الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما وصل خبر الخطبة العباسية بمصر إلى بغداد، ضربت لها البشائر عدة أيام، وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل، وهو من خواص الخدم المقتفوية إلى نور الدين، وصلاح الدين، والخطباء، وسيرت الأعلام السود.
وجرى بين نور الدين وصلاح الدين [من] الوحشة في الباطن:
وكان الحادث: أن نور الدين أرسل إلى صلاح الدين يأمره أن يجمع العساكر المصرية، ويسير بها إلى الفرنج، والنزول على الكرك، ويحاصره؛ ليجمع هو - أيضًا -، عساكره ويسير إليه، ويجتمعا هناك على حرب الفرنج، والاستيلاء على بلادهم.
فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرم، سنة سبع وستين وخمس مئة، وكتب إلى نور الدين يعرفه أن رحيله لا يتأخر، وكان نور الدين قد جمع عساكره، وتجهز، وأقام ينتظر ورود الخبر من صلاح الدين برحيله ليرحل.
فلما أتاه الخبر بذلك، رحل عن دمشق عازماً على قصد الكرك، فوصل إليه، وأقام ينتظر وصول صلاح الدين إليه، فأتى منه كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال البلاد، وأنه يخاف عليها من البعد عنها، فعاد إليها، فلم يقبل نور الدين عذره.
وكان سبب تقاعده: أن أصحابه وخواصه خَوَّفوه من الاجتماع بنور الدين، فحيث لم يمتثل أمر نور الدين، شق ذلك عليه، وعظم عنده،
وعزم على الدخول إلى مصر، وإخراج صلاح الدين عنها، فبلغ صلاحَ الدين الخبر، فجمع أهله، وفيهم والده نجمُ الدين أيوب، وخاله شهابُ الدين الحازمي، ومعهم سائر الأمراء، فأعلمهم ما بلغه عن نور الدين، وعزمه على قصده، وأخذِ مصر منهُ، واستشارهم، فلم يجبهُ أحد منهم بشيء، فقام تقيُّ الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، وقال: إذا جاءنا، قاتلناه، وصددناه عن البلاد، ووافقه غيرُه من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب، وأنكر عليهم ذلك، واستعظمه، وكان ذا رأي وفكر وعقل، وقال لتقي الدين: اقعد، وشتمه وسبه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك، وهذا شهاب الدين خالك، انظر لعل في هؤلاء من يحبك مثلنا، ويريد لك الخير مثلنا؟ قال: لا، فقال: والله! لو رأيت أنا وخالك هذا نورَ الدين، لم يمكنا إلا الترجُّلُ له، وتقبيل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقَك بالسيف، لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا، فكيف يكون غيرنا؟ وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نورَ الدين وجده، لم يتجاسر على الثبات في سرجه، وما وسعه إلا النزولُ وتقبيل الأرض بين يديه، وهذه البلاد له، وقد أقامك فيها، وإن أراد عزلك، فأي حاجة له إلى المجيء بنفسه يأمرك بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته، ويولي بلاده من يريد.
وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا، ونحن مماليكُ نور الدين وعبيدُه، يفعل بنا ما يريد، فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين يعلمه بالخبر.
ولمَّا خلا نجمُ الدين أيوب بولده صلاح الدين، قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير، وتطلعهم على ما [في] نفسك! فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه البلاد، جعلك أهم الأمور إليه، وأولاها بالقصد، فلو قصدك، لم تر معك أحداً من هذا العسكر، وكانوا يسلموك إليه، وأمّا الآن بعد هذا المجلس، فسيكتبون إليه، ويعرفونه قولي، فتكتب إليه أنت، وترسل في المعنى، وتقول: أي حاجة إلى قصدي يجيء نجاب يأخذني بحبل في عنقي، فهو إذا سمع هذا، عدل عن قصدك، واستعمل ما هو أهم عنده، والأيام تندرج، والله عز وجل كلَّ يوم هو في شأن.
ففعل صلاح الدين ما أشار به والده، فلما رأى نور الدين الأمر هكذا، عدل عن قصده، وكان الأمر كما ذكر نجم الدين والدُه، ومات نورُ الدين ولم يقصده، وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها (1).
وفي سنة ثمان وستين وخمس مئة: سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك، وحصرها، وكان قد وعد نورَ الدين أن يجتمعا على الكرك، وسار نور الدين من دمشق حتى وصل إلى الرقيم، وهو بالقرب من الكرك، فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين، فرحل عن الكرك عائداً إلى مصر، وأرسل تحفاً إلى نور الدين، واعتذر أن أباه أيوبَ مريض، ويخشى أن يموت، فتذهب مصر، فقبل نور الدين عذره في
(1) انظر: "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (10/ 36).
الظاهر، وعلم المقصود.
ولما وصل صلاح الدين إلى مصر، وجد أباه أيوب قد مات، وكان سبب موته: أنه ركب بمصر، فنفرت به فرسه، فوقع، وحُمِل إلى قصره، وبقي أياماً، ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة، سنة ثمان وستين وخمس مئة.
وكان أيوب خيِّراً عاقلاً، حسن السيرة، كريماً، كثير الإحسان، وكان يُلَقَّب نجم الدين أبو شاكر أيوب رحمه الله، وعفا عنه - ودفن إلى جانب أخيه شيركوه، ثم نُقلا بعد سنتين إلى المدينة الشريفة - على ساكنها الصلاة والسلام -.
وفي سنة تسع وستين وخمس مئة: وكان صلاح الدين وأهله خائفين من نور الدين، فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر؛ بحيث إن قصدهم نور الدين، قاتلوه، فإن هزمهم، التجؤوا إلى تلك المملكة، فجهز صلاح الدين أخاه توران شاه إلى النوبة، فلم تعجبهم بلادها.
ثم سيَّره في هذه السنة بعسكر إلى اليمن، وكان صاحبها عبد النبي، فجرى بينهما قتال، وانتصر توران شاه، وهزم عبد النبي، وهجم زَبيد، وملكها، وأسر عبد النبي، ثم قصد عدن، فملكها، واستولى على بلاد اليمن، واستقرت في ملك صلاح الدين.
وفي هذه السنة صَلب صلاح الدين جماعة من المصريين، وقتلهم؛ فإنهم قصدوا الوثوب عليه، وإعادة الدولة العلوية، طلبهم، وصلبهم
عن آخرهم، منهم: عبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وعمارة بن علي اليمني الشاعر الفقيه، وغيرهم من أعيان المصريين.
وفي هذه السنة: توفي الملك العادل نور الدين - رحمه الله تعالى - كما تقدّم في ترجمتهِ.
وخَلَفه بعده في الملك ولدُه الملكُ الصالح إسماعيل - كما تقدّم في ترجمته أيضًا -، فقصد الملك صلاحُ الدين دمشق، وكان الملك الصالح قد توجه لحلب؛ ليكون مقامه بها، فلما وصل صلاح الدين إلى دمشق، خرج كلُّ مَنْ بها من العسكر، والتقوه وخدموه، ونزل بدار والده المعروفة بدار العقيقي، وعصت عليه القلعة، وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم يسمى: ريحان، فراسله صلاح الدين، واستماله، فسلم القلعة إليه، فصعد إليها صلاح الدين، وأخذ ما فيها، وثبت قدمه، وقرر أمر دمشق، وكان دخوله إليها في سلخ ربيع الأول، سنة سبعين وخمس مئة.
وسار إلى حمص في مستهل جمادى الأولى، وملكها في حادي عشر جمادى الأولى، ورحل إلى حماة، فملك مدينتها في مستهل جمادى الآخرة، وكان بقلعتها الأمير جرديك أحدُ المماليك النورية، فامتنع في القلعة، فذكر له صلاح الدين أنهُ ليس لنا غرض سوى حفظ بلاد الملك الصالح عليه، وإنما هو نائبهُ، ثم مَلَكَ القلعة.
ثم سار صلاح الدين إلى حلب، وحصرها، وبها الملك الصالح
ابن نور الدين، فجمعَ أهلَ حلب، وقاتلوا صلاح الدين، وصدّوه عن حلب، واستمر صلاح الدين محاصراً لحلب إلى مستهل رجب، ورحل عنها بسبب نزول الفرنج على حمص، ووصل صلاحُ الدين إلى حماة ثامن رجب، وسار إلى حمص، فرحل الفرنجُ عنها، ثم سار إلى بعلبك، فملكها.
فلما تمَّ ملكُ صلاح الدين لهذه البلاد، أرسل الملكُ الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحبِ الموصل يستنجده على صلاح الدين، فجهَّز جيشاً صحبة أخيه عز الدين مسعود، وانضم إليهم عسكر حلب، وساروا إلى صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين يبذل حمص وحماة، وأن تُقر بيده دمشق، ويكون فيها نائباً للملك الصالح، فلم يجيبوه إلى ذلك، وساروا إلى قتاله، واقتتلوا عند قرون حماة، فانهزم عسكر الموصل وحلب، وغَنِمَ صلاح الدين وعسكره أموالهم، وتبعهم حتى حصرهم في حلب، وقطع صلاح الدين حينئذ خطبة الملك الصالح ابن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة، واستبدَّ بالسلطنة، فراسلوا صلاح الدين في الصلح، على أن يكون له ما بيده من الشام، وللملك الصالح ما بقي بيده منه، فصالحهم على ذلك، ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال، سنة سبعين وخمس مئة.
ثم غزا صلاح الدين قلعة بازين، وأخذها من صابها، وملك بزاعة، وتسلمها، ثم سار إلى مَنْبج، فحصرها، وفتحها عَنوة.
ثم عاد صلاح الدين إلى مصر، فوصل إليها في سنة اثنتين وسبعين
وخمس مئة، وأمر ببناء السور على مصر والقاهرة، والقلعة التي على جبل المقطَّم، ودور ذلك تسعة وعشرون ألف ذراع، وثلاث مئة ذراع بالذراع الهاشمي، ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين.
وفي هذه السنة أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على قبر الشافعي بالقرافة بمصر، وعمل بالقاهرة بيمارستان (1).
وفي سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة: في جمادى الأولى، سار السلطان صلاح الدين من مصر إلى ساحل الشام لغزو الفرنج، فوصل إلى عسقلان في الرابع والعشرين من الشهر، فنهب، وتفرق عسكره في الإغارة، وبقي السلطان في بعض العسكر، فلم يشعر إلا بالفرنج قد طلعت عليه، فقاتلهم أشدَّ قتال، فمضى منهزماً إلى مصر على البرية، وأخذت الفرنج العسكر الذين تفرقوا، وأُسر الفقيه عيسى، وكان من أكبر أصحاب السلطان صلاح الدين، فافتداه من الأسر بعد سنتين بستين ألف دينار، ووصل السلطان إلى القاهرة في نصف جمادى الآخرة.
وسار الفرنج، وحصروا حماة في جمادى الأولى، وطمعوا بسبب بُعد السلطان بمصر وهزيمته، ثم جد المسلمون في القتال حتى رحل الفرنج من مدينة حماة.
وفي سنة سبع وسبعين وخمس مئة: توفي الملك الصالح إسماعيل ابن نور الدين صاحبُ حلب، وأوصى بملك حلب إلى عمه عز الدين
(1) في الأصل: "المرستان".