الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلافة المعزّ لدين الله
هو أبو تميم، مَعَدٌّ، الملقب بالمعزّ لدين الله بنِ المنصور بنِ القائم ابنِ المهدي عُبيد الله.
وكان المعز المذكور قد بويع بولاية العهد في حياة أبيه المنصور، ثم جُددت له البيعة بعد وفاة أبيه، ودبر الأمور، وساسها، وأجراها على أحسن أحكامها، إلى يوم الأحد، سابع ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة، جلس على سرير ملكه يومئذ، ودخل عليه الخاصةُ، وكثير من العامة، وسلَّموا عليه بالخلافة، وسُمِّي بالمعزّ، ولم يُظهر على أبيه حزناً.
ثم خرج إلى بلاد إفريقية؛ ليمهد قواعدها ويطوف بها، وانقاد له العُصاة من أهل تلك البلاد، ودخلوا لطاعته، وعقد لغلمانه وأتباعه على الأعمال، وأسند في كل ناحية من يعلم كفايته وشهامته، وضمَّ إلى كل واحد منهم جمعاً كثيراً من الجند وأرباب السلاح.
ثم جهَّز أبا الحسن جوهراً القائد، ومعه جيش كبير؛ ليفتح ما استعصى عليه من بلاد المغرب، وسار إلى فاس، ثم منها إلى سجلماسة، وفتحها، ثم توجه إلى البحر المحيط، وصاد من سمكه، وجعله في قِلال الماء، وأرسله إلى المعز.
ثم رجع إلى المعز، ومعه صاحب سجلماسة، وصاحبُ فاس أسيرين في قفصي حديد، ولم يرجع القائد جوهر إلى مولاه المعز إلا وقد
وطّأ له البلاد، وحكم على أهل الزيغ والعناد، من باب إفريقية إلى البحر المحيط، ومن جهة المشرق من باب إفريقية إلى أعمال مصر، ولم يبق بلد من هذه البلاد إلا أقيمت فيه دعوته، وخُطب له في جمعته وجماعته، إلا مدينة سبتة، فإنها بقيت لبني أمية أصحابِ الأندلس.
ولما وصل الخبر إلى المعز بموت كافور الأخشيديِّ صاحبِ مصر، تقدم المعز إلى القائد جوهر المذكور؛ ليتجهز للخروج إلى مصر، فخرج أوّلاً إلى جهة المغرب لإصلاح أموره، وكان معه جيش عظيم، وجمع قبائل العرب الذين توجه بهم إلى مصر، وجبي القطائع التي كانت على البربر، فكانت خمس مئة ألف دينار.
وخرج المعز بنفسه في الشتاء إلى المهديَّة، وأخرج من قصور آبائه مئة ألف حِمل دنانير وأمتعة وسلاح، وعاد إلى قصره، ثم عاد جوهر بالرجال والأموال، وكان قدومه على المعز يوم الأحد، لثلاثٍ بقين من المحرم، سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة.
وأمر المعزُّ بالخروج إلى مصر، فخرج ومعه أنواع القبائل، وأنفق المعز في المسير صحبته أموالاً عظيمة، حتى أعطى ألف دينار إلى عشرين، وغمر الناسَ بالعطاء، وانصرفوا إلى القيروان وغيره في شراء جميع حوائجهم، ورحلوا ومعهم ألفُ حمل من المال والسلاح، ومن الخيل والعدد ما لا يوصف، وكان في مصر تلك السنة غلاء عظيم ووباء، خى مات في مصر وأعمالها في تلك السنة ستُّ مئة ألف إنسان - على ما قيل -.
ولما كان منتصف شهر رمضان، سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة،
وصلت البشارة إلى المعز بفتح الديار المصرية، ودخول عساكره إليها، ثم وصلت النجب بعد ذلك بصورة الفتح، وكانت كتب جوهر تتردد إلى المغرب باستدعائه إلى مصر، وتحث المعزَّ على ذلك، ثم أرسل إليه يخبره بانتظام الحال بمصر والشام والحجاز، وإقامة الدعوى له بهذه المواضع، فسُرَّ المعز بذلك سروراً عظيماً.
ولما ثبت قواعدَه بالديار المصرية، استخلف على إفريقية بكتكين الصماخي، وخرج المعز متوجهاً إليها بأموال جليلة المقدار، ورجال عظيمة الأخطار، وكان خروجه من المنصورية دار ملكه لثمان بقين من شوال، سنة إحدى وستين وثلاث مئة، وانتقل إلى سودانية، وأقام بها ليجمع رجاله وأتباعه، ومَنْ يستصحبه معه، وفي هذه المنزلة عقد العهدَ لبكتكين، ورحل عنها يوم الخميس، خامس صفر، سنة اثنتين وستين وثلاث مئة، ولم يزل في طريقه، يقيم بعض الأوقات في بعض البلاد أياما، ويجد المسير في بعضها، ودخل الإسكندرية لست بقين من شعبان من السنة، وركب فيها، ودخل الحمام، وقدم عليه قاضي مصر، وهو أبو طاهر محمد بن أحمد، وأعيان أهل البلاد، وسلَّموا، وجلس لهم، وخاطبهم خطاباً طويلاً يخبرهم فيه: أنه لم يرد دخول مصر لزيادة في ملكه، ولا مالٍ، وإنما أراد إقامة الحق والحج والجهاد، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، ويعمل ما أمره به جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعظهم، وأطال حتى بكى بعض الحاضرين، وخلع على القاضي وبعض الجماعة، وودعوه، وانصرفوا.
ثم رحل منها في أواخر شعبان، ونزل يوم السبت ثاني شهر رمضان على ساحل مصر بالجزيرة، فخرج إليه القائد جوهر، وترجَّل عند لقائه، وقبَّل الأرض بين يديه.
وبالجزيرة - أيضاً - اجتمع به الوزير الفضل جعفر بن الفرات، وأقام المعز هناك ثلاثة أيام، وأخذ العسكر في التعدية بأثقالهم إلى ساحل مصر، ولمّا كان يوم الثلاثاء، لخمسٍ خلون من رمضان من السنة، عَبَر المعز النيل، ودخل القاهرة، ولم يدخل مصر، وكانت قد زينت، فظنوا أنه يدخلها، وأهلُ القاهرة لم يستعدوا؛ لأنهم بنوا الأمر على دخوله مصر أوّلاً، ولما دخل القاهرة، دخل القصر، ودخل مجلساً منه، وخر ساجداً، ثم صلى ركعتين، وانصرف الناس عنه.
وهذا المعز هو الذي تنتسب إليه القاهرة، فيقال: القاهرة المعزيَّة؛ لأنه بناها القائد جوهر له.
وفي يوم الجمعة، لثلاثَ عشرةَ ليلة بقيت من المحرم، سنة أربع وستيَن عَزَل المعزُّ القائد جوهراً عن دواوين مصر، وجباية أموالها، والنظر في سائر أموره.
وكان المعز عاقلاً حازماً، حسنَ النظر، ينسب إليه من الشعر:
لِلهِ مَاصَنَعَتْ بِنَا
…
تِلْكَ المَحَاجِرُ في المَحَاجِرْ
أَمْضَى وَأَقْضَى فَتْكها
…
حِقْدَ النُّفُوسِ مِنَ الخَنَاصِرْ
وَلَقَدْ بَقِيتُ لِبَيْنِكُمْ
…
تَعبَ المَهَاجِرِ في الهَوَاجِرْ