الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَقَدْ فَازَ بِالْمُلْكِ العَقِيمِ خَلِيفَةٌ
…
لَهُ شِيركُوهُ العَاضدِيُّ وَزِيرُ
هُوَ الأَسَدُ الضَّاري الَّذِي جَلَّ خَطْبُهَ
…
وَشَاوَرُ كَلْبٌ لِلرِّجَالِ عَقُورُ
بَغَى وَطَغَى حَتَّى لَقَدْ قَال صَحْبُهُ
…
عَلَى مِثْلِهَا كَانَ اللَّعِينُ يَدُورُ
فَلَا رَحِمَ الرَّحْمَنُ تُرْبَةَ قَبْرِهِ
…
وَلَا زَالَ فِيهَا مُنْكَرٌ وَنكَيرُ
وأما الكاملُ بنُ شاور، فلما قُتل أبوه، دخل القصر، فكان آخر العهد به.
ولما لم يبق لأسد الدين شيركوه منازعٌ، أتاه أَجله، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44].
وتوفي يوم السبت، الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، سنة أربع وستين وخمس مئة، فكانت ولايته شهرين، وخمسة أيام.
* * *
[ذكر مُلك صلاح الدين مصر]
وكان شيركوه وأيوبُ ابنا شادي من بلدْ دُوين، وأصلُهما من
الأكراد، وكانا قصدا العراق، وخدما مهروز شحنة السلجوقية ببغداد، وجعل مهروزُ شيركوه مستحفظاً قلعة تكريت، ثم خدما عمادَ الدين زنكي، ثم ولدَه نور الدين محمود، وبقيا معه إلى أن أرسل شيركوه إلى مصر مرة بعد أخرى حتى ملكها، وتوفي في هذه السنة - على ما ذكرناه -.
ولما توفي شيركوه، كان معه صلاحُ الدين يوسفُ ابنُ أخيه أيوبَ ابنِ شادي، وكان قد سار معه على كره.
قال صلاح الدين: أمرني نور الدين بالمسير مع عمي شيركوه، وكان قد قال شيركوه بحضرته في: تجهزْ يا يوسفُ، فقلت: والله! لو أُعطيت ملكَ مصر، ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبداً، فقال لنور الدين: لا بدَّ من مسيره معي، فأمرني نورُ الدين، وأنا أستقيل، فقال نور الدين: لا بدَّ من مسيرك مع عمِّك، فشكوتُ الضائقة، فأعطاني ما تجهزتُ به، فكأنما أُساق إلى الموت (1).
فلما مات شيركوه، طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر، وولاية الوزارة العاضدية، منهم: عين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال المنبجي، وسيف الدين عليُّ بنُ أحمد المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحازمي، وهو خال صلاح الدين، فأرسل العاضد، [و] أحضر صلاح الدين، وولَاّه الوزارة، ولقَّبه: الملك الناصر، فلم يُطعه الأمراء المذكورون، وكان مع صلاح الدين الفقيهُ عيسى الهكاري،
(1) انظر: "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (10/ 17).
فسعى مع المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين، ثم قصد الحازمي، وقال: هذا ابنُ أختك، وعزُّه وملكُه لك، فمال إليه - أيضًا -، ثم فعل بالباقين كذلك، فكلهم أطاع، غير عين الدولة الياروقي؛ فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف، وعاد إلى نور الدين بالشام، وتثبت قدمُ صلاح الدين على أنه نائبٌ لنور الدين، يخطب له على المنابر بالديار المصرية.
وكتب إليه نورُ الدين يعنفه على قبول الوزارة بدون مرسومه، وأمره أن يقيم حساب الديار المصرية، فلم يلتفت الناصر لذلك، وكان نور الدين يكاتب صلاحَ الدين بالأمير الأسفر سلار، ويكتب علامته على رأس الكتاب؛ تعظيماً عن أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب، بل إلى الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا.
وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أباه أيوبَ وأهلَه؛ ليتم له السّرور، وتكون قضيته مشاكلة لقضية يوسف الصديق عليه السلام، فأرسلهم إليه نور الدين، فوصل والده إليه في جمادى الآخرة، سنة خمس وستين وخمس مئة، وسلك مع والده من الأدب ما جرت به عادته، وألبسَه الأمرَ كله، فأبى أن يلبسه، وقال: يا ولدي! ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له، ولا ينبغي تغيير موضع السعادة، فحكَّمه في الخزائن كلها، ولم يزل وزيراً حتى مات.
وكان من إخوة صلاح الدين: شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وهو أكبر من صلاح الدين، فلما أراد أن يسيره إلى مصر، قال له نور الدين: إن كنت تنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان في خدمتك وأنت
قاعد، فلا تَسِرْ؛ فإنك تفسد البلاد، فأحضرك حينئذ، وأعاقبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه صاحبَ مصر، وقائماً مقامي تخدمه بنفسك كما تخدمني، فسرْ إليه، واشدُدْ أصره، وساعده على ما هو بصدده، فقال: أفعل معهُ من الخدمة والطاعة ما يتصل بك، فكان معه كما قال.
وأعطاهم صلاح الدين الإقطاعات بمصر، فتمكن من البلاد، وضعف أمر العاضد، ولما فوض الأمر إلى صلاح الدين، تاب عن شرب الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمّص لباس الجدّ، وداوم على ذلك إلى أن توفاه الله تعالى.
وفي سنة خمس وستين وخمس مئة: سار الفرنج إلى دمياط، وحصروها، وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر، وأخرج على ذلك أموالاً عظيمة، فحصروها خمسين يوماً، وخرج نور الدين، فأغار على بلادهم بالشام، فرحلوا عائدين على أعقابهم، ولم يظفروا بشيء منها.
قال صلاح الدين: ما رأيت أكرمَ من العاضد، أرسل إليَّ مدةَ مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية، سوى الثياب وغيرها (1).
وفي سنة ست وستين وخمس مئة: سار صلاح الدين عن مصر، فغزا بلاد الفرنج قرب عسقلان والرملة، وعاد إلى مصر، ثم خرج إلى
(1) انظر: "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (10/ 23).