القضاة سعد الدين الديري، فضربه السلطان، وأمر بنفيه إلى حلب، فخرج من القاهرة إلى أن وصل إلى الخانقاه، فوقعت فيه شفاعة، فأعيد إلى القاهرة، وعزَلهُ السلطان من نيابة الحكم عزلاً مؤبداً، وصار فقيراً حقيراً، واجتمعتُ به بعد ذلك، وتكلمتُ معه، ولُمته على ما صدر منه في أمر الكنيسة المذكورة، فأشهدني عليه أن الإذن الصادر منهُ في إعادتها قصد به الفتوى، ولم يقصد به الحكم الشرعي الرافع للخلاف، والله متولي السرائر.
ثم في أواخر السنة: طُلب قاضي القضاة قطب الدين الخيضري من الشام إلى القاهرة، ورسم له بالإقامة فيها.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وثمان مئة: فيها تزوج القاضي قطب الدين الخيضري الشافعي بابنة أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بأمر السلطان.
* وفيها: حصل الوباء في المملكة كلها، وكان ابتداؤه من شهر رجب، وكثر بالقاهرة من شوال إلى آخر السنة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وثمان مئة: فيها قبض على القاضي برهان الدين بن ثابت النابلسي وكيلِ السلطان، وصودر، وعوقب إلى أن مات، وكذلك ولده بالشام عوقب إلى أن مات، كل ذلك في مدة يسيرة نحو الشهر.
* وفيها: وُسِّعت شوارع القاهرة، وهُدم جميع ما فيها من الأماكن
الخارجة في الشوارع التي ضيقت قارعة الطريق بإشارة الأمير يشبك الدوادار الكبير.
* وفيها: تكاملت عمارة الأزيكية، التي عمرها المعز الأتابكي أزيك أمير كبير، واختطها بخرائب عنتر، وكمل جامعها المستجد، والقصر الذي بداخل الحوش، واستوطنها بعياله، ثم عمّر البركة، والرصيف الدائر عليها، والقصر المطل على البركة في سنة ثلاث، وسنة أربع، وتكامل ذلك في سنة خمس وثمانين وثمان مئة، ثم بنى الناس حولها الأملاك، وكان ابتداء عمارتها في سنة ثمانين وثمان مئة.
* وفيها - أعني: سنة اثنتين وثمانين وثمان مئة -: توجه السلطان من القاهرة في أول جمادى الآخرة في عسكر قليل دون المئة نفس إلى حلب، ووصل إلى الفرات، وحصل له توعك في السفر، ودخل إلى دمشق وهو متوعك، ثم عوفي، وعاد إلى القاهرة، ودخلها في يوم الخميس، رابع شوال من السنة، بعد أن زُينت له، وكان يوماً مشهوداً، وحصل من السلطان تغيظ على القاضي قطب الدين الخيضري بسبب ولده.
* وفيها: استقر الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير حسن بن أيوب في نيابة القدس الشريف عوضاً عن جارقتلي عند حلول الركاب الشريف بغزة المحروسة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثمان مئة: في المحرم منها أُلبس القاضي علاء الدين الصابوني وكالة السلطان عوضاً عن البرهان النابلسي، وألبس القاضي قطب الدين الخيضري خلعة الرضا.
* وفيها: تزوج الأمير جانم ناظر الجوالي قريب المقام الشريف ابنة الأمير علاء الدين بن خاصبك أخت الآدر الشريفة جهة المقام الشريف، وعُقد عقده عليها بعد صلاة الجمعة في شهر ربيع الآخر بجامع القلعة المنصورة، بحضور المقام الشريف، والأمراء، وقاضي القضاة ولي الدين الأسيوطي الشافعي، وقاضي القضاة بدر الدين السعدي الحنبلي، ولم يحضر الحنفي والمالكي؛ لضعفهما، وكان المتولي للعقد الشافعي، وأُلبس خلعة بعد فراغه، ثم حُمل إلى بيت والد الزوجة الفاكهة والحلوى، وكان عدة الحمالين لذلك مئتين وخمسةً وثمانين رجلاً، وقد عاينتُ ذلك، ودخل بها في شهر رجب، ولمّا ركب من منزله إلى منزل والدها ليلة دخوله بها، مشى في خدمتهِ جميع الأمراء المقدَّمين، ما عدا أمير كبير، وكان الأمير يشبك الدوادار الكبير، والأمير أزدمر الطويل حاجب الحجاب ماسكين رأس فرسه، وكان فرحًا عظيمًا.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثمان مئة: فيها استقر الأمير يشبك الدوادار الكبير أمير سلاح عوضًا عن جاني بك الفقيه المتوفَّى بالقدس الشريف، مضافًا إلى الدوادارية، ولم يعهد إضافة الوظيفتين المذكورتين لأحد قبله.
* وفيها في ربيع الآخر: توفي الأمير جانم ناظر الجوالي، وجزع السلطان عليه، وتأسف عليه الناس، وكان شكلاً حسناً رحمه الله وعفا عنه -.
* وفيها: أحضر الملك المؤيد أحمد بن أينال إلى القاهرة، وتوجه
السلطان الملك الأشرف قايتباي - نصره الله تعالى - الإسكندرية في عاشر جمادى الأولى، وترك المؤيد أحمد بن أينال بالقاهرة، واستمر غائباً عشرين يومًا، ثم حضر، فبلغهُ أن جماعة من المماليك الأينالية تكلموا في أمر الملك المؤيد، فغضب عليهم، ونفاهم، وأفحش في حقهم، ويُقال: إن الملك المؤيد هو الذي أرسل أعلمه بذلك خشية على نفسه، ثم توجه المؤيد إلى الإسكندرية.
* وفيها: استقر الأمير سنطباي النحاسي في نيابة القدس الشريف عوضاً عن الأمير ناصر الدين بن أيوب.
* وفيها: حج السلطان إلى بيت الله الحرام، وزار النبي صلى الله عليه وسلم في الذهاب، وأقام بالمدينة الشريفة أربعة أيام، ثم عاد إلى القاهرة.
* وفيها: احترق الجامع الأموي بدمشق، فاهتم السلطان بعمارته، وأعاده أحسن ما كان.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثمان مئة: في يوم الاثنين، ثاني عشر المحرم منها دخل السلطان إلى القاهرة من الحجاز الشريف، وكان يوماً مشهوداً.
* وفيها: قَتَل السلطان القاضيَ تاجَ الدين بن المقسي ناظرَ الخواص الشريفة ومَنْ معه في شهر ربيع الآخر.
* وفيها في الشهر المذكور: سار الأمير يشبك الدوادار الكبير، وصحبته العساكر المنصورة للتجريدة على يعقوب باك بن حسن باك،
فحصل القتال بين العسكرين بأرض الرها في شهر رمضان، فقُتل الأمير يشبك، واحتُزَّ رأسُه، والمتولي لقتله بيندور باش عسكر يعقوب باك، وحمل رأسهُ إلى توريز، وقيل: إن جثته حُملت ودفنت بتربته بالصحراء بظاهر القاهرة، وتواردت الأخبار بقتله في شوال، واستقر الأمير أقبردي قريبُ المقام الشريف عوضه في الدوادارية، ثم تزوج الأمير أقبردي أخت الَادر الشريفة التي كانت زوجاً للأمير جانم ناظر الجوالي، وأخذ ما كان بيده من الإقطاع والبَرْك.
* وفيها: استقر الأمير ناصر الدين محمد بن أيوب في نيابة القدس الشريف عوضًا عن سنطباي البجاسي في المحرم عند حضور السلطان من الحجاز، ثم عُزل، واستقر مكانه بعده الأمير أحمد بن مبارك شاه في أواخر السنة.
ثم دخلت سنة ست وثمانون وثمان مئة: في يوم الجمعة، مستهل المحرم منها صُليت الجمعة بالمدرسة القجماسية بخط الدرب الأحمر بالقاهرة بعد كمال عمارتها، وحكم القاضي شرف الدين بن عيد الحنفي بصحة إقامة الجمعة فيها بحضور واقفها، والقضاة، والخاصّ والعام، وكان الخطيب إمام السلطان ناصر الدين الأخميمي - الذي صار قاضي القضاة الحنفي فيما بعد -، وكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الأحد بعد العصر سابع عشر المحرم: وقعت زلزلة عظيمة بمصر والمملكة، فتوفي القاضي شرف الدين بن عيد الحنفي، وسبب وفاته: أنه وقعت عليه شرافة من الإيوان البحري بالمدرسة الصالحية
- وسيأتي ذكر ذلك في ترجمته في حرف الميم -.
وفي صبيحة ذلك اليوم، وهو نهار الاثنين: استقر الأمير قانصوه خمس مئة الدوادار الثاني أمير أخور كبير؛ بحكم شغور الوظيفة عن الأمير قجماس باستقراره في نيابة الشام.
* وفيها في صفر: استقر القاضي شمس الدين الغزي في قضاء الحنفية بالديار المصرية عوضاً عن ابن عيد.
* وفيها: في يوم الأحد، مستهل رجب الفرد: عزل السلطان قاضي القضاة ولي الدين الأسيوطي الشافعي، وقاضي القضاة برهان الدين اللقاني المالكي، والقاضي زين الدين بن مزهر كاتب السر الشريف، بسبب واقعة أوجبت ذلك، وكنت حاضراً مجلس عزلهم.
وفي يوم الثلاثاء ثالث رجب: ولي قاضي القضاة الشيخ زكريا قضاء الديار المصرية على كُره منهُ.
وفي يوم الاثنين تاسع رجب: ولي قاضي القضاة المالكي محيي الدين عبد القادر بن تقي، وأعاد القاضي زين الدين بن مزهر إلى وظيفته.
* وفيها: غضب السلطان على إمامه برهان الدين الكركي، وعزله من مشيخة الأشرفية، وقرر فيها الشيخ صلاح الدين الطرابلسي، وقرر في قراءة "البخاري" في القلعة الشريفة الشيخ جمال الدين يوسف سبط قاضي القضاة ابن حجر.
* وفيها في مستهل شعبان: دخل القاهرة جُمْجُمة بن عثمان،
وأوكب السلطان لهُ، وكان يوماً مشهوداً.
* وفيها في ليلة الثالث عشر من شهر رمضان: وقعت صاعقة بالمدينة الشريفة، احترق منها الحرم الشريف النبوي، والحجرة الشريفة، وجميع ما بالحرم الشريف من المصاحف والكتب، ووردت الأخبار بذلك والمحاضر المكتتبة بالمدينة الشريفة في أسرع وقت، وجزع الناس لذلك، ثم اهتم السلطان بعمارته، وقام في ذلك أعظم قيام، وأنشأه في غاية الحسن - ولله الحمد -.
* وفيها: أخرجت وظيفة قضاء الشافعية بدمشق عن القاضي قطب الدين الخيضري، واستقر بها القاضي شهاب الدين بن الفرفور.
* وفيها: استقر القاضي علاء الدين بن الصابوني في وظيفة نظر الخواص الشريفة، مضافاً لوكالة السلطان.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثمان مئة: وفيها تكاملت عمارة المدرسة التي أنشأها مولانا السلطان بالمسجد الأقصى الشريف بجوار باب السلسلة، وهي مدرسة عظيمة لم يوجد مثلها، ومن أعظم محاسنها: كونها في هذه البقعة الشريفة.
* وفيها في شهر شعبان: وقع بمكة المشرفة السيل العظيم، ودخل إلى المسجد الحرام، وغرق فيه من أهل مكة والمجاورين خلق كثير، وأمره مشهور، وكان قبل ذلك في سنة ست وثمانين وقع الحريق بالحرم الشريف النبوي - كما تقدم -، فجزع الناس لوقوع هاتين الحادثتين بالحرمين الشريفين في سنتين متواليتين، فالحكم لله العلي الكبير.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثمان مئة: فيها رتب السلطان أوقافاً للمدينة الشريفة، وجعل لها في كل سنة قمحاً يحمل إليها، ويفرَّق على أهلها المقيمين بها، والمجاورين والواردين إليها، وقوي الوقف بحضرته في يوم قراءة المولد الشريف في شهر ربيع الأول بحضور القضاة والأمراء، والخاص والعام في الحوش بالخيمة المنصوبة لقراءة المولد الشريف، وكنت حاضراً ذلك المجلس، فقرأ القاضي زين الدين بن مزهر كاتبُ السرِّ الشريف خطبةَ كتاب الوقف، وهو جالس بين يدي السلطان، ثم تأخر، فحضر القاضي أبو البقاء بن الجيعان، وقرأ وهو واقفٌ أسماء الجهات الموقوفة في قائمة بيده، ثم تأخر، فحضر القاضي أبو الطيب الأسيوطي موقع المقام الشريف في المستندات الشرعية، وقرأ وهو واقف ملخصَ الوقف وشروطَه في قائمة بيده، ومن جملة الشروط: أن يكون النظر لمولانا السلطان الواقف المشار إليه، ثم من بعده لمن يكون سلطاناً بالديار المصرية سلطاناً بعد سلطان، وأن تكون القضاة الأربعة بالديار المصرية شهود الوقف تشريفاً لهم، وكان يوما مشهوداً.
* وفيها: استقر الأمير جانم في نيابة القدس الشريف عوضاً عن أحمد بن مبارك شاه.
* وفيها في جمادى الأولى: وقعت حادثة بالقاهرة المحروسة أوجبت أن المماليك وثبوا على الأمير برسباي قراراس نوبة النوب، وأحرقوا منزله، ونهبوه، وكادت تقع فتنة كبيرة، ثم أخمدها الله تعالى، وحصل الصلح.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثمان مئة: فيها كان ابتداء الفتنة بين السلطان ويين أبي يزيد بن عثمان، فتوجه الأمير تمراز أمير سلاح بالعساكر لقتاله، وكان خروجه من القاهرة في شهر جمادى الأولى.
* وفيها: استقر القاضي شمس الدين بن المزلق في قضاء دمشق عوضًا عن ابن الفرفور.
* وفيها: وقعت بمدينة الرملة حادثة، وهي: أن شخصاً يقال له: ابن دبور خَتَنَ ولده، وعمل له زفة على العادة، فاقتتل جماعة من أهل حارة الباشقردي مع جماعة من أهل حارة التركمان، فقتل بينهما رجل، واتصل الأمر بالحكام بمصر والشام، ووردت قُصّادٌ من الجهتين، وتكلف أهل البلد مبلغاً له صورة، وكان وقوع الفتنة والقتل في شهر شعبان، وكانت حادثة فاحشة.
ثم دخلت سنة تسعين وثمان مئة: فيها تتابع العسكر صحبة جماعة من الأمراء، وتوجهوا خلف الأمير تمراز لقتال السلطان بايزيد بن عثمان.
* وفيها في شهر رجب: حضر القاضي أبو البقاء بن الجيعان، والمهتار رمضان لترتيب الوظائف وتقريرها بالمدرسة الشريفة بالقدس الشريف، وحضر صحبتهما شيخ الإسلام كمال الدين بن أبي شريف، وقد استقر في مشيختها بحكم وفاة الشيخ شهاب الدين العُميري - وسيأتي ذكر ذلك في ترجمته في حرف الميم -، وحضر - أيضًا - صحبة القاضي أبي البقاء القاضي شهابُ الدين بن الفرفور، وقد استقر في قضاء دمشق عوضًا عن ابن المزلق.
* وفيها في شوال: توجه المقر الأتابكي أزبك أمير كبير بالعساكر، ولحق الأمير تمراز.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثمان مئة: فيها في أواخر ربيع الأول: حصل للسلطان عارض، وهو أنه ركب فرسًا في الحوش، فرماه، ووقع فوقه، فكسر فخذه، واستمر نحو الشهرين، وعوفي.
وفي الشهر المذكور قبل حصول العارض للسلطان: توجه الأمير أقبردي الدوادار الكبير إلى جهة نابلس، وجهز الرجال للتجريدة، ثم عاد إلى القاهرة في شهر شعبان، ونصر الله عسكر الإسلام، وقبض على شخص من أكابر دولة ابن عثمان، يقال له: ابن هرسك، وأُحضر للسلطان في أواخر السّنة المذكورة، فأحسن إليه، وأفرج عنه، وأذن له في التوجه إلى بلاده.
* وفيها: استقر الأمير خضر بك في نيابة القدس الشريف عوضاً عن الأمير جانم، ودخل إليها في يوم الثلاثاء، تاسع ذي القعدة الحرام.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وثمان مئة: فيها توجه ابن هرسك إلى بلاده بعد الإحسان إليه من السلطان - كما تقدم -، ولم يحصل لعسكر السلطان في كل مرة إلا الخير والنصر، كلُّ ذلك والسلطان ابن عثمان على عناده -.
* وفيها: حصل الغلاء في سائر الممالك، ورأى الناس من ذلك شدة.
* وفيها: أفرج السلطان عن الأمير قانصوه اليحياوي من القدس الشريف، ورسم له بالحضور إلى القاهرة بعد إقامته بالقدس من أواخر سنة ست وثمانين وثمان مئة، فتوجه من القدس في يوم عيد الفطر.
* وفيها: توفي الأمير قجماس نائب الشام في شهر رمضان، وفيما كان الأمير قانصوه اليحياوي بغزة متوجها إلى الأبواب الشريفة، ورد عليه وفاة الأمير قجماس، فتباشر بولاية نيابة الشام على عادته، فلما قدم إلى القاهرة المحروسة، أقام بها أياما، ثم استقر في نيابة الشام في أواخر السنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثمان مئة: فيها في المحرم قدم الأمير قانصوه اليحياوي إلى الرملة متوجهًا إلى محل ولايته.
* وفيها: استعفى الأمير ناصر الدين النشاشيبي من نظر الحرمين، فعفي بعد توقف السلطان في إغوائه مراراً، فادعى العجز، فأعفي، واستقر عوضه الأمير دقماق في النظر، وفي النيابة - أيضاً - في شهر صفر.
* وفيها: حضر الأمير أقبردي الدوادار الكبير، وصحبته القاضي زين الدين بن مزهر كاتب السر من القاهرة إلى جهة نابلس؛ لتجهيز الرجال للتجريدة لقتال السلطان ابن عثمان، وتجهز العسكر إلى بلاد الروم، [وكان] قدومهما إلى الرملة في يوم السبت، الحادي والعشرين من جمادى الأولى، وجهزت الرجال من جبل نابلس، ثم توجه القاضي زين الدين بن مزهر في شهر رجب وهو متوعك، ومعه الدوادار الكبير في شعبان، فدخل القاضي زين الدين بن مزهر إلى القاهرة، واستمر في
التوعك إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى في يوم الخميس، سادس شهر رمضان، واستمر في كتابة السر الشريف ولده القاضي بدر الدين محمد ابن مُزْهِر، وأُلبس التشريف الشريف، ونزل من القلعة المنصورة، والناس في خدمته في يوم الخميس ثالث عشر رمضان المذكور، وسنذكر ذلك في ترجمة القاضي زين الدين بن مزهر في حرف الهمزة - إن شاء الله تعالى -.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثمان مئة: فيها نزل الأمير أقبردي الدوادار الكبير بجهة نابلس، وتوجه الأغوار؛ بسبب القبض على بني إسماعيل مشايخ جبل نابلس، وعاد إلى القاهرة في جمادى الأولى، ووقعت حادثة أوجبت غضب السلطان من مماليكه، فخلع نفسه من الملك، وقصد الخروج من الديار المصرية، فجزع الناس لذلك، ثم استُعطف خاطره، واستُرضي، واجتمع الناس بالقلعة، وجلس أمير المؤمنين المتوكل على الله، وقضاة القضاة، وأصحاب الحل والعقد، وجُددت له البيعة بالسلطنة، وأُلبس الخلعة السوداء على العادة، وكان يوماً مشهوداً.
ثم دخلت سنة خمس وتسعون وثمان مئة: فيها توجه الأمير أزبك أمير كبير، وصحبته الأمراء والعساكر لقتال السلطان ابن عثمان، فوصلوا إلى بلاد الروم، وأخربوا غالب تلك البلاد، وأحرقوها، ثم عادوا في أواخر السنة، وهم منصورون مؤيدون.
* وفيها: احتبس المطر ببيت المقدس، فصام الناس ثلاثة أيام،
ثم استسقوا في صبيحة يوم الأحد، خامس عشر ربيع الآخر بالصخرة الشريفة، ثم انصرفوا من الصلاة، ولم يُسْقَوا في يومهم، فجزع الناس لذلك، وتضرعوا إلى الله تعالى، فلما مضى النهار وأقبلت ليلة الاثنين، أغاث الله عباده بالمطر الغزير، فامتلأت الآبار، ورَوِيت الأرض، وأظهر الله تعالى إجابة دعاء عباده الضعفاء، فاطمأن الناس، وحمدوا الله تعالى، وأثنوا عليه، وله الحمد والمنة.
وفي يوم السبت ثاني شهر رجب الفرد: هُدمت القبة التي كانت أُحدثت بالقرب من دير صِهْيَون ظاهر القدس، وكان إحداثها في صفر، سنة أربع وتسعين وثمان مئة، فورد مرسوم شريف لشيخ الإسلام كمال الدين بن أبي شريف جواباً لمكاتبته الواردة على الأبواب الشريفة بمعنى ذلك، والمرسوم الشريف على يد الأمير أزبك الخاصكي، الذي حضر للكشف على الأمير دقماق ناظرِ الحرمين ونائب القدس بهدمها، فهدمت بحضور الشيخ كمال الدين المشار إليه، وحضور الخاصكي، والنائب، وشيخ الصلاحية، وقضاة الإسلام الأربعة، والخاص والعام، وكان يومًا مشهوداً، وبقي بعض آثارها، فورد مرسوم شريف ثانٍ للشيخ كمال الدين بإكمال هدمها، ومحو أثرها فمحيت، وكان ذلك في شهر رمضان من السنة الآتية، وهي سنة ست وتسعين وثمان مئة، بحضور ناظر الحرمين الأمير الأجل خضر بك، ومشايخ الإسلام والقضاة، وكان يومًا مشهودًا أعظمَ من اليوم الأول.
* وفيها: - أعني: سنة خمس وتسعين وثمان مئة -: حضر الأمير
أقبردي الدوادار الكبير إلى القدس الشريف متوجهًا لجهة الغور، وكان دخوله القدس في يوم الأحد، سابع عشر ذي الحجة، ونزل بخان الملك الظاهر بيبرس إلى يوم الثلاثاء تاسع عشر الشهر المذكور، ثم توجه إلى الغور.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وثمان مئة: في أوائل شهر ربيع الآخر منها حضر قانصوه من مخيم الأمير الدوادار الكبير بمرسومه برمي الزيت المتحصل من جبل النابلس على أهل بيت المقدس، الخاص والعام من المسلمين، واليهود والنصارى، كل قنطار بخمسة عشر ديناراً ذهبا، فرسَّم على الناس، وضربهم، وانتهك حرمهم، وكانت حادثة فاحشة امتُحن الناس فيها محنة لم يُعهد مثلها في بيت المقدس، بل ولا في غيره من بلاد المسلمين، والسبب في ذلك: الضغينة التي في صدر دقماق النائب، لما حصل عنده من الكشف عليه في سنة خمس وتسعين وثمان مئة، واستمر الناس في الضرب والترسيم والمحنة وهتك الحرم شهر ربيع الآخر بكماله، وباع الناس أمتعتهم وثيابهم بأبخس الأثمان، وبيع كل مثقال من الذهب الطيب بدون الخمسين درهم، وبقي الناس يأخذون الزيت كل قنطار بخمسة عشر دينارًا ذهباً، ويبيعونه بمئتي درهم، وخمسين درهماً فضة، فكانت الخسارة أكثر من الثلثين، وكانت محنة شديدة فاحشة، فالحكم لله العلي الكبير.
ثم توجه دقماق وقانصوه المذكورَيْنِ بالمبلغ المقبوض ثمناً عن الزيت، وهو نحو عشرين ألف دينار إلى مخيم الأمير الدوادار بظاهر
مدينة الرملة، فانتقم الله من دقماق لما فعله بالمسلمين، وعزله الأمير دوادار الكبير واستقر عوضه الأمير خضر بك نظر الحرمين الشريفين، والنيابة في يوم الثلاثاء رابع جمادى الأولى، وهو اليوم الذي سافر فيه الأمير دوادار من الرملة قاصدًا الأبواب الشريفة، ودخل إلى القدس الشريف في يوم الاثنين، عاشر جمادى الأولى، وكان يومًا مشهودًا لدخوله.
* وفيها: في شهر ربيع الآخر برز الأمر الشريف باخراج مدينة الرملة عن نائب الشام الأمير قانصوه اليحياوي، وإضافتها إلى ملك الأمراء أقباي نائب غزة المحروسة، ولم تجر بذلك عادة قبل ذلك، فلما أضيف إلى ملك الأمراء المشار إليه، عمرت البلاد، وحصلت الطمأنينة للرعية والمسافرين بأمن الطرقات، وردع المناحيس والمفسدين - ولله الحمد -.
* وفيها: حضر قصَّاد السلطان بايزيد بن عثمان، وقاضي مدينة برصا بطلب الصلح مع مولانا السلطان الملك الأشرف قايتباي، فأحسن إليهم، وأكرمهم، وعاد القصاد والقاضي المشار إليه، فدخلوا بيت المقدس في شهر رمضان، وركب للقائهم ناظرُ الحرمين، ومشايخ الإسلام، والقضاة، والخاص والعام، ودخلوا إلى القدس الشريف، وكان يومًا مشهودًا، وتوجهوا في الشهر المذكور قاصدين بلاد الروم.
وجهز السلطان الملك الأشرف قايتباي قاصده الأمير جان بلاط للسلطان بايزيد بن عثمان، لعود الجواب عن الصلح، وحصل للرعية الطمأنينة بوقوع الصلح بين هذين الملكين.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثمان مئة والخليفة أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو العز عبد العزيز يعقوب - أعز الله به الدين، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين -، والسلطان بالديار المصرية الملك الأشرف أبو النصر قايتباي.
* وفيها: توفي الشيخ الصالح شمس الدين محمد خليفة المغربي الأصل - الآتي (1) ذكرُ جده في حرف الخاء -، وكان عبدًا صالحًا، وأهلُ بيت المقدس يعتقدونه، ورئي له بعض كرامات، وكانت وفاته في ليلة الخميس، وصُلِّي عليه بعد الظهر من يوم الخميس السابع والعشرين من صفر بالمسجد الأقصى، ودفن بتربة ماملا عند جده الشيخ خليفة، وكان لجنازته مشهد عظيم، شهده العام والخاص، وكانت وفاة والده الشيخ شمس الدين في جمادى الآخرة، سنة تسع وثمانين وثمان مئة.
* وفيها: في شهر ربيع الأول عاد الأمير جان بلاط قاصد المقام الشريف من الروم بعد أن حصل له الجبر من ملك الروم السلطان أبي يزيد، وبالغ في إكرامه، وأكمل الله الصلح بين سلطاننا وبينه، واطمأن الناس - ولله الحمد -.
وكان ابتداء الفتنة وتجهيز العساكر لقتال السلطان ابن عثمان من أوائل سنة تسع وثمانين وثمان مئة إلى أن لطف الله تعالى بعباده، ووقع الصلح، وتكامل في هذا التاريخ بعد وقوع الحرب والفتن نحو ثمان
(1) في الأصل: "المتقدم".
سنين، وصرف في التجاريد ما لا يحصى كثرة.
* وفيها: في شهر ربيع الأول - أيضاً -، الموافق لكانون الثاني وقع هدم فاحش بكنيسة قمامة بالقدس الشريف في الليل من المطر، وهلك تحته رجلان من الحبشة.
* وفيها: ورد مرسوم شريف على شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف بالتوجه إلى مدينة غزة، وصحبته السيفي خضر بك ناظر الحرمين الشريفين، ونائب السلطنة بالقدس الشريف، وإيقاع الصلح بينه وبين ملك الأمراء المقر الأشرف السيفي أقباي كافل المملكة الغزية، والمعاهدة بينهما، وزوال الكدر والوحشة من بينهما، وكتابة صورة بذلك، وعرضها على المسامع الشريفة، فتوجه من القدس الشريف إلى غزة المحروسة، وامتثل ما برزت به المراسيم الشريفة، وحصل الصلح بين المشار إليهما على أحسن وجه، وكان ذلك في جمادى الآخرة.
* وفيها: دخل الوباء بالطاعون حتى عمَّ جميع المملكة بالديار المصرية، والممالك الشامية، وكانت قوته بالقاهرة في الجمادَيْن، وتواترت الأخبار بزيادته وتفاحشه إلى أن بلغ بالقاهرة في كل يوم أكثر من عشرين ألفاً، وفي مدينة غزة أربع مئة في كل يوم، وقيل: أكثر من ذلك، ثم ابتدأ بالقدس الشريف والرملة في أواخر جمادى الآخرة، وتزايد أمره بالرملة في شهر رجب إلى أن بلغ في كل يوم نحو مئة وعشرين، وكان في بيت المقدس في شهر رجب إلى آخره، في كل يوم أربعين وثلاثين، وبلغ في يوم الجمعة حادي عشري رجب نحو الخمسين، وهي أول
جمعة ظهر فيها كثرة الأموات.
* وفيها: في ثامن عشري شهر رجب المذكور توفي الشيخ الإمام العالم العلامة عبد السلام بن الرضا الكركي الحنفي - تغمده الله برحمته -، وكان من أهل العلم والفضل، وعليه السكينة والوقار، وكان يكتب على الفتوى كتابة حسنة، والناس سالمون من يده ولسانه، وكان في ابتداء أمره على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم انتقل عنه، وقلد الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه، وتفقه على الشيخ ناصر الدين محمد بن حسني الشهير بابن الشنتير، وبرع في المذهب، وأفتى ودرَّس، وانتفع به الناس في الفتوى، وتوفي في اليوم المذكور، وصُلي عليه بالمسجد الأقصى الشريف بعد صلاة العصر في يوم الجمعة، وحمل تابوته على الرؤوس، ودفن بماملا ظاهر القدس الشريف، ومات فقيرًا لم يترك من الدنيا سوى نحو عشرة دنانير، ولما انتقل من مذهب الإمام الشافعي إلى مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهما، لامه بعض الناس على ذلك، فأنشد:
أَخَذَ السَّفِيهُ يَلُومُنِي بِجَهَالَةٍ
…
لِمْ لا ثَبَتَّ عَلَى الطَّرِيقِ الأَعْرَفِ
فَأَجَبْتُهُ دع عَنْكَ لَوْمِي يَا فَتَى
…
وَاسْلُكَ طَرِيقَةَ ذَا الإِمَامِ الأَشْرَفِ
إِنَّ المَذَاهِبَ خَيْرُهَا وَأَصَحُّهَا
…
مَا قَالَهُ النُّعْمَانُ حَقًّا فَاقْتَفِ
إِنْسانَ عَيْنٍ لِلأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ
…
فَالكُلُّ عَنْهُ لِلطَّرِيقَةِ مُقْتَفِ
فَاخْتَرْتُ مَذْهَبَهُ وَقُلْتُ بِقَوْلهِ
…
وَجَعَلْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُسْعِفِي
رحمه الله، وعفا عنه، وعوضه الجنة -.
* وفيها: دخل الوباء من القاهرة وما والاها، ومن غزة في شهر رجب، ودخل إلى مدينة دمشق في أواخر رجب، بعد أن عم جميع المملكة الشامية بحلب وحماة وحمص، وورد الخبر أنه وصل في مدينة حلب في كل يوم نحو ثمان مئة، ثم وصل فيها إلى الألف وخمس مئة، وتناقص بمدينة الرملة في أوائل شعبان إلى أن بقي في كل يوم ثلاثة أنفار أو أربعة، ووصل العدد بمدينة سيدنا الخليل عليه السلام في اليوم دون الخمسين، واستمر بالقدس الشريف بعد ارتفاعه من غزة والرملة وكانت قوته في شهر شعبان، ووصل العدد منه إلى فوق المئة في اليوم، وقيل: إنه بلغ إلى مئة وثلاثين.
وتوفي الأمير خضر بك ناظر الحرمين الشريفين، ونائب السلطنة الشريفة بالقدس الشريف، وبلد سيدنا الخليل عليه السلام في ليلة الأحد، الحادي والعشرين من شعبان، وكان دخوله إلى القدس متوليًا يوم الاثنين، عاشر جمادى الأولى، سنة ست وتسعين وثمان مئة، وحصل بولايته عمارة البلاد، واطمأن الناس في الطرقات باعتبار حرمته وشهامته رحمه الله، وعفا عنه -، وكان قبل ذلك تولى النيابة فقط، ودخل إلى القدس في تاسع ذي القعدة، سنة إحدى وتسعين وثمان مئة، وساءت سيرته، وورد المرسوم الشريف بالكشف عليه على يد الأمير تغري ورمش دوادار المقر الأشرف أقبردي أمير داودار كبير، فكشف عليه في شهر ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين، وكتب الجواب للسلطان بسيرته، وما هو عليه، فعزله في أوائل سنة ثلاث وتسعين.
ولمَّا استقر في هذه الولاية في النيابة والنظر، باشر مباشرة حسنة، وأظهر العدل في الرعية، واستعطف خواطر الناس، وشرع في سلوك طريق الرئاسة، ثم لما دخل الوباء، تطيّر من ذلك، وطلع من القدس الشريف إلى ظاهرها، وأقام بالكروم أيامًا، فأنكر الناس عليه ذلك، فدخل إلى المدينة، فأقام بعض أيام، فتوفيت ابنة له، ثم بعد يومين أو ثلاثة توفيت زوجته، ثم بعد وفاة زوجته بنحو ستة أيام توفي هو، وصُلي عليه بالمسجد الأقصى بعد صلاة الظهر من يوم الأحد، ودفن بتربة ماملا ظاهر القدس الشريف.
وكان أسند وصيته لشيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف - أمتع الله بحياته -، فتوجه إلى التربة، وتولى أمره، ووقف على دفنه، وصحبته جماعة من الأعيان، وقضاة الشرع الشريف.
واستمر الوباء بالقدس الشريف في قوته إلى سلخ شهر شعبان، وأفنى خلقاً كثيراً من الأطفال والشبان، وأفنى طائفة الهنود عن آخرهم، وكذلك طائفة الحبشة.
وفيها توفي عدد من الأخيار الصالحين:
منهم: الشيخ جبريل الكردي الشافعي، وكان من أهل الفضل، وكان معظماً عند شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف.
ومنهم: الشيخ الصالح الفاضل يوسف السليماني الحنفي نائبُ إمام الصخرة الشريفة، وكان من أهل الخير والصلاح والفضل في مذهب
الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان يصلي إماما بالصخرة الشريفة، وعلى قراءته الأنس.
ومنهم: الشيخ الصالح المقرئ علي الجزولي المغربي، نائب إمام المالكية بالمسجد الأقصى، وكان من أهل الخير والصلاح، حافظاً لكتاب الله، وكان يؤم بجامع المغاربة، ويؤدي الصلاة على أوضاعها من الطمأنينة في الركوع والسجود.
ومنهم: الشيخ الصالح موسى المغربي، وكان عبدًا صالحًا، وكان مقيمًا بالخلوة التي تحت سور الصخرة الشريفة القبلي سفل التاريخ، وكان يجلس على باب الخلوة، ويجتمع عنده أهل الخير يتلون كتاب الله، وكان يجلس غالبًا ورأسه مكشوف، والصلاح ظاهر عليه.
ومنهم: الشيخ الصالح الناسك إسحاق الجبرتي، وكان عابداً زاهدًا، منقطعاً إلى الله تعالى في الخلوة التي بصدر جامع النساء بداخل المسجد الأقصى، والناس يترددون إليه، ويتبركون به، ولقد ظهر له كرامات ومكاشفات - رحمة الله عليهم أجمعين -.
وتناقص من أول شهر رمضان، وتوفي الخطيب جلال الدين محمد ابن الخطيب محب الدين أحمد ابن قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة، خطيبُ المسجد الأقصى الشريف، وشيخُ الخانقاه الصلاحية بالقدس الشريف، وكان شاباً حسناً، بلغ من العمر نحو اثنتين وعشرين سنة، ولم يحصل منه ضرر لأحد، وكان متأدباً سالكاً طريق الحشمة،
لم يصدر منه ما يَشينه، وتأسف الناس عليه، وكانت وفاته يوم الاثنين، سابع شهر رمضان، ودفن بماملا عند الشيخ شهاب الدين بن أرسلان بتربة أسلافه رحمه الله، وعفا عنه، وعوضه بشبابه الجنة -.
واستمر الوباء بهجومه إلى مدينة دمشق في أول شعبان سنة، وتزايد بها وتفاحش من نصف شعبان، وارتفع من القدس في أواخر شهر شوال، وتناقص من دمشق في العشر الأول من شوال، بعد أن بلغ العدد فيها في كل يوم ثلاثة آلاف، وارتفع من دمشق في أواخر شهر ذي القعدة.
وحضر شخص من القاهرة، وأخبر أنه كُتب ارتفاعٌ (1) بعِدَّة من مات بالطاعون بالقاهرة، وعُرض على السلطان، فضبَط عدَّة من مات، فكانت العدة ألف ألف، وست مئة ألف، وثمان مئة وسبعة وتسعين نفراً، كذا ورد الخبر على كاتبه من مدينة الرملة، والله أعلم بحقيقة الحال.
* وفيها: استقر القاضي عز الدين عبد العزيز ابن القاضي شمس الدين محمد الديري الحنفي في وظيفة قضاء الحنفية بالقدس الشريف.
* وفيها: استقر القاضي كمال الدين أبو البركات محمد ابن الشيخ خليفة المالكي في وظيفة قضاء المالكية بالقدس الشريف، ووصلت الولاية إليهما معاً على يد سعد الدين قاصد المعز البدري بن مُزْهِر صاحب ديوان الإنشاء الشريف في صبيحة يوم الخميس، خامس عشر شوال، وحصل الجمع بين يدي شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف
(1) كذا في الأصل، ولعلها:"أرقاع".
في المدرسة الأشرفية بعد صلاة العصر من اليوم المذكور، وقرئ توقيعاهما بين يديه بحضور قضاة الشرع الشريف، وجماعة من طلبة العلم الشريف، والخاص والعام، فكان تاريخ توقيع المالكي في خامس عشري رمضان، وتوقيع الحنفي في خامس شوال.
واستقر الحنفي عوضًا عن القاضي شهاب الدين أحمد بن المهندس، وهو الذي أخذ عن والده، وكان استقراره في الثامن والعشرين (1) رمضان، سنة خمس وتسعين وثمان مئة، ودخوله إلى القدس في يوم الخميس خامس المحرم سنة ست وتسعين، واستمر بها إلى أن انفصل في التاريخ المذكور.
واستقر المالكي بعد شغور الوظيفة عن المرحوم القاضي شمس الدين بن الأزرق الأندلسي - الآتي (2) ذكره في حرف الميم - من شهر ذي الحجة سنة ست وتسعين - ونسأل الله حسن الخاتمة بمنه وكرمه -.
* وفيها: حج إلى بيت الله الحرام سيدنا ولي الله تعالى الشيخ شمس الدين أبو العون محمد الغزي القادري نزيل جلجولية - أعاد الله علينا وعلى المسلمين من بركاته، ونفعنا ببركة علومه وصالح دعواته -، فدخل إلى القدس الشريف من جلجولية في يوم السبت، سابع عشر شوال، وتوجه منها لبلد سيدنا الخليل عليه السلام قاصدًا مكة المشرفة بعد
(1) في الأصل: "ثامن عشرين".
(2)
في الأصل: "المتقدم".
الظهر من يوم الاثنين تاسع عشر شوال.
* وفيها: استقر الأمير جان بلاط أخو الأمير خضر بك في وظيفة نظر الحرمين الشريفين، ونيابة السلطنة الشريفة بالقدس الشريف، وبلد سيدنا الخليل عليه السلام عوضًا عن أخيه الأمير خضر، ووصل إلى القدس الشريف المرسوم الشريف بولايته في شهر رمضان، ودخل إلى القدس الشريف في بكرة يوم السبت، ثامن شهر ذي القعدة الحرام، وكان يوماً مشهوداً.
* وفيها: ثارت فتنة عظيمة بالقاهرة من المماليك السلطانية في شهر شوال بسبب إقطاعات من توفي في الوباء، وتهجم المماليك إلى القلعة بسبب عدم إعطاء السلطان لهم الإقطاعات، فطلع إليهم الأمير تمراز أمير سلاح، وعنفهم بالكلام، ووعدهم بكل جميل، وأخمد الفتنة.
* وفيها: توفي قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن يونس النابلسي الشافعي قاضي نابلس، وكان ولي قديماً قضاء نابلس، ثم أضيف إليه قضاء الرملة، ثم استقر في قضاء القدس، عوضًا عن القاضي شهاب الدين بن عتبة في أواخر سنة، لرسمه، وعزل في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وثمان مئة، واستمر سبع سنين معزولاً، ثم استقر في قضاء نابلس في سنة ثمان وثمانين وثمان مئة، وتولى الرملة على ضربين، وعزل عنها، واستمر بنابلس، ثم استوطن دمشق وصفد، مع استمراره في الولاية، ثم توجه إلى الحج إلى بيت الله الحرام، فقضى مناسكه، وخرج صحبة الحاج وهو ضعيف، فتوفي ببطن مرو، وأُعيد إلى مكة،
ودفن بها في شهر ذي الحجة، وهذا دليل على حسن الخاتمة - رحمه الله تعالى، ورحم جميع أموات المسلمين -.
* وفيها: توفي يؤنس بن إسماعيل شيخ جبل نابلس في شهر ذي القعدة، وكانت سيرته غير حسنة؛ مما ينسب إليه من الفسق، وتعاطي المحرمات، واستقر عوضه في مشيخة جبل نابلس أزبك بن قانصوه من بني عم يونس المذكور، ووردت المراسيم الشريفة لملك الأمراء أقباي نائب غزة ولملك الأمراء جان بلاط نائب القدس الشريف، وناظر الحرمين الشريفين بالتوجه إلى جبل نابلس، وتسليمه له، فتوجها حسب المراسيم الشريفة، واستقر في محل مشيخته في أواخر شهر ذي الحجة الحرام، سنة سبع وتسعين وثمان مئة، وكانت سنة شديدة.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثمان مئة والخليفة المتوكل على الله أمير المؤمنين عبد العزيز بن يعقوب، والسلطان الملك الأشرف قايتباي.
* وفيها في شهر الله المحرم: تعين قانم الخاصكي للتوجه إلى المملكة الشامية؛ لكشف الأوقاف والمدارس على عادة من تقدمه في ذلك، وكان تقدَّمَه في الكشف الأميرُ جانم قريبُ المقام الشريف في شهور سنة اثنتين وثمانين وثمان مئة، ثم كشف الأوقات الأمير جان بلاط - الأشرفي في شهور سنة اثنتين وتسعين وثمان مئة، ودخل قانم الخاصكي المذكور إلى القدس الشريف في عشية يوم السبت ثالث صفر، وجلس في بكرة يوم الأحد بالمدرسة السلطانية بحضور شيخ الإسلام الكمالي بن أبي
شريف، وشيخ الإسلام النجمي (1) بن جماعة، والأمير جان بلاط ناظر الحرمين الشريفين، ونائب السلطنة الشريفة، وقضاة الشرع الشريف، وقرئ المرسوم الشريف الوارد على يده بمعنى كشف الأوقاف، وما تحصل من التِّرك المخلفة عن الأموات في الوباء المختصة بجهة بيت المال المعمور، واستخرج من الأوقاف أموالاً نحو ألف وخمس مئة دينار، وحصل الضرر بسبب ذلك للفقراء والفقهاء، فالحكم لله العلي الكبير.
وتوجه من القدس في صبيحة يوم السبت، عاشر صفر.
* وفيها في العشر الأوسط من صفر: حضر الأمير أقبردي الدوادار الكبير من الديار المصرية على حين غفلة، ولم يعلم به حتى دخل مدينة غزة، ثم توجه إلى الرملة، ووضع أثقاله بها، ثم توجه من فوره هو ومَنْ معه على الخيول إلى جهة نابلس، ثم عاد إلى الرملة، وأقام بداخل البلد هو وجماعته، ولم ينصب مخيمه بظاهرها على ما جرت به العادة، ونادى بالأمان، وأمر جماعته بعدم التعرض لأحد، ولا تشويش على الرعية.
* وفيها: توفي الشيخ الصالح الناسك العابد الخاشع شرفُ الدين موسى ابن الشيخ شهاب الدين أحمد ابن الشيخ الصالح القدوة جمال الدين عبد الله بن الصامت القادريُّ الحنفيُّ شيخ الفقراء القادرية، وكان من أهل الخير والصلاح، وله عبادة وملازمة على ذكر الله تعالى، وكان مقيما بالمدرسة الصيبية شمالي المسجد الأقصى، ويقيم فيها الأوقات
(1) أي: نجم الدين.
المشهودة بالذكر، خصوصاً ليالي الجمع، وكان يذكر الله تعالى في المسجد الأقصى بصدر جامع النساء عقب صلاة كل جمعة، وعليه الأنس والخشوع، وهو معتزل عن الناس، لا يخالط أبناء الدنيا، ولا يتردد إليهم، وكان جده من أكابر الصالحين، ووالده - أيضاً - كان رجلاً صالحًا، وهو من بيت قوم صالحين، وكان الشيخ موسى أضرّ في بصره، وضعف بدنه قبل وفاته بسنين، وهو - مع ذلك - لا يفتر عن ذكر الله تعالى، ولا عن ملازمة الطاعة على عادته، وكان الناس سالمين من يده ولسانه، والصلاح ظاهراً عليه.
وكان ذلك ليلة الأحد، وصُلي عليه بعد الظهر من يوم الأحد بالمسجد الأقصى في سادس عشر صفر الأغر، وحمل تابوته على الرؤوس، ودفن بتربة الساهرة ظاهر القدس الشريف من جهة الشمال، وكانت جنازته حافلة، حضرها خلق لا يحصون كثرة، ولم ير مثل جنازته في هذه الأزمنة، وشيَّعه شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف، وقضاة الشرع والعلماء، والخاص والعام، وبلغ من العمر نحو ثلاث وسبعين سنة رحمه الله، وعفا عنه -.
قد تقدم أن الأمير أقبردي الدوادار الكبير حضر من الأبواب الشريفة، وأقام بالرملة بداخل البلد، وكان مقامه بدار الأمير منصور بن قرابغا يبيت بها ليلاً، وجلوسه في النهار بدار ابن باكيش المعدة للحكام، وجماعته من الخدم وغيرهم نزلوا عند الناس في منازلهم متفرقين.
ثم في عشية يوم الأحد عاشر ربيع الأول حضر إلى القدس الشريف
قانصوه، وعلى يده مرسوم الدوادار برمي الزيت المتحصل من جبل نابلس على التجار المعتادين بعمل الصابون كل قنطار بخمسة عشر ديناراً، بعد أن خُتم على ما اشتروه من القلي، ونودي في البلد بالأمان للعوام، وأن الزيت لا يأخذه إلا أربابه، فمن الناس من لم يصدق هذه المناداة، وخرج هاربًا، ومنهم من اطمأن، ثم شرع قانصوه في كتابة أسماء التجار، ومَنْ له عادة بعمل الصابون حتى اطمأن الناس، وشَرع يقبض عليهم واحدًا بعد واحد، من التجار وغيرهم، ويلزمهم بشراء الزيت على حكم ما فعل بهم في سنة ست وتسعين وثمان مئة، ورمي على اليهود والنصارى، وطلب بعض نساء الغائبين (1)، ولكنه في هذه المرة أخفُّ وطأة من المرة الأولى التي كانت في سنة ست، بمقتضى أن ناظر الحرمين ونائب السلطنة بالقدس الأمير جان بلاط اعتنى بأهل بيت المقدس، وظهر منه التلطف بالرعية، فلم يقع فيهم الإفحاش كما تقدم في زمن دقماق النائب.
وكان الزيت المرسوم برميه على القدس وبلد الخليل ألف وخمس مئة قنطار، من ذلك مئة وستون قنطاراً مختصة بأهل الخليل، وعلى أهل غزة ألف قنطار، ثم رمي على أهل الرملة، وضيق عليهم بالضرب والحبس وإخراج بعض الحريم؛ كما وقع لأهل القدس في سنة ست وتسعين، فالحكم لله العلي الكبير.
(1) في الأصل: "وطلب بعض نساء بسبب الغائبين".
وسافر قانصوه من القدس صحبةَ ناظر الحرمين بالمال المقبوض بعد صلاة الجمعة، العشرين من ربيع الآخر، بعد إقامته بها أربعين يومًا، وحضر إلى الأمير أقبردي الدوادار النواب والأمراء إلى الرملة من طرابلس وحماة وصفد والبيرة، وأُهدي إليه من الأموال والمواشي ما لا يحصى، ثم حضر إليه ملك الأمراء قانصوه اليحياوي كافل المملكة الشامية، والأمير يونس حاجب الحجاب بالشام، وغيرُهما، وحضر الأمير قانصوه اليحياوي إلى القدس الشريف لقصد الزيارة، ونزل في تربته التي أنشأها بظاهر باب الأسباط في عشية يوم الخميس، رابع جمادى الأولى، وتوجه في صبيحة يوم الأحد سابم الشهر قاصداً إلى دمشق المحروسة، وتوجه الأمير أقبردي الدوادار من الرملة لجهة الغور لقتال العرب، وتوجه إليه الأمير جان بلاط ناظرُ الحرمين، وناظر القدس الشريف في بكرة يوم الاثنين من جمادى الأولى، [وتوجه إلى] بلاد حوران وما والاها من البلاد، ونهب أذرعات وغيرها، وحصل من الأموال والمواشي ما لا يحصى كثرة، وحضر إليه عامر بن مقلد شيخ العرب، فقبض عليه، وحضر إلى مدينة الرملة في يوم السبت، تاسع عشر شهر جمادى الآخرة، وتوجه منها قاصداً الأبواب الشريفة في ليلة الجمعة، خامس عشر جمادى الآخرة، وصحبته من المواشي ما لا يحصى كثرة، فهلك منها في الطريق غالبها، ولم يصل معه منها إلى القاهرة إلا الأقل.
* وفيها: توفي القاضي غرس الدين خليل الكناني أخو الشيخ أبي العباس الواعظ بمكة المشرفة، وكان ولي قضاء نابلس، وقضاء صفد،
وباشر نيابة الحكم بالديار المصرية، ثم ولي قضاء الشافعية بالقدس الشريف، ومشيخة المدرسة الصالحية، وأضيف إليه قضاء بلد سيدنا الخليل عليه السلام، والرملة، وكان دخوله للقدس الشريف في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وثمان مئة، وعزل في أوائل سنة ست وسبعين وثمان مئة، وتقدم طرف من أخباره في ترجمة السلطان الملك الأشرف قايتباي، واستمر معزولاً مقيما بغزة ومجدل حمامة، ثم توجه للحج في سنة سبع وتسعين وثمان مئة، وجاور بمكة، فمات بها في شهور سنة ثمان وتسعين وثمان مئة، ودفن بالمعلاة - رحمه الله تعالى -.
* وفيها: في شهر شوال حل ركاب الأمير قانصوه نائب قلعة الجبل المنصورةَ بالديار المصرية إلى مدينة الرملة متوجهًا إلى ملك الشرق من الأبواب الشريفة، وأوقع الصلح بين أخيه الأمير جان بلاط ناظر الحرمين الشريفين، ونائب القدس الشريف، وبين ملك الأمراء المقر السيفي أقباي كافل المملكة الغزيّة؛ بسبب ما كان بينهما من التنافس.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثمان مئة والخليفة والسلطان على عادتهما.
* وفيها: توجه الأمير جان بلاط نائب القدس الشريف إلى الأبواب الشريفة، وكان سفره من القدس في ليلة السبت، تاسع عشرين المحرم، ولم يعلم أحد بسفره إلا بعد يومين أو ثلاثة، فوصل إلى القاهرة.
* وفيها: توفي الأمير أزدمر نائب حلب، وكان ظالماً عَسوفاً للرعية، وحصل منه لأهل حلب الضرر الكثير، وكان كثير الإساءة لطائفة
الفقهاء، وامتهان أحكام الشريعة المطهرة، وكان أمير مجلس بالديار المصرية، ثم ولي نيابة حلب.
* وفيها: توفي الأمير أزدمر نائب صفد المعروف بالمسرطن، وكان أحد الأمراء المقدمين بالديار المصرية، ثم ولي نيابة صفد، فأحسن السيرة، وعدل في الرعية؛ بخلاف ما كان عليه نائب حلب، فهو يوافقه في الاسم، ويخالفه في الفعل، وكانت وفاتهما في مدة متقاربة، فطلع سيف كل واحد منهما للسلطان، وكان ذلك في شهر صفر.
* وفيها: استقر القاضي شرف الدين يحيى العيزري في وظيفة قضاء الشافعية بغزة، عوضًا عن القاضي شمس الدين بن المحاسن، بعد محن حصلت له، وصودر وحبس بعد الكشف عليه وكتابة محاضر في حقه بمال أُنهي أنه في جهته من الناس في مدة ولايته، وكان ابتداء ولايته في أوائل سنة تسع وسبعين وثمان مئة، وعزل مرات بالقاضي محيي الدين ابن جبريل، وبالقاضي شرف الدين العيزري المقدَّم ذكرُه، ثم استقر في الولاية من سنة تسعين وثمان مئة، واستمر بها إلى أن قدر الله تعالى بمحنته في هذه المرّة، واستقر عوضه القاضي شرف الدين العيزري، وأُلبس التشريف الشريف في دار السعادة بغزة، بحضور ملك الأمراء السيفي أقباي، في شهر الله المحرم الحرام.
* وفيها: في يوم الثلاثاء تاسع عشري ربيع الأول الموافق لسابع كانون الثاني: وقع الثلج بالقدس الشريف، واستمر ينزل من ظهر الثلاثاء إلى عشية يوم الخميس مستهل ربيع الآخر، ليلاً ونهاراً حتى امتلأت الشوارع
والأسطحة والأماكن، ورُئي منه ما لم يُعْهَد في هذه الأزمنة من نحو سبعين سنة، حتى كان حجمه فوق الأرض في بعض الأماكن أكثر من أربعة أذرع، وأخبرت أنه بلغ في بعض الأماكن أكثر من خمسة أذرع، وتقطعت السُّبل وسُدَّت الشوارع، وأصبح الناس في يوم الجمعة ثاني ربيع الآخر في شدة شديدة، وأقيمت صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى الشريف، فلم يحضرها من أهل بيت المقدس النصف، بل ولا الثلث.
ووقع الثلج بمدينة الرملة، ولم يعهد وقوعه بها في هذه الأزمنة، إلا ما يحكى أنه من مدة طويلة من نحو ثمانين سنة وقع بها مرّة في سنة من السنين، فسماها أهل الرملة: سنة الثلجة، ولم يُعلم أنه بلغ قدر ما بلغ في هذه المرة، حتى قيل: إنه وصل إلى البحر، [واستمر] في شوارع القدس أكثر من عشرين يوماً، وقد اشتد حتى صار كالحجارة، ثم وقع البرد الشديد بعد وقوع الثلج بنحو خمسة عشر يوماً، حتى جمد الماء وصار جليداً، ثم في عشية الخميس ليلة الجمعة، السادس عشر من ربيع الآخر عاود الثلج، ونزل حتى عمَّ الأرض، لكنه كان خفيفًا.
ومن الاتفاق: أن الثلج كان وقع بالقدس في السنة الماضية، وهي سنة ثمان وتسعين، في يوم تاسع عشرين ربيع الأول، ثم وقع في هذه السنة في تاسع عشرين ربيع الأول، لكنه في العام الماضي كان في يوم الجمعة، وفي هذا العام في يوم الثلاثاء، فسبحان القادر على كل شيء.
ثم وقع الثلج بغزة المحروسة، ولم يعلم وقوعه بها قبل ذلك.
قد تقدم قبل ذلك: أن الأمير جان بلاط ناظرَ الحرمين الشريفين،
ونائبَ السلطنة بالقدس الشريف توجَّه إلى الأبواب الشريفة في تاسع عشرين المحرم، فلما وصل إلى الخدم الشريفة، بقي هناك مدة، وحصل له الإنعام الشريف باستمراره في وظيفته، وأُلبس التشريف، ودخلها في بكرة يوم الخميس، ثاني عشرين ربيع الآخر، وكان يومًا كثير المطر لم يُر مثلُه في شتاء هذا العام، وركب الناس للقائه من القضاة والأعيان، واستمر المطر ينزل عليهم من عند خان الملك الظاهر بيبرس وإلى دار النيابة، ودخل صحبته القاضي برهان الدين الجوهري، وعليه خلعة كاملية بفرو سمور، ولم يعهد دخول حاكم لبيت المقدس في مثل هذا اليوم إلا في سنة سبع وسبعين وثمان مئة لما توفي الأمير دقماق الأينالي نائب القدس الشريف - المتقدم ذكره في ترجمة مولانا السلطان -، واستقر بعده في النيابة جقمق الظالم العاجز، فدخل إلى القدس الشريف في شهر رمضان من السنة المذكورة، في يوم كثير المطر كهذا اليوم.
وفي ثاني يوم دخول الأمير جان بلاط إلى القدس الشريف، وهو نهار الجمعة، الموافق لآخر يوم من كانون الثاني، وقع الثلج بالقدس الشريف مرّة ثالثة، واستمر ينزل من وقت صلاة الجمعة إلى بعد الظهر من يوم السبت، حتى بقي حجمه فوق الأرض أكثر من ذراع، وامتلأت الشوارع والأسطحة منه، وانزعج الناس لذلك خشية الضرر منه، وأصبح إلى يوم الأحد، وأغاث الله عباده بنزول الغيث الغزير من بعد الظهر من يوم الأحد إلى آخر ليلة الاثنين، فأزال الثلج، حتى لم يبق منه إلا القليل، ثم وقع الهدم في الأماكن، فسقط كثير من الدور والأبنية.
* وفيها: استقر الأمير أقباي نائب غزة المحروسة في نيابة صفد عوضًا عن الأمير أزدمر المسرطن، وتوجه إليها في شهر ربيع الآخر.
واستقر في نيابة غزة الأمير قاني بك، ودخل إليها في شهر جمادى الآخرة، وكان قدومه من حلب.
واستقر في نيابة حلب الأمير أينال نائب طرابلس.
* وفيها: أضيف كشف الرملة لملك الأمراء بالشام، وجهز كاشفة إليها الأمير إسكندر، فأقام بها مدة يسيره نحو شهر، ثم ورد مرسوم شريف لملك الأمراء بغزة الأمير قاني بك بأن يكون متكلماً على الرملة على عادة الأمير أقباي نائب صفد حين كان نائباً بغزة، وأن يقوم لملك الأمراء بالشام بما جرت به عادته، وجهز متسلمه إليها، فتسلمها في عشية يوم الأربعاء ثالث رجب، ثم ورد ملك الأمراء قاني بك للرملة في يوم الثلاثاء ثامن شعبان، وحضر إليه ناظر الحرمين الشريفين، ونائب السلطنة بالقدس الشريف الأمير جان بلاط، وصحبته قضاة بيت المقدس في يوم السبت ثاني عشر شعبان.
* وفيها: استقر القاضي شهاب الدين بن المهندس الحنفي في قضاء الحنفية بالقدس الشريف، وبلد سيدنا الخليل عليه السلام، والرملة، وورد توقيعه مؤرخًا في ثامن عشر رجب، وأُلبس التشريف الشريف من ظاهر مدينة القدس في يوم الاثنين سابع شعبان، وكانت ولايته لبيت المقدس عوضاً عن القاضي عز الدين الديري - المتقدم ذكر ولايته في سنة سبع وتسعين وثمان مئة -، وللرملة عوضاً عن القاضي كمال الدين
محمد بن الأحزم النابلسي، وحضر إلى محل ولايته بالرملة صحبة ناظر الحرمين السيفي جان بلاط - في التاريخ المتقدم ذكره قريبًا -.
* وفيها: توفي شيخ الإسلام صلاح الدين محمد الطرابلسي الحنفي، شيخُ المدرسة الأشرفية بالديار المصرية، وكان من أهل العلم والدين، وتقدم في ترجمة السلطان: أنه استقر في مشيخة الأشرفية عوضًا عن برهان الدين الكركي في سنة ست وثمانين وثمان مئة، وقد عظم شأنه، وصار المرجع إليه في الفتوى، وكانت وفاته في يوم الاثنين، خامس عشر رجب رحمه الله، وعفا عنه -.
* وفيها: استقر قاضي القضاة محب الدين محمد بن القَصيف الحنفي في وظيفة قضاء الحنفية بدمشق المحروسة، عوضًا عن القاضي برهان الدين بن القطب، بعد وفاته بالقاهرة المحروسة، ووصلت الولاية إليه في شهر رجب.
* وفيها: استقر حسن بن إسماعيل في مشيخة جبل نابلس عوضاً عن أزبك بن إسماعيل في شهر شعبان.
* وفيها: استقر محمد بن إبراهيم الوديات في إمرة جرم عوضاً عن ثابت الرميني، وقدم إلى مدينة غزة، فورد مرسوم شريف لنائب غزة الأمير قاني بك، وقرينه مرسوم شريف لناظر الحرمين الشريفين ونائب السلطنة بالقدس الشريف الأمير جان بلاط يعلمهما: أن مكاتبة ملك الأمراء بغزة وردت للأبواب الشريفة تتضمن: أن أمير جرم محمد الوديات لا يصلح للإمرة؛ لعجزه عن القيام بالقود، وما هو مقرر عليه للخزائن
الشريفة، وأن نائب القدس الشريف يتوجه وصحبته قضاة القدس الشريف، وأركان الدولة بها لمدينة غزة، والاجتماع لملك الأمراء بغزة وقضاتها، وأركان الدولة بها، وجميع أمراء جرم، ومن كان يصلح للولاية ممن ترضى به الرعية، ويقدر على ما هو مقرر، يُكتب له محضر شرعي، وُيعرض على المسامع الشريفة.
فتوجه ناظر الحرم، وصحبته قضاة القدس الشريف الأربعة من القدس الشريف، في ليلة الأحد، سابع عشرين شعبان، ووصلوا غزة في بكرة الاثنين، وحصل الاجتماع بنائب غزة وقضاتها بدار النيابة بغزة بعد العصر في يوم الثلاثاء، ودار الكلام بينهم فيمن يصلح، فنائب غزة قصد أن يستقر أبو العُوَيس بن أبي بكر، ونائب القدس قصد استقرار محمد الوديات، لكونه هو الذي سعى في توليته، ثم التزم ناظر الحرمين بما على محمد الوديات من القود والعادة في مدة ولايته، وبمبلغ خمس مئة دينار زيادة على ما هو مقرر عليه، فلم يحصل اتفاق بين نائب غزة ونائب القدس، وانفصل المجلس على غير رضا، وكل من النائبين كتب للسلطان بما يختاره، وتوجه نائب القدس وقضاتها من غزة في بكرة نهار الأربعاء سلخ شعبان، وصحبتهم محمد الوديات أمير جرم، ومكَّنه نائب القدس من الإمرة، وألبسه خلعة السلطان، وقام في نصرته بكل ممكن.
* وفيها: استقر الشيخ برهان الكركي في مشيخة المدرسة الأشرفية بالديار المصرية عوضًا عن الشيخ صلاح الدين الطرابلسي بحكم وفاته إلى رحمة الله تعالى، وأُلبس الخلعة من الحضرة الشريفة في مستهل شهر
شعبان، واستقر - أيضاً - في قراءة الحديث الشريف بالقلعة الشريفة عوضاً عن الشيخ جمال الدين سبط قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر بحكم وفاته إلى رحمة الله تعالى، وشرع في قراءة الحديث في الأشهر الثلاثة الشريفة، وكان قبل ذلك حصل الرضا عليه من المقام الشريف، وأقره في إمامته على حالته، وعاد إلى ما كان عليه من الحشمة، ونفاذ الكلمة، والإقبال من السلطان - وقد تقدم في ترجمة السلطان ما كان وقع من إخراج وظائفه عنه في حوادث سنة ست وثمانين وثمان مئة -، والآن فقد مَنّ الله عليه بإعادة وظائفه بعد وفاة مَنْ أخذها عنه، فسبحان القادرِ على ما يشاء.
* وفيها: في شهر رمضان وقع بدمشق فتنة فاحشة، وهي أن رجلاً يسمى: الشيخ مبارك، أسود اللون سلك (1) طريق الفقراء، وتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان تسلط على أرباب المنكرات في كَبِّ الخمر، ونحوه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحمل منه حكام الشام الأتراك، فوقعت حادثة أوجبت أن قُبض عليه، وأُحضر إلى نائب الشام الأمير قانصوه اليحياوي، فلما حضر بين يديه، ضربه ضرباً فاحشا، وضرب رجلين من جماعته بالمقارع، وحبسهم فثار جماعة لنصرة الشيخ مبارك، وحضر قاضي القضاة شهاب الدين بن فرفور الشافعي لمجلس النائب، وتكلم معه في إطلاق الشيخ مبارك، فلما خرج
(1) في الأصل: "سالك".
من السجن، اعتصب معه جماعة بسبب الرجلين المحبوسين من جماعته، وتوجهوا للسجن، وفتحوه، وأطلقوا مَنْ به من المسجونين، فلما علم النائب بذلك، أركب جماعة من مماليكه، وأمرهم بالقبض على الشيخ مبارك ومَنْ معه على هيئة الحرب، وحضروا إلى الجامع الأموي، وحصل البطشُ منهم في الناس بالضرب والقتال والنهب فيمن عرفوه ومن لم يعرفوه، حتى قُتل من الناس خلق كثير نحو مئة وثلاثين نفساً، قتل عمد بغير حق، فبعضهم قُتل خارج الجامع، وبعضهم بداخله في محل العبادة والصلاة، وتفاحش الحال في القتلى حتى صاروا كالجيف الملقاة، وكان ذلك في النهار من شهر رمضان، وأُخبرت أنه حصل فسق، وأفطر - أيضاً - من المماليك، فالحكم لله العلي الكبير.
ثم كتب نائب الشام يُعلم السلطان بذلك، وتوجه الشيخ مبارك - أيضًا - للسلطان، ومعه مكاتبات من أهل دمشق بما وقع، والله تعالى المتصرف في عباده كيف يشاء.
* وفيها: في شهر رمضان - أيضًا - وقع بحلب فتنة بين العوام وبعض المتصرفين من أعوان الشرطة، وقتل جماعة من الناس في نهار رمضان، نظير ما وقع بالشام، وكانت حادثة فاحشة.
* وفيها: في شهر رمضان توفي الأمير علاء الدين علي بن خاص بك، صهرُ المقام الشريف، وكان رجلاً عاقلًا، حصلت له الرياسة، فلم يحصل له ما حصل لغيره من الطغيان، فإنه صاهر الملوك بتزويج أخته للملك الأشرف أينال، وابنته للسلطان الملك الأشرف قايتباي، وكان
مقيماً بمنزله بخط بين القصرين، لا يتكلم بين اثنين، ولا يظهر التجوُّهَ ولا الفخر بمصاهرة الملوك، ولا تحصل منه شفاعة عند أحد من أرباب الولايات في أمر من الأمور، واستمر على ذلك إلى حين وفاته، وكانت جنازته حافلة - رحمه الله تعالى -.
* وفيها: استقر الشيخ العلامة شهاب الدين أحمد ابن الشيخ نور الدين علي الشيشيني الحنبلي أحدُ علماء الحنابلة بالديار المصرية في وظيفة قضاء الحنابلة بالحرمين الشريفين: مكة المشرفة، والمدينة الشريفة - على الحالِّ بها أفضلُ الصلاة والسلام -، عوضًا عن السيد الشريف قاضي القضاة محيي الدين عبد القادر الحسني الحنبلي - رحمه الله تعالى - بحكم وفاته، بعد شغورها عنه أكثر من سنة، فإنه توفي بالمدينة الشريفة في نصف شعبان، سنة ثمان وتسعين وثمان مئة، مباشرته لقضاء الحرمين الشريفين نحو خمسة وثلاثين سنة، وكان من أهل العلم والدين، عفيفاً في مباشرته رحمه الله.
* وفيها: حضر الأمير قاني بك نائب غزة المحروسة إلى القدس الشريف، حسب المرسوم الشريف الوارد عليه في ذلك، وكان دخوله للقدس في ضحى يوم الثلاثاء، عاشر شهر ذي القعدة الحرام، وحصل الاجتماع بينه وبين الأمير جان بلاط ناظرِ الحرمين الشريفين، ونائبِ السلطنة الشريفة بالقدس الشريف، بحضور شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف بمنزله بالمدرسة التنكزية، ووقع الصلح بينهما، وحصلت الموافقة والمعاهدة على زوال ما بينهما من التنافر.
وتوجه نائب غزة من القدس في عشية نهار الأربعاء.
* وفيها: توفي الأمير يشبك بن حيدر نائب حماة، وكان باشر الولاية بالقاهرة المحروسة مدة طويلة تقرب من عشرين سنة، ثم ولي حماة، واستمر إلى أن مات بها.
* وفيها: توفي الشيخ شمس الدين محمد ابن الشيخ نجم الدين أحمد الخطيب الحنبلي من ذرية الشيخ أبي عُمَر ابن قدامة، مولده بصالحية دمشق، في عشية عيد الفطر، سنة خمس وثمان مئة، وكان من أهل الفضل، ومن القدماء، باشر نيابة القضاء بالديار المصرية عن قاضي القضاة محب الدين بن نصر الله البغدادي، ومن بعده إلى أيام قاضي القضاة عز الدين الكناني، وكان في دولة الأشرف أينال تُكُلِّم له في قضاء الديار المصرية، فلم ينبرم ذلك، ثم لما توفي قاضي القضاة عز الدين الكناني، تطاول للولاية، فلم يقدَّر ذلك، واستمر خاملًا إلى أن توفي، وكانت وفاته في نهار الأربعاء، خامس عشرين ذي القعدة بالقاهرة - رحمه الله تعالى -.
ثم دخلت سنة تسع مئة، الخليفة والسلطان على عادتهما.
* وفيها: توفي الأمير يونس حاجب الحجاب بالشام المحروس، وكان خصيصاً بالسلطان، وله عنده وجاهة، وكلامه مقبول عنده، وكان قد رأس بالشام، وتَرِدُ إليه المراسيم الشريفة في الأمور المهمة، وكانت وفاته في يوم السبت، رابع المحرم - عفا الله عنه -.
* وفيها: في العشر الثالث من المحرم، لما عاد ركب الحج الشامي من مكة المشرفة، وزار النبي صلى الله عليه وسلم، وسار إلى أن وصل إلى قريب من مدينة الكرك في مكان يعرف بـ: معان، والركب سائر، ظهر عليه عرب بني إبراهيم، ومعهم جماعة من عرب بني لام، وحصل النهب من العرب في الحج، فأخذ بعضه، فلما وصل ركب الحج إلى الحسا، حصل بين أمير الركب الشامي ومن معه من الحجاج، وبين العرب أمور يطول شرحها، وجُمع من الحجاج مال، ودُفع للعرب، وحصل الأمان بينهم، فشرع الحجاج في التحميل والسير، فظهر العرب عليهم، وأُخذ ركب الحج عن آخره، ونُهبت الأموال نهبًا فاحشاً، وكانت عِدّة جمال الحجاج ثلاثة عشر ألف جمل، لم يسلم من ذلك سوى ستة عشر جملًا عرايا من غير أحمال، وكان في الحج جماعة من الأعيان بدمشق، وأُخذ قاضي القضاة شمس الدين بن المزلق الشافعي، وجماعة من أعيان التجار من أولاد القاري وغيرهم، ومعهم من الأموال ما لا يحصى كثرة، فأُخذ جميع ذلك عن آخره، وهلك من الرجال والنساء والأطفال خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، وسار جماعةٌ حفاةً عراةً إلى أن وصلوا إلى مدينة الكرك، وبعض الحجاج استمر ملقًى في البرية، وتشتت شملُ الحجاج وتفرق، وقُبض على أمير الحاج، وأُخذ جميع ما معه، وكانت حادثة فاحشة، لم يُسمع بمثلها في هذه الأزمنة، واغتضب جماعة من أهل الكرك، وجماعة من أهل سيدنا الخليل عليه السلام، وتوجهوا إلى جهة الأغوار وغيرها، وأحضروا جماعة من الحجاج إلى بلد سيدنا الخليل - عليه
السلام -، وإلى القدس الشريف، فالحكم لله العلي الكبير.
والسبب في ذلك: أن أمير الركب الشامي هو أركماس دوادار السلطان بالشام، كان لما كان متوجهًا إلى الحجاز الشريف، قَبض على شخص من العرب، وضيق عليه، ثم هرب منه، فنهب أميرُ الحاج مالاً لبعض العرب وحصل منه التشوفُ عليهم، فلما عاد ركب الحج الشريف، تحالف عليه جماعةُ العربان من بني إبراهيم وبني لام، ووقعت هذه الحادثة، والله سبحانه هو المتصرف في عباده.
* وفيها: توفي قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن التادفي الحنبلي قاضي مدينة حلب، وكان من أهل الفضل، حسن الشكل، وخَطُّه حسن، وله مروءة وشهامة، وكانت ولايته لمنصب القضاء بحلب في دولة الملك الأشرف أينال في حدود الستين وثمان مئة، عوضًا عن قاضي القضاة علاء الدين بن مفلح، ووقع له العزل والولاية مرات بالقاضي علاء الدين بن مفلح، ثم لما نزل السلطان إلى المملكة الشامية، في شهور سنة اثنتين وثمانين وثمان مئة، واجتمع به بمدينة حلب، أنعم عليه باستقراره في كتابة السر، ونظرِ الجيش، ونظرِ القلعة بحلب، مضافاً لمنصب القضاء، فباشر الوظائف مدةً، فتجمد عليه مال للديوان الشريف، وطُلب إلى القاهرة، وحُبس بالسجن المعروف بالقشرة مدة طويلة، وعزل من وظائفه، واستقر فيها غيره، وهو رجل شريف من أهل حلب، فباشرها مدة، وحصل له فيها محنة بسبب تجمد المال عليه، كما وقع للقاضي جمال الدين التادفي، ثم أُفرج عن القاضي جمال الدين من
السجن، وحصل له الجبر من السلطان، وولاه وظيفة قضاء الحنابلة بحلب على عادته، وتوجه إليها، وأقام بها إلى أن توفي بها في شهر المحرم - غفر الله تعالى له، وسامحه -.
* وفيها: استقر الأمير قايتباي نائب صفد في نيابة السلطنة بحماة المحروسة، عوضًا عن الأمير يشبك بن حيدر، وتوجه إليها في شهر صفر، فكانت إقامته بصفد دون السنة.
* وفيها: توفي القاضي تقي الدين أبو بكر بن شمس الدين محمد العجلوني المعروف بابن البيدق الحنبلي، أحد خلفاء الحكم العزيز بدمشق، وكان من أهل الفضل، ومن أعيان جماعة الحنابلة بدمشق رحمه الله، وكانت وفاته في أوائل هذا العام - غفر الله تعالى له -.
* وفيها: استقر القاضي عز الدين عبد العزيز الديري الحنفي في وظيفة قضاء الحنفية بالقدس الشريف، عوضاً عن القاضي شهاب الدين أحمد ابن المهندس - المتقدِّم ذكرُ ولايته في السنة الخالية -، وقد تقدم أنه استقر في قضاء القدس، وبلدِ سيدنا الخليل عليه السلام، والرملةِ، وأن توقيعه مؤرخ في ثامن عشر رجب، سنة تسع وتسعين وثمان مئة، فعزل عن قضاء بلد الخليل عليه السلام في ثامن عشرين شعبان منها، فكان استمرار ولايته بالخليل أربعين يومًا، ثم عزل عن قضاء الرملة في يوم الأربعاء، مستهل المحرم من هذه السنة، وهي سنة تسع مئة، فكان استمرار ولايته بالرملة خمسة أشهر، واثني عشر يومًا، ثم عزل عن قضاء القدس الشريف، وورد خبر ولاية القاضي عز الدين السري، وجلس
للحكم في يوم السبت، ثامن عشرين ربيع الأول، فكان استمراره في قضاء القدس من يوم ولايته وإلى هذا اليوم ثمانية أشهر، وعشرة أيام بالنسبة إلى تاريخ توقيعه، وبالنسبة إلى لبسه التشريف، وتمكنه من الحكم في سابع شعبان، كانت مدته سبعة أشهر، وعشرين يوماً.
وفي يوم الثلاثاء، ثاني شهر ربيع الآخر: دخل الأمير جان بلاط ناظر الحرمين الشريفين، ونائبُ السلطنة بالقدس الشريف وبلدِ سيدنا الخليل عليه السلام إلى مدينة القدس، وهو لابس خلعة الشتاء الواردة إليه من الأبواب الشريفة، ودخل معه القاضي عز الدين السري، وهو لابسٌ تشريف الولاية.
* وفيها: برز الأمر الشريف بإضافة التكلم على كشف مدينة الرملة المحروسة، للمقر الأشرف الأمير جان بلاط ناظرِ الحرمين الشريفين، ونائبِ السلطنة الشريفة بالقدس الشريف، وبلد سيدنا الخليل عليه السلام، وأُخرجت عن المقر الأشرف الأمير قاني باي نائبِ غزة المحروسة، وتسلمها الأمير جان بلاط في شهر جمادى الأولى، وحصل لأهل الرملة السرور بذلك.
* وفيها: ورد السيفي علان من الأبواب الشريفة، وعلى يده مراسيمُ شريفة برمي الزيت المتحصل من جبل نابلس على أهل القدس الشريف، وبلد سيدنا الخليل عليه السلام، وغزة، والرملة، على ما جرت به العادة في سنة ست، وسنة ثمان وتسعين وثمان مئة، فرمي عليهم كل قنطار بالكيل الرملي بخمسة عشر ديناراً ذهباً، فالذي رمي على القدس
الشريف والخليل تسع مئة قنطار، وعلى أهل الرملة مئتا قنطار، وحصل لأهل البلاد المذكورة الرفقُ من الأمير جان بلاط نائبِ الحرمين ونائب القدس والخليل والرملة، فإنه تلطف بهم، ولم يحصل منه ضرر ولا تشويش لأحد منهم، بل استعطف خواطرهم، وأخذهم بالتي هي أحسن، فجزاه الله خيرًا، ولكن تضرر الفقراء من ذلك؛ كونهم يخسرون كثيراً، فإن كل قنطار بخمسة عشر ديناراً، وكلفته نحو دينار، فأبيع بتسعة دنانير فما دونها، فكانت الخسارة نحو النصف، والله لطيف بعباده.
* وفيها: في شهر رجب حضر رجل من بلاد الفرنج، زعم أنه أخو مولانا السلطان الملك الأشرف قايتباي، وأنه لما أسر هو وإياه من بلاد الجركس، وأُحضر السلطان إلى الديار المصرية حتى وصل إلى ما منّ الله عليه من الملك، أُخذ هو إلى بلاد الفرنج، واستمر عندهم إلى أن بقي شيخًا، ورزق الأولاد، وهو على دين النصرانية، وذكر أنه قدم إلى القاهرة مراراً، وأنه كان ينظر أخاه السلطان، ولا يجسُر أن يتعرف به، فلما وصل علمهُ للسلطان، أحضره من بلاد الفرنج، فقدم إلى مدينة طرابلس، ثم توجه إلى الديار المصرية، فتمثل بالحضرة الشريفة، وذكر أمره للسلطان، فسأله السلطان عن حقيقة أمره، فذكر له أَماراتٍ دلَّت على صدقه، فعند ذلك صدَّقه السلطان على أُخُوَّته وأحسن إليه، وأسلم هو وأولاده، وسمي: [
…
]، وأقام بالقاهرة مكرَّماً، فسبحان المتفضل على من يشاء بما شاء.
* وفيها: وقعت فتنة عظيمة بين الأمير جان بلاط ناظرِ الحرمين،
ونائبِ القدس والرملة، وبين الأمير قاني بك نائب غزة، وهو: أن الأمير جان بلاط لما قدم إلى الرملة بسبب رمي الزيت المتقدم ذكره قريبًا؛ امتثالاً للمرسوم الشريف الوارد عليه بمعنى ذلك، فدخل إلى الرملة في يوم الأحد سادس عشر رجب، فلما كان في صبيحة يوم الثلاثاء ثامن عشر رجب، أمر كاشفه بالرملة، وهو الجمالي يوسف بالركوب هو وجماعته، والمشي في معاملة الرملة؛ لحفظها من المناحيس، والذَّبِّ عن الرعية؛ لأنه كان - قبل ذلك - حضر جماعة من العرب، ونهبوا أبقارًا لأهل الرملة، ولأهل نيعان من أعمالها، فلما ركب الكاشف بجنده، ركب ناظر الحرمين، وصحبته دواداره برسباي، ونحو أربعة أنفس، وخرج إلى ظاهر الرملة للمسايرة، فطلع على الكاشف جماعة، فطردهم وطردوه إلى أن حصروه بالبرج الكائن بقرية خلدا من أعمال الرملة، فتحصن به، فأخذوا خيوله، وقتلوا جماعة ممن معه، وكان ناظر الحرمين بالقرب من قرية تل الجزر، فسمع الصوت، فسار بمن معه من دواداره برسباي، والأربعة أنفس الذين معه نحو الصوت، فطلع عليهم العرب، وتواقعوا، فقتلوا برسباي الدوادار ومن معه، حتى لم يبق سوى الأمير جان بلاط بمفرده، فثبت لهم، وقاتلهم أشد قتال بمفرده حتى تخلص منهم، ونجا ولله الحمد، فكان عدة القتلى في ذلك اليوم عشرة أنفس، منهم شخص شريف، فحُملوا إلى الرملة ودفنوا، وتوجه قضاةُ الرملة إلى جهة تل الجزر، وعاينوا بعض القتلى بأرضها، وكُتب محضرٌ بذلك، وجُهِّز إلى الأبواب الشريفة مع مكاتبته.
ثم كتب نائب غزة إلى السلطان يشتكى من ناظر الحرمين بكلمات مهملة لا حقيقة لها، فبرز الأمر الشريف بتجهيز الأمير قانصوه الساقي الخاصكي، وعلى يده مراسيم شريفة لشيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف، وقضاة غزة والقدس والرملة بالتوجه إلى المكان الذي وقعت به الفتنة، وتحرير ذلك، وإعادة الجواب على المسامع الشريفة.
فحضر شيخ الإسلام المشار إليه، وصحبته قضاة القدس الشريف إلى الرملة في يوم الأربعاء، عاشر رمضان، واجتمع به الخاصكي، وقضاة الرملة، وتوجهوا إلى قرية تل الجزر، وحرروا الأمر في ذلك، فتبين لهم أن الحق بيد ناظرِ الحرمين، وأن القتل والفتنة كانا في معاملته، وحضر قضاة غزة إلى تل الصافية بأطراف معاملة غزة، وامتنعوا من الحضور إلى الرملة، والاجتماع بشيخ الإسلام وقضاةِ القدس والرملة، وأظهروا التعصب لنائب غزة.
وكتب شيخ الإسلام وقضاةُ القدس والرملة محضراً، وكتبوا خطوطهم عليه بما يقتضي أن الحق بيد ناظر الحرمين، ثم كتب قضاة غزة محضرأبما اختاروه، وملخصه: أن ناظر الحرمين كان هو المتعدي بدخوله معاملة غزة، وجُهز كلٌّ من المحضرين للأبواب الشريفة، ثم حضر الخاصكي إلى القدس الشريف للزيارة، ثم توجه لزيارة سيدنا الخليل عليه السلام، ثم توجه إلى غزة ليقيم فيها لانتظار الجواب بما يرد عليه من المراسيم الشريفة.
* وفيها: توفي قاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن علي بن شمس
الدين محمد الحموي الشيبي المعروف بابن إدريس، وبابن العطار الحنبلي قاضي طرابلس، وكان من أهل الفضل، وباشر القضاء بطرابلس أكثر من عشرين سنة - رحمه الله تعالى -.
وتوفي الشيخ الإمام العالم العلامة المحدث ناصر الدين محمد ابن الشيخ عماد الدين أبي بكر، المشهور بابن زريق، من ذرية الشيخ أبي عُمر بن قُدامة الحنبلي، وكان من أهل الفضل، ومن بيت كبير، ومن أعيان المحدِّثين، وكان ناظراً على مدرسة جده الشيخ أبي عمر بصالحية دمشق، وقد عُمِّر رحمه الله.
* وفيها: توفي الشيخ الإمام العالم العلامة المحدِّث علاءُ الدين علي ابن البهاء البغدادي الحنبلي، أحدُ مشايخ الحنابلة بدمشق، قدم من بلاده إلى مدرسة أبي عُمر في سنة سبع وثلاثين وثمان مئة، وهو بالغ، أو قاربَ البلوغ، وأقام بها، وصار من أعيان الجماعة، وصنف "شرح الوجيز"، ثم لما ولي قضاءَ دمشق قاضي القضاة نجمُ الدين بن مفلح، استخلفه في الحكم، فباشر عنه إلى حين وفاته، وتوفي في سن الثمانين - رحمه الله تعالى -.
وتوفي الشيخ الإمام العالم المحدث برهان الدين إبراهيم الناجي الشافعي محدِّثُ دمشق وواعظها، وكان في ابتداء أمره حنبليَّ المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وصار له القبول في الوعظ، وأحبه الناس، وترددوا إليه، وأخذوا عنه، وكان مقيمًا بالقبيبات وتوفي في شهر رمضان، وكانت جنازته حافلة - رحمه الله تعالى -.
* وفيها: يوم الاثنين ثاني عشرين رمضان المعظم خُتم كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم "على شيخ الشيوخ الجلالي أبي الفرح عبد الرحمن بن أبي شريف الشافعي شيخ الخانقاه الصلاحية بالقدس الشريف، أخي شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف، بقراءة الشيخ شمس الدين محمد بن زين الدين عبد الكريم الموقت الخليلي المقرئ الشافعي، وكان الختم بالمدرسة الشريفة الأشرفية بالمسجد الأقصى الشريف، بحضور شيخ الإسلام الكمالي، وأخيه شيخ الإسلام البرهاني - أمتع الله الأيام بوجودهما -، وبحضور جمع من القضاة والفقهاء والأعيان، وكان يوماً مشهوداً.
وقد ألف الشيخ أبو البركات المغربي المالكي قصيدة في معنى الختم المشار إليه، امتدح بها الشيخ جلال الدين، وتعرض فيها لمدح أخويه شيخي الإسلام: الكمالي، والبرهاني، المشار إليهما، ومنها:
شِفَاءٌ خَتْمُهُ فَتْحُ المَعَالِي
…
وَرَسْمٌ بِالعِنَايَةِ لِلجَلَالِ
فُتُوحُكَ بِالشِّفَا فَتْحٌ مُبِينٌ
…
يَدُلُّ عَلَى العُلَا حَالٌ بِحَالِ
فَمِنْهُ إِلَى مُنَاوَلَةِ البُخَارِي
…
وَلِلْفُتْيَا وَإِدْرَاكِ المَعَالِي
أَلَسْتَ مُعَرِّفاً بِحُقُوقِ مَنْ لَا
…
تَخِيبُ لَدَيْهِ رَاحَاتُ الأَمَالِ
نبِيٌّ مَدْحُهُ كَهْفٌ مَنِيعٌ
…
وَذُخْرٌ عِنْدَ حَادِثَةِ اللَّيَالي
رَسُولٌ شَأْنُهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ
…
وَقَدْرٌ كَامِلُ الأَجْزَاءِ عَالِ
أَيَا ابْنَ أَبِي شَرِيفٍ نِلْتَ حَظًّا
…
ظَفِرْتَ بِمَا تَشَاءُ فَلَا تُبَالِ
أتيْتَ بِكُلِّ ذِي مَعْنًى لَطِيفٍ
…
تُعَبِّرُ عَنْهُ بِالسِّحْرِ الحَلَالِ
بِدَايَتُكُمْ نِهَايَةُ كُلِّ حَبْرٍ
…
تَدُلُّ عَلَى التَّفَرُّدِ (1) بِالخِصَالِ
جَلَالَ الدِّينِ بِالبُرْهَانِ تَسْمُو
…
عَلَى أَعْلَى مَقَامَاتِ الكَمَالِ
فَثِقْ وَصِلِ الصَّلَاةَ عَلَى نبِيٍّ
…
كَرِيمٍ مَاجِدٍ بالخَيْرِ آلِ
عَلَيْهِ وَالِهِ أَزْكَى صَلَاةٍ
…
وَخَيْرُ تَحِيَّةٍ مِنْ ذِي الجَلَالِ
* وفيها: ورد مرسوم شريف على شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف بأن يكون متكلمًا على الخانقاه الصلاحية بالقدس الشريف، ينظر في أمرها، وعملِ مصالحها، فحضرها في عشية يوم الاثنين، سادس شوال، وجلس بالجمع مع الصوفية في مجلس للشيخ، وحصل للخانقاه وأهلها الجمالُ بحضوره، ثم بعد فراغ الحضور جلس على تفرقة الخبز على عادة مشايخها، وتصرف فيها بإجارة الوقف، والنظرِ في أمره، وشرع في عمارة الخانقاه، وإصلاح ما اختل من نظامها - أثابه الله الجنة -.
* وفيها: وقعت فتنة فاحشة بمدينة حماة، وهي: أن نائبها الأمير أقباي لما دخل إليها، حصل منه العسف، وشرع في التشديد عليهم، وقتل منهم جماعة، وأحرق منازلهم، فثاروا عليه، وجمعوا الجموع الكثيرة، وحصروه في منزله، وشرعوا في أسباب انتهاك حرمته، فكتب
(1) في الأصل: "الفرد".
للسلطان يُعْلمه بما هو فيه، فبرز أمر السلطان إلى نائب حلب، ونائب طرابلس، ونائب حمص، ومن أُضيف إليهم من مشايخ العربان بالركوب إلى حماة، والقيام في نصرة الأمير أقباي، وحرق حماة، ونهبها، وقتل أهلها، فركب النواب المذكورون ومَنْ معهم من العساكر والجمع، وحضروا إلى حماة، ونازلوها في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان المعظم، وحرقوا منها الجانب القبلي من الجسر إلى باب العميان إلى جانب السجن، وهي محلة كبيرة نحو ثلث المدينة، ونهبوا ما فيها من الأموال مما لا يدخل تحت الحصر، وقتلوا من الرجال وغيرهم نحو خمس مئة نفر، واستمر الحرق والنهب والقتل ثلاثة أيام متوالية، وحصل فيها من الفسق والفساد وسبي الحريم ما لا يكاد يوصف، ثم تفرق النواب ومن معهم إلى محل أوطانهم، واستمر نائب حماة بها، وكانت حادثة فاحشة، لم يُسمع مثلها في هذه الأزمنة.
* وفيها: وقعت فتنة بالقاهرة المحروسة، وهي: أن السلطان حصل له توعك في شهر رمضان، وأُشيع في المدينة وفاته، ووقع الإرجاف في الرعية والعسكر، فبادر الأمير قانصوه خمس مئة أمير أخور كبير، وحَصَّن القلعة، وأُشيع عنه أنه تطاول لأخذ السلطنة، وكثر الكلام بسبب ذلك، ثم إن الأمير قانصوه قصد الدخول إلى السلطان، ومشاهدة حاله، فحضر إلى باب الحريم، فلقيه بعض الخدام، وقال: إن السلطان متوعك، ولا يمكنك الاجتماع به، فنهر الخادم، وضربه، ودخل هجماً إلى السلطان، فوجد عنده الأمير جان بلاط أحدَ الأمراء المقدَّمين بالديار
المصرية، والأمير ماماي الدوادار الثاني، وهما جالسان عند رجلي السلطان، وهو نائم في فراشه، فلما وقع نظره عليه، شرع الأمير قانصوه يكلم السلطان بكلام لطيف، معناه: أنه حصل له الانزعاج بسبب توعك السلطان، وأنه قصد التمثل لحضرته الشريفة لمشاهدة ذاته الشريفة ليطمئن قلبه، ثم انصرف من عنده، فأُخبر السلطان بما فعله من تحصين القلعة، ودخوله إليه هجمًا، فأجاب السلطان عنه بجواب يقتضي الاعتذار عنه، ولم يُظهر الغضب عليه، فتحرك العسكر على الأمير قانصوه، وقصدوا انتهاك حرمته، فأمره السلطان بالتوجه من القاهرة إلى ذلك البر لإخماد الفتنة، فتوجه، واستمر غائباً بقية شهر رمضان، فلما دخل شهر شوال، ركب المماليك، وتوجهوا إلى منزل الأمير قانصوه بقناطر السباع، ونهبوه وحَرَقوه وحُرق عدة أماكن ونُهبت، وحصل للناس في ذلك الضرر الكثير، وقتل في الحريق خلق من الناس، واستمر ذلك نحو ستة أيام، وطلب العسكر من السلطان إخراج الأمير قانصوه إلى القدس الشريف، فأظهر لهم السلطان أنه يجيبهم إلى ذلك، ثم تكلم الأمير أزبك أتابكُ العساكر، والأمير تمراز أميرُ سلاح مع السلطان في أمر الأمير قانصوه أمير أخور كبير، وأن إخراجه إلى القدس الشريف لا فائدة فيه، وشَرَعا في إخماد الفتنة، فطلب السلطان أكابر المماليك، وتلطف بهم في الكلام، واسترضاهم على الأمير قانصوه، ووعدهم بكل جميل، فرضوا بذلك امتثالًا لأمره، وأُحضر الأمير قانصوه إلى الحضرة الشريفة، وأُلبس خلعة من حضرة السلطان، ونزل إلى المدينة والناس في خدمته من الأمراء
والخاصكية والمماليك السلطانية، ونودي في المدينة للرعية بالأمان والطمأنينة، والله سبحانه يلطف بعباده.
* وفيها: في شهر رمضان في أواخره وقع حريق فاحش بدمشق المحروسة، فاحترق سوق جسر الزلابية، وجسر الحديد، وانتهى الحريق إلى المدرسة المؤيدية تحت القلعة، وعُدم للناس من الأموال والأمتعة ما لا يحصى، وهلك فيها خلق كثير.
* وفيها: وصل مرسوم السلطان إلى الأمير جان بلاط نائب القدس الشريف، بأن يرمي على أهل القدس الشريف من زيت الذخيرة الشريفة ثلاث مئة قنطار، كل قنطار بخمسة عشر ديناراً، على حُكْمِ ما تقدم في حوادث هذه السنة.
فطلب التجار والناس، وأُلزموا بأخذ الزيت، ثم كتب الأمير جان بلاط إلى كاشفه بالرملة بطلب التجار بها، وأن يرمي عليهم من زيت الذخيرة الشريفة، فطُلبوا، وأُلزموا بذلك.
وحصل لأهل القدس الشريف والرملة الضررُ من ذلك؛ لكونهم تقدم لهم أخذ الزيت، ثم رُمي عليهم مرة ثانية؛ فإنه لما رمي الزيت في سنة ست وتسعين، وفي سنة ثمان وتسعين رمي مرة واحدة، وفي هذه السنة تكرر عليهم مرة ثانية، فانزعج الناس لذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* وفيها: في العشر الثالث من شهر شوال ورد مرسوم السلطان إلى
شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف الشافعي، ومرسوم شريف مطلق لقضاة غزة والقدس الشريف بسبب الحادثة الواقعة بين الأمير جان بلاط ناظرِ الحرمين الشرفين ونائبِ السلطنة بالقدس الشريف، وبين الأمير قاني بك نائب غزة المحروسة - المتقدم ذكرها قريبًا في حوادث هذه السنة -، وقد تقدم الكلام: أن شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف، وقضاة القدس الشريف والرملة كتبوا خطوطهم بما ظهر لهم من الكشف، وبما وقع في حق نائب القدس الشريف من قتل جماعته، ونهب خيولهم وما معهم، وكتب قضاةُ غزة محضراً يتضمن أن نائب القدس هو المتعدي على نائب غزة، وجُهز كلٌّ من المحضرين إلى الأبواب الشريفة.
فلما عُرضا على السلطان، أَنكر ذلك غاية الإنكار، وكتب لشيخ الإسلام الكمالي، ولقضاة غزة والقدس يُعلمهم أنه لما جهز الأمير قانصوه الساقي الخاصكي لكشف هذه الماجرية وتحريرها، وكتابة محضر بقضاة غزة والقدس بما يتضح به الحق، وأن كلًّا من النائبين كتب محضرًا بما يختاره، ولم يتضح للمسامع الشريفة الحقُّ في ذلك، وأن المرسوم الشريف الوارد على يد الخاصكي إنما برز بكتابة محضر واحد لا محضرين، وبرز أمر السلطان أن شيخ الإسلام الكمالي بن أبي شريف يتوجه بنفسه، وصحبته قضاة القدس الشريف والرملة إلى مدينة غزة المحروسة، ويجتمعوا هم وقضاة غزة، وتُحرَّر هذه الواقعة من أولها إلى آخرها، وكتابة محضر واحد، وتجهيزه للأبواب الشريفة، بما يتضح من الحق، وإن لم يحرر ذلك، تبرز المراسيم الشريفة لقضاة غزة والقدس الشريف
بإلزامهم بالقيام للخزائن الشريفة بعشرة آلاف دينار، مؤرخ المرسوم في ثالث عشر شوال، فعند ذلك قابل شيخُ الإسلام الكمالي بن أبي شريف، وقضاةُ القدس الشريف أمرَ السلطان بالسمع والطاعة، وتوجهوا إلى مدينة غزة المحروسة.
وهذه الواقعة من العجائب؛ لأن شيخ الإسلام رجل عظيم الشأن، وهو بركة الوجود، وعالم الممالك، وهو شيخ كبير سنه نحو الثمانين، وبنيته ضعيفة، والسفر يشق عليه، فكُلف إلى ما لا طاقة له، في زمن الحر الشديد؛ بسبب واقعة حدثت من العرب المفسدين المحاربين، الذين لا إسلام لهم ولا إيمان، ولما توجه من القدس الشريف، حُمل في محارة على جمل، وكان لا يركب الفرس إلا قليلاً؛ لضعف بدنه إلى مدينة غزة في عشية يوم الخميس، مستهل ذي القعدة، وأصبح في يوم الجمعة حضر بين يديه قضاةُ غزة وأكابرها للسلام عليه، ثم عقب صلاة الجمعة جلس بالجامع المنسوب لمولانا السلطان، وجلس معه قانصوه الخاصكي، وقضاةُ غزة والقدس الشريف، ومن تيسر من قضاة الرملة، ودار الكلام بينهم في تحرير هذه الحادثة، وكتبوا محضرًا واحداً، ملخصه: ما كتب في المحضر الأول من قتل جماعة نائب القدس الشريف، ونهب خيولهم، غير أنه زيد في هذا المحضر: أن الجمالي يوسف كاشفَ الرملة لما خرج من الرملة، ووصل إلى آخر معاملتها، وجد ثلاثة أنفار من العرب العواسة، فطردهم إلى أرض عموريا من عمل غزة المحروسة، وقُتل منهم فرسان، ثم طردوه إلى أن وصل إلى معاملة الرملة عند قرية
خلدا، وقرية تل الجزر، وحصل ما حصل من القتل والنهب - كما تقدم شرحه -.
وكتب شيخ الإسلام، وقضاةُ غزة والقدس والرملة خطوطَهم بالمحضر المذكور، وجُهز للأبواب الشريفة، وقرينه مكاتبةُ شيخ الإسلام، واستمر الخاصكي بغزة لانتظار الجواب، ثم عاد شيخ الإسلام وقضاة القدس إلى أوطانهم.
* وفيها: حج إلى بيت الله الحرام المقر الأشرف بدرُ الدين محمد ابن مُزْهِر صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالديار المصرية - عظم الله شأنه -.
* وفيها: توفي الشيخ الصالح الورع الزاهد وليُّ الله الشيخ نعمة بصفد، وكان صالحاً، له كرامات مشهورة، وكانت وفاته في [ذي] الحجة - نفعنا الله ببركته -.
* وفيها: وقعت بالقاهرة فتنة فاحشة، بسبب ما تقدم ذكره من أمر الأمير قانصوه خمس مئة أمير آخور كبير، وقد تقدم: أن السلطان كان طَلب منه إخراج الأمير قانصوه من القاهرة، وأنه استرضى العسكر على الأمير قانصوه، وتلطف بهم، وأنه خلع على الأمير قانصوه، ونزل إلى منزله في موكب عظيم، وكان هذا الحال والأمير أقبردي الدوادار الكبير في جهة الصعيد، ولم يحضر هذه الوقائع، فلما حضر إلى القاهرة في شهر ذي القعدة، واجتمع بالسلطان، سعى في إخراج الأمير قانصوه من القاهرة، وشرع في أسباب امتهانه، فبرز أمرُ السلطان للأمير قانصوه أنْ
يخرج من القاهرة، فإن شاء، يتوجه إلى القدس، أو مكة، أو أي مكان أراد من غير ترسيم، فبادر الأمير قانصوه، وتوجه إلى إخوانه المتعصبين له، منهم: الأمير قانصوه الألفي، والأمير قانصوه الشامي، والأمير مصرباي، وغيرهم، وتكلم معهم، فشدوا أزره، وقالوا له: لا سبيل إلى إخراجك، وكلنا عَضُدُك، وفي خدمتك، فتوجه الأمير قانصوه إلى المقر الأشرف أزبك أمير كبير أتابك العساكر المنصورة، وتكلم معه، فوافق الجماعة المتعصبين له، وشد عضده، وأخذ في أسباب نصرته، فاجتمع الأمراء بمنزل المقر الأتابكي، وتكلموا فيما هم فيه، وتشاوروا في تدبير الأمور، فبلغ السلطان ذلك، فاحتفل الأمير أقبردي الدوادار الكبير، وطلع إلى القلعة، واشتد الأمر، فانتهى الحال إلى أنّ السلطان أمر بالنداء: أن كل من هو في طاعة السلطان، فليطلع إلى القلعة، فبادر الأمير تمراز أمير سلاح، والأمير أزبك رأس نوبة النوب، وغيرهما من الأمراء المقدمين، وطلعوا إلى القلعة، ثم أرسل السلطان بعض الأمراء إلى المقر الأتابكي، وتكلم معه في طلوع القلعة، فأغلظ الأمير كبير في القول على القاصد، ولم يطلع إلى القلعة، لا هو، ولا الأمراء المجتمعون عنده، فأعيد الجواب على السلطان، فاشتد غضبه، وأمر بإحضار الوالي، فقيل له: إن الوالي بمنزل أمير كبير، فبادر وقلد الولاية لبعض مماليكه، وألبسه الخلعة، وجهزه، وصحبته جماعة كثيرة من المماليك، وأمره بالتوجه إلى منزل أمير كبير، وإعلامه بأن السلطان رسم لمن أطاعه بالتوجه إلى القلعة، وإشهار النداء بذلك، فحضر الوالي الجديد إلى منزل أمير
كبير، وأعلمه بذلك، فبادر الأمير كبير من حينه، وركب وتوجه إلى القلعة، ومعه الأمير يشبك الجمالي أحدُ مقدمي الألوف والزردكاش، وطلعا إلى القلعة، واجتمعا بالسلطان، فأما الأمراء الذين كانوا بمنزل أمير كبير، ففروا عن آخرهم، وتشتت شملهم، فلما طلع الأمير كبير، والأمير يشبك الجمالي إلى القلعة، حصل ما لا خير فيه من الكلام السئ، والترسيم عليها، ثم رسم السلطان بإخراج أمير كبير إلى مكة المشرفة، فتوجه إليها، ورسم بإخراج الأمير يشبك الجمالي إلى القدس، فحضر إليها في أواخر ذي الحجة، وشرع يتتبع بقية الأول الذين اختفوا، فأمسك قانصوه الألفي، ومصر باي، وقيت، وحبسوا بقلعة صفد، وكذلك جماعة من الأمراء نُفُوا في أماكن متفرقة، وأما الأمير قانصوه خمس مئة أمير آخور كبير، وقانصوه الشامي، فاختفى أمرهما، ولم يعلم أين توجها، فيقال: إن الأمير قانصوه خمس مئة توجه نحو الطور، واختلفت الأقوال فيه وفي قانصوه الشامي.
وانقضت سنة تسع مئة والأمر على ذلك، وكانت سنة شديدة، كثيرةَ الفتن والحروب بين الحكام وغيرهم، والله لطيف بعباده.
ثم دخلت سنة أحد وتسع مئة والخليفة المتوكل على الله أبو العز عبد العزيز بن يعقوب، والسلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي على عادتهما.
* وفيها: حصل الرضا على الأمير أينال الخسيف أحدِ الأمراء بالديار المصرية، وأُفرج عنه بعد الترسيم عليه، وأما الأمير قانصوه الشامي،
فوقعت فيه شفاعة من المقام الناصري محمد نجلِ المقام الشريف، وظهر من الاستتار، وولي نيابة حماة المحروسة، وخلع عليه بذلك في نهار الخميس، ثالث عشر المحرم، وعزل الأمير جان بلاط من نيابةِ القدس الشريف ونظرِ الحرمين، واستقر في أمره ميسرة بحلب المحروسة، وعزل الأمير قاني بك من نيابة غزة المحروسة، وطلب إلى القاهرة، واستقر ملك الأمراء المقر الأشرف السيفي أقباي نائب حماة في نيابة السلطنة الشريفة بغزة المحروسة والقدس الشريف، وبلدِ سيدنا الخليل عليه السلام، ونظر الحرمين الشريفين، وكشف الرملة، وكُتب له بذلك مرسوم شريف في ثالث عشري المحرم، وحضر من مدينة حماة المحروسة إلى محل ولايته، فوصل إلى مدينة الرملة في يوم الاثنين، رابع عشر صفر، ودخل إلى غزة المحروسة في يوم الخميس، سابع عشر صفر، وكان يومًا مشهوداً لدخوله، ثم حضر إلى بلد سيدنا الخليل عليه السلام في يوم الأحد، خامس شهر ربيع الأول، ثم حضر إلى القدس في صبيحة يوم السبت، ثامن عشر ربيع الأول، وكان دخوله إليها وقت طلوع الشمس، فدخل إلى المسجد الأقصعى، وقرئ توقيعه بحضور المشايخ والقضاة، ثم زار الصخرة الشريفة، ومُدَّ له السماط عند باب الناظر، وكان يومًا حافلاً.
* وفيها: في عاشر شهر صفر استقر الأمير تمراز أمير سلاح في الإمرة الكبرى، عوضًا عن الأمير أزبك المتوجه إلى مكة المشرفة، واستقر الأمير قاني بك الجمالي أمير سلاح.
واستقر الأمير أزبك الخازندار أمير مجلس، واستقر الأمير قاني بك قراراس نوبة النُّوَب، واستقر الأمير أينال الخسيف حاجبَ الحجاب، واستقر الأمير ماماي مقدَّم ألف عوضاً عن قانصوه الشامي الذي ولي نيابة حماة، واستمر أمر الأمير قانصوه خمس مئة موقوفًا، ولم يعلم أين هو.
* وفيها: توفي الأمير يشبك الجمالي بالقدس الشريف بالمدرسة الخاتونية في ليلة الاثنين، سادس ربيع الأول، وصُلي عليه بالمسجد الأقصى، ودُفن بالقلندرية بتربة ماملا - عفا الله عنه -.
* وفيها: توفي الشيخ علي الجبرتي بالقاهرة المحروسة، وصلي عليه بالنية بالمسجد الأقصى في شهر صفر.
* وفيها: احتبس المطر حتى دخل في كانون الثاني أياماً، فصام الناس ثلاثة أيام، ثم استسقوا في صبيحة يوم السبت، ثالث عشري شهر ربيع الآخر الموافق لتاسع كانون الثاني، وخطب للاستسقاء الخطيبُ العلامة شرف الدين موسى بن جماعة بالصخرة الشريفة، وكانت خطبة بليغة، ودعا الناس وابتهلوا، وتضرعوا إلى الله، وانصرفوا ولم يُسْقَوا، وطلعت الشمس حارة، واشتد الحر حتى كأنه من أيام الصيف، واستسقى أهل الرملة في ذلك اليوم - أيضًا -، واستمر المطر محتبساً إلى ليلة الاثنين ثاني جمادى الأولى، ثم أغاث الله تعالى عباده في تلك الليلة، ووقع المطر في يوم الاثنين المذكور، أو، حصلت الرحمة بفضل الله وكرمه بعد أن جزع الناس، وساءت ظنونهم، فسبحان من لا يُسأل عما يفعل.
* وفيها: استقر الأمير شادبك أمير آخور كبير، عوضاً عن الأمير
قانصوه خمس مئة، وأُلبس الخلعة من الحضرة الشريفة في يوم الاثنين، ثامن عشر ربيع الآخر، وأنعم في ذلك اليوم على جماعة من الأمراء باستقرارهم في وظائف بالمملكة الشريفة، واستمر الأمير قانصوه خمس مئة في الاستتار، ولم يُعلم خبره.
* وفيها: توفي القاضي عبد الغني بن الجيعان كاتبُ الخزانة الشريفة، ووفاته في يوم السبتُ، ثاني شعبان، ودفن يوم الأحد ثالثه - رحمه الله تعالى -.
* وفيها: حصل للسلطان توعك، وانقطع أياماً، وكان قد انزعج خاطره من المماليك بسبب طغيانهم وعنادهم، ثم منّ الله بعافيته، وجلس على سرير الملك.
وفي نهار الثلاثاء، رابم شهر رمضان أنفق على الأمراء والمقدمين والمماليك مالًا؛ لحصول السرور بعافيته، والرضا على عسكره، وكان جملة المال المصروف في النفقة أربع مئة ألف دينار، وحصل الأمن للرعية، واطمأنت الخواطر، فنسأل الله أن يختم بخير.
[
…
]: لما جرى ما تقدم شرحه في حوادث سنة تسع مئة، وهذه السنة، من الفتن والحروب بين العساكر بالديار المصرية، وغضب السلطان الملك الأشرف على مماليكه، وإخراجهم من الديار المصرية، وولاية بعضهم المناصب بالمملكة الشامية، والديار المصرية - كما تقدم ذكره مفصلاً -، واستمر الحال على ذلك إلى شهر شوال.
واشتغل الناس بالقاهرة بأمر الحج إلى بيت الله الحرام، وحصل في العرب تخبيط في عجرود ونخل بدرب الحجاز الشريف، فأرسل السلطان الدوادار الثاني بعمارة المكانين المذكورين قبل خروج الحجاج بعشرة أيام، وتأخر المحمل إلى عشرين شوال، وحصل على الحُحاج شدة من العطش، وخرج عليهم جماعة من العرب، وأخذوا منهم جمالاً، وبيعت القربة [من] الماء بدينارين، وشربة (1) الماء بخمسة أنصاف فضة، وهي عشرة دراهم شامية.
ورجع جماعة من الحجاج إلى القاهرة صحبة الدوادار الثاني، ثم مَنَّ الله تعالى على الحجاج المتوجهين إلى مكة المشرفة، فوصلوا سالمين، ولم يحصل لهم ضرر، وكانت الأسعار بأرض الحجاز مرخصة، والأقوات متيسرة.
ولمَّا كان يوم الأربعاء، ثاني شهر ذي القعدة، ركب العسكر بمصر، واستمر إلى آخر النهار، ثم في اليوم الثاني كان الأمر أعظم من اليوم الأول، وأُرمي على العسكر بالنشاب والبارود من مماليك السلطان، ومماليك الأمير أقبردي الدوادار الكبير.
ثم في ليلة الجمعة ويوم الجمعة: نُقب منزل الدوادار من الرميلة، واحترق سوق القماش، ونهُب ما كان فيه وفي سوق السلاح، حتى أصبح التجار بالسوقين فقراء، واشتد الأمر وتفاحش، ثم حصل التراضي
(1) في الأصل: "والشربة".
والاتفاق على إحضار جميع من أخرجهم السلطان من الديار المصرية من المقيمين بغزة، وصفد، والشام، وطرابلس، والأمير قانصوه الشامي من حماة، وكُتبت المراسيم بذلك في يوم الجمعة، رابع ذي القعدة، وسافر القصاد يوم السبت خامِسِه، وأما الأمير أزبك أمير كبير، فإنه لم يُذكَر، ولم يُرسَم بإحضاره.
[
…
] بعد المغرب ركب الوالي بالقاهرة، ومعه جماعة من المماليك بالأسلحة، وأُجهر النداء: أن الأمير قانصوه خمس مئة يظهر، وله الأمان، وفي بكرة نهار السبت طلع الأمير أقبردي الدوادار الكبير إلى القلعة، وأُلبس خلعة الاستمرار على عادته، وكذلك الأمير شادبك أمير آخور كبير، ونزلا من السبع حدرات بالقلعة، وألبس الأمير كرتباي خلعة باستمرار في كشف البحيرة، والدوادار الثاني، ونزلا من الباب المدرج، وكان يومًا مشهوداً.
ولمَّا كان يوم الخميس، عاشر ذي القعدة ركب العسكر، وتفاحش الأمر، وتحدث الناس بظهور الأمير قانصوه خمس مئة، فأكمن جماعة من المماليك، منهم مئة بالسبع حدرات، ومئة في درب نُكَر، وثلاث مئة في الرميلة، وهم لابسون معتدون، فلم يظهر، فبلغ السلطان ذلك، فاحضر الأمير شادبك أمير آخور كبير، وعزله من الإمرة، واستمر مقدَّمَ ألفٍ على عادته الأولى، ثم حصل خلف وتخبيط بين الأمير أقبردي الدوادار، والأمير جان بلاط، والأمير ماماي، وكادت تقع فتنة فاحشة، ثم رسم السلطان، وأجهر النداء بأن المماليك السلطانية تطلع إلى طباقها
بالقلعة، وأن الأمراء المقدمين يتوجهون إلى منازلهم، وأن أحدًا لا يتكلم فيما لا يعنيه.
ولمَّا كان يوم السبت، ثاني عشر ذي القعدة ظهر الأمير قانصوه خمس مئة، وطلع إلى القلعة، وألبس خلعة، وهي كاملية، وكان يوماً مشهوداً لم ير مثله، ولم يحصل لأحد في أيام الملك الأشرف قايتباي نظيره، وتزايد توعُّكُ السلطان الملك الأشرف، واشتد ضعفه، وشرع الأمير أقبردي الدوادار الكبير في التأهُّب لعمل الأسلحة، وتحصين منزله، والأمور بينه وبين الأمير قانصوه خمس مئة في الباطن غير مسددة، والأحوال غير منتظمة.
وكان الأمير قانصوه الألفي المسجون بصفد قد تَسَحَّب من سجن قلعة صفد، وخرج هارباً مختفياً، فلما شاع ذكر ما رسم به الملك الأشرف من حضوره هو وغيره إلى القاهرة، وحصول الرضا عليهم، اجتمع الأمير قانصوه الألفي وبقية الأمراء المقيمين بالمملكة الشامية بنائب حماة الأمير قانصوه الشامي، وساروا متوجهين إلى جهة الديار المصرية، فوصلوا إلى مدينة الرملة في يوم الاثنين، ثامن عشرين ذي القعدة، وتوجهوا إلى غزة، وساروا منها ليلة الأربعاء مستهل ذي الحجة، ولم يعلموا بما وقع بالديار المصرية، وتوجه صحبتهم ملكُ الأمراء السيفي أقباي نائبُ غزة والقدس الشريف، وناظرُ الحرمين الشريفين وكاشفُ الرملة، وكان من أمرهم ما سنذكره - إن شاء الله تعالى -.
وفي نهار الاثنين، رابع عشر ذي القعدة رسم الملك الأشرف بطلب
الأمير أزبك أمير كبير من مكة المشرفة، وكتب المرسوم بذلك، فطلع الدوادار الكبير، وتسبب في إبطال ذلك، ثم إن الأمير تمراز أمير كبير ألبس الأمير قانصوه خمس مئة خلعة عظيمة، وأركبه فرساً ثمينة، وكان السلطان رسم للأمير قانصوه بالتوجه إلى الدوادار الكبير، فلما توجه إليه، ألبسه كاملية قيمتُها ألف دينار، وأركبه فرساً ثمينة، ثم اشتد مرض السلطان وأخذ في النزع، واستمر ثمانية أيام، ثم أفاق، وحصل الخلف بين الأمراء والعسكر، وصاروا فريقين، واختلفت الآراء والأقوال، وكثر القيل والقال، وكل أحد من الأمراء والأكابر بالقاهرة يتكلم بما يوافق هواه.
ولما كان نهار الأحد عشرين ذي القعدة، الموافق لسابع مسري، أوفى الله النيل المبارك، وكان السلطان في شدة مرضه، وله ثلاثة أيام لم يجتمع بأحد، فنزل الأمير تمراز أمير كبير، وكسر النيل، وصحبته الأمير يشبك قمر الوالي، وطلعا إلى القلعة، وأُلبسا الخلع بالحوش من غير أن يعلم بها السلطان.
ثم في نهار الاثنين، حادي عشرين ذي القعدة أرجف الناس بموت السلطان، فاجتمع بالأمير قانصوه خمس مئة جماعةٌ من الأمراء، منهم: جان بلاط، وماماي، وكرتباي الأحمر، وتاني بك الجمالي وغيرهم من الربعينات والخاصكية والمماليك، وصار العسكر فرقتين.
ففي نهار الجمعة خامس عشرين ذي القعدة وقع بين الفريقين وقعة لطيفة قبل الصلاة، وحصل الاتفاق بين الأمير تمراز أمير كبير، والأمير
أقبردي الدوادار الكبير: أن الأمير تمراز يطلع إلى القلعة للسلام على السلطان، ويأخذ ولد السلطان، وينزل به إلى الحراقة بباب السلسلة، وأن الدوادار الكبير يركب بعد الصلاة، ويفتح له باب السلسلة، فبلغ ذلك الأمير قانصوه خمس مئة ومَنْ معه، فركبوا جميعًا من الميدان الذي عند بركة الناصرية، وترتبوا طلبًا بعد طلب، ومعهم عامة مصر، وحملوا على باب السلسلة، فرمي عليهم من القلعة، فتوجه منهم فرقة من باب القرافة، وكسروا باب الميدان، ونزلوا من السبع حدرات، فوجدوا الأمير تمراز أمير كبير وهو جالس بالحراقة، فأمسكوه وضربوه، ووضعوه في الحديد، وفتح باب السلسلة، ودُقت الكُوس، وأشيع أن ولد السلطان قد تسلطن، واستمر القتال بينهم إلى المغرب من يوم الجمعة.
فلما كان يوم السبت، سادس عشرين ذي القعدة، أصبح الناس، فوجدوا الدوادار الكبير قد اختفى هو ومن معه، ولم يُعلم خبرهم، وكان قد بنى برجًا على الرميلة، فرُمي عليه وهُدم، ونُهب بيته في لحظة، حتى لم يبق فيه شيء من المال، ولا من الأسلحة، ولا من الخيول، فقيل: إن الذي أُخذ له يساوي ألف ألف دينار، غير الغنم والبقر والجمال.
ثم في اليوم المذكور، وهو يوم السبت جلس أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو العز عبد العزيز بن يعقوب العباسي - أعز الله به الدين -، وقضاة القضاة الأربعة بالديار المصرية، وهم: شيخ الإسلام زين الدين أبو محمد زكريا الأنصاري الشافعي، وشيخ الإسلام ناصر الدين أبو الخير محمد الأخميمي الحنفي، وشيخ الإسلام تقي الدين أبو الفضل
عبد الغني بن تقي المالكي، وشيخ الإسلام بدر الدين أبو المعالي محمد السعدي الحنبلي، وأركان الدولة من أهل العقد والحل، وتوقف أمير المؤمنين في الأمر، فتوجه ثلاثة من قضاة القضاة، والمقر البدري بن مزهر الأنصاري صاحب ديوان الإنشاء إلى الملك الأشرف، فوجدوه في حكم الأموات، والروح في صدره، فرجعوا إلى أمير المؤمنين، وأعلموه بذلك، فبايع الملك الناصر بالسلطنة، وهو أبو السعادات محمد ابن الملك الأشرف أبي النصر قايتباي، ولبس شعار الملك والسلطنة، وجلس على تخت الملك الشريف، وانقاد لأمره الخاص والعام، وهو يومئذ شابٌّ في سن البلوغ، وكان يوماً مشهوداً، وكتب علامته على المراسيم الشريفة: محمد بن قايتباي.
واستقر الأمير قانصوه خمس مئة أتابك العساكر، والأمير تاني بك الجمالي على عادته أميرَ سلاح، ومشيرَ المملكة، والأمير جان بلاط دوادار كبير.
فلما كان يوم الأحد، سابع عشري ذي القعدة، أفاق الملك الأشرف بما وقع، فأرسل في الحال طلب النجارين، وعمل تابوتاً جديداً، ودكة للغسل، وبَيَّض الطاسات النحاس، وعمل مقعداً، وجهز لنفسه الكفن، ووضعت له زوجته الآدُر خوند الخاصبكية مئة مثقال مسك، وما يلائم ذلك، وجُهز ذلك جميعه، وفرغ منه بعد العصر من يوم الأحد، ثم دخلت له زوجته خوند، فوجدته قد أفاق من النزع، فذكرت له جميع ما وقع من سلطنة ولده، والقبض على الأتابك تمراز، واختفاء الأمير
أقبردي الدوادار، ونهب منزله، فكان آخر كلامه: لا إله إلا الله، أَخْرَبوا المملكة.
فلما كان آخر نهار الأحد، قبل المغرب بنحو ثلاث درج، توفي الملك الأشرف قايتباي - رحمه الله تعالى -، وفي بكرة يوم الاثنين، ثامن عشري ذي القعدة، غُسِّل، وصُلي عليه، ودفن بتربته التي أنشأها بالصحراء، وكان يوماً مشهوداً لجنازته، وامتد الخلق من باب المدرج إلى تربته، حتى قيل: إنه لم يُر لأحد جنازة مثل هذه من بعد جنازة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
ومات وله خمس وسبعون سنة؛ فإن مولده في سنة ست وعشرين وثمان مئة، ودخل إلى القاهرة في سنة ثمان وثلاثين وثمان مئة، فاشتراه الملك الأشرف برسباي، وكان من مماليكه، ثم انتقل إلى ملك الملك الظاهر جقمق، وأعتقه، فنسب إليه، وكانت سلطنته في يوم الاثنين، سادس شهر رجب الفرد سنة اثنتين وسبعين وثمان مئة، فكانت مدة سلطنته من حين ولايته إلى حين ولاية ولده الملك الناصر محمد المشار إليه تسعاً وعشرين سنة، وأربعة أشهر، وعشرين يومًا، وكان جلوسه على سرير الملك في ضحى يوم الاثنين المذكور، ونزوله إلى قبره في ضحى يوم الاثنين.
وكان شيخاً طُوالاً، أبيض اللون، حسن الشكل، فصيح اللفظ، وكان من معتبري ملوك الديار المصرية، وله شهامة وحرمة وافرة عند ملوك الأرض، وتوفي وهو على ذلك، والمأمول من كرم الله وعفوه أن
يتجاوز عن سيئاتنا وسيئاته، ويتغمدنا وإياه والمسلمين برحمته الوافرة التي وسعت كل شيء.
وقد انتهى ما أوردناه في هذا الجامع من التاريخ، على حكم ما تقدم الوعد به، مما تيسّر ذكره من قصص الأنبياء عليهم السلام، وأخبار الخلفاء الراشدين، والملوك والسلاطين إلى سنة إحدى وتسع مئة، إلى ثامن عشري ذي القعدة الحرام منها (1).
(1) جاء في آخر النسخة الخطية من الجزء الأول: "وكتبت هذه النسخة من نسخة المؤلف التي بخطه في ثالث شهر ربيع الثاني، سنة خمس وأربعين وتسع مئة بمدينة إستنبول، غفر الله لكاتبه، ولمؤلفه، ولمن كتب برسمه، ولوالديهم، ولجميع المسلمين أحياءً وأمواتًا.
وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيراً دائماً أبدًا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
يتلوه في الجزء الثاني: تراجم الأعيان على حروف العجم".
تَرَاجُمُ الأَعْيَّانِ