الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به، وتطيَّروا منه، فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة، وما تعلمون.
فكان كما قال، ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع.
ولما ملك نورُ الدين محمودُ بن عماد الدين زنكي دمشق في التاريخ المتقدم ذكره في ترجمته، لازم نجمُ الدين أيوبُ خدمته، وكذلك ولدُه صلاحُ الدين يوسف، ولم تزل محامل السعادة عليه لائحة، والنجابة له ملازمة، تقدمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له، ويؤثره، ومنه تعلم صلاحُ الدين طرائقَ الخير، وفعلَ المعروف والجهاد.
*
ذكرُ ملكِ أسدِ الدين مصر: في شهور سنة أربع وستين وخمس مئة
، في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شادي إلى ديار مصر، ومعه العساكر النورِيَّة، وسبب ذلك: تمكُّن الفرنج من البلاد المصرية، وتحكمهم على المسلمين بها، حتى ملكوا بلبيس قهراً في مستهل صفر من هذه السنة، ونهبوها، وقتلوا أهلها وأسروهم، ثم ساروا من بلبيس، ونزلوا على القاهرة عاشر صفر، وحصروها، فأحرق شاور وزيرُ العاضد مدينةَ مصر، خوفاً أن يملكها الفرنج، وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً.
فأرسل العاضد الخليفةُ إلى نور الدين يستغيث به، وأرسل في الكتب شُعورَ النساء، وصانعَ شاوَرُ الفرنجَ على ألف ألف دينار يحملها إليهم، فحمل إليهم مئة ألف دينار، وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة؛ ليقدر على جمع المال وحمله، فرحلوا.
وجهَّز نورُ الدين العسكر مع شيركوه، وأنفق فيهم المال، وأعطى شيركوه مئتي ألف دينار، سوى الثياب والدواب وغير ذلك، والأسلحة، وأرسل معه عدة أمراء، منهم: ابن أخيه صلاح الدين يوسفُ بنُ أيوب على كُره منه.
أحبَّ نور الدين مسيرَ صلاح الدين، وفيه ذهابُ الملك من بيته، وكره صلاحُ الدين المسيرَ، وفيه سعادتُه وملكُه، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216].
ولما قرب شيركوه من مصر، رحل الفرنج من ديار مصر على أعقابهم إلى بلادهم، فكان هذا لمصر فتحاً جديداً، ووصل أسدُ الدين شيركوه إلى القاهرة في رابع ربيع الآخر، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه، وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وأجرى عليه وعلى عساكره الإقامات الوافرة.
وشرع شاوَرُ يماطل شيركوه فيما كان بذله لنور الدين من تقرير المال، وإفراد ثلثي البلاد له، ومع ذلك، فكان شاورُ يركب كل يوم إلى أسد الدين شيركوه، ويَعِده، ويمنيه، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]، ثم إن شاور عزم على أن يعمل دعوة لشيركوه وأمرائه، ويقبض عليهم، فمنعه ابنه الكامل بن شاور من ذلك.
ولما رأى عسكر نور الدين في شاور ذلك، عزموا على الفتك بشاور، واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف، وعز الدين جرديك، وغيرهما، وعَرَّفوا شيركوه بذلك، فنهاهم عنه، واتفق أنَّ شاورَ قصدَ
شيركوه على عادته، فلم يجده في المخيم، وكان قد مضى لزيارة قبر الشافعي رضي الله عنه، فلقي صلاحُ الدين وجرديكُ شاورَ، وأعلماه برواح شيركوه إلى زيارة الشافعي، فساروا جميعاً إلى شيركوه، فوثب صلاح الدين وجرديك ومَنْ معهما على شاوَرَ، وألقوه إلى الأرض عن فرسه، وأمسكوه في سابع عشر ربيع الآخر، سنة أربع وستين وخمس مئة، فهرب أصحابه عنه، وأرسلوا أعلموا شيركوه بما فعلوه، فحضر، ولم يمكنه إلا تمام ذلك.
وسمع العاضد الخبر، فأرسل إلى شيركوه يطلب منه إنفاذ رأس شاور، فقتله، وأرسل رأسه إلى العاضد، ودخل بعد ذلك شيركوه إلى القصر عند العاضد، فخلع عليه خِلَعَ الوزارة.
ولُقِّب: الملكَ المنصورَ أميرَ الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاوَرُ، واستقر في الأمر، وكُتب له منشور بالإنشاء الفاضلي، أوله - بعد البسملة -: من عبد الله ووليه أبي محمد الإمامِ العاضدِ لدين الله أميرِ المؤمنين إلى السيد الأجلِّ الملكِ المنصورِ سلطانِ الجيوش، وليِّ الأئمة، مجيرِ الأمة أسدِ الدين أبي الحارث شيركوه العاضدي - عَضَدَ الله به الدين، وأمتعَ ببقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته -.
سلام عليك؛ فإنا نحمد إليك اللهَ الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد خاتم النبيين، وسيّد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، والأئمة المهديين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
ثم ذكر أمور تفويض الخلافة إليه، ووصايا.
وكتب العاضد بخطه على طرة المنشور: هذا عهدٌ لم نعهد لوزير بمثله، فتقلَّدْ أمانةً رآك أميرُ المؤمنين أهلاً لحملها، فخذْ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحبْ ذيلَ الفخار بأن اعتزتْ خدمتُك إلى بُنُوة النُّبوة.
ومدح الشعراءُ أسد الدين، ووصل إليه من الشام مديح العماد الكاتب:
بِالجِدِّ أَدْرَكْتَ مَا أَدْرَكْتَ لا اللَّعِبِ
…
كَمْ رَاحَةٍ جُنِيَتْ مِنْ دَوْحَةِ التَّعَبِ
يَا شِيرْكُوهُ بْنَ شَادِي المُلْكِ دَعْوَةَ مَنْ
…
نَادَى فعرف خَيْرَ ابْنٍ لِخَيْرِ أَبِ
جَرَى المُلُوكُ وَمَا حَازُوا بِرَكْضِهِمُ
…
مِنَ المَدَى في العُلَا مَا حُزْتَ بِالخَبَبِ
تَمَلَّ مِنْ مُلْكِ مِصْرَ رُتْبَةً قَصُرَتْ
…
عَنْهَا المُلُوكُ فَطَالَتْ سَائِرَ الرُّتَبِ
قَدْ أَمْكَنَتْ أَسَدَ الدِّينِ الفَرِيسَةُ مِنْ
…
فَتْحِ البِلَادِ فَبَادِرْ نَحْوَهَا وَثِبِ
وفي شيركوه وقتل شاور يقول عرقلة الدمشقي: